logo

أسلوب التَّكرار


بتاريخ : الاثنين ، 10 رمضان ، 1438 الموافق 05 يونيو 2017
بقلم : تيار الاصلاح
أسلوب التَّكرار

عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا؛ حتى تُفْهَم عنه، وإذا أتى على قوم فَسلَّم عليهم سلم عليهم ثلاثًا(1).

قال المهلب: «أما تسليمه صلى الله عليه ثلاثًا وكلامه ثلاثًا فهو ليبالغ في الإفهام والإسماع، وقد أورد الله ذلك في القرآن؛ فكرر القصص والأخبار والأوامر ليفهم عباده، وليتدبر السامع في المرة الثانية والثالثة ما لم يتدبر في الأولى، وليرسخ ذلك في قلوبهم»(2).

قال ابن الجوزي: «أما إعادة الكلمة لتفهم فلا تعدو ثلاثة أشياء: إما ليفهم معنى اللفظ بإعادته، أو ليتضح اللفظ فينقطع عنه المحتملات، أو لتحفظ فيكون المراد بالفهم الحفظ»(3).

قال العلماء: ينبغي للمعلم أن يحتاط في تنبيه المتعلم، وأن يأمره بإحضار مجامع قلبه، وأن يكرر له ما يعلمه ثلاثًا(4).

قال القاري: «وفيه إشارة إلى أن المراد بالكلمة الكلام الذي لا يفهم إلا بالإعادة، يحتمل أن تكون في مجلس أو مجالس، والاقتصار على الثلاث، والله أعلم، بمقتضى مراتب فهوم الناس من الأدنى والأوسط والأعلى؛ ولذا قيل: من لم يفهم في ثلاث مرات لم يفهم أبدًا»(5).

وقال المناوي: «وذلك إما لأن من الحاضرين من يقصر فهمه عن وعيه، فيكرره ليفهم ويرسخ في الذهن، وإما أن يكون المقول فيه بعض إشكال فيتظاهر بالبيان دفع الشبه، وفي المستدرك حتى تعقل عنه بدل حتى تفهم، وهذا من شفقته وحسن تعليمه وشدة النصح في تبليغه، قال ابن التين: وفيه أن الثلاث غاية ما يقع به الإقرار والبيان»(6).

عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر»، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين»، وكان متكئًا فجلس فقال: «ألا وقول الزور، وشهادة الزور، ألا وقول الزور، وشهادة الزور»، فما زال يقولها، حتى قلت: لا يسكت(7).

وعن أبي شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله، لا يؤمن، والله، لا يؤمن، والله لا يؤمن»، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمن جاره بوايقه»(8).

وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحُرَقَةِ، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلًا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا أسامة، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله»، قلت: كان متعوذًا، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم(9).

والمراد أنه كان يكرر الكلام ثلاثًا إذا اقتضى المقام ذلك؛ لصعوبة المعنى أو غرابته أو كثرة السامعين، لا دائمًا، فإن تكرير الكلام من غير حاجة لتكريره ليس من البلاغة، فيحمل الحديث على المواضع المحتاجة إلى الإعادة لا على العادة، وإلا لما كان لذكر عدد الثلاث في بعض المواضع كثير فائدة، مع أنهم يذكرون في الأمور المهمة أنه قالها ثلاثًا كما لا يخفى(10).

ينبغي للإنسان إذا تكلم وخاطب الناس أن يكلمهم بكلام بَيِّن، لا يستعجل في إلقاء الكلمات، ولا يدغم شيئًا في شيء ويكون حقه الإظهار؛ بل يكون كلامه فصلًا بينًا واضحًا حتى يفهم المخاطب بدون مشقة وبدون كلفة(11).

ولقد قرر كثير من العلماء بأن تَكرار الشيء سبيل من سبل الإقناع به، فإن كتاب الله تعالى جاء بهذا الأسلوب قبلهم، فنجد أن كل أدلة القرآن الكريم من قصص وأمثال ونعم وأدلة كونية وعقلية وردت في القرآن مكررة بصيغ مختلفة، وهذا هو التكرار المفيد غير الممل، وقصص القرآن التي وردت مكررة كانت في كل موضع تأتي بجديد، أو تركز على غرض هام من أغراض القصص القرآني(12).

إذ إن في التكرار وتغير الأدلة ما يدفع العقلاء إلى إزالة الشك، والإيمان بالحقيقة، وقد استخدم القرآن الكريم هذا الأسلوب في إثبات الوحدانية وعرضها بصور متعددة؛ حتى يسهل فهمها، ويتجلى ذلك من خلال هذا الآيات: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1) اللهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص:1-4]، وقال: {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، وقوله سبحانه وتعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22].

وقدر الإسلام الأهمية الفائقة للممارسة المتكررة لتحقيق وتثبيت التعلم، فالصلاة التي يؤديها المسلم خمس مرات يوميًا هي نوع من الممارسة المتكررة الموزعة على مدار اليوم، هذا من شأنه أن يساعد على تثبيت الخبرة وتسهيل الممارسة وتحقيق العبادة على أفضل صورة، وقد أدرك المربون المسلمون الأهمية البالغة لاستخدام هذا الأسلوب في التربية، فحضوا المعلم على اتباع أسلوب التكرار في المواقف التي تتطلب ذلك؛ من أجل تقريب المعنى للمتعلم، من غير إسهاب أو إكثار لا يحتمله ذهن المتعلم.

