افتتان الرجال بالنساء
إن هذه الشريعة المباركة المنزلة من عند أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى سلكت السبيل الوسط بين أهل الفجور وأصحاب الرهبانية والتشدد، فأهل الفجور أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وغرقوا في المعاصي والآثام، وأهل الرهبانية حرموا ما أحل الله من الطيبات، فلذلك لم يصبر الناس على طريقتهم، فتركوا الرهبان وهجروهم، بل إن كثيرًا من الرهبان لم يصبروا على ما اعتقدوه، فوقعوا هم في أنواع الشهوات الخفية، فاكتشفوا وافتضحوا بين الخلق.
وهذه الشريعة هي دين الله عز وجل تراعي أحوال الناس، وأن لهم غرائز وشهوات، وكذلك فإن الشريعة تعترف بها ولكن تضبطها وتهذبها.
ولما كان العبد لا ينفك عن الهوى ما دام حيًا، وأن الهوى ملازمٌ له؛ كان الأمر بخروجه عن الهوى بالكلية غير ممكن، ولذلك فإن الله عز وجل لم يأمرنا بأن نصرف قلوبنا عن هوى النساء بالكلية؛ بل صرفنا إلى نكاح ما طاب من النساء مثنى وثلاث ورباع، ومن الإماء ما شاء الإنسان، فصرف الهوى إلى الحرام بالهوى إلى المباح (روضة المحبين (ص: 11).).
الوقوع في حبائل الشيطان:
إن السعار الموجود في هذه الأيام والولوغ في مستنقعات الشهوة الآسنة ما أكثر منه، وهؤلاء الذين يتتبعون القنوات وشبكات الإنترنت والصور وغيرها في سبيل ملاحقة برامج الفحش والرذيلة، وما أكثر الذين يشدون رحالهم إلى بلاد الفجور في سبيل تلبية شهواتهم المحرمة، وهذا المستنقع الذي سيقدمون عليه، تعاظمت فيه الشهوات، وبذلت فيه أنواع الفنون في التصوير، وتصوير ذوات الأرواح هو باب الشر العظيم في هذا الزمان، وما أعظم الشريعة حين حرمت تصوير ذوات الأرواح؛ لأن تصوير ذوات الأرواح هو الذي أوقع الناس في ألونٍ كثيرةٍ من الفجور، قال تعالى: {وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]، فتكالب شياطين الإنس والجن في إفساد العالم، وإغراقه بالجنس، وإشاعة الفاحشة، حتى لا يبقى هناك طهر ولا عفاف، ولا تقوى ولا دين، فيسهل لليهود قيادة ذلك القطيع البهيمي، وإرخاء العنان للشهوة، وإحداث السعار والتولع بذلك لا يمكن أن يحدث شبعًا، بخلاف ما يقوله أصحاب النظريات الغربية من أن الإشباع يؤدي إلى الراحة، وهذا لا يمكن إطلاقًا؛ بل إن الانغماس يؤدي إلى مزيدٍ من الجوع، ولم نسمع أن رجلًا غرق في الزنا فشبع من فتنة النساء فكف وعف.
قوله تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} نصب على الحال، والمعنى أن هواه يستميله وشهوته وغضبه يستخفانه، وهذا أشد الضعف فاحتاج إلى التخفيف. وقال طاوس: ذلك في أمر النساء خاصة. وروي عن ابن عباس أنه قرأ {وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} أي وخلق الله الإنسان ضعيفًا، أي لا يصبر عن النساء.
قال ابن المسيب: لقد أتى علي ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وأنا أعشو بالأخرى وصاحبي أعمى أصم- يعني ذكره- وإني أخاف من فتنة النساء.
ونحوه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال عبادة: ألا تروني لا أقوم إلا رفدًا، ولا آكل إلا ما لوق لي، وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحل لي، وأن لي ما تطلع عليه الشمس مخافة أن يأتيني الشيطان فيحركه علي، إنه لا سمع له ولا بصر (1).
