صبــــغة الله
إن لله تعالى صبغةً مميزة، لا تشبهها صبغة، يصبغ بها حياة المؤمنين، فتفترق عن سائر الصبغات التي تلوث نقاء الفطرة، وأسلوب الحياة البشرية، وتسميتها (صبغة) يدل على شدة نفاذها، وسريانها، وإضفائها، على مسارب النفس والشعور، وغشيانها مختلف جوانب الحياة، حتى إن النفس لتصطبغ بها، والحياة تتلون بلونها الفريد، قال تعالى : {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: 138].
الصبغة فِعلة من صبغ، كالجلسة من جلس، وهي في أصل اللغة الحالة التي يقع عليها الصبغ، وهو تلوين الأشياء- كالثياب وغيرها- بألوان معينة، واستعملت الصيغة في الآية بمعنى الإيمان بما فصلته الآية الكريمة، وهي قوله تعالى قبل ذلك {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى} إلخ الآية.
وإنما أطلقت الصبغة على الإيمان بما ذكرته الآية مفصلًا؛ لأن الإيمان يمتزج بالقلوب امتزاج الصبغ بالمصبوغ، وتبدو آثاره على المؤمنين كما تبدو آثار الصبغ على المصبوغ.
ويقال: تصبغ فلان في الدين إذا أحسن دينه وتقيد بتعاليمه تقيدًا تامًا.
وقوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ} هكذا بالنصب على أنه وارد مورد المصدر المؤكد لقولهم {آمَنَّا} فإنه في معنى صبغنا الله بالإيمان، وكأنهم قالوا صبغنا الله بالإيمان صبغته، وإيراد المصدر تأكيدًا لفعل يوافقه في المعنى ويخالفه في اللفظ معهود في الكلام البليغ.
قال القاضي: قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} متعلق بقوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} إلى قوله {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} فوصف هذا الإيمان منهم بأنه صيغة الله، ليبين أن المباينة بين هذا الدين الذي اختاره الله وبين الدين الذي اختاره المبطلون ظاهرة جلية، كما تظهر المباينة بين الألوان والأصباغ لذي الحس السليم (1).
قال العلامة السعدي رحمه الله: أي: الزموا صبغة الله، وهو دينه، وقوموا به قيامًا تامًا، بجميع أعماله الظاهرة والباطنة، وجميع عقائده في جميع الأوقات، حتى يكون لكم صبغة وصفة من صفاتكم، فإذا كان صفة من صفاتكم، أوجب ذلك لكم الانقياد لأوامره، طوعًا واختيارًا ومحبة، وصار الدين طبيعة لكم بمنزلة الصبغ التام للثوب الذي صار له صفة، فحصلت لكم السعادة الدنيوية والأخروية، لحث الدين على مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ومعالي الأمور.. فلهذا قال -على سبيل التعجب المتقرر للعقول الزكية-: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} أي: لا أحسن صبغة من صبغته.
وإذا أردت أن تعرف نموذجًا يبين لك الفرق بين صبغة الله وبين غيرها من الصبغ، فقس الشيء بضده، فكيف ترى في عبد آمن بربه إيمانًا صحيحًا، أثر معه خضوع القلب وانقياد الجوارح، فلم يزل يتحلى بكل وصف حسن، وفعل جميل، وخلق كامل، ونعت جليل، ويتخلى من كل وصف قبيح، ورذيلة وعيب.
فوصفه: الصدق في قوله وفعله، والصبر والحلم، والعفة، والشجاعة، والإحسان القولي والفعلي، ومحبة الله وخشيته، وخوفه، ورجاؤه، فحاله الإخلاص للمعبود، والإحسان لعبيده، فقسه بعبد كفر بربه، وشرد عنه، وأقبل على غيره من المخلوقين فاتصف بالصفات القبيحة، من الكفر، والشرك والكذب، والخيانة، والمكر، والخداع، وعدم العفة، والإساءة إلى الخلق، في أقواله، وأفعاله، فلا إخلاص للمعبود، ولا إحسان إلى عبيده، فإنه يظهر لك الفرق العظيم بينهما، ويتبين لك أنه لا أحسن صبغة من صبغة الله، وفي ضمنه أنه لا أقبح صبغة ممن انصبغ بغير دينه.
وفي قوله: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} بيان لهذه الصبغة، وهي القيام بهذين الأصلين: (الإخلاص، والمتابعة)، لأن (العبادة) اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال، والأقوال الظاهرة والباطنة، ولا تكون كذلك، حتى يشرعها الله على لسان رسوله، والإخلاص: أن يقصد العبد وجه الله وحده، في تلك الأعمال، فتقديم المعمول يؤذن بالحصر.
