logo

أيها الدعاة، لا تنسوا الفضل بينكم


بتاريخ : الثلاثاء ، 9 رمضان ، 1437 الموافق 14 يونيو 2016
بقلم : تيار الاصلاح
أيها الدعاة، لا تنسوا الفضل بينكم

النسيان هو عدم استحضار الإنسان ما كان يعلمه بدون نظر وتفكير مع علمه بأمور كثيرة، وقد جعلته الشريعة عذرًا وسببًا مخففًا في حقوق الله تعالى من بعض الوجوه، لقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، فالله سبحانه رفع عنا إثم الغفلة والنسيان، والخطأ غير المقصود.

والنسيان لغة لفظ مشترك بين معنيين:

أحدهما: ترك الشيء عن ذهول وغفلة، وذلك خلاف الذكر له.

والثاني: الترك عن تعمد، ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237]؛ أي: لا تقصدوا الترك والإهمال، ونسيت ركعة أهملتها ذهولًا، وقال الزمخشري: «من المجاز: نسيت الشيء تركته».

وفي الاصطلاح: هو الغفلة عن معلوم في غير حال السنة، فلا ينافي الوجوب؛ أي: نفس الوجوب، لا وجوب الأداء.

قال القرافي: «النسيان لا إثم فيه من حيث الجملة، بخلاف الجهل بما يتعين على الإنسان تعلمه، والنسيان أيضًا يهجم على العبد قهرًا لا حيلة له في دفعه عنه، والجهل له حيلة في دفعه بالتعلم»(1).

قال الآمدي: «إن الذهول والغفلة والنسيان عبارات مختلفة، لكن يقرب أن تكون معانيها متحدة، وكلها مضادة للعلم، بمعنى أنه يستحيل اجتماعها معه»(2).

وقال بعضهم: نية العوام في طلب الأغراض مع نسيان الفضل، ونية الجهال التحصن عن سوء القضاء ونزول البلاء، ونية أهل النفاق التزين عند الله وعند الناس، ونية العلماء إقامة الطاعة لحرمة ناصبها لا لحرمتها، ونية أهل التصوف ترك الاعتماد على ما يظهر منهم من الطاعات(3).

فإذا أخطأ إنسان فلا بد أن يقدر الخطأ بقدره، وإذا كانت هناك أدنى فرصة لإعادته للصف، وعدم إبعاده أو ابتعاده فيكون ذلك أوْلى، خصوصًا إذا كان له فضل وسَبْق، لا نريد أن نقلب ظهر المجن لمن يُخطئ، أو ننسى كل ما قدم ما دام الخطأ لم يتكرر ولم يُصر عليه، ولا بد من اعتبار لحظات الضعف البشري، وعدم تجاهلها، فليس الأفراد بملائكة أخيار، ولا أنبياء معصومين، ويظل للخطأ دائرته التي لا ينبغي تجاوزها.

رحم الله الإمام الشافعي يوم قال: «الحر من حفظ وداد لحظة»، نعم، الحر هو الذي يحفظ الود فلا يغيبه، ويرعى حق الصحبة فلا يضيعها، وإن كانت في عمر السنين لحظة واحدة، ولا ينسى الفضل لأهله وإن قلّ حجمه، أو خف وزنه، ولا ينسى ساعات الصفاء واللقاء والود، ولا أيام التزاور والتواصل وإن كانت قليلة.

ولذلك لا تستقيم أمور الإسلام، ولا يستقيم أمر مسلم إلا إذا عرف لكل ذي فضلٍ فضله، ولا تجد أحدًا ينال السؤدد والعظمة والكمال والشرف إلا إذا كان يحفظ حق الصغير قبل الكبير، وتجده يتلمس مواضع إحسان الغير إليه، فإذا جلس مع الناس ولو كان هو المحسن، ولو كان هو الذي يكرمهم ويعطيهم، فأول ما يفكر أن يفكر في الذي قدمه له الناس قبل أن يفكر ما الذي قدمه للناس، وهذا شأن أهل الكمالات والعلو، الرجل يدخل إلى بيته فإذا جاءت زوجته ووضعت الطعام بين يديه شكر لها صنعها، وولده يأتي ويقدم له حذاءه فيدعو له دعوةً صالحة، ويقول له: بارك الله فيك.

