logo

الأدب الدعوي


بتاريخ : الأحد ، 26 ربيع الأول ، 1438 الموافق 25 ديسمبر 2016
بقلم : تيار الاصلاح
الأدب الدعوي

الأدب هو الكلام الجميل البليغ المؤثر في النفوس، الصادر عن عاطفة، وهو انعكاس للحياة وللمجتمعات، يصور ثقافاتها، وينقل تجاربها، ويرصد كل واقعها، والمجتمع الإسلامي مجتمع فاضل، فلا بد أن يكون أدبه فاضلًا راقيًا، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإن للأدب دورًا آخر وهو التوجيه والإرشاد مع الامتاع، ولقد حث القرآن الكريم الناس على أن يقول قولًا سديدًا، سواء منهم الشخص العادي أو الأديب والشاعر.

فما من شك في أن الأدب من أهم أسلحة الدعوة الإسلامية، يسهم في نشرها، ويتجلى فيه أثر الإسلام عقيدة وفكرًا، ويحمل المسلمين على التضحية والجهاد لإعلاء كلمة الله عز وجل، خاصة الشعر؛ لكون أثره في النفوس أبلغ، وحفظه أسهل، وإقبال البشر عليه أكثر وأعظم، ولذلك كان اهتمام القرآن بهذه القضية دليلًا على مدى أهميتها، فالأدب عامة والشعر بخاصة يمكن أن يسهم بنصيب وافر في إبراز صوت الإسلام، وفي الدفاع عن الدعوة الإسلامية، يحمل فكرها، ويبشر بعقيدتها، وينبه على ما قد يحيق بها من أخطار، فيكون بذلك سلاحًا من أسلحة الدعوة الإسلامية، ويكون منبرًا أو جهازًا إعلاميًا يذكي روح الإسلام، وينطق بقيمه ومثله العليا، ويتحدث عن مبادئه وتعاليمه الرفيعة(1).

أهداف الأدب الدعوي:

1- نشر الإسلام والدعوة إليه.

2- إبراز مواقف السلف من المسلمين.

3- التوجيه والتوعية والحث على الالتزام والاستقامة.

4- تثبيت قلوب المؤمنين وتشجيعهم على ما يلاقونه من اضطهاد وتنكيل في سبيل الدعوة.

5- تصحيح بعض الأخطاء الاجتماعية والانحرافات التي قد تسيء إلى الدين الحنيف.

6- تجسيد حقيقة الصراع بين الخير والشر، وإظهار انتصار الخير على الشر، ويتوفر ذلك كثيرًا في مجال فن القصة.

7- الوقوف في وجه التيارات المضادة التي تنشرها المعسكرات الإلحادية، والتي غالبًا ما يدور فيها الهدف إلى هدم الألوهية، وتأليه الملذات.

بدأ أدب الدعوة الإسلامية بالقرآن الكريم، فهو حجة الله البيانية التي تحمل رسالته إلى الناس كافة، نزل به الوحي على نبي الأمة صلى الله عليه وسلم؛ ليكون بلاغًا أمينًا مبينًا، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، متضمنا أصول الدين وأحكامه، وقد قام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على شرحه وتفسير ما جاء به بسنته أقوالًا وأعمالًا.

وقام الصحابة الكرام رضوان الله عليهم على أمر هذا الدين، فكانوا لسان صدق في العالمين، يبينون للناس ويدعون إلى دين ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة، فكانت خطبهم في المحافل ترجمانًا صادقًا لما حملته صدورهم من الإيمان، وكذلك كانت رسائل الخلفاء الراشدين.

ولقد اشتهر من الخلفاء والصحابة جماعة من الفصحاء والبلغاء على مستوى الخطابة وعلى مستوى الشعر، فمنهم الخلفاء الأربعة، وحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وكعب بن زهير، وغيرهم رضوان الله عليهم جميعًا.

وكان لموقف أولئك الشعراء من الدعوة الأثر الحميد؛ ذلك لأنهم حاربوا بألسنتهم كما جاهدوا بأسلحتهم؛ بل كانت أشعارهم أشد وقعًا وأبقى فتكًا.

