logo

الداعية السجين


بتاريخ : الأربعاء ، 11 ذو القعدة ، 1436 الموافق 26 أغسطس 2015
بقلم : تيار الاصلاح
الداعية السجين

يوسف عليه السلام

القصص القرآني له أسلوبه الخاص في التربية، يتمثل في إثارة الوجدان والمشاعر، والترقب، والتخوف، والمراقبة من بداية القصة إلى نهايتها، والقصص القرآني له وظيفة تربوية لا يمكن على الإطلاق أن يحل محلها أي لون من ألوان الأداء اللغوي الآخر أبدًا.

والقصة لها دور عظيم في التربية، والمربي الناجح هو الذي يستطيع أن يوظف القصة التوظيف التربوي الذي ينفذ من خلاله إلى قلب طلابه وأبنائه؛ ليخرج بعد ذلك بالدروس والعظات والعبر، أما أن يسرد القصة كسرد قصة ألف ليلة وليلة دون أن يقف مع المواعظ والعظات والعبر، وإنما مجرد استمتاع حسي وعقلي وانتهى الأمر؛ فليست هذه هي الوظيفة التربوية للقصة.

والقصص القرآني له أسلوب فريد، فأول القصة يشد الانتباه، ويحرك الوجدان، خوف، ترقب، انفعال معين بالرضا أو بالسخط، فتعيش مع أحداث القصة وكأنك تراها رأي العين.

القصة القرآنية تجسد الواقعية بكل ملامحها، أما كتاب القصة المعاصرون، مع الأسف، فنراهم قد اتجهوا اتجاهًا سيئًا؛ بحجة الكمال الفني للأداء، وبحجة الواقعية الكاملة لأشخاص القصة ومواقف القصة! فتراهم يعزفون على وتر الجنس والدعارة، والعنف والدم، وابتزاز غرائز القراء بأسلوب متدن هابط، ابتداءً من العنوان، وانتهاءً بالمضمون، وفي النهاية يقولون: بحجة الكمال الفني للأداء، وبحجة الواقعية الكاملة للقصة، مع أن القرآن قد ذكر القصة بكل واقعيتها ولم يتدن في جملة؛ بل ولا في لفظة؛ بل ولا في حرف، حتى في لحظات التعري الجسدي والنفسي لم ينزل القرآن في كلمة واحدة عن أسلوبه الطاهر النظيف؛ لأنه، ابتداءً وانتهاءً، كلام الله خالق الإنسان(1).

إن قصة يوسف عليه السلام تمثل النموذج الكامل لمنهج الإسلام في الأداء الفني للقصة، بقدر ما تمثل النموذج الكامل لهذا المنهج في الأداء النفسي والعقيدي والتربوي والحركي أيضًا، ومع أن المنهج القرآني واحد في موضوعه وفي أدائه، إلا أن قصة يوسف تبدو وكأنها المعرض المتخصص في عرض هذا المنهج من الناحية الفنية للأداء! إن القصة تعرض شخصية يوسف عليه السلام، وهي الشخصية الرئيسية في القصة، عرضًا كاملًا في كل مجالات حياتها، بكل جوانب هذه الحياة، وبكل استجابات هذه الشخصية في هذه الجوانب وفي تلك المجالات، وتعرض أنواع الابتلاءات التي تعرضت لها تلك الشخصية الرئيسية في القصة، وهي ابتلاءات متنوعة في طبيعتها وفي اتجاهاتها.

ابتلاءات الشدة وابتلاءات الرخاء، وابتلاءات الفتنة بالشهوة، والفتنة بالسلطان، وابتلاءات الفتنة بالانفعالات والمشاعر البشرية تجاه شتى المواقف وشتى الشخصيات، ويخرج العبد الصالح من هذه الابتلاءات والفتن كلها نقيًا خالصًا متجردًا في وقفته الأخيرة، متجهًا إلى ربه بذلك الدعاء المنيب الخاشع كما أسلفنا في نهاية الفقرة السابقة.

وإلى جانب عرض الشخصية الرئيسية في القصة تعرض الشخصيات المحيطة بدرجات متفاوتة من التركيز، وفي مساحات متناسبة من رقعة العرض، وعلى أبعاد متفاوتة من مركز الرؤية، وفي أوضاع خاصة من الأضواء والظلال، وتتعامل القصة مع النفس البشرية في واقعيتها الكاملة، متمثلة في نماذج متنوعة:

نموذج يعقوب الوالد المحب الملهوف، والنبي المطمئن الموصول، ونموذج إخوة يوسف وهواتف الغيرة والحسد والحقد والمؤامرة والمناورة، ومواجهة آثار الجريمة، والضعف والحيرة أمام هذه المواجهة، متميزًا فيهم أحدهم بشخصية موحدة السمات في كل مراحل القصة ومواقفها.

ونموذج امرأة العزيز بكل غرائزها ورغائبها واندفاعاتها الأنثوية، كما تصنعها وتوجهها البيئة المصرية الجاهلية في بلاط الملوك، إلى جانب طابعها الشخصي الخاص الواضح في تصرفها وضوح انطباعات البيئة، ونموذج النسوة من طبقة العلية في مصر الجاهلية! والأضواء التي تلقيها على البيئة ومنطقها، كما يتجلى في كلام النسوة عن امرأة العزيز وفتاها، وفي إغرائهن كذلك ليوسف وتهديد امرأة العزيز له في مواجهتهن جميعًا، وما وراء أستار القصور ودسائسها ومناوراتها، كما يتجلى في سجن يوسف بصفة خاصة.

ونموذج (العزيز) وعليه ظلال طبقته وبيئته في مواجهة جرائم الشرف من خلال مجتمعه! ونموذج (الملك) في خطفة يتوارى بعدها كما توارى العزيز في منطقة الظلال بعيدًا عن منطقة الأضواء في مجال العرض المتناسق، وتبرز الملامح البشرية واضحة صادقة بواقعية كاملة في هذا الحشد من الشخصيات والبيئات، وهذا الحشد من المواقف والمشاهد، وهذا الحشد من الحركات والمشاعر.

ومع استيفاء القصة لكل ملامح (الواقعية) السليمة المتكاملة وخصائصها في كل شخصية وفي كل موقف وفي كل خالجة، فإنها تمثل النموذج الكامل لمنهج الإسلام في الأداء الفني للقصة، ذلك الأداء الصادق، الرائع بصدقه العميق وواقعيته السليمة، المنهج الذي لا يهمل خلجة بشرية واقعية واحدة، وفي الوقت ذاته لا ينشئ مستنقعًا من الوحل يسميه (الواقعية) كالمستنقع الذي أنشأته (الواقعية) الغربية الجاهلية!

وقد ألمت القصة بألوان من الضعف البشري، بما فيها لحظة الضعف الجنسي، ودون أن تزوّر، أي تزوير، في تصوير النفس البشرية بواقعيتها الكاملة في هذه المواقف، ودون أن تغفل أية لمحة حقيقية من لمحات النفس أو الموقف، فإنها لم تسف قط لتنشئ ذلك المستنقع المقزز للفطرة السليمة، ذلك الذي يسمونه في جاهلية القرن العشرين (الواقعية) أو يسمونه أخيرًا (الطبيعية)!(2).

الانتصا