logo

فاصفح عنهم وقل سلام


بتاريخ : السبت ، 12 جمادى الآخر ، 1443 الموافق 15 يناير 2022
بقلم : تيار الاصلاح
فاصفح عنهم وقل سلام

أصبحت أمراض الاكتئاب والقلق والتوتر هي سمة العصر، والضريبة التي يدفعها الإنسان المعاصر لنمط الحياة السائد الآن، بما فيه من تقنيات ووسائل اتصال وإعلام حديثة.

فهذه أمراض أصبح يعاني منها الإنسان المعاصر في أي مكان، ولا ترتبط ببلد معين أو مكان معين.

 فأنماط الحياة الحديثة والسريعة تكرس المادية في نفوس الناس، وتؤدي للكثير من الاختلافات والمشكلات بين البشر الذين يعيشون في مكان واحد.

فهناك مشكلات في السكن، ومشكلات في العمل، ومشكلات في المواصلات، ومشكلات بين الإنسان ومؤسسات الخدمات والتعليم والصحة .. الخ.

وهذه المشكلات تنعكس بالسلب على نفسية الإنسان المسلم، إذا تفاعل معها بشكل عصبي وصراعي.

وهذه دعوة للترفع عن الصراع بين المسلم وبين كل هذه الجهات والمؤسسات الموجودة في وطنه، ليس من أجل شيء خارجي عنه؛ بل من أجله هو شخصيًا، ومن أجل أن يحافظ على صحته النفسية وحالته النفسية عمومًا، لأننا نريده أن يبقى قويًا من أجل أن تكون علاقته بربه وبدينه قوية، ثم من أجل أن يعطي لوطنه وأمته أفضل ما يكون من وقته وجهده وعلمه وخبرته.

وهنا تأتي أهمية نصوص القرآن الكريم في هذا المجال والتي منها قوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 89]، أي فأعرض عنهم وأنت آيس من إيمانهم، ولا تجبهم بمثل ما يخاطبونك به من سيئ الكلام، بل تألفهم واصفح عنهم قولًا وفعلًا، فسوف يعلمون عاقبة كفرهم، فإنك ستنتصر عليهم، ويحل بهم بأسنا الذي لا يردّ.

وقد أنجز الله وعده، وأنفذ كلمته، وأعلى دينه، وشرع الجهاد والجلاد، فدخل الناس في دين الله أفواجًا، وانتشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها (1).

وقوله تعالى: آمرًا نبيه بالتجاوز عن جنايات المؤمنين: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85]، وهو الصفح الذي لا أذية فيه بل يقابل إساءة المسيء بالإحسان، وذنبه بالغفران، لتنال من ربك جزيل الأجر والثواب، فإن كل ما هو آت فهو قريب، وقد ظهر لي معنى أحسن مما ذكرت هنا.

وهو: أن المأمور به هو الصفح الجميل أي: الحسن الذي قد سلم من الحقد والأذية القولية والفعلية، دون الصفح الذي ليس بجميل، وهو الصفح في غير محله، فلا يصفح حيث اقتضى المقام العقوبة، كعقوبة المعتدين الظالمين الذين لا ينفع فيهم إلا العقوبة، وهذا هو المعنى (2).

وفى هذا إشارة إلى معنى جليل في الداعي، وخصوصًا الرسول الأمين رسول رب العالمين، وهو أن الداعي لَا يستفزه غضب ولا يثيره أذى، ولا يمنعه تجهم وسوء معاملة، بل يجب أن يكون البشير النذير دائمًا في قرب للقلوب، وإدناء للنافر وإيناس للشارد؛ لأنه الطبيب المداوي، وليس الحاكم المسيطر {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22].

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ذا شخصية قوية عالية، من شأنها أن تعلو دائمًا، وهي تُرهب الفجار، ولكن لم يدعُ محمد صلى الله عليه وسلم في مكة إلا بقوة الدليل، وبالنفس الأليف التي تقرب ولا تبعد.

وكانت تلك الشخصية الجبارة تبدو من حين لحين تعلن عن وجودها، جاء رجل يطلب دينًا من أبي جهل فاستعان بملأ من قريش، فأشاروا عليه بأن يستعين بصاحب هذه الدار مشيرين إلى دار النبي تهكمًا بالرجل وبالنبي معًا، ولعل الذين استعانهم من أشكال أبي جهل، فالرجل الغريب ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأشكاه الرسول القوي، وذهب به إلى دار أبي جهل، فصك داره صكة ارتعدت فرائص أبي جهل لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله الحازم الآمر: أد الرجل دينه، فدخل وأعطاه الدَّين صاغرًا.