ولقد عرفت الغزوات والفتوح جماعة من الخطباء والشعراء، كانوا يحرصون على القتال والجهاد، ويسجلون الانتصارات الخالدة، فبرز مثلًا في القادسية أبو محجن الثقفي، وكان قد سجنه سعد بن أبي وقاص، إلا أنه احتال للخروج من السجن حتى يشارك في المعركة، وأبلى فيها بلاءً حسنًا.

ومن يتأمل القرآن الكريم ويرى مدى عنايته بالقصة، وهي ضرب من ضروب الأدب، يوقن ما لها من تأثر على النفوس؛ لأنها تتمتع بالقدرة على توصيل المعلومات، وتحقيق جملة من الفوائد تتقاصر عنها وسائل أخرى كثيرة، فالإنسان يميل بفطرته ويولع بالقصص، حتى إنك لتجده حريصًا على متابعة أحداث القصة حتى نهايتها، وهذا الأمر يشترك فيه العامة والخاصة؛ ولذا كانت القصة دعامة من دعامات الدعوة ووسيلة من وسائلها، وقد احتوت على جانب كبير من توجيهات القرآن الكريم يقارب الربع منه.

وإذا أتينا إلى السيرة النبوية وجدنا مدى عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالشعر والنثر، وهما من ضروب الأدب أيضًا كما هو معلوم، ألم يستقبل النبي صلى الله عليه وسلم الوفود في المسجد، ويسمح لشعرائهم وخطبائهم بإلقاء ما عندهم من قصائد وخطب، حتى إذا ما انتهوا أمر أصحابه من الشعراء والخطباء بالقيام للرد عليهم، ولولا ما يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم من أثر ذلك في نفوس الناس لما حرص عليه وأولاه تلك العناية، حتى إنه ليجعل مكان هذا الاجتماع في المسجد، وهذا كله يعطي دلالة واضحة على أهمية عناية المسلمين بالأدب عمومًا والشعر خصوصًا؛ باعتباره وسيلة من وسائل الدعوة المؤثرة والنافعة(2).

الشعر والأدب من القوة التي أمر الله بإعدادها:

عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اهجوا قريشًا فإنه أشد عليهم من رشق النبل»، فأرسل إلى ابن رواحة فقال: «اهجهم»، فهجاهم فلم يرض، فأرسل إلى كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت، فلما دخل عليه قال حسان: «قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه»، ثم أدلع لسانه، فجعل يحركه، فقال: «والذي بعثك بالحق، لأفرينهم بلساني فري الأديم»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعجل، فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسبًا حتى يخلص لك نسبي»، فأتاه حسان ثم رجع، فقال: «يا رسول الله، قد خلص لي نسبك، والذي بعثك بالحق، لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين»، قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: «إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله»، وقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هجاهم حسان فشفى واشتفى»، قال حسان:

هجوتَ محمدًا فأجبتُ عنه       وعند الله في ذاك الجزاء

هجوت محــمــــدًا بـــــرًا حنيفًا        رســـــــــول الله شيمته الوفاء

فإن أبي ووالدتي وعرضي        لعرض محمــد منكم وقــــاء

فمن يهجو رسـول الله منكم       ويمدحــــه وينصـــــره ســــــــــــــواء

وجبريــــــل رســــــــول الله فينــــا     وروح القـــدس ليــــس له كفــــاء(3).

عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الشعر حكمة»(4).

وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: «الشعر كلام، فمنه حسن، ومنه قبيح، فخذ الحسن ودع القبيح»(5).

وقال الشعبي: «كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يقول الشعر، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول الشعر، وكان علي رضي الله تعالى عنه أشعر الثلاثة»(6).

ولا يقتصر دور الأدب على كونه وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله جل وعلا؛ بل إنه يعتبر، وخاصة الشعر، من القوة التي أمر الله بإعدادها والاهتمام بها، فإنه بتتبع النصوص الشرعية لا يبقى لدى شعراء المسلمين أدنى شائبة في أن ما وهبهم الله من ملكة الشعر يعد في ميزان الإسلام من القوة التي أمرنا معشر المسلمين بإعدادها، وتسخيرها في سبيل الله لإعلاء كلمته، والذب عن دينه، والدعوة إليه، والتغني بمبادئه والتحلي بآدابه، والتذكير بأيام الله الخالدة، ومكافحة أعداء الإسلام والنيل منهم جزاء ما نالوه من الإسلام وأهله بأقوالهم المنظومة أو المنثورة.

