فن تغيير القناعات
إقناع الناس بالأفكار ليس شيئًا بعيد المنال؛ ولكنه يحتاج إلى فن وفكر ومهارة، فالناس يمكنهم أن يتخلوا عن أفكارهم إلى أفكارك بمحض إرادتهم إذا أقنعتهم بها، فتغيير القناعات لا يمكن حصوله بالضغط أو بالإلزام أبدًا؛ بل تتغير القناعات بالرضا والقبول، وبالإثبات والبرهان، وبالجاذبية والتقريب، والفاشل في ذلك هو المجادل المحترف، الذي يجادل عن رأيه أبدًا، ويعتمد على قهر الناس والسخرية من آرائهم لإقناعهم، وما هو بفاعل ولو ظل يجادلهم ألف عام.
ويعتبر الإقناع فنًا أكثر منه علمًا، برغم وجود العديد من الدراسات والأبحاث حول موضوع الإقناع، وهو من أكثر الفنون إبهارًا، المندرجة تحت فنون مهارات الاتصال والتواصل، حيث يعتبر أسلوب الإقناع هو قدرة الشخص على إيصال المعلومة للطرف الآخر، وإقناعه بها؛ مما يغير من المعتقدات والسلوك لدى الطرف الآخر حول موضوع معين.
ولا شك أن فن الإقناع نشأ بنشوء البشرية، وازداد تطورًا بظهور مصطلحات الكلام والحديث، وأخذ هذا الفن بالتبلور والتشكل ليصل لمرحلة الإبداع والتميز عند بعضهم ضمن إطار مهارات الاتصال وآدابها.
فإبليس الشيطان استعمل مهاراته المضللة في إقناع آدم عليه السلام للأكل من الشجرة، وإخراجه من الجنة، قال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:20-22].
ولقد تمت الخدعة وآتت ثمرتها المرة، لقد أنزلهما الشيطان بهذا الغرور من طاعة الله إلى معصيته، فأنزلهما إلى مرتبة دنيا: {فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ}! ولقد شعرا الآن أن لهما سوءات، تكشفت لهما بعد أن كانت مواراة عنهما.
ولذلك سماه الله تعالى (الغَرور): {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
ويمكن ممارسة هذا الفن وإقناع الآخرين بأفكارنا أو معتقداتنا، أو تغيير سلوكهم تجاه مواضيع وأمور شتى بطرق الإقناع المختلفة والمتعددة؛ كالتكرار، أو المقارنة بين الأمور والمعتقدات، لنضع الطرف الآخر ضمن إطار حرية الاختيار؛ مما يبث في نفس الطرف الآخر الراحة، وشعوره بأهمية تغيير أفكاره أو سلوكياته، فالإقناع فن ينطوي على الحرية، ويمكن كذلك استخدام أسلوب الاستشهاد بالمعلومات والوقائع الفعلية؛ لتضع الطرف الآخر أمام أمور واقعية مشابهة لفكرته أو سلوكه، ويمكن أيضًا ذكر المزايا والعيوب، فنقوم بذكر مزايا ما نريد إقناع الطرف الآخر به، وعلى الصعيد الآخر تذكر عيوب ما هو عليه حاليًا، أو ما ينوي القيام به، ومن أهم الأمور في الإقناع هو تعابير الوجه وحركات الجسد؛ لما لها من تأثير واضح وقوي على الطرف الآخر، وكذلك التركيز في النظر للآخرين بشكل معتدل، مما يدل على الثقة بالنفس؛ فيعكس الثقة بالفكرة المطروحة(1).
عن أبي أمامة قال: إن فتًى شابًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه، مه، فقال: «ادنه»، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: «أتحبه لأمك؟»، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم»، قال: «أفتحبه لابنتك؟»، قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لبناتهم»، قال: «أفتحبه لأختك؟»، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأخواتهم»، قال: «أفتحبه لعمتك؟»، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لعماتهم»، قال: «أفتحبه لخالتك؟»، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لخالاتهم»، قال: فوضع يده عليه وقال: «اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه»، قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء(2).
ولمَّا أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم الفيء في المؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار شيئًا، فكأنهم حزنوا إذ لم يُصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم فقال: «يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالًا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألَّفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟»، كلما قال شيئًا، قالوا: الله ورسوله أمَنُّ.