والعكس أيضًا: فإنه إذا قابل المعروف بالإحسان قابله محسن بإحسان أعظم مما أحسن إليه، فألفت الناس على الخير والإحسان.

وأما إذا كان الشخص لا يعرف فضل أهل الفضل، والعياذ بالله، لا في الدين ولا في الدنيا، يتعلم من أئمة وعلماء السلف، ثم لا يلبث أن يؤلف الكتب في نقدهم وتتبع عثراتهم وكشف عوارهم، أو يتعلم عند المعلم فيجلس ليجمع سقطاته، أو ينتفع بمحاضرة الداعية في صلاحه واستقامته ثم لا يلبث أن يكشف عوار محاضرته، وهكذا حتى يظلم قلبه ويطمس عليه؛ لأن الله لا يرضى بكفران النعم، والكفر أساس الشر، وكُفر النعم يكون برد المعروف بالإساءة؛ {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60].

فالإسلام لا تقوم أموره إلا على حفظ المعروف، فلا يمكن أن تستقيم أمور الإسلام والمسلمين إلا بهذا؛ أن تكون عالي النفس عالي الهمة، تشعر أن للناس عليك فضلاً قبل أن تشعر بفضلك على الناس، فإذا نظر الإنسان بهذه النظرة بارك الله أمره، ووضع بين الناس محبته والقبول(4).

إن معنى قوله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} كما قرره المفسرون على اختلاف عباراتهم كله يرجع إلى أن الله ينهانا أن ننسى الفضل في معاملتنا للناس، والمقصود بالفضل: أي المعروف والإحسان والفعل الأكمل؛ لأن معاملة الإنسان لغيره لا تخلو من أمرين:

1- درجة واجبة: وهو المعاملة بالعدل والإنصاف، بأن يُعطيَ الواجب عليه، أو يأخذ ما وجب له.

2- درجة مستحبة: وهو المعاملة بالفضل والإحسان، بأن يعطي ما ليس واجبًا عليه، أو يتسامح فيما وجب له من الحقوق على الآخرين.

وهذه الدرجة الثانية هي الفضل الذي نهينا في الآية عن نسيانه وعدم فعله.

فإذن: الفضل شيء زائد يفعله الانسان إحسانًا منه وفضلًا، يفعله مع القريب والبعيد، ومع الصاحب والغريب.

قال الطاهر بن عاشور: «فأمروا في هذه الآية بأن يتعاهدوا الفضل ولا ينسوه؛ لأن نسيانه يباعد بينهم وبينه، فيضمحل منهم، وموشك أن يحتاج إلى عفو غيره عنه في واقعة أخرى، ففي تعاهده عون كبير على الإلف والتحابب، وذلك سبيل واضحة إلى الاتحاد والمؤاخاة والانتفاع بهذا الوصف عند حلول التجربة»(5).

ويقول السعدي: «الإنسان لا ينبغي أن يهمل نفسه من الإحسان والمعروف, وينسى الفضل الذي هو أعلى درجات المعاملة؛ لأن معاملة الناس فيما بينهم على درجتين: إما عدل وإنصاف واجب, وهو: أخذ الواجب, وإعطاء الواجب, وإما فضل وإحسان, وهو إعطاء ما ليس بواجب والتسامح في الحقوق, والغض مما في النفس، فلا ينبغي للإنسان أن ينسى هذه الدرجة, ولو في بعض الأوقات, وخصوصًا لمن بينك وبينه معاملة أو مخالطة, فإن الله مجاز المحسنين بالفضل والكرم»(6).

