المنهج القرآني في تناول الأحكام العقدية
للعقيدة أهمية كبرى في حياة الإنسان، فالدين الإسلامي بناء متكامل يشمل جميع حياة المسلم منذ ولادته وحتى مماته، ثم ما يصير إليه بعد موته، وهذا البناء الضخم يقوم على أساس متين، هو العقيدة الإسلامية التي تتخذ مِن وحدانية الخالق جل وعلا مُنطلَقًا لها؛ كما قال ربنا تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]، وقال سبحانه: {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163].
وبُعِثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا مُنيرًا، وكانت مهمته الأولى ترسيخ العقيدة، وتأصيلها في النفوس؛ فهي القضية الكبرى والرئيسة.
فالعقيدة هي القاعدة الأساسية لإقامة هذا الدين، وهي الأساس، والعبادة هي البناء القائم على أصل العقيدة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؛ لأن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر يترتب عليه الانقياد له فيما اختاره ورضيَه، وفيما أمر به وما نهى عنه.
فالعقيدة هي المدخل للإسلام، وهي مِحْوره والروح التي تسري فيه، قال ابن تيمية: الدين نوعان: أمور خبرية اعتقادية، وأمور طلبية عملية.
فالأول: كالعلم بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ويدخل في ذلك أخبار الأنبياء، وأممهم، ومراتبهم في الفضائل، وأحوال الملائكة، وصفاتهم، وأعمالهم، ويدخل في ذلك صفة الجنة والنار، وما في الأعمال من الثواب والعقاب، وأحوال الأولياء، والصحابة، وفضائلهم، ومراتبهم وغير ذلك، وقد يسمى هذا النوع أصول دين، ويسمى العقد الأكبر، ويسمى الجدال فيه بالعقل كلامًا، ويسمى عقائد، واعتقادات، ويسمى المسائل العلمية والمسائل الخبرية، ويسمى علم المكاشفة.
والثاني: الأمور العملية الطلبية من أعمال الجوارح، والقلب، كالواجبات، والمحرمات، والمستحبات، والمكروهات، والمباحات، فإن الأمر والنهي قد يكون بالعلم والاعتقاد، فهو من جهة كونه علمًا واعتقادًا أو خبرًا صادقًا أو كاذبًا يدخل في القسم الأول، ومن جهة كونه مأمورًا به أو منهيًا عنه يدخل في القسم الثاني، مثل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فهذه الشهادة من جهة كونها صادقة مطابقة لمخبرها فهي من القسم الأول، ومن جهة أنها فرض واجب وأن صاحبها بها يصير مؤمنًا يستحق الثواب، وبعدمها يصير كافرًا يحل دمه وماله فهي من القسم الثاني (1).
العقيدة هي الأساس:
فالقرآنُ الذي ظلَّ يتنزَّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشر عامًا كاملةً يحدِّثه فيها عن قضية واحدة لا تتغير، ولكن طريقة عرضها لا تكاد تتكرر؛ ذلك أن الأسلوب القرآني يجعلها في كل عرض جديدة، لقد كان القرآن يعالج القضية الأولى قضية العقيدة ممثلة في قاعدتها الرئيسة الألوهية والعبودية.
إنها قضية الإنسان التي لا تتغير؛ لأنها قضية وجوده في هذا الكون، وقضية مصيره، وقضية علاقته بخالق هذا الكون بكل ما فيه من الأحياء، وكانت العقيدة هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجوده على توالي الأزمان.
ولقد شاء الله تعالى أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى لها الدعوة منذ اليوم الأول لهذه الرسالة العالمية، وأن يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى خطواته في الدعوة بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن يمضي في دعوته يعرف الناس بربهم الحق، ويعبدهم له دون سِواه.
