logo

الإنسان بين الإسلام والفكر الغربي


بتاريخ : الأربعاء ، 26 ربيع الآخر ، 1440 الموافق 02 يناير 2019
بقلم : تيار الاصلاح
الإنسان بين الإسلام والفكر الغربي

الإنسان هو الكائن الأعلى في هذا المُلك العريض، والسيد الأول في هذا الميراث الواسع، ودوره في الأرض إذن وفي أحداثها وتطوراتها هو الدور الأول، إنه سيد الأرض وسيد الآلة! إنه ليس عبدًا للآلة كما هو في العالم المادي اليوم، وليس تابعًا للتطورات التي تحدثها الآلة في علاقات البشر وأوضاعهم كما يدعي أنصار المادية المطموسون، الذين يحقرون دور الإنسان ووضعه، فيجعلونه تابعًا للآلة الصماء وهو السيد الكريم! وكل قيمة من القيم المادية لا يجوز أن تطغى على قيمة الإنسان، ولا أن تستذله أو تخضعه أو تستعلي عليه، وكل هدف ينطوي على تصغير قيمة الإنسان، مهما يحقق من مزايا مادية، هو هدف مخالف لغاية الوجود الإنساني، فكرامة الإنسان أولًا، واستعلاء الإنسان أولًا، ثم تجيء القيم المادية تابعة مسخرة(1).

لقد زعمت الحضارات الحديثة، والمذاهب المستحدَثة، أنها أولت الإنسان عناية كبرى، وأعطته كل حقوقه المادية والمعنوية، وكأنها أوجدت شيئًا جديدًا لم يكن له وجود سابق.

لكن المؤمن إذا تأمل تلك المذاهب المختلفة بعين فاحصة، ونظرة ثاقبة بعيدة كل البعد عن أي ميل أو انحياز أو هوى؛ بل بعين الإنصاف والحق والعدل، لوجد أن تلك المذاهب والحضارات ظلمت الإنسان، وهضمت كثيرًا من حقوقه التي شرعها الله له رفيقة إنسانيته، وقرينة بشريته وآدميته.

إنها أهدرت كرامته، ونزلت به إلى مرتبة الحيوان الأعجم الذي همه نزواته وغرائزه.

نظرة الإسلام للإنسان:

لقد اعتبر الإسلام الإنسان هو المخلوق المكرم على سائر مخلوقات الله، وتكريم الله للإنسان يبدو واضحًا، ويصاحب الإنسانية كلها منذ أبيها آدم، وسيظل معها إلى أن تلقى ربها، وإلى أن تودع دنياها، وترحل إلى أخراها.

إن الإنسان في نظر الإسلام يستحق هذه الكرامة الإنسانية بمقتضى كونه إنسانًا، لا للونه، ولا لجنسه، ولا لدينه، ولا لكونه شريفًا أو ذا حسب، أو ذا جاه؛ بل لكونه إنسانًا فقط، ليت الإنسانية ترجع إلى رشدها، وتعرف أن الإسلام هو الذي كرم الإنسان، وحافظ على حقوقه المتعددة من حرية وإخاء ومساواة.

وليست هذه أو تلك دعاوى كما يريدون أن يصوروا، إنما هو الإسلام الذي عرف للإنسان كرامته وآدميته وبشريته، بالصورة المثلى التي يجب أن تكون.

الإنسان أكرم بكثير من كل تقدير عرفته البشرية من قبل للإنسان ومن بعد، إنه إنسان بنفخة من روح الله: {فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ} [ص:72]، وهو بهذه النفخة مستخلف في الأرض: {وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، ومسخر له كل ما في الأرض: {وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [الجاثية:13].

ولأن الإنسان بهذا القدر من الكرامة والسمو جعل الله الآصرة التي يتجمع عليها البشر هي الآصرة المستمدة من النفخة الإلهية الكريمة، جعلها آصرة العقيدة في الله، فعقيدة المؤمن هي وطنه، وهي قومه، وهي أهله؛ ومن ثم يتجمع البشر عليها وحدها، لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج!(2).