أخرج البيهقي في الشعب عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كيف أنتم، كيف حالكم، كيف كنتم بعدنا؟»، قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فلما خرجت قلت: يا رسول الله، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: «يا عائشة، إنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان»(7).

قال المؤلف: «حسن العهد في هذا الحديث هو إهداء النبي عليه السلام اللحم لأجوار خديجة ومعارفها رعيًا منه لذمامها وحفظًا لعهدها كذلك، قال أبو عبيد: العهد في هذا الحديث الحفاظ ورعاية الحرمة والحق، فجعل ذلك البخاري من الإيمان؛ لأنه فعل بر، وجميع أفعال البر من الإيمان»(8).

عن عائشة قالت: «ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، ولقد هلكت قبل أن يتزوجني بثلاث سنين؛ لما كنت أسمعه يذكرها، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليذبح الشاة، ثم يهدي في خلتها منها»(9).

وحفظ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق فضله: «إن مِن أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين باب في المسجد إلا سُدَّ إلا باب أبي بكر»(10).

وفي حديث مالك بن دينار عن أنس رفعه: إن أعظم الناس علينا منًّا أبو بكر، زوجني ابنته، وواساني بنفسه، وإن خير المسلمين مالًا أبو بكر؛ أعتق بلالًا، وحملني إلى دار الهجرة(11).

ولما رجع صلى الله عليه وسلم من الطائف، بعد أن بقي شهرًا يدعو أهلها، ولم يجد منهم إلا الأذى، رجع إلى مكة، فدخل في جوار المطعم بن عدي، فأمر أولاده الأربعة فلبسوا السلاح، وقام كل واحد منهم عند الركن من الكعبة، فبلغ ذلك قريشًا، فقالوا له: أنت الرجل الذي لا تُخفر ذمتك.

ومات المطعم بن عدي مشركًا، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينسَ له ذلك الفضل، فأراد أن يعبِّر عن امتنانه لقبول المطعم بن عدي أن يكون في جواره، في وقت كانت مكة كلها، إلا نفرًا يسيرًا، ضد النبي، فلما انتهت غزوة بدر قال: «لو كان المطعم بن عدي حيًا ثم كلمني في هؤلاء لتركتهم له»(12)، والمعنى: لو طلب مني تركهم وإطلاقهم من الأسر بغير فداء لفعلت؛ ذلك مكافأة له على فضله السابق في قبول الجوار، فصلوات الله وسلامه على معلم الناس الخير.

قال سعيد بن المسيب: «ليس من عالم ولا شريف ولا ذي فضل إلا وفيه عيب؛ ولكن إن كان فضله أكثر من نقصه ذهب نقصه لفضله؛ كما أن من غلب عليه نقصانه ذهب فضله»(13).

وقال ابن القيم: «فلو كان كل من أخطأ أو غلط تُرِكَ جملةً، وأُهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها»(14).

وقال الذهبي: «ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده، مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق، أهدرناه وبدّعناه لقل من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنه وكرمه»(15).

ولقد ذكر سبحانه أهل الفضل بفضلهم فقال: {وَلَا تَنْسَوا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}؛ أي: لا يذهب بكم الغضب والمكايدة إلى درجة لَا تتذكرون فيها ما يكون عندكم من شمم وإباء، وإرادة للتفضل والعطاء.

{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} في هذه الجملة الكريمة إشارة إلى وجوب التسامح والتعاطف في وقت ذلك الافتراق القاطع، وإلى أنه تجب الرحمة في وقت الانفصال؛ ولذلك صرح سبحانه بأن العفو: أي ترك بعض الحقوق في ذلك الوقت، أقرب لتقوى الله سبحانه، وأدنى إلى رضاه، لكي يكون الافتراق بمفرده، ولا تكون مشاحة تدفع إلى المشادة، ثم إلى الخصومات التي تورث العداوات، وتستمر الأحقاد بين الأسرتين، وتكون الإحن ومن ورائها المحن.