وجاء في المنار: {وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} لا يقدر على مقاومة الميل إلى النساء ولا يحمل ثقل التضييق عليه في الاستمتاع بهن، فمن رحمته تعالى أنه لم يحرم عليه منهن إلا ما في إباحته مفسدة عظيمة، ومع هذا ترى الزنا يفشو حيث يضعف الدين حتى لا يكاد الناس يثقون بنسلهم، وحتى تكثر الأمراض ويقل النسل، ويستشري الفساد في الأرض، وقد كان الرجال ولا يزالون هم المعتدين في هذا الأمر لقوة شهوتهم، وشدة جرأتهم، فهم يفسدون النساء ويستميلونهن بالمال، ثم يتهمونهن بأنهن المتصديات للإفساد، ويحجر واحدهم على امرأته ويحجبها، ويحتال على إخراج امرأة غيره من خدرها! وهو يجهل أن الحيلة التي أفسد بها امرأة غيره هي التي يفسد بها غيره امرأته، وأنه قلما يفسق رجل إلا ويكون أستاذا لأهل بيته في الفسق.
على أن في الرجال الفاسقين، والمتفرنجين المارقين من مردوا على الفسق وصاروا يرونه من العادات الحسنة، فخزيت عفتهم وزالت غيرتهم، فهم يعدون الدياثة ضربًا من ضروب الكياسة، فيسلسون القياد لنسائهم، كما يسلسن القياد لهم، وذلك منتهى ما تطيقه الرذيلة من الجهد في إفساد البيوت بتنكيث قوى الرابطة الزوجية، وجعلها وسيلة لما هي في الفطرة والشريعة أشد الموانع دونه; لأنها هي الحصن للمرتبطين بها من فوضى الأبضاع، والحفاظ لما فيه هناء المعيشة من الاختصاص (2).
قال علي الطنطاوي: لو أوتيت مال قارون، وجسد هرقل، وواصلتك عشر آلافٍ من أجمل النساء من كل لونٍ وكل شكل وكل نوع من أنواع الجمال هل تظن أنك تكتفي؟! لا.
أقولها بالصوت العالي لا، أكتبها بالقلم العريض، ولكن واحدةٌ بالحلال تكفيك.
ولا تطلبوا مني الدليل، فحيثما نظرتم حولكم وجدتم في الحياة الدليل قائمًا ظاهرًا مرئيًا، واحدة في الحلال تكفيك كثيرًا أو اثنتان في الحلال إلى أربع، وأما في الحرام فلو فجر بألف امرأة من نساء الدنيا فلا يمكن أن يكون عاقبته العفة (3).
ولابن المقفع: اعلم أن من أوقع الأمور في الدين، وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال، وأجلبها للعار، وأزراها للمروءة، وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار: الغرام بالنساء.
ومن العجب أن الرجل لا بأس بلبّه ورأيه يرى المرأة من بعيد متلففة في ثيابها، فيصوّر لها في قلبه الحُسن والجمال حتى تعلق بها نفسه من غير رؤية ولا خبر مخبر، ثم لعله يهجم منها على أقبح القبح، وأدمّ الدمامة، فلا يعظه ذلك؛ ولا يقطعه عن أمثالها، ولا يزال مشغوفًا بما لم يذق، حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة، لظن أن لها شأنًا غير شأن ما ذاق، وهذا هو الحمق والشقاء والسفه (4).
قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما تركت بعدي في الناس فتنةً أضر على الرجال من النساء» (5).
قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث أن الفتنة بالنساء أشد من الفتنة بغيرهن، ويشهد له قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران: 14]، فجعلهن من حب الشهوات، وبدأ بهن قبل بقية الأنواع إشارة إلى أنهن الأصل في ذلك، ويقع في المشاهدة حب الرجل ولد من امرأته التي هي عنده أكثر من حبه ولده من غيرها، ... ومع أنها ناقصة العقل والدين تحمل الرجل على تعاطي ما فيه نقص العقل والدين؛ كشغله عن طلب أمور الدين وحمله على التهالك على طلب الدنيا؛ وذلك أشد الفساد (6).
وعن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدنيا حلوةٌ خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» (7).
قال النووي: ومعناه تجنبوا الافتتان بها وبالنساء، وتدخل في النساء الزوجات وغيرهن، وأكثرهن فتنة الزوجات لدوام فتنتهن وابتلاء أكثر الناس بهن (8).
خروج المرأة واستشراف الشيطان لها:
ومن أسباب كون المرأة فتنة، ومن أسباب عظم الفتنة بها أمر مهم جدًا تفسير للقضية، ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله في الحديث الصحيح: «المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان» (9)، فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «استشرفها الشيطان»؟ أيها المسلم: فكر في هذه الكلمة: «استشرفها الشيطان» لتعلم من أين أتينا؟ قال المباركفوري رحمه الله تعالى: أي: زينها في نظر الرجال، وقيل: أي: نظر إليها ليغويها ويغوي بها، والأصل في الاستشراف رفع البصر للنظر إلى الشيء، وبسط الكف فوق الحاجب، هذا هو الاستشراف، والمعنى: أن المرأة يستقبح خروجها وظهورها، فإذا خرجت أمعن النظر إليها؛ ليغويها بغيرها ويغوي غيرها بها؛ ليوقعهما أو أحدهما في الفتنة، أو يريد بالشيطان شيطان الإنس من أهل الفسق وسماه به على التشبيه (10).