وظيفة الأدب:

1- أن الأدب مثرٍ للتجارب الإنسانية.

2- أن دارس الأدب يستطيع التعبير بشكلٍ أفضل عن مكنونات نفسه.

3- أن الأدب ينمي الذوق لدى الفرد، ومن ثم لدى الأسرة، ومن ثم لدى الأمة.

ومن ثم فإن على الأدباء المؤمنين أن ينهضوا للتنفيس عن صدور المسلمين بقول الحق في الدفاع عن الإسلام، وفي الدعوة إلى الله وغير ذلك، مما يحتسبونه عند الله عز وجل، وهذا ونظيره مما ينظم الشعراء المؤمنين في سلك المجاهدين في سبيل الله المنتصرين لدينه، الذائدين عنه بشعرهم كما ذاد عنه غيرهم من المؤمنين بأسلحتهم، وذلك كله من التعاون على البر والتقوى، والجميع في جهاد ومجاهدة، وقد عد بعض العلماء ذلك من قسم الشعر الواجب، الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه، مع مكنته من ذلك، وقدرته عليه، وشدة حاجة المسلمين إليه.

فقد أشار الشوكاني إلى ذلك حيث قال: «واعلم أن الشعر في نفسه ينقسم إلى أقسام، فقد يبلغ ما لا خير فيه إلى قسم الحرام، وقد يبلغ ما فيه خير منه إلى قسم الواجب»(7).

ولا شك أن جميع فنون الأدب لاحقة بالشعر، وإنما كان التركيز عليه باعتبار أن الشعر هو أساس الأدب وأعظمه.

خصائص الأسلوب الأدبي:

1- الممازجة بين الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي، مما يكسب الكلام حيوية ولهجة حميمة منعشة.

2- الاستعانة بالصور والأخيلة، التي تنقل المتلقي إلى أجواء يسرح فيها الخيال، وتحيا فيها الطبيعة والأشياء، وتتجسد المجردات بهدف الإيضاح والتأكيد والإقناع والتأثير، ونقل تجربة الكاتب نقلًا أفضل.

3- إبراز ذاتية الكاتب، والتعبير عن عواطفه ومشاعره وأحاسيسه ورؤاه وآرائه ونظرته الخاصة إلى العالم.

4- العناية بتحسين الكلام، وذلك باستخدام بعض المحسنات البديعية؛ كالجناس، والطباق، والمقابلة، والتورية.

5- الحرص على موسيقى اللفظ والتأليف، ويتجلى ذلك في جرس الكلمات والوزن والقافية والسجع، وفي الموسيقى الداخلية المنسجمة المناسبة لمضمون النص.

6- اختيار الألفاظ الفصيحة المناسبة للموضوع، البعيدة عن الابتذال، التي تدل على الذوق العالي والتمكن اللغوي وسعة الثقافة.

7- الابتعاد عن الأرقام وكثرة الأعلام والمصطلحات العلمية ما أمكن ذلك(8).

كما يمتاز الأسلوب الأدبي بأن الفكر يمتزج فيه بالعاطفة، وهدفه التأثير والإقناع معًا، وهو يستعين بالأخيلة والصور لنقل أحاسيس الأديب ومشاعره إلى القارئ والسامع، ويتأنق في تأليف العبارة وتنسيقها، ويهتم بالألفاظ بحيث يخرج الكلام ممتعًا مشرقًا له تأثير في السمع ووقع في النفس.

للأدب دوره في تثبيت النفوس:

ولا يقتصر مبدأ توظيف الأدب في الدعوة إلى الله على كونه دفاعًا عن الإسلام أو مظهرًا لحقيقته؛ بل إن أثره أيضًا يعود على المسلمين أنفسهم في تثبيتهم على الدين وفي مواطن الجهاد.