والإنسان في عقيدته في القرآن الكريم هو الخليفة المسئول من بين جميع ما خلق الله؛ إذ يدين بعقله فيما رأى وسمع، ويدين بوجدانه فيما طواه الغيب مما لا تدركه الأبصار والأسماع.

فالإسلام ينظر إلى الإنسان نظرة تضعه فوق مستوى المخلوقات جميعًا في هذا الكوكب، الذي أقامه الله تعالى فيه ليكون خليفة مسئولًا.

مظاهر تكريم الإنسان في الإسلام:

1- خلقه في أحسن تقويم:

إن اعتدال القامة واستقامتها وتناسق الأعضاء؛ لأداء وظائفها، والمسحة الجمالية في شكل الإنسان، كل ذلك مجال اتفاق العقلاء على تكريم الله تعالى له بخلقه في أحسن صورة، يقول عز من قائل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4].

ولو أننا خيرنا إنسانًا يرى في نفسه دمامة الخلقة، وقصر القامة، وبشاعة المظهر، لو خيرناه بين واقعه وبين أجمل حيوان؛ كالأسد والنمر والغزال والقرد...، لاختار شكله وواقعه على الحيوان مهما كان شكله جميلًا.

2- منحه العقل:

إن أعظم ما يميز الإنسان عن سائر المخلوقات العقل، الذي يميز به بين الصواب والخطأ، وبين الصالح والطالح، وبين الخير والشر، وبين النافع والضار.

وبواسطة العقل يُجزأ المركب فيعرف دقائقه، ويركب الجزئيات فيعرف عمومها وتمامها، ويرتب النتائج على المقدمات، ويعمل بالأسباب؛ ليصل إلى المسببات والثمرات، وبالعقل يذلل الصعاب، ويخضع لسيطرته الوحوش الكواسر، ويروض السباع الضواري، ويتغلب على قوى الطبيعة، ويتعرف على سنن الله فيها ليسخرها لصالحه.

ولتخصيص الإنسان بالعقل كلفه ربه بالتكاليف الشرعية، يقول عز من قائل: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72].

3- جعله على الفطرة:

بمعنى أن الله تعالى أعطاه الاستعداد للرقي إلى الكمالات الروحية والخلقية، فلدى الإنسان الاستعداد للتسامي؛ ليكون في أعلى عليين، ولديه الاستعداد ليكون في أسفل سافلين من دركات الانحطاط النفسي والخلقي.

إن الإنسان لديه الاستعداد لأن يتصف بالحقد، والحسد، والغش، والكبر، والرياء، والطمع، والبطر، والخيلاء، والضعف، والمداهنة، والمكر...، ولديه الاستعداد لأن يتصف بأضداد هذه الخصال السيئة، ويمكنه أن يشغل أكبر حيز بين هذه الصفات أو يخلط بينها، بينما الحيوان لا يتصف إلا بصفة واحدة من هذه الصفات في الغالب.

4- ملكة البيان:

يقول جل جلاله: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن:1-4]، إن ملكة البيان؛ أي القدرة على التعبير عما في النفس، من الخصائص الكبرى التي منحها الله تعالى للإنسان، سواء كان ذلك للتعبير عن الحاجات العضوية التي يحتاجها؛ كالحاجة إلى الطعام والشراب والآلام والأوجاع...، أو كان التعبير عن الأفكار والمعتقدات والمبادئ، أو التعبير عن المشاعر والعواطف، أما الحيوانات فلا تصدر إلا بعض الأصوات للتعبير عن حاجة ما، ومن الصعوبة بمكان ترويضها على بعض الأصوات الأخرى للتعبير عن عادات، أو ربطها ببعض الظروف، فتكون رد فعل على بعض التصرفات الموجهة إليها.