إذًا: الشيطان يرفع أنظار الرجال إلى المرأة، والشيطان يزين المرأة في أعين الناظرين، فترى المرأة إذا خرجت إلى الشارع تمشي ارتفعت إليها أبصار الرجال، ذلك لأن الشيطان حريصٌ على تزيينها وعلى رفع الأبصار إليها، فتجد الأبصار تتجه إلى المرأة من حين خروجها إلى الشارع، ومن حين بدوها للرجال، يستشرفها الشيطان، ويجعلها هدفًا منصوبًا ملفتًا لينظر إليها الرجال، فهي وسيلته لإغواء الناس، ولذلك كان السلف -رحمهم الله- مع عبادتهم وزهدهم وورعهم، يخافون على أنفسهم من فتنة النساء أكثر مما نخاف نحن على أنفسنا مع ضعفنا، ولا مقارنة بيننا وبينهم.
التحذير من الخلوة بالنساء:
ومن أجل فتنة النساء اتخذ الشارع سائر الإجراءات الكفيلة لحماية الرجل من الوقوع في فتنة المرأة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم والدخول على النساء»، فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت الحمو؟ قال: «الحمو الموت» (11)، وهو قريب الزوج أخوه وسائر أقاربه، فالدخول على النساء الأجنبيات يشبه الموت في خطره يؤدي إلى موت الدين، وربما أدى إلى الرجم وهو موت إذا زنا بها وهو محصن، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تسافر المرأة إلا ومعها ذو محرم» (12).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يخلون أحدكم بامرأة، فإن الشيطان ثالثهما» (13)، كل هذه الإجراءات لأجل درء فتنة النساء، والنبي صلى الله عليه وسلم أطهر الناس مع الصحابة، وهو أفضل هذه الأمة، وقد كان عليه الصلاة والسلام يعمل سائر الإجراءات الكفيلة بمنع الاختلاط والنظر، فعن أبي أسيد الأنصاري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد، فاختلط الرجال بالنساء في الطريق، فقال صلى الله عليه وسلم ينهى عما رآه: «استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق» (14)، فالمرأة لا تمشي في الوسط، بل تمشي في الجوانب، والرجال يمشون في الوسط هكذا كانت الشوارع في المجتمع الإسلامي الأول، فكانت المرأة تلتصق بالجدار، حتى أن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به (15).
وعن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن النساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كن إذا سلمن من المكتوبة، قمن وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام الرجال (16).
وفي الحديث الاحتياط في اجتناب ما قد يفضي إلى المحذور، وفيه اجتناب مواضع التهم، وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلًا عن البيوت (17).
عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو تركنا هذا الباب للنساء»، قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر، حتى مات (18).
ويُفهم من هذا: أن النساء إذا حضرن للجماعة مع الرجال ينبغي أن لا يختلطن بهم؛ فإن كان ثمة باب مخصوص لهن يدخلن منه، ويخرجن منه، وإلا يحترزن عن الاختلاط بهم ما أمكن (19).
وهذه الإجراءات وغيرها لأجل درء فتنة النساء.
عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل، قلت لعمرة: أومنعن؟ قالت: نعم (20)، وماذا أحدث النساء في عهد عائشة؟ وهي تقول: لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم الوضع، لمنعهن من المساجد والخروج، فلو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعنا اليوم، ماذا تراه يقول؟ وماذا تراه يفعل؟!
الأسباب المؤدية إلى الفتنة بالنساء:
وفي هذا الزمان الذي لم يمر في العالم زمان مثله؛ زينت فيه المرأة لفتنة الرجال، واجتهد أعداء الله في إبراز المرأة، فترى عوامل الجذب والفتنة في الملابس الضيقة، والمفتوحة، والشفافة، والكعب العالي، والمناكير على الأظفار، ورائحة العطور، والصوت، والأزياء الفاضحة، وحتى النقاب الذي تلبسه بعض النساء أو البرقع اليوم ربما يكون أشد فتنة مما لو كشفت وجهها بالكلية، والأفلام، والقصص الفاسدة، والمجلات، والدعايات، فلا تكاد توجد سلعة إلا ومعها صورة امرأة ولا بد، وعروض الأزياء، وكل ذلك يزين المرأة في نظر الرجال، حتى إذا نزلت إلى الشارع والسوق، رأيت العجب، وهذه المساحيق والمكياجات التي تجعل أشد النساء دمامةً لوحة فنية من الأصباغ، وما تفعله الكوافيرات في وجوه النساء.