والفضل في أصل معناه الزيادة في كل شيء، وأكثر ما يكون في الزيادة في الأشياء المحمودة؛ ولذا صار يطلق بمعنى العلو، فيقال: فضل هذا على ذاك كذا، ومنه الفضيلة؛ لما فيها من خير زائد، ولما فيها من علو نفسي وكمال وسمو.

فالله سبحانه وتعالى حين ذكَّر المطلقين بالفضل الذي أنساهم إياه الغضب، صرفهم إلى الاتجاه إلى الكمال، والتعالي عن سفساف المشاحنات والمنازعات؛ ليكونوا هم الأعلين دائمًا.

ولقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتجهون ذلك الاتجاه السامي؛ فيروى أن بعض الصحابة تزوج امرأة وطلقها قبل أن يدخل بها؛ فأعطاها الصداق كاملًا، فقيل له في ذلك، فقال: «أنا أحق بالعفو منها».

ويروى أن جبير بن مطعم تزوج ابنة سعد بن أبي وقاص، ثم طلقها قبل الدخول وبعث لها المهر كاملًا؛ فقيل له: «لم تزوجتها؟»، فقال: «عرضها عليَّ فكرهت رده»، قيل: «فلم بعثت بالصداق؟»، فقال: «وأين الفضل؟»(16).

قال مالك رضي الله عنه: ينبغي أن يقدم أهل الفضل والعزم؛ لقوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ}.

وقوله: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} أي: ويؤت كل ذي فضل في دينه في الدنيا فضله في الآخرة، أو يقول: يؤت كل ذي فضل في الدنيا والآخرة فضله؛ لأن أهل الفضل في الدنيا هم أهل الفضل في الآخرة.

عن علي بن الحسين قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: «ليقم أهل الفضل»، فيقوم ناس من الناس، فيقال: «انطلقوا إلى الجنة»، فتتلقاهم الملائكة فيقولون: «إلى أين؟»، فيقولون: «إلى الجنة»، قالوا: «قبل الحساب؟»، قالوا: «نعم»، قالوا: «من أنتم؟»، قالوا: «أهل الفضل»، قالوا: «وما كان فضلكم؟»، قالوا: «كنا إذا جهل علينا حلمنا، وإذا ظلمنا صبرنا، وإذا أسي علينا غفرنا»، قالوا: «ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين»، ثم ينادي مناد: «ليقم أهل الصبر»، فيقوم ناس من الناس، فيقال لهم: «انطلقوا إلى الجنة»، فتتلقاهم الملائكة، فيقال لهم مثل ذلك، فيقولون: «نحن أهل الصبر»، قالوا: «ما كان صبركم؟»، قالوا: «صبرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرناها عن معصية الله عز وجل»، قالوا: «ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين»، ثم ينادي مناد: «ليقم جيران الله في داره»، فيقوم ناس من الناس وهم قليل، فيقال لهم: «انطلقوا إلى الجنة»، فتتلقاهم الملائكة، فيقال لهم مثل ذلك، قالوا: «وبما جاورتم الله في داره؟»، قالوا: «كنا نتزاور في الله عز وجل، ونتجالس في الله، ونتباذل في الله»، قالوا: «ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين»(17).