الإسلام دِين الفطرة:
إن القرآن الكريم يخاطب فطرة الإنسان بما في وجوده هو، وبما في الوجود من حوله من دلائل وإيحاءات، إن بني الإنسان حين يضلون عن سبيل الله يتخبطون في الضلالات، ويتسكعون في الظلمات، ويغرقون في ألوان الشرك، وأوضار الجاهلية؛ {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} [الروم: 31- 32]، فالبشر عقولهم قاصرة، قاصرة عن أن تدرك طريق الصلاح بمفردها، أو تستبين سبيل الرشاد بذاتها، إنها لا تستطيع أن تجلبَ لنفسها نفعًا، أو تدفع ضررًا.
فالإسلام دين يعنى بالعقيدة، ويوليها أكبر عناية؛ سواء من حيث ثبوتها بالنصوص ووضوحها، أو من حيث ترتيب آثارها في نفوس معتقديها؛ لذا نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم مكث ثلاث عشرة سنة بمكة يتنزل عليه القرآن، وكان القرآن المكي في غالبه ينصب على البناء العقدي، حتى إذا ما تمكنت العقيدة في نفوس أصحابه رضوان الله عليهم نزلَتِ التشريعات الأخرى بعد الهجرة إلى المدينة.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46] وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده (2).
فالغالب في القرآن المكي تقرير التوحيد والعقيدة السليمة؛ لأن غالب المخاطبين ينكرون ذلك، والغالب في المدني تفصيل العبادات والمعاملات؛ لأن المخاطبين قد تقرر في نفوسهم التوحيد والعقيدة السليمة، فهم في حاجة لتفصيل العبادات والمعاملات.
فكما أن هذه الأوامر والنواهي فريضة من عند الله، واتباعها فرض لازم في رقابنا، فكذلك اقتفاء المنهج الرباني في بناء النفس فرض كذلك، وكل محاولة لإقامة هذا الدين بغير المنهاج الرباني لا بد أن تبوءَ بالفشل؛ وذلك لأن هذا الدِّين لا يكون ولن يكون إلا كما أراد الله، ولن يبنى إلا بنفس المنهج الذي رسمه رب العالمين، وكل منهاج بشري نستعمله لإيصال حقيقة هذا الدِّين إلى الناس هو فاشل لا محالة، وهو عبث وملهاة ولعب.
لا بد من اتباع المنهج الرباني القيم الذي رسمه رب العالمين، وسلكه سيد البشرية محمد صلى الله عليه وسلم لإيصال دِينِ الله إلى قلوب البشر، ولا بد من البدء بالعقيدة في تعريف الناس بإلههم الحق، وبحقيقة وجودهم على هذه الأرض، والمهمة المنوطة بهم إبَّان مرورهم بهذه الدنيا، من المسؤول عنهم؟ أي منهاج يجب أن يحكمهم؟ صِلة هذا الإنسان بالكون مِن حوله، مكانة هذا الكائن من الكون، وبعبارة أقصر: إقرار جلال الله ورهبته وهيبته في أعماق قلب الإنسان، وطريقة الوصول إلى رضاه (3).
كلمة لها تبعات:
لقد كانت قريش تعي تمامًا ماذا يريد النبي صلى الله عليه وسلم مِن دعوة التوحيد (لا إله إلا الله)، فهي تَعلم أنها ليست كلمة تقال دون أي تبعات؛ لذا واجهت دعوتَه بالصدود والإعراض والعناد، كان ينادي في أندية مكة وبطاحها أن: «قولوا: لا إله إلا الله، تُفلحوا» ))، فكانوا يُقابِلون ذلك بالصدود والاحتجاج قائلين كما حكى القرآن عنهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]، حيث كانوا يعرفون أن إقرارهم بـ«لا إله إلا الله» إبطال لكل تعلق بغير الله؛ فلا هبل ولا عزى، ولا ودًّا ولا سواعًا، ولا يغوث ويعوق ونسرًا؛ إذ لا مُغيث، ولا مُجير، ولا مُدبر، ولا مالك، ولا رازق، ولا معبود بحق إلا الله؛ ولذلك عارضت قريش الدعوةَ الإسلامية بكل ما أوتيت مِن قوة، ووقفت منها موقف العداء، وحاولت الحد من انتشارها وتجفيف منابعها، والحيلولة دون تبليغها (4).