وقال: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} فوصفهم باسم الفاعل الدال على الثبوت والاستقرار، ليدل على اتصافهم بذلك وكونه صار صبغة لهم ملازمًا (2).
هَل لقوله تعالى: صبغة الله دلالة سلوكية متعينة لازمة؟ هل بالفعل نحتاج إلى التمثل والتمسك بالشعائر الظاهرة؟
وصبغة الله شريعته وسنته وفطرته، قال كثير من المفسرين: وذلك أن النصارى لهم ماء يَصبغون فيه أولادهم، فهذا ينظر إلى ذلك: وقيل: سمي الدين صبغة استعارة من حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين، كما يظهر أثر الصبغ في الثوب وغيره.
قال القرطبي: فسمي الدين صبغة استعارة ومجازًا من حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين، كما يظهر أثر الصبغ في الثوب (3).
قال ابن عثيمين رحمه الله: قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ}، الصبغة معناها اللون؛ وقالوا: المراد بصبغة الله دين الله؛ وسمي «الدين» صبغة لظهور أثره على العامل به؛ فإن المتدين يظهر أثر الدين عليه: يظهر على صفحات وجهه، ويظهر على مسلكه، ويظهر على خشوعه، وعلى سمته، وعلى هيئته كلها؛ فهو بِمَنزلةِ الصَّبغِ للثَّوبِ يظهرُ أثرُه عليه؛ وقيل: سمي صبغة للزومه كلزوم الصبغ للثوب؛ ولا يمنع أن نقول: إنه سمي بذلك للوجهين جَميعًا: فهو صِبغةٌ للزومه؛ وهو صبغة أيضًا لظهور أثره على العامل به.
قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} الاستفهام هنا بمعنى النفي؛ أي لا أحد أحسن من الله صبغة؛ وذلك؛ لأن دين الله عز وجل مشتمل على المصالح، ودرء المفاسد؛ ولا يوجد دين يشتمل على هذا إلا ما جاء من عند الله، سواء كان الدين الإسلامي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، أو الأديان الأخرى ما دامت قائمة لم تنسخ (4).
قال في تفسير المنار: {صِبْغَةَ اللهِ} أي صبغنا بما ذكر من ملة إبراهيم صبغة الله وفطرته فطرنا عليها، وهي ما صبغ الله به أنبياءه ورسله والمؤمنين من عباده على سنة الفطرة، فلا دخل فيها للتقاليد الوضعية ولا لآراء الرؤساء وأهواء الزعماء، وإنما هو من الله تعالى بلا واسطة متوسط ولا صنع صانع، والصبغة في أصل اللغة صيغة للهيئة من صبغ الثوب إذا لونه بلون خاص {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً} أي لا أحسن من صبغته فهي جماع الخير الذي يؤلف بين الشعوب والقبائل، ويزكي النفوس ويطهر العقول والقلوب.
وأما ما أضافه أهل الكتاب إلى الدين من آراء أحبارهم ورهبانهم فهو من الصنعة الإنسانية، والصبغة البشرية قد جعل الدين الواحد مذاهب متفرقة مفرقة، والأمة الواحدة شيعًا متنافرة متمزقة {وَنَحْنُ لَهُ} وحده {عَابِدُونَ} فلا نتخذ أحبارنا وعلماءنا أربابًا يزيدون في ديننا وينقصون، ويحلون لنا بآرائهم ويحرمون، ويمحون من نفوسنا صبغة الله الموجبة للتوحيد، ويثبتون مكانها صبغة البشر القاضية بالشرك والتنديد.
قال الأستاذ الإمام: والآية تشير إلى أنه لا حاجة في الإسلام إلى تمييز المسلم من غيره بأعمال صناعية كالمعمودية عند النصارى مثلًا، وإنما المدار فيه على ما صبغ الله به الفطرة السليمة من الإخلاص وحب الخير والاعتدال، والقصد في الأمور {فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] (5).
جاء في الظلال :إنه ليس على المؤمن إلا أن يستقيم على طريقته، وأن يعتز بالحق المستمد مباشرة من ربه، وبالعلامة التي يضعها اللّه على أوليائه، فيعرفون بها في الأرض: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ} (6).
وقال الشعراوي في تَفسيره :قوله سبحانه: {صِبْغَةَ اللهِ} فكأن الإيمان بالله وملة إبراهيم وما أنزل الله على رسله هي الصبغة الإلهية التي تتغلغل في الجسد البشري.. ولماذا كلمة صبغة؟ حتى نعرف أن الإيمان يتخلل جسدك كله.. إنه ليس صبغة من خارج جسمك ولكنها صبغة جعلها الله في خلايا القلب موجودة فيه ساعة الخلق - ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجسانه» (7).