اعلم أنه تعالى كما أدب أهل الإفك ومن سمع كلامهم، فكذلك أدب أبا بكر لما حلف ألَّا ينفق على مسطح أبدًا، قال المفسرون: نزلت الآية في أبي بكر، حيث حلف ألا ينفق على مسطح وهو ابن خالة أبي بكر، وقد كان يتيمًا في حجره، وكان ينفق عليه وعلى قرابته، فلما نزلت الآية قال لهم أبو بكر: «قوموا فلستم مني ولست منكم، ولا يدخلن علي أحد منكم»، فقال مسطح: «أنشدك الله والإسلام، وأنشدك القرابة والرحم ألا تحوجنا إلى أحد، فما كان لنا في أول الأمر من ذنب»، فقال لمسطح: «إن لم تتكلم فقد ضحكت»! فقال: «قد كان ذلك تعجبًا من قول حسان»، فلم يقبل عذره، وقال: «انطلقوا أيها القوم فإن الله لم يجعل لكم عذرًا ولا فرجًا»، فخرجوا لا يدرون أين يذهبون وأين يتوجهون من الأرض، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بأن الله تعالى قد أنزل علي كتابًا ينهاك فيه أن تخرجهم، فكبر أبو بكر وسره، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية عليه، فلما وصل إلى قوله: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ} [النور:22]، قال: بلى يا رب، إني أحب أن يغفر لي، وقد تجاوزت عما كان، فذهب أبو بكر إلى بيته، وأرسل إلى مسطح وأصحابه، وقال: «قبلت ما أنزل الله على الرأس والعين، وإنما فعلت بكم ما فعلت إذ سخط الله عليكم، أما إذا عفا عنكم فمرحبًا بكم»، وجعل له مثلي ما كان له قبل ذلك اليوم(18).

إنما يعرف الفضل لأهل الفضل أهل الفضل، أي أنه لا يعرف حق ذي الفضيلة وما يجب له من الإعظام والإكرام إلا صاحب الفضيلة؛ لأنه عرف مقدارها فيعرف مقدار حاملها وسببه.

إن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلًا من المهاجرين، وكان من أهل بدر أيضًا، وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم؛ بل كان حليفًا لعثمان.

فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة لما نقض أهلها عهد الحديبية أمر المسلمين بالتجهيز لغزوهم، وقال: «اللهم عمّ عليهم خبرنا»، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه بوجهته، كان منهم حاطب.

فعمد حاطب فكتب كتابًا وبعثه مع امرأة مشركة، قيل من مزينة جاءت المدينة تسترفد، إلى أهل مكة يعلمهم بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزوهم، ليتخذ بذلك عندهم يدًا، فأطلع الله تعالى رسوله على ذلك استجابة لدعائه، وإمضاءً لقدره في فتح مكة، فبعث في أثر المرأة فأخذ الكتاب منها.

فعن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد والزبير بن العوام، وكلنا فارس، وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: «الكتاب؟»، فقالت: «ما معي كتاب»، فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابًا.

فقلنا: «ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتخرجن الكتاب أو لنجردنك»، فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها، وهي محتجزة بكساء، فأخرجته، فانطلقنا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: «يا رسول الله، قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضربن عنقه»، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما حملك على ما صنعت؟»، قال حاطب: «والله، ما بي إلا أن أكون مؤمنًا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أردت أن تكون لي عند القوم يد، يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال: «صدق، لا تقولوا إلا خيرًا».

فقال عمر: «إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه»، فقال: «أليس من أهل بدر؟ فقال: لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو، قد غفرت لكم» فدمعت عينا عمر، وقال: «الله ورسوله أعلم»(19)، فأنزل الله السورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1].

والوقوف قليلًا أمام هذا الحادث وما دار بشأنه لا يخرج بنا عن (ظلال القرآن)، والتربية به وبالأحداث والتوجيهات والتعقيبات عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائد المربي العظيم.

وأول ما يقف الإنسان أمامه هو فعلة حاطب، وهو المسلم المهاجر، وهو أحد الذين أطلعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على سر الحملة، وفيها ما يكشف عن منحنيات النفس البشرية العجيبة، وتعرض هذه النفس للحظات الضعف البشري، مهما بلغ من كمالها وقوتها، وأن لا عاصم إلا الله من هذه اللحظات، فهو الذي يعين عليها.

ثم يقف الإنسان مرة أخرى أمام عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لا يعجل حتى يسأل: «ما حملك على ما صنعت؟»، في سعة صدر وعطف على لحظة الضعف الطارئة في نفس صاحبه، وإدراك ملهم بأن الرجل قد صدق، ومن ثم يكف الصحابة عنه: «صدق، لا تقولوا إلا خيرًا»، ليعينه وينهضه من عثرته، فلا يطارده بها، ولا يدع أحدًا يطارده.