مناهج التعامل مع النوازل العقدية:
يمكن بيان الكلام حول المناهج المعاصرة في التعامل مع النوازل العقدية في ثلاثة مناهج:
المنهج الأول: منهج التشديد والغلو:
ويتمثل في صور الغلو في التكفير المعاصرة، والتضييق فيما يتعلق بالنوازل العقدية.
المنهج الثاني: منهج التساهل:
ويتمثل في صور الإرجاء المعاصرة في مسائل تمييع التكفير، والتوسع إلى درجة الذوبان فيما يتعلق بالنوازل العقدية.
المنهج الثالث: منهج التوسط:
وهو منهج أهل السنة والجماعة، فهم الوسط في فرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم.
فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية؛ وأهل التمثيل المشبهة.
وهم وسط في باب أفعال الله تعالى بين القدرية والجبرية، وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية: من القدرية وغيرهم.
وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية.
وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج (5).
وعن المقداد بن الأسود قال: يا رسول الله، أرأيت إن لقيت رجلًا من الكفار فقاتلني، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله، أفأقتله يا رسول الله، بعد أن قالها؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتله، قال: فقلت: يا رسول الله، إنه قد قطع يدي، ثم قال ذلك بعد أن قطعها، أفأقتله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال» (6).
فلا منع بإطلاق من الكلام عن المسائل التي لم تقع، ولا فتح الكلام بإطلاق عنها؛ بل الحق التفصيل، فإن كان في المسألة نص من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أثر عن الصحابة لم يكره الكلام فيها، وإن لم يكن فيها نص ولا أثر فإن كانت بعيدة الوقوع أو مقدرة لا تقع لم يستحب له الكلام فيها، وإن كان وقوعها غير نادر ولا مستبعد، وغرض السائل الإحاطة بعلمها ليكون منها على بصيرة إذا وقعت؛ استحب له الجواب بما يعلم، لا سيما إن كان السائل يتفقه بذلك ويعتبر بها نظائرها، ويفرع عليها، فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأولى (7).
وسبب ذلك أن كل مسألة لا ينبني عليها عمل؛ فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح، من حيث هو مطلوب شرعًا، والدليل على ذلك استقراء الشريعة؛ فإنا رأينا الشارع يعرض عما لا يفيد عملًا مكلفًا به (8).
عن ربيعة بن عباد الديلي رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: «يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله، تُفلِحوا»، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه، فذكروا لي نسبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا لي: هذا عمُّه أبو لهب (9).
المنهج القرآني:
لقد كان من معالم المهج القرآني في تناول الأحكام والقضايا العقدية؛ ما يلي:
أولًا: الربط بالهدف:
من صفات كمال الله سبحانه أنه منزه عن العبثية؛ فلم يخلق المخلوقات عبثًا ولا لعبًا، وحاشاه سبحانه أن يفعل، حيث يقول الله عز وجل: {وَما خَلَقنَا السَّماءَ وَالأَرضَ وَما بَينَهُما لاعِبينَ} [الأنبياء: 16]، ونبه العباد إلى انتفاء العبث في أفعاله سبحانه؛ فقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] وشاءتْ إرادة المولى عز وجل أن يختار الإنسان من سائر مخلوقاته ليكلفه بمهمة الاستخلاف في الأرض وفق مراد الله تعالى ومنهجه، ولأجل تمكينه من تحقيق هذه المهمّة العظيمة فقد هيأ طبيعته لتكون قادرةً على حمل هذه الأمانة.