فكأن الإيمان صبغة موجودة بالفطرة، إنها صبغة الله، فإن كان أبواه مُسلمينِ ظل على الفطرة، وإن كان أبواه من اليهود أو النصارى يهودانه أو ينصرانه أي يأخذانه ويضعانه في ماء ويقولون صبغناه بماء المعمودية، هذا هو معنى صبغة الله .
ويريد الحقُّ سبحانه أن يبين لنا ذلك بأن يجعل من آيات قدرته اختلاف ألواننا، هذا الاختلاف في اللون من صبغةِ الله، اختلاف ألوان البشر ليس طلاء وإنما في ذات التكوين، فيكون هذا أبيض وهذا أسمر وهذا أصفر وهذا أحمر، هذه هي صبغة الله، وما يفعلونه من تعميد للطفل لا يعطي صبغة .
لأن الإيمان والدين لا يأتي من خارج الإنسان وإنما يأتي من داخله، ولذلك فإن الإيمان يهز كل أعضاء الجسد البشري، واقرأ قول الحق: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23].
هذا هو التأثيرُ الذي يضعه الله في القلوب، أمر داخلي وليس خارجيًا، أما إيمان غير المسلمين فهو طلاء خارجي وليس صبغة؛ لأنهم تركوا صبغة الله، ونقول لهم: لا، هذا الطلاء من عندكم أنتم، أما ديننا فهو صبغةُ الله.
قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً} استفهام لا يمكن أن يكذبوه، ولكن الجواب يأتي على وفق ما يريده السائل سبحانه من أنه لا يوجد من هو أحسن من الله صبغة، وقوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} أي مطيعون لأوامره، والعابد هو من يطيع أوامر الله ويجتنب ما نهى عنه.
إذن فقوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} أي مطيعون لأوامره، لأننا آمنا بالآمر إلهًا وربًا يعبد، فإذا آمنت حبب الله إليك فعل الأشياء التي كنت تستثقلها وسهل عليك الامتناع عن الأشياء التي تحبها لأنها تعطيك لذة عاجلة، هذه هي صبغة الله التي تعطينا العبادة، واقرأ قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7].
وهكذا فإن الله بصبغة الإيمان يحبب إلينا الخير ويجعلنا نبغض الشر، لا عن رياء ونفاق خارج النفس كالطلاء ولكن كالصبغة التي تتخلل الشيء وتصبح هي وهو شيئًا واحدًا لا يفترقان (8).
1- فهي صبغة للنفس؛ تمنحها معاني صائبة، وتصورات رائقة، تسكب فيها السكينة والطمأنينة.
2- وهي صبغةٌ للعقل؛ تمنحه القناعة، والاطراد، والصفاء، وتحميه من الشك، والتناقض، والخرافة.
3- وهي صبغة للأخلاق؛ تصطفي مكارمها، وتنبذ سفسافها، وترقى بها عن قصد الخلق إلى العبادة.
4- وهي صبغةٌ للسلوك؛ تجلله بالسمت الحسن، والأدب الجم، والمنطق الرفيع، ومراعاة الآخرين.
5- وهي صبغة للعشرة الزوجية؛ تعقدها بكلمة الله، وتحوطها بأمانة الله، فتجعلها مودةً، ورحمة.
6- وهي صبغةُ للمرأة؛ تنشئها على الصون، والطهر، والقنوت، وحفظ غيبة الزوج، وتربية الأجيال.
7- وهي صبغة للمجتمع بأكمله؛ تقيم قواعده على المحبة الإيمانية، والتكافل، وتشيع فيه الفضيلة.
8- وهي صبغة للعلاقات العامة؛ تضمنها بالتقوى، والوفاء بالعقود، وتنفي عنها الغدر والخيانة .
ومن صور الاجتيال الشيطاني، الذي صبغ بغير صبغة الله :
الصبغة الشركية: التي استرقَّت العباد للعباد، وأوقعتهم في الظلم العظيم، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
الصبغة اليهودية: التي نفخت في النفوس الكبر، والجحود، والعدوان، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64].
الصبغة النصرانية: التي تاهت بأصحابها، وأضلتهم عن سواء السبيل، قال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 14].