بينما نجد الإيمان الجاد الحاسم الجازم في شدة عمر: «إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه»، فعمر رضي الله عنه إنما ينظر إلى العثرة ذاتها فيثور لها حسه الحاسم وإيمانه الجازم.

أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فينظر إليها من خلال إدراكه الواسع الشامل للنفس البشرية على حقيقتها، ومن كل جوانبها، مع العطف الكريم الملهم الذي تنشئه المعرفة الكلية، في موقف المربي الكريم العطوف المتأني الناظر إلى جميع الملابسات والظروف.

ثم يقف الإنسان أمام كلمات حاطب، وهو في لحظة ضعفه، ولكن تصوره لقدر الله وللأسباب الأرضية هو التصور الإيماني الصحيح، ذلك حين يقول: «أردت أن تكون لي عند القوم يد، يدافع الله بها عن أهلي ومالي»، فالله هو الذي يدفع، وهذه اليد لا تدفع بنفسها، إنما يدفع الله بها، ويؤكد هذا التصور في بقية حديثه وهو يقول: «وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدافع الله به عن أهله وماله»، فهو الله حاضر في تصوره، وهو الذي يدفع لا العشيرة، إنما العشيرة أداة يدفع الله بها.

ولعل حس رسول الله الملهم قد راعى هذا التصور الصحيح الحي في قول الرجل، فكان هذا من أسباب قوله صلى الله عليه وسلم: «صدق، لا تقولوا إلا خيرًا».

وأخيرًا يقف الإنسان أمام تقدير الله في الحادث، وهو أن يكون حاطب من القلة التي يعهد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسر الحملة، وأن تدركه لحظة الضعف البشري وهو من القلة المختارة، ثم يجري قدر الله بكف ضرر هذه اللحظة عن المسلمين، كأنما القصد هو كشفها فقط وعلاجها! ثم لا يكون من الآخرين، الذين لم يعهد إليهم بالسر، اعتراض على ما وقع، ولا تنفج بالقول: ها هو ذا أحد من استودعوا السر خانوه، ولو أودعناه نحن ما بحنا به! فلم يرد من هذا شيء، مما يدل على أدب المسلمين مع قيادتهم، وتواضعهم في الظن بأنفسهم، واعتبارهم بما حدث لأخيهم.

والحادث متواتر الرواية، أما نزول هذه الآيات فيه فهو أحد روايات البخاري، ولا نستبعد صحة هذه الرواية، ولكن مضمون النص القرآني، كما قلنا، أبعد مدى، وأدل على أنه كان يعالج حالة نفسية أوسع من حادث حاطب الذي تواترت به الروايات، بمناسبة وقوع هذا الحادث، على طريقة القرآن.

كان يعالج مشكلة الأواصر القريبة، والعصبيات الصغيرة، وحرص النفوس على مألوفاتها الموروثة ليخرج بها من هذا الضيق المحلي إلى الأفق العالمي الإنساني.

وكان ينشئ في هذه النفوس صورة جديدة، وقيمًا جديدة، وموازين جديدة، وفكرة جديدة عن الكون والحياة والإنسان، ووظيفة المؤمنين في الأرض، وغاية الوجود الإنساني.

وكان كأنما يجمع هذه النبتات الصغيرة الجديدة في كنف الله ليعلمهم الله ويبصرهم بحقيقة وجودهم وغايته، وليفتح أعينهم على ما يحيط بهم من عداوات ومكر وكيد، وليشعرهم أنهم رجاله وحزبه، وأنه يريد بهم أمرًا، ويحقق بهم قدرًا، ومن ثم فهم يوسمون بسمته، ويحملون شارته، ويعرفون بهذه الشارة وتلك السمة بين الأقوام جميعًا، في الدنيا والآخرة، وإذن فليكونوا خالصين له، منقطعين لولايته، متجردين من كل وشيجة غير وشيجته، في عالم الشعور وعالم السلوك»(20).