وجعل الله تعالى غاية الاستخلاف الابتلاء، وموضوع الاستخلاف معرفة الله وعبادته، وجعل العبادة هي العمل وفق منهج الله سبحانه الذي أرسل به الرسل والرسالات، ومن مقتضيات العبادة أن يعلم الإنسان أنه مملوك لله ربه، وأنه صائر إليه؛ فهو رب العالمين إليه المرجع والمآب، ومحاسب على ما أمر به؛ فهو مالك يوم الدين.
ثانيًا: بيان وجه المصلحة أو المفسدة من الحكم:
إن روح الحكم الشرعي هي جلب المصلحة ودفع المفسدة، وأن كل حكم ما شرع إلا لغاية مقصودة هي هدفه وأساس تشريعه ومبدأ فهمه وتطبيقه ضيقًا وسعة (10).
وفي اعتبار المصلحة هو الأساس الذي بنيت عليه الشريعة، يقول ابن القيم: فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة (11)، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، فهو صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بالمعروف الذي أمر الله به وتعرفه وتقره العقول والفطر السليمة، ولا ينهى إلا عن المنكر الذي نهى الله عنه وتنكره وتأباه العقول والفطر السليمة، ولا يحل إلا ما أحله الله من الطيبات النافعات، ولا يحرم إلا ما حرمه الله من الخبائث المضرات، ودينه هو دين الحنيفية السمحة، ومبناه على التيسير ورفع الحرج.
وقد أجمع العلماء على أن أحكام الشريعة الإسلامية مشتملة على مصالح العباد، ومحققة لها، ووافية بها، سواء أكانت ضرورية أم حاجية أم تحسينية.
قال شيخ الإسلام: ولا يمكن للمؤمن أن يدفع عن إيمانه أن الشريعة جاءت بما هو الحق والصدق في المعتقدات، وجاءت بما هو النافع والمصلحة في الأعمال التي تدخل فيها الاعتقادات (12).
وما ذكره شيخ الإسلام هو معنى قوله تعالى عن القرآن العظيم: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115]، أي: صدقًا وحقًا في جميع أخباره، وعدلًا وصلاحًا في جميع أحكامه وتشريعاته.
وللإمام ابن القيم كلام نفيس في تقرير هذه القاعدة الجليلة التي لا يشذ عنها شيء من أحكام الشريعة سواء أكانت من المأمورات أو المنهيات، حيث يقول: وإذا تأملت شرائع دينه التي وضعها بين عباده وجدتها لا تخرج عن تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت قدم أهمها وأجلها وإن فات أدناها، وتعطيل المفاسد الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت عطل أعظمها فسادًا باحتمال أدناها (13).
ثالثها: تضافر الأدلة لترسيخ الإيمان وتنوير العقول وتشغيل المعرفة الفطرية المتضمنة للقواعد القياسية:
يدعو القرآن الكريم العقل إلى التفكر والتدبر في الكون، وفي خلق الإنسان، لكي يصل إلى حقيقة أن الله هو خالق هذا الكون ومبدعه، بما فيه ومن فيه، وأنه هو وحده لا شريك له، ولا يستحق العبادة سواه، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]، وهذا التبيان لا يتم إلا عن طريق العقل الذي يدرك آيات الله ويفكر في معانيها، ويربط العلاقات بين الظواهر والأسباب حتى يتوصل إلى الحق.
ويتضح هذا أيضًا في قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164].
وهكذا نجد القرآن الكريم يزخر بالآيات الكثيرة التي تدعو إلى التأمل والتدبر والتفكير وإعمال العقل فيما خلق الله، بغية الوصول إلى الإيمان بالله الخالق الحق، وقد سلك القرآن الكريم في هذا السبيل مسلكًا يثير العقل، ويحفز انتباهه حتى يصل إلى حالة من الرقي والسمو في مدارك المعرفة والتفكير.
ومن المعروف أن مثل هذه المسائل قد حيرت العقول كثيرًا، وحسمها القرآن الكريم بهذا القول في محكم آياته، ولعل ذلك لسببين، أولهما: إتاحة الفرصة للعقل للتفكير والتدبير ليصل إلى أن هنالك أشياء لا يستطيع أن يدركها بقدراته المحدودة، وأن هذه الأشياء هي في علم الله وحده.