ثم تحدث الفتنة العظيمة، وتخرج المرأة بهذه الزينة، وتجتمع كل عوامل الإغراء، فلا تدخل دكانًا، ولا سوقًا، أو باب مدرسة، أو مستشفى، أو طائرة، أو غير ذلك من الأماكن إلا ووجدت القضية كلها تدور على الإغراء والإغواء بالمرأة، ولا تكاد تنظر في الصفحة الخارجية لمجلة أو غيرها إلا وتجد القضية نفسها تدور.
كل هذا بفعل إخوان القردة والخنازير الذين وصلوا بالمرأة إلى ما وصلوا إليه، وعمت الفتنة، وثارت الشهوات، وصار الوضع محزنًا لصاحب القلب الحي.
لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ
وتأمل ماذا أحدثه هذا الهاتف من الفتنة في بدء العلاقة وتطويرها وتنميتها، والتخطيط للخروج، ثم الخروج! وتأمل كيف يزين الشيطان الحيل بحجة خروجها إلى السوق، أو الدراسة مع صاحبتها، أو زيارة صاحبتها، وأثناء غياب الزوج في العمل، أو الوردية الليلية، كل هذه الأمور التي تؤدي إلى الفتنة والوقوع في الفاحشة، والمسألة فيها غضب من الله وإغضاب لله.
وكل القضية تدور على مخالفة الآيات الشرعية، فتأمل في الواقع ثم قارنه بقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31]، وبقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53]، وقارنه بقوله تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 32]، وبقوله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]، وبقوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31]، المسألة كانت على الخلخال، والآن تفتح العباءة وتلبس عدة مرات لتصلح من هندامها -بزعمها- وهي في وسط الرجال، وقارنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية» (21).
النجاة من فتنة النساء:
إن المسألة تحتاج في زماننا هذا إلى صبر عظيم، والذي يتتبع الأخبار يعرف، وليس المجال مجال التفصيل، ولا تعميم الحال، فهناك صلاح، وهناك خيرٌ، ولكن لا بد من أن نضع الضوابط، وأن نلزم أنفسنا بأحكام الشريعة.
غض البصر:
قد يقول قائل: وما هي الإجراءات التي تحمي الرجل من فتنة النساء؟ فأقول: أولًا: قال عليه الصلاة والسلام: «لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة» (22)، وعن جرير بن عبد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري، ولما رأى الفضل ينظر إلى امرأة وضيئة صرف وجهه إلى الشق الآخر.
فغض البصر هو أساس العلاج؛ لأن المسألة في أولها سببها النظر، وهو أهون شيء في البداية.
عدم وصف المرأة المرأة لزوجها:
وفي معنى النظر: وصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها، ولذلك نهينا عنه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تباشر المرأة المرأة، فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها» (23)، وهذا أصل في سد الذرائع، وأن وصف المرأة للرجل الأجنبي عنها يؤدي إلى الافتتان بالموصوفة.
من رأى امرأة فأعجبته فليأت زوجته:
إن الإنسان إذا رأى امرأة فأعجبته كمن كان له زوجة، أو مملوكة فليأتها مباشرة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأةً فأعجبته فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه» (24)، وأما الأعزب فإنه يستعين بالصبر والصلاة والصيام الذي هو من أسباب تقليل الشهوة، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أحدكم أعجبته المرأة، فوقعت في قلبه، فليعمد إلى امرأته فليواقعها، فإن ذلك يرد ما في نفسه» (25)، فيسكن نفسه، ويدفع شهوته، وفي هذا بيان عظيم، وإرشاد كبير إلى قضية العلاج لمثل ما يقع للرجال في هذه المسألة.