ومن الأساليب الفنية أسلوب التكرار، والذي قد يكون تكرارًا لكلمة بعينها، أو لمعنى، أو لعبارة، أو لفكرة، أو لموضوع، ويكون التكرار عيبًا لموضوع إذا كان عاريًا عن الفائدة ولا يكون له معنى بلاغيًا إلا إذا كان الهدف معين؛ كأن يكون القصد منه التأكيد، أو المبالغة أو الإيضاح، أو بيان الأهمية، أو إبراز المعنى الواحد في صور مختلفة، إلى غير ذلك(13).

والتّكرار من الأساليب المعروفة في اللغة العربية، ومن سمات فصاحتها، ويمثل جانبًا من جوانب البلاغة القرآنية، يرد في الكلام للفائدة، وهذا ما دفع أهل اللغة لأن يولوهن اهتمامًا كبيرًا، فأخرجوا قيمته الكبرى تأكيدًا لمعنى وتقريره، منهم الجاحظ الذي بين أهميته: «وجملة القول في التّرداد أنه ليس فيه حدّ ينتمي إليه، ولا يؤتى على وصفه، وإنّما ذلك على قدر المستمعين، ومن يحضره من العوام والخواص، وقد رأينا الله عز وجل ردّد ذِكْر قصة موسى وهود وهارون وشعيب ولوط وعاد وثمود، وكذلك ذكر الجنة والنار وأمور كثيرة؛ لأنه خاطب جميع الأمم من العرب وأصناف العجم، وأكثرهم غبي غافل، أو معاند مشغول الفكر ساهي القلب»(14).

كذلك ابن قتيبة في دفاعه عن القرآن: «وأما تكرار الأنباء والقصص فإن الله تبارك وتعالى أنزل القرآن نجومًا في ثلاث وعشرين سنة، بفرض بعد فرض؛ تيسيرًا منه على العباد، وتدريجًا لهم إلى كمال دينه، ووعظ بعد وعظ؛ تنبيهًا لهم من سنة الغفلة، وشحذًا لقلوبهم بمتجدِّد الموعظة»(15).

كذلك الخطابي: «وأمّا ما عابوه من التكرار فإنّ تكرار الكلام على ضربين: أحدهما مذموم، وهو ما كان مستغنى عنه، غير مستفاد به زيادة معنى لم يستفيدوه بالكلام الأول، لأنّه حينئذ يكون فضلًا من القول، وليس في القرآن شيء من هذا»(16).

وعدّه ابن رشيق من أصول البديع: «وللتكرار مواضع يحسن فيها، ومواضع يقبح فيها، فأكثر ما يقع التكرار في الألفاظ دون المعاني، وهو في المعاني دون الألفاظ أقلّ»(17).

أمّا الزركشي فنظر إليه على أنّه من علم المتشابه: «وهو إيراد القصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة، ويكثر في إيراد القصص والأنباء، وحكمته التصرف في الكلام وإتيانه على ضروب؛ ليعلمهم عجزهم عن جميع طرق ذلك؛ مبتدأ به ومتكرر»(18).

أمّا عند النحاة فكتبهم صنّفته ضمن باب التوكيد، وانصبّ اهتمامهم بالحركات الإعرابية التي تحدد المعاني، وقد أشار إليه ابن جني في باب الاحتياط: «اعلم أنّ العرب إذا أرادت المعنى مكنته واحتاطت له، فمن ذلك التوكيد، وهو على ضربين، أحدهما تكرير الأول بلفظه، والثاني تكرير الأول بمعناه، وهو على ضربين: أحدهما للإحاطة والعموم والآخر للتثبيت والتمكين»(19).

أما عند ابن هشام فالتكرار يراد به غير التأكيد، وذلك كون التكرار الذي هو من سبيل التذكير ليس تأكيدًا، إنما هو ضرب من ضروب تحقيق تواصل العهد(20).

هذا موقف القدامى من ظاهرة التكرار، أما المحدثون فمنهم من نفى هذه الظاهرة وأطلقوا عليها مسميات جديدة؛ كالعفيفي: «إنّ أحكام القرآن وتفصيله هو العلم الذي يضمن لنا أننا كلّما احتجنا إلى أيّ مفردة قرآنية وجدناه بأيّ موضع من مواضعها؛ كالحرف الواحد في الكلمة التي تجمع حروفها جميعًا في جملتها، فإذا كل حرف بموضعه الخاص به تفصيلًا، إذا الحروف جميعًا تامة الارتباط بها كلها إجمالًا»(21).

ويرى عز الدين إسماعيل أن التكرار خاصية من خصائص الأسلوب القرآني، وقد ورد في كلام العرب، وتنوّعت مواطنه في القرآن الكريم في الحروف في الآية الواحدة؛ مما خلق توازنًا صوتيًا يحقق السهولة، فتكرار هذه الحروف لا يحدث تنافرًا؛ بل انسجامًا صوتيًا؛ مثل قوله تعالى: {وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرّحْمَـَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاّ هَمْسًا} [طه:106]، فقد تكررت الحروف المهموسة تبعًا للمقام.

وهناك التكرار في الألفاظ، وهو متنوع، نجد الكلمتين متّحدتين في المعنى واللفظ، قال تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون:36]، وقد تكونان مختلفتين في المعنى، قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ} [الروم:55] وهذا ضرب من الجناس.