وما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليستخدم تلك الشخصية التي تفرض الحق على من يخاطبه، إنما تطامن، ورضي بأن يكون الداعي غير الغليظ إدناء للنفوس.

هذا معنى الصفح الجميل، أي الإعراض في قرب ومودة وإلف من جانبه؛ ولذا كان الإسلام، ينمو ويزيد، ولا ينقص ويقل (3).

وقوله تعالى للآباء والأزواج بالعفو عن الأولاد والعيال {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن: 14].

فالأزواج والأولاد قد يكونون مشغلة وملهاة عن ذكر الله، كما أنهم قد يكونون دافعًا للتقصير في تبعات الإيمان اتقاء للمتاعب التي تحيط بهم، لو قام المؤمن بواجبه فلقي ما يلقاه المجاهد في سبيل الله! والمجاهد في سبيل الله يتعرض لخسارة الكثير، وتضحية الكثير، كما يتعرض هو وأهله للعنت، وقد يحتمل العنت في نفسه ولا يحتمله في زوجه وولده، فيبخل ويجبن ليوفر لهم الأمن والقرار أو المتاع والمال! فيكونون عدوًا له، لأنهم صدوه عن الخير، وعوقوه عن تحقيق غاية وجوده الإنساني العليا.

كما أنهم قد يقفون له في الطريق يمنعونه من النهوض بواجبه، اتقاء لما يصيبهم من جرائه، أو لأنهم قد يكونون في طريق غير طريقه، ويعجز هو عن المفاصلة بينه وبينهم والتجرد لله.. وهي كذلك صور من العداوة متفاوتة الدرجات.. وهذه وتلك مما يقع في حياة المؤمن في كل آن.

ومن ثم اقتضت هذه الحال المعقدة المتشابكة، التحذير من الله، لإثارة اليقظة في قلوب الذين آمنوا، والحذر من تسلل هذه المشاعر، وضغط هذه المؤثرات.

وإنه لأمر إذن خطير وخطر، وإن التحذير والتنبيه فيه لضرورة يقدرها من خلق قلوب الناس، وأودعها هذه المشاعر، لتكفكف نفسها عن التمادي والإفراط، وهي تعلم أن هذه الوشائج الحبيبة قد تفعل بها ما يفعل العدو، وتؤدي بها إلى ما تؤدي إليه مكايد الأعداء! ومن ثم يلوح لها بما عند الله بعد التحذير من فتنة الأموال والأولاد، والعداوة المستسرة في بعض الأبناء والأزواج، فهذه فتنةَ {واللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (4).

وفي السنة النبوية الشريفة نستحضر ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» (5).

والعز ضد الذل، والذي تحدثك به نفسك أنك إذا عفوت فقد ذللت أمام من اعتدى عليك، فهذا من خداع النفس الأمارة بالسوء ونهيها عن الخير، فإن الله تعالى يثيبك على عفوك هذا، فالله لا يزيدك إلا عزًا ورفعة في الدنيا والآخرة.

قال الطيبي: فإنه إذا عرف بالعفو ساد وعظم في القلوب وزاد عزه (6).

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم النموذج الأسمى والأسوة الطيبة والقدوة الحسنة في التسامح والعفو والصفح، وحسبه عليه الصلاة والسلام أنه عندما عاد إلى مكة فاتحًا، جمع قبائل قريش من المشركين وهم الذين آذوه وحاربوه وأخرجوه من مكة مهاجرًا، فقال لهم: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم، قال: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء، وعفا عنهم برغم ما كان منهم معه.

ليس استسلامًا ولا علامة ضعف:

إلا أنه لا ينبغي أن يفهم من ذلك أن هذه دعوة لأن يستسلم المتسامح أو المسالم للبيئة الفاسدة تحت مسمى التكيف الاجتماعي؛ وإنما عليه أن يسعى لتعديلها بالأساليب والوسائل المقبولة بعيدًا عن التعصب وضيق الأفق واللجوء إلى القسوة، بل إلى الحوار وتعديل السلوك قدر المستطاع.