5- إرادته وطرق الخيار لديه:

كلما استعمل الإنسان عقله اتسعت دائرة العلم لديه؛ وبالتالي اتسع مجال الاختيار عنده، إن الإنسان الذي يجابه مشكلة ما يستطيع أن يتصرف تجاهها بأكثر من أسلوب، ويستطيع اختيار الطريق الأنسب لصالحه وتحقيق رغباته، فإذا جوبه بالاعتداء عليه قد ينتقم أو يعفو، وقد يكظم غيظه أو يظهره، وقد يداري في وقت ليترك الانتقام إلى الفرصة المواتية، وقد يجبن ويتخاذل ويستسلم، وقد يرد بالمثل أو يطغى، وقد يترفع في الرد أو يسف، كل تلك الخيارات أمامه، وإرادته وتصميمه يحدد له مجال الاختيار، يقول عز وجل: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الانسان:3].

أما الحيوان فلا يملك إلا تصرفًا واحدًا أمام الحادث الذي يتعرض له.

كل ذلك من مظاهر تكريم الله سبحانه وتعالى للإنسان؛ ليكون سيد المخلوقات على هذه الأرض، وسنة الله في مخلوقاته أن كل منحة يقابلها تكليف ومحنة، فحمل الإنسان أمانة التكاليف والاستخلاف في الأرض، يقول جل جلاله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].

ومن هذه النظرة للإنسان تنبثق جملة اعتبارات ذات قيمة كبيرة في عالم التصور وفي عالم الواقع على السواء.

وأول اعتبار من هذه الاعتبارات هو أن الإنسان سيد هذه الأرض، ومن أجله خلق كل شيء فيها، كما تقدم ذلك نصًا، فهو إذن أعز وأكرم وأغلى من كل شيء مادي، ومن كل قيمة مادية في هذه الأرض جميعًا، ولا يجوز إذن أن يستعبد أو يستذل لقاء توفير قيمة مادية أو شيء مادي، لا يجوز أن يُعتدى على أي مقوم من مقومات إنسانيته الكريمة، ولا أن تهدر أية قيمة من قيمه لقاء تحقيق أي كسب مادي، أو إنتاج أي شيء مادي، أو تكثير أي عنصر مادي، فهذه الماديات كلها مخلوقة أو مصنوعة من أجله، من أجل تحقيق إنسانيته، من أجل تقرير وجوده الإنساني، فلا يجوز إذن أن يكون ثمنها هو سلب قيمة من قيمه الإنسانية، أو نقص مقوم من مقومات كرامته.

والاعتبار الثاني هو أن دور الإنسان في الأرض هو الدور الأول، فهو الذي يغير ويبدل في أشكالها وفي ارتباطاتها، وهو الذي يقود اتجاهاتها ورحلاتها، وليست وسائل الإنتاج ولا توزيع الإنتاج هي التي تقود الإنسان وراءها ذليلًا سلبيًا، كما تصوره المذاهب المادية، التي تحقر من دور الإنسان وتصغر، بقدر ما تعظم في دور الآلة وتكبر.

إن النظرة القرآنية تجعل هذا الإنسان، بخلافته في الأرض، عاملًا مهما في نظام الكون، ملحوظًا في هذا النظام، فخلافته في الأرض تتعلق بارتباطات شتى مع السماوات ومع الرياح ومع الأمطار، ومع الشموس والكواكب، وكلها ملحوظ في تصميمها وهندستها إمكان قيام الحياة على الأرض، وإمكان قيام هذا الإنسان بالخلافة، فأين هذا المكان الملحوظ من ذلك الدور الذليل الصغير الذي تخصصه له المذاهب المادية، ولا تسمح له أن يتعداه؟! وما من شك أن كلًا من نظرة الإسلام هذه ونظرة المادية للإنسان تؤثر في طبيعة النظام الذي تقيمه هذه وتلك للإنسان، وطبيعة احترام المقومات الإنسانية أو إهدارها، وطبيعة تكريم هذا الإنسان أو تحقيره.