يقول الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا: «إن النصوص تومئ إلى حقيقة أخرى؛ هي أن المسلمين كانوا يفزعون إلى هذا الأدب في ساعات الشدة، ويستروحون به في أوقات المحنة، فتقوى به القلوب، وتهتز له المشاعر.

إن الأدب حين يغدو سلاحًا في يد الدعوة والدعاة، ويتحول إلى لسان صدق يهدي إلى الله عز وجل، ويحض على الخير والبر والإحسان، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ويغري بالفضائل ويزينها، وينفر من الرذائل ويقبحها، إنما يدخل في رحاب الإسلام من أوسع أبوابه، ويستحق ثواب الله ورضوانه ومرضاة رسوله، ويغدو الأديب الذي ينتجه أهلًا لأن يلهم طيب القول ويهدي إلى الصواب.

ولذا نجد القرآن الكريم نزل في غاية الإبداع والبلاغة والتأثير، فلم يسمعه أهل اللغة والبلاغة إلا وتأثروا به، وعجبوا لبلاغته وفصاحته، ووقفوا مشدوهين لشدة أثره وعظيم فعله، حتى كان سبب إسلام الكثيرين، وعلى نفس المنوال نجد النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه بلاغة وفصاحة وبيان، وهو القائل: «أوتيت جوامع الكلم»(9)، «إن من البيان لسحرًا»(10).

من أجل ذلك كله نجد القرآن يدعو المسلمين إلى ضرورة استخدام البلاغة والفصاحة، وعلى رأسها القرآن الكريم، في الجدال مع الآخرين ونصحهم وتوجيههم، وعد ذلك من الجهاد، كما قال سبحانه: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52]، يعني القرآن الكريم، وقال عز وجل: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63]، والآيات كثيرة في هذا المعنى، والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو الأدباء من أصحابه إلى إظهار ما عندهم من ملكة للرد على كفار قريش، مبينًا لهم أن جبريل عليه السلام معهم، ويبين في أكثر من موضع قيمة البلاغة وأثرها، وثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة.

فهل يعي الأدباء قيمة الأدب، وأثره في بناء المجتمعات، والدعوة إلى الله، والدفاع عن الإسلام وأهله ومبادئه وعقيدته، فيسخروا مقدرتهم الأدبية بشتى صنوفها في الدفاع عن هذا الدين، ونشر توجيهاته وإرشاداته، لا في هدم الفضائل وتدمير القيم.

واستخدم خصوم الدعوة الإسلامية من جهتهم (فن الشعر) في عهد المبعث في معركتهم ضد الإسلام ورسوله، فرد عليهم شعراء الإسلام بالمثل؛ بل استطاعوا بفضل الله هزمهم والقضاء المبرم عليهم وعلى شعرهم، وكان في مقدمتهم شاعر الرسول حسان بن ثابت:

هجوت محمدًا فأجبت عنه       وعند الله في ذاك الجزاء

أتهجوه ولست له بكفء        فشركما لخيركما الفداء

هجوت مباركا برًا حنيفًا       أمين الله شيمته الوفاء

وأحسن منك لم تر قط عيني      وأجمل منك لم تلد النساء

أغَــــــــــــرُّ، علـــــــــيه للنـــــبــــــوة خـــــــــــاتم     مـــــــن الله مـــــــــــــشهود يلــــــوح ويشهد

وضم الإله اسم النبي إلى اسمه      إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

وشـــــــق له مـــــــن اســـــــــــمه ليجــــــله     فذو العرش محمود وهذا محمد(11)

ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى شعراء مبدعين، ينقلون صورة رسول الله المشرقة وسيرته النبوية العطرة، من حيز برودة العواطف وبلادتها إلى رحاب حرارة الانفعالات وجذوتها، على غرار ما فعل أولئك الشعراء الفحول، الذين خلدت ذكرهم قصائدهم في المدائح النبوية من السابقين واللاحقين.

إن الله سبحانه وتعالى ذكر الشعراء في القرآن، فقال سبحانه وتعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)} [الشعراء:224-227].