لكننا ينبغي أن نعلم أن نجاح الفرد في التكيف الاجتماعي يعتمد على قدرته في تكوين علاقات اجتماعية صحية مُرضية له وللآخرين في وقت واحد، تقوم أساسًا على المحبة والتسامح والمودة وافتراض حسن النية في المقابل، علاقة لا يشوبها الشك أو العدوان أو الاعتداء على الآخرين أو عدم الاهتمام بمشاعرهم.

وقد يظن البعض أن العفو والصفح والتسامح غطاء للضعف والوهن والهزيمة، ولكن في الحقيقة فإن هذا العفو والصفح والتسامح قد يكون ممتزجًا بقدر عظيم من الحكمة والتعقل، وتكفي الإشارة إلى أن هذا لا يحدث إلا إذا كان الإنسان يستشعر قدرًا من المحبة الأصيلة لنفسه ولأسرته ولأصدقائه وللبشرية جميعها ولا يحمل أية روح عدوانية تجاه الغير، مهما كان جنسه أو دينه أو مذهبه، وإلا لما تكلف عناء اصطناع المزيد من طلب العفو والصفح والتسامح، بل توغل عمقًا في الكراهية وسلوك العدوان ورد الفعل العنيف، وفكر برد الصاع صاعين كما يفعل البعض من المتعصبين.

فالعفو والصفح والتسامح العظيم عندئذ رحمة بالنفس ورفقًا بالآخرين وسدًا يقي الإنسان من فيضان الشك والريبة وتفسير السلوك الخاطئ بالسيئ الموغل بالكراهية.

وقد يحسب الناس أن التسامح والعفو دليل على الضعف، والرضا بالإهانة والظلم وعدم القدرة على دفعه عنهم، ولكن المتعقلين يفهمون أنهما سمة من سمات المؤمن القوي، ونبل أخلاقه، ومن دواعي العز والفخار.

فكلما ارتفع وعظم قدرنا، كرمت أخلاقنا، وسمت أنفسنا، متحصنين بالحلم، وحسن العفو، مما يجعلنا أهلًا لكرم الله وعفوه.

ومقابلة الإساءة بالعفو دافعه الحلم وكظم الغيظ وهو ضبط النفس وإلزامها الروية والأناة وعدم الغضب وتدل على رفعة الأخلاق، وتبعث التواد والتراحم.

والتسامح والعفو أثنى عليه الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34- 35].

نؤكد للمرة الثالثة أنه يجب ألا يفهم التسامح على أنه تنازل عن الحق أو أنه الخوف أو قبول الذل مخافة الأمور العظيمة التي لا يتحملها البعض، فيلجئون إلى التسامح، فليس التسامح هكذا، ولا يمكن أن ندعو الغير إلى قبول الذل أو التنازل عن الحق أو التبرير للمخطئ.

فالقصد بالتسامح هو أن يكون منهج حياة أو طريقة حياة وليس رد فعل لواقعة عابرة، إنك حين تتسامح مع المخطئ أو من يرتكب حماقة أمامك أو معك، فأنت لا تتنازل عن حقك، بل تتعالى وتترفع عن السقوط في الحماقة أو الخطأ الذي يحدث.

لا تسامح مع التفريط في الحقوق:

والتسامح لا يكون إلا بين أنداد تتقارب أو تتطابق موازين القوى بينهم؟ والتسامح لا يكون ولن يستقر إذا تم التفريط بالحقوق المشروعة، بل إن استعادة هذه الحقوق شرط تحققه.

وإذا كان القرآن الكريم دعا دائمًا إلى التسامح فإنه حث المسلمين على الدفاع عن حقوقهم: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، كما أن الإسلام اعتبر أن من يموت دفاعًا عن عرضه وعن أرضه فهو شهيد.