وليس ما نراه في العالم المادي، من إهدار كل حريات الإنسان وحرماته ومقوماته في سبيل توفير الإنتاج المادي وتكثيره، إلا أثرًا من آثار تلك النظرة إلى حقيقة الإنسان، وحقيقة دوره في هذه الأرض! كذلك ينشأ عن نظرة الإسلام الرفيعة إلى حقيقة الإنسان ووظيفته إعلاء القيم الأدبية في وزنه وتقديره، وإعلاء قيمة الفضائل الخلقية، وتكبير قيم الإيمان والصلاح والإخلاص في حياته، فهذه هي القيم التي يقوم عليها عهد استخلافه: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38]، وهذه القيم أعلى وأكرم من جميع القيم المادية، هذا مع أن من مفهوم الخلافة تحقيق هذه القيم المادية، ولكن بحيث لا تصبح هي الأصل، ولا تطغى على تلك القيم العليا، ولهذا وزنه في توجيه القلب البشري إلى الطهارة والارتفاع والنظافة في حياته، بخلاف ما توحيه المذاهب المادية من استهزاء بكل القيم الروحية، وإهدار لكل القيم الأدبية، في سبيل الاهتمام المجرد بالإنتاج والسلع ومطالب البطون كالحيوان.

وفي التصور الإسلامي إعلاء من شأن الإرادة في الإنسان، فهي مناط العهد مع الله، وهي مناط التكليف والجزاء، إنه يملك الارتفاع على مقام الملائكة بحفظ عهده مع ربه عن طريق تحكيم إرادته، وعدم الخضوع لشهواته، والاستعلاء على الغواية التي توجه إليه، بينما يملك أن يشقي نفسه، ويهبط من عليائه بتغليب الشهوة على الإرادة، والغواية على الهداية، ونسيان العهد الذي يرفعه إلى مولاه، وفي هذا مظهر من مظاهر التكريم لا شك فيه، يضاف إلى عناصر التكريم الأخرى.

كما أن فيه تذكيرًا دائمًا بمفرق الطريق بين السعادة والشقاوة، والرفعة والهبوط، ومقام الإنسان المريد ودرك الحيوان المسوق(3).

وسيحاسبه على كل صغيرة وكبيرة يوم الحساب، يقول أحكم الحاكمين: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} [الإسراء:13-14].

ويقول تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115].

وقد استَعمَل القرآن الكريم لفظ الإنسان في كثير من الآيات؛ فقال تعالى في سورة الحجر: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:26].

وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12].

إن الإسلامَ الحنيف جاء، كما يفهم من الآيات القرآنية، ليقيم بين البشر جميعًا رابطة الإنسانية القائمة على ارتباط البشر جميعًا بالله الخالق جل وعلا، فهم جميعًا عباد الله، فالاتجاه الإنساني ظاهر في تعاليم الإسلام وتَوْجيهاته.

لقد كان الإسلام أسبق وأزكى من كل النظم والحضارات؛ حيث قرر حق المساواة الإنسانية بين البشر وبين الأحرار والعبيد، إن الناس في الإسلام سواسية، ولا تفاضل بينهم؛ فكلهم لآدم، وآدم من تراب، ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة، والغني والفقير، والعبد والحر، إلا بالعمل الصالح والكفاءات الممتازة، وبما يقدمه كل فرد لربه، ولإخوانه، ولوطنه.

لقد قضى الإسلام على النزعات القبلية والعصبية الجاهلية، فلا تفرقة بين الطبقات، ولا بين العبيد والأحرار، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرب إليه كثيرًا من العبيد، ويقدمهم على بعض الصحابة الأحرار، كما كان يرسلهم قادةً على الجيوش التي تضم بين صفوفهم خيرة الصحابة، دون تفرقة على أساس الحسب أو النسب.

يقول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]، ويقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].

أما أمام قانون الإسلام فالمساواة قائمة كذلك بين الأحرار والعبيد، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178].

وقال أيضًا: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45].