وثانيهما: أن يركز العقل على أشياء أخرى يجدي فيها التفكير.
ومن أدلة ذلك أن الإجابات التي يقدمها القرآن الكريم عن الأسئلة المتعلقة بالاستفسار عن حقائق الكون أو الإنسان، والتي تعتبر خارج نطاق المعرفة الإنسانية، ولا مجال للجدل فيها، لا يعطي القرآن الكريم فيها شروحًا مطولة، وإنما عبارات مقتضبة من غير إطالة في النقاش أو الشرح، لأنها تقع في علم الله فقط، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أيام وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]، وفي قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، وذلك حتى لا يبذل العقل جهدًا ووقتًا في التفكير فيما هو خارج قدراته.
وفي توجيهات القرآن الكريم للعقل، أراد أن يخلصه من كل القيود التي تحد من قدراته، سواء كانت هذه القيود اتباعًا للأسلاف، أو تقليدًا لهم دون تفكير أو روية، وفي هذا يقول المولى جل وعلا، نافيًا عنهم صفة التعقل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].
رابعًا: التعليل العقدي تعليل برهاني حجاجي:
بحيث يقيم الأدلة العقلية والحجج والبراهين على صدق الاعتقادات وضرورة الاقتناع بها، وهذا المسلك لم يسلكه القرآن الكريم في تعليل الأحكام الإيمانية فحسب، وإنما هو منهج الإسلام ككل، فبمجرد قراءة سطحية للوحي نجد الكثير من الآيات التي تؤكد أن الإسلام بحق دين الحجة والبرهان، بل إن الله تعالى سمى هذا الوحي برهانًا: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174].
كما بين سبحانه أن من اعتقد غير عقيدة المسلمين يجب أن يكون له برهان ودليل، وإلا فإن عقيدته باطلة.
المقاصد الحضارية للتعليل العقدي:
مما ينبغي أن نعلمه أولًا أن محاولتنا لتعليل أحكام الله الإيمانية واستخلاص المقاصد التي قصدت من هذا التعليل، أمر يهمنا نحن، ولا يهم الله عز وجل، لأن الله تعالى {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23].
ولا يجوز لأحد أن يجزم بأن الله فعل كذا من أجل كذا؛ لأن عقولنا قاصرة عن الإحاطة بالله علمًا؛ فهذه عقيدتنا في الله، لكن لا ينبغي أن يكون هذا حجابًا بيننا وبين تلك الحكم والغايات التي جاءت لتحقيقها العقيدة والشريعة.
ومن خلال ما تقدم من أن القرآن الكريم قد اعتمد منهج التعليل في تقرير الأحكام الإيمانية يتبين لنا أن من وراء هذا المنهج مقاصد وغايات قصدها الشارع في نهجه هذا النهج. ومن ذلك ما يلي:
المقصد الأول: التعليم:
ذلك أن الله تعالى يريد أن يعلم عباده حتى يكونوا مؤمنين عن علم، بحيث يؤمنوا به إيمان مقتنع بأنه يستحيل عقلًا أن يكون له شريك في أسمائه أو في صفاته أو في أفعاله؛ فهو الوحيد المتصرف في هذا الكون.
ولذلك بين سبحانه أن من يؤمن به حق الإيمان هم العلماء، حيث قال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]، كما بين أن من يخشاه حق الخشية هم العلماء، وذلك في قوله في سورة فاطر: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
ومما يؤكد أن تعليم الناس مقصود من هذا التعليل أمران:
الأول: نسبة ذكر لفظة العلم ومشتقاتها في القرآن الكريم، بحيث ذكرت فيما يقارب 484 موضعًا.
الثاني: اقترانها بلام التعليل في كثير من الآيات؛ {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97]، {اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].