قال: «ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!»، كلما قال شيئًا قالوا: الله ورسوله أمنّ، قال: «لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا، أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس واديًا وشعبًا لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار، والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أَثَرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض»(3).
فانظر إلى عظيم حكمة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أنه ربَّى الأنصار رضي الله عنهم أحسن تربية، ونقلهم من التطلع إلى فيء الدنيا وزخرفها الزائل إلى عظيم أجر الله تعالى لهم ونعيمه الدائم، ولهذا جاء في بعض روايات الحديث أن الأنصار بكوا بعد سماع كلامه صلى الله عليه وسلم، وقالوا: رضينا برسول الله قَسَمًا وحظًا.
وهكذا قرت عيون الأنصار، وامتلأت قلوبهم سكينة وأمنًا؛ إذ عرفوا أن رسول الله لن يخلي مكانه من بينهم، ولن يحرمهم هذا الخير الذي ساقه الله إليهم، وأنهم هم أهل الرسول وأنصاره، وأن بلدهم هي بلده وموطنه! وحسبهم هذا، ولساعة من رسول الله بينهم خير لهم من الدنيا وما فيها.
وهكذا، كان بيان الرسول صلوات الله وسلامه عليه شفاء لما في الصدور، وجلاء للبصائر، فسكنت الوساوس، وقرّت العيون، ولهجت الألسن بالحمد لله رب العالمين.
وهذا البيان، الذي كشف به الرسول صلوات الله وسلامه عليه ما خفي على الناس أمره، هو مصداق لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة:115]، فإن من رحمة الله بعباده المؤمنين إذا طاف بهم طائف من الريب جاءهم بما يكشف الطريق لهم إليه، ويرفع عن بصائرهم ما تغشاها من شكوك وريب(4).
طرق مهمة في الإقناع:
1- إزالة الغشاوة:
المخطئ أحيانًا لا يشعر أنه مخطئ، وإذا كان بهذه الحالة وتلك الصفة فمن الصعب أن توجه له لومًا مباشرًا وعتابًا قاسيًا وهو يرى أنه مصيب، إذن لا بد أن يشعر أنه مخطئ أولًا حتى يبحث هو عن الصواب؛ لذا لا بد أن نزيل الغشاوة عن عينه ليبصر الخطأ.
2- ترك الجدال:
تجنب الجدال في معالجة الأخطاء، فهو أكثر وأعمق أثرًا من الجدال نفسه، وتذكر أنك عندما تنتصر في الجدال مع خصمك المخطئ فإن ذلك، على الأقل، يحز في نفسه، ويجد عليك، ويحسدك أو يحقد عليك، فحاول أن تتجنب الجدال، ولذلك فإن النصوص الشرعية لم تذكر الجدال إلا في موضع الذم غالبًا، والمحمود منه ما كان محاورة هادئة مع طالب للحق بالتي هي أحسن.
ذُكر عن مالك بن أنس أنه قيل له: يا أبا عبد الله، الرجل يكون عالمًا بالسنة، أيجادل عنها؟ قال: لا، ولكن يخبر بالسنة؛ فإن قبلت وإلا سكت(5)، وفعلًا؛ فإن طالب الحق إذا سمع السنة قبلها، وإن كان صاحب عناد لم يقنعه أقدر الناس على الجدل، لكن إن سلم بها وذكرت له السنة بلا جدال فقد يتأملها ويرجع.
وبالجدال قد تخسر المجادل، والداعية ليس في حاجة إلى أن يخسر الناس؛ ولذا يقول عبد الله بن حسن رحمه الله: المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحل العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه أن تكون المغالبة، والمغالبة أمتن أسباب القطيعة(6)، حتى ولو كان المجادل محقًا فينبغي له ترك الجدال، وفي الحديث الذي رواه أبو داود مرفوعًا: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا»(7(.
3- ما كان الرفق في شيء إلا زانه:
عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه»(8)، وفي رواية أخرى له: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا نُزِعَ من شيء إلا شأنه»(9).
وتذكَّر قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، وكيف عالجها النبي صلى الله عليه وسلم بالرفق.