الصبغة الحيوانية: التي يتردى في ظلماتها الذين لا يعلمون، في غفلة مطبقة، وحياة بهيمية، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
وبإزاء هؤلاء جميعًا، تبدو هذه الأمة المختارة، مصطبغة بصبغة الله، نقية، زكية، توحد الخالق، وتنفع الخلق، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، وقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، وتكتمل هذه الصبغة حين يصبغ الله أهلها بالنعيم المقيم في الجنة، كما صبغهم بالمنهج القويم في الدنيا (9).
إنه الإسلام إنه صبغة الله ودين الله وتوحيد الله وتنزيهه، إنه إفراده سبحانه بالعبادة كي يرتقي بالمؤمن في خلقه، وتفكيره ينقذه من زيغ القلوب، وانحراف الأهواء، وظلمات الجهل، وأوهام الخرافة، ينقذه من المحتالين والدجالين وأحبار السوء ورهبانها ممن يشترون بآيات الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا.
إن التوحيد الخالص يحفظ الإنسان من الانفلات بلا قيد أو حاجز.
إن توحيد الله وإفراده بالعبادة هو العبودية التامة له وحده سبحانه تحقيقًا لكلمة الحق؛ لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحقيقًا لها في لفظها ومعناها، والعمل بمقتضاها، يقيم المسلم عليها حياته كلها، صلاته ونسكه، محياه ومماته، توحيد في الاعتقاد، وتوحيد في العبادة، وتوحيد في التشريع، توحيد تنقى به القلوب والضمائر من الاعتقاد في الألوهية لأحد غير الله، وتنقى به الجوارح والشعائر من أن تصرف لأحد غير الله، وتنقى به الأحكام والشرائع من أن تتلقاها من أحد دون الله عز وجل.
التوحيد هو عماد الدين، وجوهر العقيدة، وأول الدين وآخره، وظاهره وباطنه، قامت عليه الأدلة، ونادت عليه الشواهد، وأوضحته، الآيات، وأثبتته البراهين، نصبت عليه القبلة، وأسست عليه الملة، ووجبت به الذمة، وعصمت به الأنفس، وحقنت به الدماء، وامتازت به دار الإيمان عن دار الكفرة وانقسم به الناس إلى مؤمن وكافر، وسعيد وشقي.
ولقد كانت عناية القرآن بتوحيد الله عظيمة؛ فهو القضية الكبرى، قضية العقيدة التي هي قوام الدين كله إنها قوام حياة الضمير، وقوام حياة الأسرة بأجيالها المتتابعة، وقوام حياة الإنسانية.
إن هذه العقيدة هي القوة الهائلة في حياتنا العميقة في كياننا، لا يمكن أن يتخلى عنها الفرد أو الأمة، في الصراع مع الباطل، إلا أن يكون هناك اضطراب في الموازين أو قصور في الفهم، ومن العقيدة ينبثق كل شيء، فهي القاعدة التي ينطلق منها وينظر إلى الدنيا وما عليها من خلالها، فسعي المسلم وعلمه وحياته تصبغه بها: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: 138].
لكن الذي يمنعه الإسلام ويستنكره بل يحاربه، أن تضيع شخصية الأمة، وأن يذوب شبابها وبناتها، وأن نفقد الذاتية، وأن نتخلى عن الكيان، وأن ننتمي إلى غيرنا وأعدائنا، ونتجرد من صبغتنا ثم نذوب في الأمم الأخرى، فذاك وايم الله هو العار الذي لا يقبل.
إن الإسلام يفرض على المسلم أن تكون له شخصية مستقلة متميزة، ولا تجيز له أن يقلد الآخرين، أو يتشبه بالكافرين في أمورهم الخاصة بهم أبدًا؛ لأنه يريد منه أن يكون هو القدوة والأسوة والمرشد، لا أن يكون ذنبًا وذيلًا وتابعًا ذليلًا {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18].
إن المسلمين نماذج رائعة للطهر والجمال عندما ينفذون تعاليم دينهم في أبدانهم وبيوتهم، وطرقهم ومدنهم، ومساكين بعض المنتسبين للإسلام ممن يولون وجوههم شطر نظم وتقاليد وعادات يعجبون بها وهي لغيرهم، ويتشبثون بها وعندهم خيرٌ منها في دينهم، وعند الله ما هو أزكى وأتقى وأغنى وأنقى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138].
---------
(1) تفسير الرازي (1/ 522).
(2) تفسير السعدي (ص: 69).
(3) تفسير القرطبي (2/ 144).
(4) تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة (2/ 97).
(5) تفسير المنار (1/ 400).
(6) في ظلال القرآن (1/ 118).
(7) أخرجه البخاري (1358).
(8) تفسير الشعراوي (1/ 613- 615).
(9) صبغة الله/ منتديات الطريق إلى الله.