وما يلفت الانتباه في السياق القرآني أن الألفاظ المتكررة تختلف مواقعها؛ قد تأتي في أول الآية، وفي وسطها، قال تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)} [الإنسان:15-16].

وفي آخرها، قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]؛ فهذا التكرار تتوق إليه النفوس لجمال وقعه، وخلوه من الابتذال، فدقّة استعماله يظهر كأنّه جديد داخل الاستعمال، أمّا خارج النص القرآني فهو ثقيل لا يستسيغه الكلام.

وهناك التكرار في الجمل التامة، وهو مفيد في القرآن، فكلّما كان التكرار إلا ووجب التأمل في السياق الذي ورد فيه لمعرفة ما يحمله من فضائل، وهو نوعان: الأول: إذا كان التكرار في اللفظ والمعنى يدلّ على معنى واحد، والمقصود به غرضان مختلفان، مثلًا في سورة الأنفال قال تعالى: {وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [الأنفال:7]؛ وقوله تعالى: {لِيُحِقّ الْحَقّ} [الأنفال:8]، وإنّما جيء به هنا لاختلاف المراد.

والنوع الثاني: إذا كان التكرار في اللفظ والمعنى يدل على معنى واحد والمراد به غرض واحد، قال تعالى: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ} [المدثر:19]؛ وقوله تعالى: {ثُمّ قُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ} [المدثر:20]، فالتكرار اللفظي في القرآن واضح، فبعض الآيات متشابهة، فالألفاظ فيها مكررة لكنها متميزة متجددة.

انفرد القرآن الكريم بتكرار الجملة دون الوقوع في الخلل والتباين؛ بل نلمس الفصاحة المطلقة، فقد أعطى للأسلوب قوة على مستوى الحرف واللفظ والجملة، بوضعه في المكان المناسب من السياق مع قوة التماسك والتناسق، وقد ظهرت أهميته في توجيه القراءة القرآنية بقصد تحديد الغرض حسب السياق، ومن أغراض التكرار:

1- التأكيد: واعلم أن التكرير أبلغ من التأكيد؛ لأنه وقع في تكرار التأسيس؛ وهو أبلغ من التأكيد، فإن التأكيد يقرر إرادة معنى الأول وعدم التجوز(22).

2- التقسيم: وهو اللازمة، يكون في أواخر المقاطع: سورة الشعراء تصبح آخره كرة {وَتَوَكَلْ عَلَى الْعَزِيْزِ الْرَحِيْمٍ} [الشعراء:217](23).

3- البعد النفسي: في التكرار استمالة المتلقي، وإيقاظ شعوره من الغفوة، وتنبيهه إلى نعم الله، {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13]، حتى يتجاوب معها، فالإنسان من طبيعته جحود النعم، فمثل هذا التكرار يجعل النفس تتعامل مع آلاء الله، كذلك عند ذكر أخبار الأمم السابقة ففائدة تكرار قصصهم الاتعاظ، وما يميّز التكرار في القرآن الكريم أنه خال من الملل؛ مما يجعل المتلقي ينجذب إليه بفطرته، متلذذًا بما تنفرد به أصواته وتراكيبه(24).

وللتكرار أثر في تحقيق هذه الأغراض؛ يتجلى ذلك في إيصال معاني التهويل والتخويف إلى النفوس بطريقة بديعة الأسلوب والتعبير، وصياغة المعنى في صور متنوعة، فلا نجد في القرآن تكرار المعنى بأسلوب واحد؛ بل نلمس الجديد في طريقة التقديم والتصوير.

إنّه ظاهرة في القرآن تؤصّل اللغة لما يستلزمه المقام ويقتضيه السياق لتحقيق المقاصد، وفيه الإعجاز، كونه أمرًا لم يألفه العرب من قبل وعجزوا عنه من بعد، جاء به القرآن لما فيه من جمع اللفظ والمعنى دون تناقض، واتساع المقام للأخبار والقصص، وفيه أصل الفصاحة في تنويع الأساليب وأشكال التعبير، وهذا يعكس غرائب الدلالات الغائبة عن عقول البشر.

وما أعطاه أهمية هو أنه يؤدي وظيفة عقدية هامة، فمثلًا كلمة التوحيد كررها القرآن كثيرًا لتثبيت معاني الربوبية، فالقرآن فيه إقناع لأولي النهى من البشر لإلزامهم به، فلا بد من طريقة تحقق ذلك، كذلك في باب المعاملات؛ كالجهاد، تكرر كثيرًا في السور المدنية لعلو منزلته في الإسلام.

التكرار في ضوء نماذج قرآنية:

التكرار ظاهرة تميّز بها النص القرآني في مواضع اقتضاها السياق لتحقيق المقاصد، وقد التزم به القراء العشرة لما له من أثر في تقوية العلاقة بين الصوت والدلالة، فمن الجانب الصوتي هناك تنويع في تكرار الصوامت حسب المواقف، فالقرآن يوظّف الصوت المتكرر لتقرير الدلالة المقصودة، ففي التهويل والتخويف يتكرر الصوت الذي يتميز بصفات الشدة والجهر.