المقصد الثاني: إقرار حرية الاختيار:
إن اعتبار الحرية مقصدًا من مقاصد التعليل القرآني أمر مهم جدًا، لأن الله تعالى ما كرم الإنسان بالعقل إلا ليكون له الاختيار، بمعنى أن يكون مؤمنًا طواعية أو يكون كافرًا طواعية كذلك، بحيث لم يجبر الحق سبحانه أحدًا على الإيمان به بعد أن تبين الرشد من الغي، وإنما قال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، وقال: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256].
المقصد الثالث: الهداية:
ذلك أن الله لا يعرض الأحكام معللة إلا ليهتدي غير المسلم بعد أن يقتنع، ويثبت المهتدي بعد أن يتبين أنه على حق، وتتجلى أهمية هذا المقصد في كون الله تعالى جعله مطلب المسلم في كل ركعة من ركعات صلاته، حيث يسأله قائلًا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6].
المقصد الرابع: التوحيد:
إن مقصد التوحيد هو جوهر غاية تعليل العقيدة، وتمام حكمة القرآن في جميع سوره وآياته، ولعل أبلغ ما قيل عن هذا المقصد ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين، إذ يقول: إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد، شاهدة به، داعية إليه، فإن القرآن: إما خبر عن الله، وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع كل ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي، وإلزام بطاعته في نهيه وأمره، فهي حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته، وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده وإما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو خبر عمن خرج عن حكم التوحيد (14).
المقصد الخامس: التزكية:
أما مقصد التزكية فهو ثمرة التوحيد، لأن الذي يزكي قلب المؤمن هو التوحيد، فهو الذي يخليه من كل الشركيات، ويحليه بكل الفضائل، وهو كذلك الذي يزكي عقل المسلم، بحيث ينقيه من كل الأوهام والشكوك والضلالات، ويمنحه القدرة على التفكر في خلق الله، والتدبر في آياته، وعلاقة التزكية بتعليل العقيدة أن الأحكام معللة تمنح المسلم الطمأنينة والسكينة، بحيث تجعله مطمئنًا على نفسه ورزقه وأهله.
المقصد السادس: العمارة والاستخلاف:
وأما العمران فهو ثمرة كل ما ذكر، لأن المؤمن حق الإيمان هو الذي يحقق عمارة الأرض، ويكون خليفة الله فيها، ولا ينبغي أن نفهم من أمر الخلافة أن الإنسان له مطلق الحرية والسلطان ليتصرف في الأرض كيف يشاء، فيفسد فيها، ويسفك الدماء، ويهلك الحرث والنسل؛ فلفظ “الخليفة” في القرآن الكريم مهما تعددت تأويلات المفسرين، واختلفت في فهمه آراء العلماء والباحثين، لا يحتمل إلا مقصدًا واحدًا، وهو إقامة دين الله في الأرض، والحكم بين الناس بالحق والعدل، ولك أن تتأمل قول الله تعالى لداود عليه السلام: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 16] (15).
_______________
(1) مجموع الفتاوى (11/ 336).
(2) أخرجه البخاري (4993).
(3) العقيدة وأثرها في بناء الجيل (1/ 16).
(4) منهج القرآن في بناء العقيدة في العهد المكي/ موقع الألوكة.
(5) مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/ 141).
(6) أخرجه البخاري (4019)، ومسلم (155).
(7) إعلام الموقعين (4/ 170).
(8) الموافقات للشاطبي (1/ 43).
(9) صحيح السيرة النبوية (1/ 143).
(10) مدخل تأسيسي في الفكر المقاصدي (ص: 128).
(11) إعلام الموقعين (3/ 11).
(12) مجموع الفتاوى (11/ 347).
(13) مفتاح دار السعادة (2/ 22- 23).
(14) مدارج السالكين (3/ 450).
(15) التعليل العقدي في القرآن الكريم: معالمه المنهجية ومقاصده/ يقين.