4- اذكر جوانب الصواب:
حتى يتقبل الآخرون نقدك المهذب، وتصحيحك الخطأ، أشعرهم بالإنصاف بأن تذكر خلال نقدك جوانب الصواب عندهم، ففي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل»، قالت حفصة: فكان بعدُ لا ينام إلا قليلًا(10)، وقال صلى الله عليه وسلم: «ثكلتك أمك يا زياد، إن كنتُ لأَعُدُّك من فقهاء أهل المدينة»(11).
5- الناس يتعاملون بعواطفهم أكثر من عقولهم:
وهذه غريزة بشرية؛ فالإنسان عبارة عن جسد وروح، وهو مليء بالعواطف الجياشة، وله كرامة وكبرياء، فالإنسان لا يحب أن تهان كرامته، أو يجرح شعوره، حتى ولو كان أثقل الناس، ولذلك لما بلغ أبا أسيد الساعدي فتوى ابن عباس في الصرف أغلظ له أبو أسيد، فقال ابن عباس: ما كنت أظن أن أحدًا يعرف قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لي مثل هذا يا أبا أسيد(12).
عملية الإقناع مثلها كباقي أمور الحياة، قد تنجح وقد لا تنجح، وعدم نجاحها لا يعني فشلها، أو عجز المقنع بقدرته على عملية الإقناع، فهناك أفراد يصعب إقناعهم لصعوبة تغيير أفكارهم ومعتقداتهم، وقد تنطوي هذه الصعوبة لمعتقدات دينية، أو أفكار نشأ عليها الفرد منذ صغره، وليس بالضرورة دائمًا أن يكون المقنع على صواب، فعملية الإقناع تبادلية الأطراف؛ قد تنتهي بإقناع الطرف الآخر لنا.
ويبقى فن الإقناع أكثر الفنون رقيًا وسحرًا بفنون الاتصال والتواصل، ويتطلب مهارة بفنون الحوار، وهو يعكس جمالية أرواحنا من الداخل وثقافتنا.
وقد قيل بأن العقاقير ليست ضرورية بقدر الحاجة إلى وجود قناعة بالشفاء عند المريض.
صفات هامة:
وعلى من يقوم بفن الإقناع أن يتحلّى بجملة من الصفات لتمكنه من احتراف هذا الفن:
1- إظهار المحبة والشفقة على الناس: حتى على المقصرين منهم؛ فالداعية الصادق همُّه أن يهتدي الناس إلى الحق، ولا يُظهِر الشماتة أو التشفي أو الرغبة في الانتصار.
2- حسن الخلق في تواصله مع الناس: فذلك يجعل الداعية يألف ويؤلف، والكلمة الطيبة مفتاح القلوب، وعنوان النجاح، ورب كلمة لطيفة يسديها الداعية إلى بعض الناس لا يلقي لها بالًا تفعل فعلها في نفوسهم، وتثمر خيرًا كثيرًا، وما ظنك بذلك الأعرابي الذي بال في المسجد؛ فثار عليه الناس ليقعوا به، لو أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنَّفه وشدَّد عليه، فهل كان من الممكن أن يبقى على دين الإسلام؟!(13).
3- الحلم وسعة الصدر: فالإنسان المتشنج الغضوب سريع الانفعال لن يجد من المدعوين إلا النّفرة والإعراض، أما الحليم الذي يصبر على جهل الجهول وأذاه فهو الذي يفلح في تبليغ رسالته البلاغ المبين، وينجح في استمالة الناس إليه، ومن الدلائل اللطيفة على ذلك ما رواه معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجلٌ من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم! فقلت: واثُكْلَ أمِّياه! ما شأنكم تنظرون إليَّ؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلمَّا رأيتهم يصمِّتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيتُ معلِّمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله، ما كَهَرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: «الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(14).
4- القدرة على التفاعل الإيجابي مع المدعوين: أحسب أن كثيرًا من الناس يأسرهم ويشدهم إلى قلب المتحدث تفاعله الحي معهم، وكثير من الإخفاق الدعوي الذي يعرض لبعض الدعاة من أسبابه الرئيسة قصورهم في التجاوب مع آراء الناس ومشكلاتهم، وقصورهم في إدراك ردود الأفعال بحجمها الصحيح؛ فهو لا يعرف ما إذا كان السامعون فهموا مراده، وآمنوا برسالته، أم أنه يتحدث في وادٍ والناس في واد آخر.