قال معاوية للحارث: «ما علّمتَ ابنك؟»، قال: «القرآن والفرائض»، فقال: «روِّه فن فصيح الشعر، فإنه يفتّح العقل، ويفصّح المنطق، ويطلق اللسان، ويدل على المروءة والشجاعة»(12).

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل»(13).

وهذا شطر بيت للبيد، وهو ابن ربيعة العامري، صاحب المعلقة، ذكر صاحب الشعر والشعراء هذا البيت في قصيدة للبيد كما يلي:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل      وكل نعيم لا محالة زائل

وكل أناس سوف تدخل بينهم      دويهية تصفر منها الأنامل

وكل امرئ يومًا سيعلم سعيه    إذا حصلت عند الإله المحاصل

إذا المرء أسرى ليلة خال أنه      قضى عملًا والمرء ما دام عامل

فقولا له إن كان يقسم أمره      ألمَّا يعظك الدهر أمك هابل

فإن أنت لم ينفعك علمك فانتسب     لعلك تهديك القرون الأوائل

فتعلم أن لا أنت مدرك ما مضى     ولا أنت مما تحذر النفس وائل

فإن لم تجد من دون عدنان والدًا      ودون معد فلترعك العواذل(14).

وهذا الذي سبق من النبي صلى الله عليه وسلم إشادة بهذا الشطر من البيت لاحتوائه على هذا المعنى الموجز العظيم، وسكوته صلى الله عليه وسلم عن الشطر الآخر كان عدم رضا به، وهو قوله: وكل نعيم لا محالة زائل.

فإن العموم هنا ليس مقبولًا، ولذلك فقد انتقد عثمان بن مظعون رضي الله عنه هذا الشطر لما أنشد لبيد القصيدة، فلما قال: وكل نعيم لامحالة زائل، قال: كذبت إلا الجنة، ذكره ابن حجر في الإصابة وابن هشام(15).

ومن نقده صلى الله عليه وسلم لمعاني الشعر استدراكه على النابغة الجعدي لما قال: وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرًا، فقال له: «أين المظهر يا أبا ليلى»(16)، وفي رواية أنه غضب صلى الله عليه وسلم، وذلك أن ظاهر البيت فيه مبالغة عظيمة، فإنه لا يرجى اعتلاء فوق السماء لمخلوق، فهو معنى مردود، لولا ذكاء الشاعر رضي الله عنه وسرعة بديهته وتأويله لمراده بأنه الجنة.

هذا مع أنه صلى الله عليه وسلم يدرك بنظره الثاقب مدى خطورة دَوْر الشعر وأهميته في ميدان دعوته ورسالته، فالعرب أمة شاعرة تعظم الشعر.

ولذلك اتخذ صلى الله عليه وسلم الشعر سلاحًا، يرد به خطر الحرب الكلامية، التي أعلنها عليه شعراء قريش وفطاحل البيان فيها، فكان من شعرائه الذين ينافحون عنه حسان بن ثابت رضي الله عنه، الذي لا يخفى بلاؤه في هذه الحرب على أحد، وكيف كانت أبياته تقض مضجع القريشيين.

خصائص شعر الدعوة الإسلامية:

1- في أكثره مليء بالتصور الإسلامي للكون والحياة، وهو يعكس نظرة المسلم لما حوله وما يحيط به، ويرجع الأمور إلى الله سبحانه وتعالى، صاحب القدرة والمشيئة.

2- فيه توجيه مباشر أو غير مباشر إلى العمل مع التوكل على الله.

3- الاستئناس بكثير من الألفاظ القرآنية أو النبوية، وسيطرتها على النص الأدبي، سواء بقصد أو بغير قصد، وهو ما يمكن تسميته عنصر التأثر بالموروث الإسلامي.

4- تمجيد الذكريات الإسلامية والأماكن المقدسة.

5- تصوير التاريخ الإسلامي وبعثه والتذكير به، بطرق تختلف في العرض، لكنها تجتمع في كونها تشير إلى أحداث تاريخية؛ كالهجرة النبوية، والغزوات المشهورة.

6- تمجيد الرموز الإسلامية والشخصيات الفذة في التراث الإسلامي.

7- وحدة القصيدة وتماسكها.