ومن أشكال هذا التلوين الصوتي تكرار الصوت الأول والثاني من الفعل الرباعي، قال تعالى: {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء:94] وظف القرآن كلمة (كبكبوا) بدلًا من (كبوا) فتكرار الصامتين، الكاف والباء، فيه دلالة العنف والشدّة لأهل النار على وجوههم، فالكلمة مركبة من مقطعين (كب)، فالصامتان مختلفان بين الجهر والهمس، وهذا يدل على دقة توزيع الأصوات، وصورة النطق بها، فهما متضادان، فالكاف صوت انفجاري مهموس، والباء صوت مجهور انفجاري، فاجتماع الصامتين متّن العلاقة مع دلالة الكلمة، وهي تدهور الوجوه بقوة في الجحيم.

وكذلك كلمة (زحزح) في قوله تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] ما يلاحظ على كلمة (زحزح) تكرار الحاء والزاي، فهو تعادل الأصوات وتوازنها؛ مما يعطي توجيهًا دلاليًا لما يحتويان من خصائص صوتية، فهما يلتقيان في الاحتكاك، ويختلفان في الهمس والجهر.

فالقرآن يوظّف الكلمة لتحاكي أصواتها، فالزاي صوت يعبّر في بعض المواقف عن الشدة تارة، وعن العناية تارة أخرى، وهنا لها حضور ظاهر في هذا السياق، فقد أكسبها مع صوت الحاء انسجامًا حدّدا الدلالة وهي النجاة، وقد وردت الكلمة مكررة المقطعين في موضع آخر، قال تعالى: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة:96]، رغم أنّ الصيغة مختلفة، إلا أنّهما يحملان نفس الدلالة، وأثرهما أقوى من الزح.

ومن صور هذا التكرار كلمة (حصحص)، قال تعالى: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقّ أَنَاْ رَاوَدْتّهُ عَن نّفْسِهِ وَإِنّهُ لَمِنَ الصّادِقينَ} [يوسف:51] كررت الحاء والصاد، فالأولى من خصائصه الصوتية الهمس والاحتكاك، ويتميّز بضعف في النطق؛ لأنّ الكثير يخلط بينه وبين الهاء، أمّا الصاد فمن أصوات الصفير، ليس لها في الفصحى مقابل مجهور، ما يميزها هن بقية أصوات الصفير الواضح، وقوة جرسها كما أنّها تقرر الحقيقة.

إنّ العلاقة بين أصوات الحروف في لغة القرآن ليست اعتباطية أو عشوائية، إنّها ذات نظام خاص، جعله يرتبط بوجدان الأمة وقلبها، وتنسجم أجزاؤه كلّه انسجامًا تامًا، وتتلاحم أعلى درجات هذا النظام في مدى التناغم أو التجاوب الذي تحققه علاقات الأصوات تبعًا لمتطلبات النص اللغوي المعبر(25)، فتكرار الكلمة تولّد عنها تجاذب، وأحدث أثرًا سمعيًا زاد في وضوح الدلالة.

كما وردت صورة أخرى للتكرار، وهو تكرار الكلمات بهيئتها الاشتقاقية التي تحافظ على النمط الصوتي؛ كقوله تعالى: {وَالنّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسّابِقَاتِ سَبْقًا (4)} [النازعات:2-4]، ما يلاحظ على هذا التكرار أنّه قائم على التنوّع تشكّلت من أصوات مختارة رصدًا لأبعاد صوتية، هذا التلوين جمع فيه بين الجمع والمصدر مراعاة للتكوين الصوتي، وما يحققه من توابع دلالية.

فالأصوات في النص القرآني تتّسم بالدقّة رغم اختلاف خصائصها، فهذا التنوع يعكس حقيقة النظم المعجز لكتاب الله، فأصوات الكلمات المكررة تقاربت من جهة الخصائص الصوتية بين الهمس والجهر، الشدّة والرخاوة، فنطقها يناسب طبيعة الأجواء التي تحيط بالسياق، فهذه الأصوات مع دلالتها تثير في النفس توجسًا مشحونًا بالخوف تسوقه موسيقى واجفة.

ومن أبرز صور التكرار ما ورد في قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر:12-22]، ما يميّز التكرار في (دَكًّا وصفًّا) أنّه متوازن في النبرات، دلالته توحي إلى العظمة والهول، فإذا توقفنا عند كلمة (دكًّا) اسم يطلق على الانقلاب الكوني الذي يحدث يوم القيامة، وقد احتوى على صوتين يدلّان على القوّة فيما يخصّ الدال (أصلح الحروف للتعبير عن معاني الشدّة والفعالية الماديتين)(26).

أمّا الكاف فالنطق به في هذا السياق يجب أن يتسم بالشدة، فطبيعته الصوتية متميزة في القرآن الكريم، أمّا خارجه فالأمر يختلف، فالعربي كان يلفظ حرف الكاف في أول المصادر بشيء من الفخامة والشدة، وليس كما نلفظه بشيء من الرقة والرخاوة، فكان صوته بذلك أوحى بالشدة والضخامة(27).

كما أن لفظ (صفًّا) مناسب لسياق الآية، فالصامتان مختلفان، فالصاد بقوّتها، وما تمتاز به من صفة الإطباق، مع الفاء المتسمة بالرقة أبانا عن الدلالة المتمثلة في الطاعة.

وهذا توجيه من توجيهات المكررات القرآنية، يمكن أن نتبينه واضحًا من خلال قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170]، وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة:104].