وقد نزل في هذا الموقف قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحن:1]، ولقد اعتبر بعض العلماء هذه الآية منقبة عظيمة لحاطب رضي الله عنه؛ لأن في ذلك شهادة له بالإيمان.

فهذه بعض المواقف من السيرة النبوية المطهرة، لعلنا نتأسى ونقتدي بها في حياتنا، ونتبع منهج النبي صلى الله عليه وسلم في معالجته لبعض الخلافات التي نعدها الآن من منظورنا جسيمة، وربما مستعصية على الحل؛ فإذا بالمصطفى صلى الله عليه وسلم يتعامل معها بشفافية، وروح المربي الملهم، ويرسخ فينا بعض الأسس التي يجب علينا اتباعها في مختلف جوانب حياتنا.

إن الإسلام يشرع لناس من البشر، لا لجماعة من الملائكة، ولا لأطياف مهومة في الرؤي المجنحة! ومن ثم لا ينسى، وهو يرفعهم إلى جو العبادة بتشريعاته وتوجيهاته، أنهم بشر، وأنها عبادة من بشر، بشر فيهم ميول ونزعات، وفيهم نقص وضعف، وفيهم ضرورات وانفعالات، ولهم عواطف ومشاعر، وإشراقات وكثافات، والإسلام يلاحظها كلها ويقودها جملة في طريق العبادة النظيف، إلى مشرق النور الوضيء، في غير ما تعسف ولا اصطناع، ويقيم نظامه كله على أساس أن هذا الإنسان إنسان! ومن ثم يقرر الإسلام جواز الإيلاء، وهو العزم على الامتناع عن المباشرة فترة من الوقت، ولكن يقيده بألا يزيد على أربعة أشهر، ويقرر الطلاق ويشرّع له، وينظم أحكامه ومخلفاته، في الوقت الذي يبذل كل ذلك الجهد لتوطيد أركان البيت، وتوثيق أواصر الأسرة، ورفع هذه الرابطة إلى مستوى العبادة، إنه التوازن الذي يجعل مثاليات هذا النظام كلها مثاليات واقعية رفيعة، في طاقة الإنسان، ومقصود بها هذا الإنسان(21).

الاعتراف بالفضل وشكر النعم وحفظ الجميل من معالي الأخلاق التي جاء بها الإسلام الحنيف، ومن محاسن الصفات التي دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الاعتراف بالنعم إقرار لصاحبها بإحسانه، وشكر له على آلائه، وإظهار لصنائعه وتحدث بأياديه، في حين أن كفر صنيعته وجحد إحسانه وإنكار جميله كفر بنعمته، وتضييع لواجب شكره، واستخفاف بحقه وفضله، وهذا لا يقره الشرع المطهر، ولا يقبله العقل السديد.

قال أبو حاتم البستي: «الحر لا يكفر النعمة، ولا يتسخط المصيبة؛ بل عند النعم يشكر، وعند المصائب يصبر، ومن لم يكن لقليل المعروف عنده وقع أوشك ألا يشكر الكثير منه، والنعم لا تستجلب زيادتها، ولا تدفع الآفات عنها إلا بالشكر»(22).

فعلى المسلم أن يحرص على الاعتراف بالإحسان وشكر النعم، ولا يترك ذلك بسبب أن الناس تركوا شكره أو قصروا في حقه، فهو إنما يفعل ذلك ليشكر الله عز وجل أولًا على فضله وما حباه من نعم وأمكنه من إيصالها لغيره، ثم يثيبه عليها بفضله عز وجل، قال ابن الأثير: «من كان عادته وطبعه كفران نعمة الناس وترك شكرها لهم كان من عادته كفر نعمة الله عز وجل، وترك الشكر له»، وقال بعض الحكماء: «لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره؛ فإنه يشكرك عليه من لا تصنعه إليه».