حقيقة الأمر إذًا أن التسامح يجب أن يكون مع من يتسامح، والمسلمون دائمًا هم متسامحون لأنهم وسعوا الآخرين بصدورهم‏،‏ وحسن معاملتهم‏،‏ ورغم ذلك فإن الآخرين قتلوا هذا التسامح بالتنكر‏،‏ وواجهوا هذه المعاملة اللطيفة بالتشدد ولا ريب أن المسلمين إنما يؤمرون بأن يعدوا لكل أمر عدته‏.‏

إلا أن الأمة يجب أن تتسامح من منطلق القوة‏،‏ لا من منطلق الضعف‏،‏ بحيث تكون في مركز القوة‏،‏ لأنها إن ظلت تتسامح وهي ضعيفة هزيلة‏،‏ فلا ريب أن ذلك يؤدي بها إلى أن يحتقرها الأعداء‏،‏ بحيث يعدون هذا التسامح ضعفًا منها لا يحسبونه لطفًا في المعاملة‏،‏ وحبًا للخير وإنما يعدونه ضعفًا‏،‏ ويزدادون في التنمر ضد هذه الأمة‏،‏ لذلك يجب مع ما تؤمر به الأمة أن تتسامح‏،‏ أن تكون قوية يهابها عدوها حتى لا يجترئ عليها‏.

وقاية من الأمراض:

وقد أظهرت الدراسات النفسية أن الأشخاص الأكثر قدرة على السيطرة على أنفسهم والتحكم في حياتهم هم الأكثر إنتاجية والأكثر سعادة ورضا بحياتهم.

فالتسامح يزيل سرطان الكراهية من نفوس الناس ويقدم لهم الدليل أيضًا على أن العظماء من الأنبياء والمصلحين والمؤمنين ذاقوا المر من أجل التسامح، ودعوا إلى نبذ التعصب والعنف الذي يعمي العقول قبل العيون ويولد المشاعر السلبية تجاه أبناء البشرية عمومًا ثم ينتهي إلى نبذ الآخر ولو كان من نفس الدين وإن اختلف معه في المذهب، وعلينا نحن البشر أن نتحلى بروح التسامح الذي هو التصالح مع الأحقاد الدفينة، فالتسامح هو فعل من مجني عليه تجاه الجاني وأساسه التحول من موقف سلبي إلى موقف إيجابي.

قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134]، أي: لا يعملون غضبهم في الناس، بل يكفون عنهم شرهم، ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل (7).

عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (8).

والعفو والصفح والتسامح يقوي المناعة ويقلل إفراز هرمون التوتر الذي يسبب ضغط الدم والسكر والأزمات القلبية واضطرابات الجهاز الهضمي والقولون العصبي.

أما عدم التسامح والصفح فإنه يؤدي إلى الغضب وحب الانتقام وهو حالة نفسية، تؤدي لثورة الإنسان بالقول والفعل. وهو مفتاح الشرور، لما ينجم عنه من إثم، كالسخرية، واللمز والقتل، ولا يحدث عفويًا، إنما ينشأ عن أسباب وبواعث تجعل الإنسان سريع التأثر.

صبر ومرونة وتفاؤل:

ويستحب لمن وقع تحت الظلم التروي في أقواله وأفعاله فذلك مما يخفف حدة الهياج والاندفاع، وعليه الاستعاذة من الشيطان الرجيم، والجلوس إذا كان واقفًا، والوضوء أو الغسل بالماء، فإنه من المهدئات، والتحلي بالحلم والعفو والتصافح والتسامح، فهو فضيلة إنسانية تدل على قدرة الإنسان السوي القوي على التحكم في مشاعره وتصرفاته وقوة شخصيته وسعة إدراكه، وهو باعث على استقرار الأمن وحقن الدماء وتحجيم الشر وإطالة العمر جمال الوجه والأجر والمثوبة عند الله تبارك وتعالى.

والإسلام يربي في المؤمن روح الصبر عند البلاء عندما يتذكر قوله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرًا له» (9).

والإسلام يربي في المؤمن أيضًا المرونة في مواجهة الواقع، التي هي من أهم ما يحصن الإنسان من القلق أو الاضطراب حين يتدبر قوله تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون} [البقرة: 216].

والإسلام يربي في المسلم أيضًا التفاؤل وعدم اليأس، فالمؤمن متفائل دائمًا لا يتطرق اليأس إلى نفسه فقد قال تعالى: {وَلَا تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُون} [يوسف: 87]، ويطمئن الله المؤمنين بأنه دائمًا معهم، إذا سألوه فإنه قريب منهم ويجيبهم إذا دعوه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون} [البقرة: 186].

والإسلام يربي في المؤمن كذلك التوافق مع الآخرين، وأن الحياة بين المسلمين حياة تعاون على البر والتقوى، وأن والتسامح هو الطريق الذي يزيد المودة بينهم ويبعد البغضاء، وأن وكظم الغيظ والعفو عن الناس دليل على تقوى الله وقوة التوازن النفسي، فقال سبحانه وتعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34- 35] (10).