فقوله تعالى على لسان الكفار: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} لا يمنع أن يرجعوا عن اتباع آبائهم، فهم لم يبلغوا النهاية في دعوى إيمانهم بالأوثان؛ ولهذا استعمل الله تعالى في نفي هدايتهم لفظًا لا يبلغ النهاية في اليقين، وهو قوله: {أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} فإن فوق العقل في اليقين العلم، أما في سورة المائدة فقد بلغ الكفار النهاية في الاعتداد بالأوثان، وقطعوا على أنفسهم طريق العودة عنها بقولهم: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا}؛ ولهذا استعمل الله في نفي هدايتهم نفي العلم، الذي هو أبلغ درجات اليقين، فقال: {أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا}، والدليل على أن العلم أرفع من العقل أن الله لا يوصف بالعقل، وإنما يوصف بالعلم، فهل ترى أدق وزنًا لمعاني الألفاظ ومراعاة تناسبها من هذا الوزن الحق، الذى نزل به القرآن.

يقول الأستاذ محمد قطب: «الظاهرة الحقيقية ليست هي التكرار، وإنما هي التنويع, لا يوجد نصان متماثلان في القرآن كله, إنما يوجد تشابه فقط دون تماثل, تماثل كالذي يوجد بين الإخوة والأخوات والأقارب، لكنه ليس تكرارًا بحال من الأحوال, إنه مثل ثمار الجنة {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25].

فهم حين يتناولون الثمرة لأول مرة يقولون هذا الذى رزقنا من قبل، فإن تذوقوه عرفوا أنه مختلف عنه، يشبهه ولا يماثله، وإن التنويع ذاته لَجَمَالٌ فوق أنه يُذهب عن النفس الملال(28).

ويقول الشيخ عبد الرحمن الميداني: «على متدبر كلام الله أن يبحث في كل نص يبدو له أنه من النصوص المكررة في القرآن, ليكتشف غرض التكرير، إذا كان النص مكررًا حرفيًا, وليكتشف فوارق المعاني، إذا كان النص المكرر مختلفًا ولو بعض الشيء، ولو بكلمة أو حرف في كلمة, فكثير من النصوص التي يتوهم فيها التكرار هي ليست في الحقيقة مكررة, ولكنها متكاملة، يؤدي بعضها من المعاني المرادة ما لا يؤديه البعض الآخر»، أما الشيخ العفيفي فيقول: «إن أحكام القرآن وتفصيله هو العلم الذى يضمن لنا أننا كلما احتجنا إلى أي مفردة قرآنيه وجدناها بأي موضع من مواضعها, كالحرف الواحد في الكلمة, يعني المكرر في كلمة واحدة، التي تجمع حروفها جميعًا في جملتها, فإذا كل حرف بموضعه الخاص به تفصيلًا, يعني كل حرف غير الآخر, لا أنه مكرر»(29).

ويقول د. وليد قصاب: «التكرار أسلوب فني، وهو في القرآن الكريم ليس مطلقًا، ولا تتشابه فيه المواقف والعبارات؛ بل تبدو كل قصة تتكرر وكأنها عرض جديد، وأسلوب جديد»(30).

يقول الطاهر بن عاشور في تفسيره: «القرآن يأخذ من كل قصة أشرف مواضيعها، ويعرض عما عداه؛ ليكون تعرضه للقصص منزهًا عن قصد التفكه بها، من أجل ذلك كله لم تأت القصص في القرآن متتالية متعاقبة في سورة أو سور، كما يكون كتاب تاريخ؛ بل كانت مفرقة موزعة على مقامات تناسبها».

إذن فكل موطن يعالج جانبًا فقط من الجوانب، وهذا يحتاج إلى إمعان نظر وحسن استقراء لباقي المواطن، رابطًا كل هذا بما قبله وما بعده من الآيات القرآنية، ويستمر ابن عاشور في طرحه لهذه القضية، مفندًا احتمالات الخصم فيقول: وعلى فرض أن هناك تكرارًا في إيراد القصة، أليس الأسلوب في كل موطن يختلف عن الموطن الآخر وأسلوبه؟

ثم أليس هذا إعجازًا وبلاغة في أرقي صورها في القرآن، وصدق الله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل:6]

ثم يتساءل ابن عاشور: «لماذا لم يقع الاستغناء بالقصة الواحدة في حصول المقصود منها، وما فائدة تكرار القصة في سور كثيرة؟».

ويجيب عن هذا التساؤل فيقول «أن القرآن هو بالخُطَب والمواعظ أشبه منه بالتأليف، وفوائد القصص تجتلبها المناسبات، وتُذْكر القصةُ كالبرهان على الغرض المسوقة هي معه، فلا يُعَد ذكرُها مع غرضها تكريرًا لها؛ لأن سَبْقَ ذكرها إنما كان في مناسبات أخرى، وهذا مقام تظهر فيه براعة الخطباء، مع ما فيه من مقاصد أخرى، منها :

أحدها: رسوخها في الأذهان بتكريرها.

الثاني: ظهور البلاغة، فإن تكرير الكلام في الغرض الواحد من شأنه أن يثقل على البليغ، فإذا جاء اللاحق منه إثر السابق، مع تفنن في المعاني باختلاف طرق أدائها، من مجاز أو استعارات أو كناية، وتفنن الألفاظ وتراكيبها بما تقتضيه الفصاحة وَسَعة اللغة باستعمال المترادفات... فذلك وجه من وجوه الإعجاز.

الثالث: أن يسمع اللاحقون من المؤمنين في وقت نزول القرآن ذكر القصة التي كانت فاتتهم مماثلتها قبل إسلامهم أو في مدة مغيبهم، فإن تلقي القرآن عند نزوله أوقع في النفوس من تَطَلُّبِهِ من حافظيه»(31).