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه      لا يذهب العرف بين الله والناس

فإن نسيان الفضل دليل على قلة المروءة وضعف في الخلق ونقص في كمال الرجولة، فالسوي لا يعدم المعروف المسدى إليه؛ لأن من صفات الرجولة الكرم، ومن صفاتها الوفاء، ومن صفاتها صون العشرة وحفظها، كما قال شاعرنا:

إن الوفاء على الكرام فريضة     واللؤم مقرون بذي النسيان

وترى الكريم لمن يعاشر حافظًا     وترى اللئيم مضيع الإخوان

إن الروابط في الأمة كثيرة، وفي الكثير تبنى على هذه القاعدة القرآنية الرائعة، قاعدة الفضل، فالفضل الذي ينشأ وينمو من خلال صقل النفس وتهذيبها، وتحصيل ثمرتها بالمجاهدة المستمدة من نبع التربية الأصيلة، المحصنة بمنهج التوسط والاعتدال، وهي العاصمة عند وقوع الاختلال والتصدع حين تهتز الثقة بين الشركاء فتختل الموازين، وهو أمر طبيعي لا يستبعد حصوله، ولكن ضامن السلامة ورسوخ هذا الخلق بين الناس وبين الشركاء والأصدقاء.

فإن صمام الأمان الذي يحفظ اللحمة ويديم التواصل، ويبقي الوداد ويحيي التنسيق في الأمور الكبيرة هو بلوغ الفضل بين أهله، بتحصيل الفهم الشامل لمنهج التوسط والاعتدال، فما نراه من تردي من أصحاب أنصاف الأفهام المشوهة أو أصحاب الأمزجة المتقلبة، أو المطامح المغمورة بالنزوات، أو النفوس الضعيفة التي لا تحسن مقاومة التيار فتسقط في الوحل، فلا ترعى الفضل للمربي، ولا ترعى الفضل للأستاذ، ولا ترعى للمحسن، ولا ترعى الفضل لصاحب البذل، فكل هذا نزوح عن عظمة هذا الخلق الراقي، علينا أن نجسد العمل بهذا الخلق الدعوي المحمود، لأنه من أخلاق القرآن والسنة(23).

فيا أهل المعروف والفضل، اطردوا الشيطان من بينكم, ولا تعظموا خلافاتكم فتجعلوها عداوة وبغضاء, وتغافروا, ولا تسمحوا للجهال والدهماء أن يتطاولوا على أهل الفضل مهما اختلفتم معهم, واذكروا وداد اللحظات الكريمة, واعلموا أنكم في سفينة واحدة، شئتم أو أبيتم, واستغفروا ربكم إن ربكم لغفور رحيم.

__________________

(1) المصباح المنير (2/ 149).

(2) التعريفات، للجرجاني (2/ 253).

(3) فيض القدير (1/ 30).

(4) شرح زاد المستقنع، للشنقيطي (341/ 8).

(5) التحرير والتنوير (2/465).

(6) تفسير السعدي، ص105.

(7) أخرجه الحاكم (40).

(8) شرح صحيح البخاري، لابن بطال (9/216).

(9) أخرجه البخاري (3817).

(10) أخرجه البخاري (3904).

(11) عمدة القاري (16/175).

(12) أخرجه البخاري (3139).

(13) جامع بيان العلم وفضله (2/820).

(14) مدارج السالكين (2/40).

(15) سير أعلام النبلاء (11/231).

(16)زهرة التفاسير (2/834).

(17)حلية الأولياء (3/139).

(18)مفاتيح الغيب (23/348).

(19)أخرجه البخاري (3983).

(20) في ظلال القرآن (6/ 3538-3539).

(21)في ظلال القرآن (1/238).

(22) روضة العقلاء، ص264.

(23) ولا تنسوا الفضل بينكم، موقع: الإسلاميون.