8- الصدق الفني والشعوري، إذ غالبًا ما يكون إنتاج الشعراء صادرًا عن عاطفة متأججة.

9- تميزت القصيدة الإسلامية باتساع معجمها الشعري، إذ نجد في القصيدة الإسلامية كثيرًا من المصطلحات التي لم تؤلف من قبل.

10- الشاعر المسلم لا يرتبط بإقليمية معينة؛ كجنسية أو قبلية، هذا مما أتاح للقصيدة الإسلامية أن تكون ذات صبغة عالمية، من خلال هويتها الإسلامية(17).

من أقوال عمر رضي الله عنه، التي يشير فيها إلى الدور النفسي للشعر: «الشعر جزل من كلام العرب, يسكن به الغيظ، وتطفأ به النائرة, ويتبلغ به القوم في ناديهم, ويعطى به السائل»(18).

والشعر يجوِّد البخيل، ويشجع الجبان، ويسكت الغضبان.

هذا قطري بن الفجاءة حينما حضر المعركة، والخوارج لا تسل عنهم في الشجاعة، فهم بائعو رءوسهم، والخارجي يقاتل بلا رأس ثلاثة أيام، وهذه من الإسرائيليات المنسوبة لبعض الأدباء المعاصرين، فحضر قطري وهو زعيم، فلما رأى السيوف تصرع، ورأى الجماجم تُحط من على الأكتاف فر، ثم رجع إلى المعترك وقال:

أقول لها وقد طارت شعاعًا     من الأبطال ويحك لن تراعي

فإنكِ لو سألتِ بقاء يوم     على الأجل الذي لك لن تطاعي

فصبرًا في مجال الموت صبرًا     فما نيل الخلود بمستطاعِ(19)

إلى آخر ما قال، وهي مقطوعة ذهبية جميلة فائقة رائعة، لا يمكن أن يُنْسَج على مثلها إلا أن يشاء الله.

فالمقصود من الدعوة إلى الله عز وجل تبليغ أَمْر الله سبحانه وتعالى إلى المدعوين؛ وفهم المدعوين لهذا الأمر، وليس المقصود بلاغة الداعية في خطابه، وتَنْمِيقَ عِباراته، وسَجع ألفاظه، وضربه أمثالًا خيالية لا تُفهم، وسبكه تراكيبَ ومصطلحات لا تدرك، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم:4].

فلم يكتف سبحانه بذكر أن الإرسال كان بلسان قومهم؛ بل ذكر العلة في ذلك، وهو البيان والتوضيح، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} لماذا؟ {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}، لقد جاء القرآن الكريم سهل الأسلوب، واضحَ البيان، متنوع الطرح، ليس فيه تعقيد ولا فلسفة ولا خيال، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، وإنما أوتي من لم يفهم القرآن من جهة ما حل من العرب من عُجمة، وبعدًا عن لغتهم الأساس، وإلّا فأيُّ عربي لا يفهمُ قول الله عز وجل: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، وقوله سبحانه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1]؟ فهذا من سهولة ووضوح بيانه ووضوحها(20).

***

_________________

(1) الأدب.. هل يعد وسيلة دعوة ناجحة؟ أرشيف منتدى الفصيح.

(2) المصدر السابق.

(3) أخرجه مسلم (2490).

(4) أخرجه البخاري (6145).

(5) تفسير القرطبي (13/ 150).

(6) المصنف، لابن أبي شيبة (8/ 698).

(7) فتح القدير (4/ 140).

(8) أدب الدعوة الإسلامية، جامعة أم القرى.

(9) أخرجه أحمد (7396).

(10) أخرجه البخاري (5146).

(11) زاد المعاد (3/ 368).

(12) المصون في الأدب، ص137.

(13) أخرجه مسلم (2256).

(14) المقاصد النحوية (1/ 114).

(15) السيرة النبوية (1/ 37).

(16) سبل الهدى والرشاد (9/ 349).

(17) أدب الدعوة الإسلامية، جامعة أم القرى.

(18) العقد الفريد (6/ 130).

(19) الفروسية، لابن القيم، ص491.

(20) الخطابة، ص303.