وإذا قارنَّا هذا بما فعله الأوروبيون والأمريكان مع الأفارقة الأحرار الذين اختطفوا من إفريقيا السوداء، وكيف عُومِلوا على أنّهم عبيد، فور اختطافهم، ثم تعرَّضوا للجوع والقسوة، وأُلقِي كثيرٌ منهم في البحر وهم أحياء نتيجةَ الأمراض، وصور الضعف التي لحقتهم، ولو قارنَّا قيمَ الإسلام هذه أيضًا بما فعلتْه الطوائف الزاحفة على أمريكا من أوروبا مع الهنود الحمر، وهم أصل أمريكا، وكيف قتلتْ منهم نحو عشرين مليونًا، كما قتلتْ من الأفارقة المخطوفين نحو عشرة ملايين، لو قمنا بهذه المقارنة، وتذكَّرنا صور الإبادة الأخرى، لعَرَفنا قيمة ديننا الإسلامي وحضارتنا الإسلامية، دين التسامح، وحضارة الرحمة لكل العالمين، وصدق الله في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107](4).

إن حضارة أوروبا بلغت في الجانب المادي مبلغًا كبيرًا جدًّا، واستطاعت أن تُحقِّق للإنسان مقاصده من السيطرة على الآخرين؛ بسبب ما اخترعت من أدوات الحرب المتطورة، واستطاعت كذلك أن تُحقِّق للإنسان من صنوف الراحة والرفاهية ما لم يكن يحلم به معظم أساطين هذه الحضارة، وأهملت الجانب الروحي وتجاهلته.

إنها بذلك أساءت إلى التكوين السوي للإنسان المخلوق من روح وجسد، وجعلته فريسة لقلق يدمر كيانه، ولأمراض نفسية عديدة؛ فبددت سعادته المتوقعة؛ وكانت أزمة وأية أزمة؟!

هذه حقيقة يقررها كثير من علماء هذا العصر ومفكريه، ويعلنون تخوفهم من إشراف هذه الحضارة على الانهيار والدمار.

إن أسئلة عديدة تطرح نفسها على إنسان هذا العصر، فلا يجد لها جوابًا مقنعًا، قد يجهر بها، وقد تبقى تتردد بينه وبين نفسه، ولو كان من المؤمنين لوجد الجواب الشافي.

صحيح أن هذه الحضارة ملأت وقت الإنسان بما يبعده عن جو هذه الأسئلة، وجعلته في دوامة العمل والإنتاج، واللذة واللهو، والرفاهية والمتعة، في شغل دائم، ولكنها لم تستطع إبعاد هذه الأسئلة عن فكره في أوقات التأمل.

وإليكم بعض هذه الأسئلة:

لماذا وُجِدتُ في هذه الدنيا؟ ما طبيعة هذا الكون؟ وما الصلة بيني وبينه؟ وإلى أين المصير؟

إذًا، فالعالم اليوم يمر بمرحلة خطيرة، تتلخص في أن حضارته الضخمة المادية مشرفة على الانهيار؛ لأنها أفلست في القيم والمثل، ولم تستطع أن تقدم للإنسان تفسيرًا مقنعًا لمظاهر الكون، ولا جوابًا شافيًا للأسئلة العديدة التي تلح عليه طالبة الجواب.

ومن هنا نستطيع أن نجد تفسيرًا لانتشار بعض المذاهب الضالة السخيفة في أوروبا وأمريكا، إن الناس هناك أحسوا بأن المادة ليست كل شيء في حياتهم، فانطلقوا يلتمسون الشيء الذي افتقدوه في هذه الدعوات الشرقية، التي تجعل موضوع الروح موضوعًا أساسيًا.

إنها أزمة حادة؛ ذلك لأن اختلاط الناس بعضهم ببعض، وامتزاجهم لسهولة المواصلات، عمم البلاء، وكاد أن يجعل الوباء عامًا شاملًا؛ ولذلك فإن الذين يغارون على مستقبل الإنسان المعاصر يتطلعون إلى إرشادات وتوجيهات من هنا؛ من بلاد الإسلام.