لقد رأينا دعاة يعتقدون أنهم أدوا الواجب وأبرءوا الذمة بمجرَّد وقوفهم أمام الناس متحدثين، دون أن يُكلفوا أنفسهم عناء النظر في نتائج ذلك العمل، ومقدار احتفاء الناس به، وتفاعلهم معه.
لقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الحرص على كسب قلوب الناس، ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوَّلنا بالموعظة في الأيام؛ كراهة السآمة علينا(15)، ووصفت عائشة رضي الله عنها حديث النبي صلى الله عليه وسلم بقولها: كان يتكلَّم بكلام بيِّن فصل، يحفظه من جلس إليه(16).
إنَّ ثمة حقيقة ناصعة الوضوح، يجب على الدعاة أن يستصحبوها في جميع مناشطهم الدعوية؛ وهي أن الساحة الحالية ساحة منافسة وسباق مع شتى التيارات الفكرية، والأقدر على تحسين أدوات الاتصال بالناس هو الذي سوف يحظى بلا شك بقلوبهم(17).
أرسل أهل مكة رجلين من أشرافهم، هما: عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة، وجهزوهما بالهدايا الثمينة للنجاشي وبطارقته، وأمروهما أن يقدما هدايا البطارقة قبل أن يدخلا على النجاشي؛ حتى يساعدوهما عند النجاشي فيما قَدِما من أجله.
ولا يخفى على الإنسان سبب اختيار عمرو بن العاص لتلك المهمة؛ فهو مع كونه شريفًا من أشراف قريش، داهية من دهاة العرب المعدودين؛ يستطيع بذكائه إقناع من أمامه بما يريد، ويتمكن بحيلته إن لم تسعفه الحجة من بلوغ مأربه.
ولكن جعفر الداعية المؤمن قد أفسد عليه رأيه، وعطل فيه دهاءه، فلم تعد لديه القدرة على الإقناع، ولم تسعفه الحيلة ليدبر المكيدة التي جاء من أجلها.
إن عودة عمرو دون أن يكون معه المهاجرون من المسلمين خيبة أمل في دهائه، وحكم بالفشل على عبقريته، وقضاء على منزلته بين قومه.
وفكر عمرو كثيرًا في الأمر، وهداه تفكيره إلى مكيدة لم يجربها بعد، ودخل على النجاشي من الغد، وقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولًا عظيمًا، فأرسلْ إليهم فسلْهم عما يقولون فيه.
وأرسل النجاشي إلى المسلمين، وسألهم عما يقولون في عيسى بن مريم عليه السلام، ورد عليه جعفر رضي الله عنه فقال: نقول فيه ما جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله ورسوله وروح منه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
فأخذ النجاشي عودًا من الأرض وقال: والله، ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود.
والتفت إلى عمرو وصاحبه، وقال لحاشيته: ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، فوالله، ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه، فخرجا من عنده مقبوحين(18).
وهنا انتصر جعفر الداعية المؤمن، حيث أفسد على عمرو رأيه، وعطل فيه دهاءه، فلم تعد لديه القدرة على الإقناع، ولم تسعفه الحيلة ليدبر المكيدة التي جاء من أجلها.
***
_______________
(1) كيف يمكن اقناع شخص، موقع موضوع.
(2)أخرجه أحمد (22211).
(3) رواه البخاري (4330)، ومسلم (1061).
(4) التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم يونس الخطيب (5/ 805).
(5) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، ص412.
(6) المصدر السابق، ص421.
(7) رواه أبو داود (4800).
(8) رواه مسلم (2593).
(9) رواه مسلم (2594).
(10) رواه البخاري (1122).
(11) رواه الترمذي (2653).
(12) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لابن عبد البر (2/ 245).
(13) الحديث أخرجه مسلم (285).
(14) أخرجه مسلم (537).
(15) أخرجه البخاري (68).
(16) رواه الترمذي (3639).
(17) حسن الاتصال بالناس، أحمد بن عبد الرحمن الصويان، مجلة البيان، العدد: 162.
(18) انظر: السيرة النبوية، لابن هشام (1/ 291).