وهكذا أبدع ابن عاشور في توضيح وجهة النظر فيما يظن أنه تكرار في القرآن وليس كذلك.

كذلك لم يفت الأستاذ سيد قطب في ظلاله أن يشير إلى موضع تكرار القصة في القرآن الكريم، ولو في إشارات سريعة دون استطراد أو إطناب، فيقول: «يرد القصص في القرآن في مواضع ومناسبات, وهذه المناسبات التي يساق القصص من أجلها هي التي تحدد مساق القصة والحلقة التي تعرض منها, والصورة التي تأتي عليها، والطريقة التي تؤدى بها, تنسيقًا للجو الروحي والفكري والفني الذى تعرض فيه، وبذلك تؤدي دورها الموضعي، وتحقق غايتها النفسية، وتلقى إيقاعها المطلوب, ويحسب أناس أن هناك تكرارًا في القصص القرآني؛ لأن القصة الواحدة قد يتكرر عرضها في سور شتى، ولكن النظرة الفاحصة تؤكد أنه ما من قصة, أو حلقة من قصة قد تكررت في صورة واحدة, من ناحية القدر الذى يساق, وطريقة الأداء في السياق، وأنه حينما تكررت حلقة كان هناك جديد تؤديه ينفي حقيقة التكرار»(32).

أما الشيخ محمد متولي الشعراوي فيقول: «لكل قصة في القرآن عبرة, أو شيء مهم يريد الحق أن يلفتنا إليه، فتارة تكون لتثبيت قلب النبي والمؤمنين: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120]، فالقصة في القرآن ليست لقتل الوقت, ولكن الهدف الأسمى لها هو تثبيت ونفع الحركة الإيمانية».

ثم ينتقل الشيخ إلى تكرار القصة في القرآن الكريم فيقول: «والقصص في القرآن لا ترد مكررة, وقد يأتي بعض منها في آيات وبعض منها في آيات أخر, ولكن اللقطة مختلفة، تعطينا في كل موضع معلومة جديدة, بحيث إنك إذا جمعت كل الآيات التي ذكرت في القرآن الكريم تجد أمامك قصة كاملة متكاملة، كل آية تضيف شيئًا جديدًا»(33).

أسرار وخصائص التكرار في القرآن الكريم:

أسرار التكرار في القرآن:

قد يتساءل إنسان عن سر التكرار في القرآن الكريم، وكيف أن القرآن على كثرة ما فيه من تكرار إلا أن سامعه لا يمل، كما يصاب غيره ممن يطالع الأساليب البشرية في كتاباتهم، ولا بد أن وراء هذا الأمر تكمن أسرار، وحتى نرد على هذا التساؤل، ونزيل الحيرة التي قد تلحق بأمثال هذا السائل نقول: إن دراسة أي نص لا يمكن تجريده من عناصره الأساسية؛ بل لا بد من دراسته في ظل عناصره ومكوناته، والنص القرآني له عناصر ومكونات، ونرى أن كل عنصر حقيق بهذا التكرار، يحتاج إليه ويمسك بتلابيبه، مستدعيًا إياه في أبهى صوره، وأزهى حُلله، وهذه العناصر هي كالآتي :

العنصر الأول: المتكلم:

وهو الله تعالى، ولا يخفى أن مراد الله تعالى من القرآن الكريم هو تربية الناس على الطريق المستقيم، وتقويم اعوجاجهم، وهذه الغاية تطلب التكرار للتقرير والتوكيد.

والممارس لعملية التربية، على أي مستوى، يدرك أن التربية ليست مجرد إلقاء كلمات على عوانها، دون تكرارها أو الرجوع إليها ثانية، فبان لنا أن العنصر الأول من عناصر النص القرآني يتطلب التكرار، ويحتاج إليه.

العنصر الثاني: المخاطَب:

كان أكثر المخاطبين بالقرآن، خاصة وقت نزوله، من المعاندين الجاحدين المنكرين، سواء للبعث أو لقضايا أخرى.

والعناد والمكابرة، لا شك، تحتاج إلى تكرار في الدعوة والنصيحة والمجادلة وغير ذلك؛ ولذا نجد أن القرآن قد اهتم بموضوع البعث وقدرة الله عليه، فأورده في مواطن متعددة بأساليب متنوعة، ردًا على المنكرين المعاندين؛ إذ هي من أكثر القضايا التي عارضها الملحدون.

قال تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد:5]، وقوله: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة:10]، وقال جل شأنه: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:15]، وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ:7].

إذن فالعنصر الثاني أيضًا يحتاج إلى التكرار ولا يستهجنه؛ بل حاجته للتكرار حاجة ماسة لا يمكن إغفالها.

العنصر الثالث: النص القرآني ذاته:

وتختلف مهمة النص كعنصر من العناصر عن العنصرين السابقين، فهو لا يستدعي التكرار ولكن يجيد توظيفه.

فلما كانت الحاجة للتكرار ضرورية، من خلال ما ذكرناه في العنصرين السابقين وتقررت هذه الحاجة، هنا جاء دور النص القرآني، الذى يحوطها رونقًا وجمالًا، حتى خرجت للقارئ في أسمى وأرقى درجاتها، فصارت وجهًا من وجوه إعجاز القرآن، فأجاد توظيفها على كل حالة إثباتًا وترسيخًا وبيانًا.