إن التسامح من أسمى الصفات التي أمرنا بها الله عز وجل وبينها لنا رسولنا الكريم، فالتسامح هو العفو عند المقدرة والتجاوز عن أخطاء الآخرين ووضع الأعذار لهم، والنظر إلى مزاياهم وحسناتهم بدلًا من التركيز على عيوبهم وأخطائهم، فالحياة قصيرة تمضي من دون توقف فلا داعي لأن نحمل الكُره والحقد بقلوبنا، بل علينا أن نملأها حبًا وتسامحًا وأملًا حتى نكون مطمئنين مرتاحي البال، وهذا ما يقربنا إلى الله ويقربنا إلى الناس ويقربهم إلينا ويمنحنا حبهم، وهنا أجمل الكلام عن التسامح: قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].

ومن عاشر الناس بالمسامحة، زاد استمتاعه بهم، فالمسامحة هي عملية تصفو بها روحك، هي عملية فيها خطوات وربما مطبّات فشل وتردّد، وهي عملية تحدث في قلبك وروحك من الداخل، إن أول إحساس يصيبك هو الإحساس بالحرية وقبول القضاء والقدر، قبول ضعفك وضعف الآخرين وتقبّل أنك بشر وقبول أنك قادر على محاولة الإحساس الجديد وكأنه أعظم شيء وليس ضعفًا.

الضعيف لا يمكن أن يسامح، فالتسامح من صفات الأقوياء.

دور التربية الأسرية:

وينعكس التسامح على الفرد بحالة نفسية صحية لا تعرف الحقد أو الغضب أو العنف، ممّا يعود على المجتمع بالخير من خلال تماسكه وتجنيبه لكل أشكال الدمار والحروب والصراعات والاضطرابات التي قد تفتك بأفراده.

ومما يجدر ذكره أنّ للتربية دورًا مهمًا في إنتاج أشخاص متسامحين، فالأهل الذين حرصوا على زرع أفكار عنصريّة وحاقدة في نفوس أبنائهم من الصغر لن يحصدوا إلا أشخاصًا مريضين في شخصيّاتهم وقلوبهم وسلوكيّاتهم، وبالتالي يلحقون الأذى بمن حولهم، أمّا الأهل الذين ربّوا أبناءهم على الاحترام والأخلاق وفعل الخير ونسيان السيئ ممّا مر بحياتهم لا بدّ أنهم سيحصدون جيلًا واعيًا، يبني المجتمع ويقويه، ويطوّره ولا يلتفت إلى العيوب وإساءة من حوله، ويتجاوزها بسهولة.

وفي ظل هذا التطور الهائل الذي جعل العالم قرية واحدة؛ بل جعلها مجلسًا واحدًا يصبح الإنسان منه في المشرق ويمسي في المغرب وبالعكس، وزالت فيه الحواجز الزمانية والمكانية وتداخلت فيه العلاقات وتقاطعت المصالح وتشابكت المجتمعات وارتبط بعضها ببعض شاءوا أم كرهوا، صار التسامح أمرًا لا مناص منه، بل لا نبالغ إذ قلنا إنه صار قوام الضرورات وعمادها فضلًا عن الحاجيات والتحسينيات، فمن لا يسامح لا يسامَح ومن لا يتجاوز عن أخطاء الآخرين لن يتجاوزوا عن أخطائه، وكما تدين تدان.

فالمجتمع الذي لا يسامح الآخرين يعني أنه يعزل نفسه ويحشرها في زاوية ضيقة لا يمكنه البقاء فيها إلا قدر ما تجف منابع اقتصاده وتصبح مرافقه الضرورية خاوية على عروشها (11).

----------

(1) تفسير المراغي (25/ 116).

(2) تفسير السعدي (ص: 434).

(3) زهرة التفاسير (8/ 4108).

(4) في ظلال القرآن (6/ 3590).

(5) أخرجه مسلم (2588).

(6) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1334).

(7) تفسير ابن كثير (2/ 122).

(8) أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609).

(9) أخرجه مسلم (2999).

(10) الصفح والتسامح وأثرهما الإيجابي على نفسية المؤمن/ موقع المسلم.

(11) حاجة المجتمعات المعاصرة لقيمة التسامح/ منتديات الخليج.