إن على أرباب الأقلام وقادة الفكر والواعين من المسلمين أن يتقدموا ليكشفوا عن محاسن هذا الإسلام العظيم ومزاياه، وعن حله لمعضلات الحياة المستعصية، وعن قدرته على تقديم كل ضرورات الإنسان وحاجاته وكمالياته، وتوفيرها بشكل متوازن، لا يطغى فيه جانب على جانب.

لقد أفلست الشيوعية في بلدها الأم، روسيا، والرأسمالية تتوالى عليها الانتكاسات في بلدان عدة من أوربا وأمريكا.

ولم يبق من منقذ للناس في دنياهم المعمورة إلا الإسلام، وهنا تأتي المهمة الضخمة لكل عالم وواع لحقيقة الإسلام ليقدمها لهؤلاء الناس(5).

إن هذه البشرية، وهي من صنع الله، لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده سبحانه، وقد جعل في منهجه وحده مفاتيح كل مغلق، وشفاء كل داء: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82].

{إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، ولكن هذه البشرية لا تريد أن ترد القفل إلى صانعه، ولا أن تذهب بالمريض إلى مبدعه، ولا تسلك في أمر نفسها، وفي أمر إنسانيتها، وفي أمر سعادتها أو شقوتها، ما تعودت أن تسلكه في أمر الأجهزة والآلات المادية الزهيدة، التي تستخدمها في حاجاتها اليومية الصغيرة، وهي تعلم أنها تستدعي لإصلاح الجهاز مهندس المصنع الذي صنع الجهاز، ولكنها لا تطبق هذه القاعدة على الإنسان نفسه، فترده إلى المصنع الذي منه خرج، ولا أن تستفتي المبدع الذي أنشأ هذا الجهاز العجيب، الجهاز الإنساني العظيم الكريم الدقيق اللطيف، الذي لا يعلم مساربه ومداخله إلا الذي أبدعه وأنشأه: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك:13-14].

ومن هنا جاءت الشقوة للبشرية الضالة، البشرية المسكينة الحائرة، البشرية التي لن تجد الرشد، ولن تجد الهدى، ولن تجد الراحة، ولن تجد السعادة، إلا حين ترد الفطرة البشرية إلى صانعها الكبير، كما ترد الجهاز الزهيد إلى صانعه الصغير، ولقد كانت تنحية الإسلام عن قيادة البشرية حدثًا هائلًا في تاريخها، ونكبة قاصمة في حياتها، نكبة لم تعرف لها البشرية نظيرًا في كل ما ألم بها من نكبات.

لقد كان الإسلام قد تسلم القيادة بعد ما فسدت الأرض، وأسنت الحياة، وتعفنت القيادات، وذاقت البشرية الويلات من القيادات المتعفنة و{ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41].

تسلم الإسلام القيادة بهذا القرآن، وبالتصور الجديد الذي جاء به القرآن، وبالشريعة المستمدة من هذا التصور، فكان ذلك مولدًا جديدًا للإنسان أعظم في حقيقته من المولد الذي كانت به نشأته، لقد أنشأ هذا القرآن للبشرية تصورًا جديدًا عن الوجود والحياة والقيم والنظم كما حقق لها واقعًا اجتماعيًا فريدًا، كان يعز على خيالها تصوره مجرد تصور، قبل أن ينشئه لها القرآن إنشاءً، نعم، لقد كان هذا الواقع من النظافة والجمال، والعظمة والارتفاع، والبساطة واليسر، والواقعية والإيجابية، والتوازن والتناسق، بحيث لا يخطر للبشرية على بال، لولا أن الله أراده لها، وحققه في حياتها، في ظلال القرآن، ومنهج القرآن، وشريعة القرآن(6).

***

_________________

(1) في ظلال القرآن (1/ 54).

(2) المصدر السابق (1/ 12).

(3) المصدر السابق (1/ 61).

(4) الحرية الإنسانية بين حضارتنا وحضارتهم، شبكة الألوكة.

(5) في أزمة الإنسانية، وكالة معراج للأنباء.

(6) في ظلال القرآن (1/ 15-16).