إثباتًا للمنكرين والمعاندين، وترسيخًا للمؤمنين الموحدين, فيزيدهم إيمانًا مع إيمانهم، وبيانًا للناظرين في القرآن، الدارسين لنصوصه عن قرب.

وهذا العنصر وثيق صلة بالعنصر الأول؛ إذ هو المصدر له، وإذا كان المصدر هو الله فلا بد أن يكون للنص قوته الباهرة(34).

خصائص التكرار في القرآن:

ويمكننا أن نَخْلُص من كل ما سبق عرضه أن التكرار في القرآن الكريم له خصائصه التي تميزه عن غيره، وهذه الخصائص يمكن أن نجملها في النقاط التالية:

1- التكرار في القرآن لا يُمل ولا يُسأم, ولكن كلما قرأتَه أو طالعته لم يزدك إلا جمالًا .

2- التكرار في القرآن كله معجز، فهو يبرز وجهًا من وجوه إعجاز القرآن الكريم، والتي تحدى بها أرباب البلاغة وفرسان الفصاحة.

3- التكرار إنما يكون في الصورة وحسب، وإلا فهو تجدد مستمر، والفطرة السليمة تشهد بهذا، إلا مَن مَرضَ قلبه، أو فَسد ذَوقه، فيدخل تحت المقولة المشهورة :

قد ينكر المرء ضوء الشمس من رمد      وينكر الفم طعم الماء من سقم

فقد تستدعي الحكمة التربوية تكرار الموضوع المراد التذكير به, وذلك حسب مقتضيات الدعوة والتربية.

4- التكرار يجعل القارئ للقرآن يقف على جملة من مقاصد القرآن الكريم في القدر اليسير الذى يقرأه، ومعلوم أنه يتعذر أن يتمكن شخص من قراءة القرآن الكريم كاملًا في المرة الواحدة, فبدون التكرار يفوته مقاصد كثيرة قد يحتاجها في موضوع بعينه؛ إذ القرآن شفاء لكل داء وفي كل وقت, ولذا أدرج الحكيم الرحيم أكثر المقاصد القرآنية في أكثر سوره، لا سيما الطويلة منها، حتى صارت كل سورة قرآنًا صغيرًا يسهل السبيل لكل أحد.

5- قد يأتي التكرار لهدف تثبيت معنى يقصده القرآن الكريم؛ وذلك لأهميته, ولخطورة القضية، فالقرآن لا يكررها في مواضع مختلفة ومواطن متفرقة في سور متعددة وحسب؛ بل يزيد الأمر اهتمامًا بتثبيت هذا المعنى، فيكرر القضية المراد تثبيتها في نفس المقام في آيتين متتاليتين، كما جاء في سورة النساء حيث أراد القرآن تثبيت وتأكيد قضية مهمة جدًا، وهى قضية ملكية الله لجميع ما في السماوات وما في الأرض فكررها في آيتين متتاليتين.

قال تعالى: {وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا (132)} [النساء:131-132].

فنلاحظ هنا أن قضية ملكية الله للسماوات والأرض وما فيهن، وهى قضية من الأهمية بمكان، كررها القرآن ثلاث مرات في سورة واحدة في مقام واحد في آيتين متتاليتين، وقد فيل إن الكلام إذا تكرر تقرر، ويقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه:113].

التربية، والتي هي غاية القرآن الكريم، ليست قولة ترمى مرة واحدة وتترك هملًا بعدها، وكل من مارس التربية، في أي مجال، يدرك مدى احتياج التربية إلى التذكير بالشيء مرة تلو الأخرى، حتى يستقيم الأمر على المطلوب، ويأتي العلم الحديث ليؤكد هذا الأمر؛ لأن القناعة العقلية لا تكفي لتقويم الإنسان؛ بل يجب أن تدخل هذه القناعة إلى العقل الباطن، والذي أثبت العلم أنه بحاجة إلى تكرارها كي تترسخ فيه وتصبح جزءًا منه.

ومع هذا التكرار فالقارئ لا يشعر أبدًا بالملل من كثرة القراءة، وإن قرأه مرارًا وتكرارًا، بينما يمل من راجع كتابًا واحدًا، كائنًا ما كان، لأكثر من مرة أو لعدة مرات، وصدق الله إذ يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17].

ومن العلماء من يرى أن هذا التكرار سحر بيان، وتثبيت بنيان، فعدوه بلاغة وإعجازًا، ووجدوا فيه منهجًا قويمًا، وهدفًا عظيمًا من مناهج التربية وأهدافها، وراحوا يبرهنون عليه ببراهين من كلام العرب شعرًا ونثرًا(35).

هل كل تكرار يورث الكراهة:

لا شك أن النفس البشرية تحب التجديد والتحول من حالة إلى حالة، وسريعًا ما تصاب بالملل، وهنا سؤال يطرأ، وهو: هل كل تكرار يورث الملل والسآمة؟

وللإجابة على هذا الطرح ننظر في الأشياء من حولنا، فالتجديد والتغيير الجذري لكل الأشياء من حولنا أمر مستحيل، فلا شك أن هناك أشياء تتكرر، ومع ذلك فنحن نألفها ونتعايش معها دون سآمة أو ملل، فليس كل مكرر مكروه.

ولذا يقول الإمام السكاكي، صاحب كتاب (مفتاح العلوم): «إن التوفيقَ بين حكم الإلْف وبين حكم التكرار أحوجُ شيء إلى التأمل فليفعل؛ لأن الإلْف مع الشيء لا يتحصل إلا بتكرره على النفس، ولو كان التكرار يورث الكراهة لكان المألوف أكره شيء على النفس, وامتنع إذ ذاك نزعها من مألوف, والوجدان يكذب ذلك»(36).

نَعَم، الوجدان والواقع أيضًا يكذبان هذه المقولة الضالة: إن كل مكرر مكروه.

فالشمس مثلًا لها من الرتابة ما لا يخفي، ولكن لا يملها أحد، ولا يستغني عنها كائن، فضلًا عن غيرها من نعم الله تعالى، التي تتسم بالرتابة في حياتنا، ولو كان ذلك كذلك لمل الإنسان أولاده مثلًا، وهذا ما لا يقول به عاقل.

مهما تَقوَّلَ البعض فلا يستطيع أحد إنكار ما لهذا الأسلوب البلاغي من أهمية بالغة، يدركها من تذوق الكلام وعرف مداخله ومخارجه، ويُحرم منها من فسد ذوقه، وشيوعُه في الكلام العربي قديمًا وحديثًا خير شاهد ودليل على أنه ظاهرة معروفه، وإنما يكمن جمالها في حسن توظيفها.

وعليه، فالحكم على التكرار جزافًا أمر لا تقره قواعد العلم السليم، ولكن يمكننا أن نقول في الحكم عليه: إنه أمر نسبي؛ بمعنى أنه تارة يحسن ويجمل، وذلك إذا فطن المتكلم لمواطن استخدامه، وقد يقبح إذا أساء المتكلم استخدامه، كأن يستخدمه في غير موضعه.

ولذا نجد العديد من الشعراء قد استخدم التكرار فأجاد، بينما استخدمه البعض فأخفق، فالأمر يعود إلى المستخدم ذاته، هل استطاع أن يوظف هذا التكرار توظيفًا بلاغيًا مفيدًا، أم أنه عجز أمامه، وألقى بالتكرار عشواء في ثنايا كلامه، فصار مستهجنًا؟

ولذا يقول ابن رشيق القيرواني في عمدته: «للتكرار مواضع يحسن فيها، ومواضع يقبح فيها».

وظائف التكرار:

1- الوظيفة التأكيدية: ويراد بها إثارة التوقع لدى المتلقي، وتأكيد المعاني وترسيخها في ذهنه.

2- الوظيفة الإيقاعية: بالتكرار يساهم في بناء إيقاع داخلي، يحقق انسجامًا موسيقيًا خاصًا.

3- الوظيفة التزينية: وتكون بتكرار ألفاظ مختلفة في المعنى ومتفقة في البنية الصوتية؛ مما يضفي تلوينًا جماليًا على الكلام.

والحقيقة أن الوظائف النحوية للتكرار هي:

1- تميز النظم في كل موضع بالزيادة أو النقصان أو اختلاف الألفاظ.

2- إشهار القصص ليلقيها كل من سمعها.

3- الفصاحة في إبراز الكلام الواحد في فنون مختلفة وأساليب متنوعة.

4- توكيد الزجر والوعيد، وبسط الموعظة وتثبيت الحجة ونحوها، أو تحقيق النعمة، وترديد المنة، والتذكير بالنعم.

5- تصريف القول(37).

***

_______________

(1) أخرجه البخاري (95).

(2) شرح صحيح البخاري، لابن بطال (9/ 24).

(3) كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/ 279).

(4) شرح البخاري، للسفيري (1/ 207).

(5) مرقاة المفاتيح (1/ 291).

(6) فيض القدير (5/ 113).

(7) أخرجه البخاري (5976).

(8) أخرجه البخاري (6016).

(9) أخرجه البخاري (4269).

(10) مرعاة المفاتيح (1/ 312).

(11) شرح رياض الصالحين (4/ 64).

(12) عقيدة التوحيد في القرآن، ص351.

(13) الفوائد المشوقة إلى علوم القرآن وعلم البيان، ص163–170.

(14) البيان والتبيين (1/ 1053).

(15) تأويل مشكل القرآن، ص232.

(16) ثلاث رسائل في الإعجاز، ص52.

(17) العمدة (2/ 73).

(18) البرهان في علوم القرآن (1/ 112).

(19) الخصائص (3/ 102-104).

(20) مغني اللبيب (1/ 168).

(21) القرآن القول الفصل، ص55.

(22) البرهان (3/ 11).

(23) الفاصلة في القرآن، ص281.

(24) الخصائص (2/ 450-451).

(25) البناء اللغوي في سورتي البقرة والشعراء، ص22.

(26) خصائص الحروف العربية ومعانيها، ص66.

(27) المصدر السابق، ص70.

(28) دراسات قرآنية، ص284-285.

(29) القواعد الذهبية في حفظ القرآن وتدبره، ص15.

(30) في الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم، ص193.

(31) التحرير والتنوير (1/ 64، 68).

(32) في ظلال القرآن (1/ 55).

(33) تفسير الشعراوي (1/ 237).

(34) ظاهرة التكرار في القرآن الكريم، منتديات بوابة الإسلام.

(35) فوائد التكرار في القرآن الكريم، منتديات الأكاديمية الإسلامية.

(36) مفتاح العلوم (1/ 350).

(37) التكرار في الشعر الجاهلي، ص70.