عدم الذهاب إلى مواطن الفتنة:
ثم إن من الأمور المهمة: أن الإنسان لا يغشى أماكن الفتنة، ولا يغشى أماكن الخلوة، ثم بعد ذلك يقول: لم أستطع أن أصبر؛ بل إنه يتمنى الصبر عند الحرام، ولذلك لما دعت امرأة العزيز يوسف، قال: إني أخاف الله، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمالٍ، فقال: إني أخاف الله» (26)، مع أنها امرأة ذات منصب وجمال، وأنى يجتمع هذا؟ ومع ذلك يقول: إني أخاف الله.
عدم الالتفات إلى المرأة أثناء تعرضها:
ومن العلاجات أيضًا: أنها إذا تعرضت له- وكثير من النساء اليوم هي التي تتعرض للرجل، وربما تكون هي التي اتصلت، وهي التي تأتي بالحركات والإشارات الداعية- فماذا يفعل؟ افعل كما فعل جريج رحمه الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أنه لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة، ومنهم: صبي تكلم من أجل جريج، قال صلى الله عليه وسلم: «كانت امرأة بغيٌ يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم، قال: فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها، فوقع عليها فحملت...» (27)، الحديث.
الشاهد قوله: فلم يلتفت إليها، ومن الذي لا يلتفت اليوم إلا من رحمه الله وأراد به خيرًا.
تذكر بشاعة الفاحشة وعقوبتها:
لا بد من التأمل في مسألة الفاحشة، فإن الشيطان كتابه الوسوسة، وقرآنه الشعر، ورسله الكهنة، وطعامه ما لم يذكر اسم الله عليه، وشرابه كل مسكر، وبيته الحمام، ومصائده النساء، ومؤذنه المزمار، ومسجده السوق، وكل هذه الأشياء مع بعضها البعض تؤدي إلى الفتنة العظيمة، والزنا من أعظم الذنوب والفواحش، وبعضه أشد من بعض، فمن أفحش الزنا الزنا بالمحارم، ومن أفحشه الرجل يزني بزوجة الرجل -أي: المتزوجة- مما يؤدي إلى اختلاط المياه والأنساب، ومن أفحشه أن تكون المرأة المزني بها جارة: قال عليه الصلاة والسلام: «ولأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره» (28)، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن عقوبة الزناة والزواني في البرزخ قبل دخول جهنم، أنهم في تنور -فرن- يأتيهم اللهب من أسفل منهم، فيرتفعون فيصيحون، فإذا خمد اللهب، سقطوا، ثم يأتيهم مرة أخرى فيرتفعوا، حتى يكادوا أن يخرجوا وهكذا إلى قيام الساعة .
وحكى لنا النبي صلى الله عليه وسلم عن أشخاصٍ كادوا أن يقعوا في الفاحشة، وربما يصل الأمر إلى هذه الدرجة، فماذا يفعل الشخص؟ حينئذٍ «قال الثاني: اللهم إنه كانت لي ابنة عمٍ كنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فطلبت إليها نفسها فأبت، حتى أتيتها بمائة دينار، فسعيت حتى جمعت مائة دينار، فلقيتها بها، فلما قعدت بين رجليها، قالت: يا عبد الله! اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه -والحق هو عقد الزواج الشرعي- فقمت عنها وهي أحب الناس إليَّ» (29)، إذًا: يمكن للإنسان المسلم لو ساقته نفسه والشيطان والمرأة إلى الفاحشة أن يذكر الله تعالى في اللحظة الأخيرة فيقوم ويترك المعصية.
إذًا: هذه من النظرة إلى اللحظة الأخيرة، إجراءات شرعية لأجل الوقاية من فتنة النساء، وهي المسألة العظيمة في عصرنا (30).
-----------
(1) تفسير القرطبي (5/ 149).
(2) تفسير المنار (5/ 32).
(3) فتاوى علي الطنطاوي (ص: 146).
(4) الأدب الصغير والأدب الكبير (ص: 118).
(5) أخرجه البخاري (5096)، ومسلم (2741).
(6) فتح الباري لابن حجر (9/ 138).
(7) أخرجه مسلم (2742).
(8) شرح النووي على مسلم (17/ 55).
(9) أخرجه الترمذي (1173).
(10) تحفة الأحوذي (4/ 283).
(11) أخرجه البخاري (5232)، ومسلم (2172).
(12) أخرجه ابن حبان (2729).
(13) أخرجه ابن حبان (4576).
(14) أخرجه أبو داود (5272).
(15) الابتلاء بفتنة النساء/ محمد صالح المنجد.
(16) أخرجه البخاري (866).
(17) ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (15/ 322).
(18) أخرجه أبو داود (462).
(19) شرح أبي داود للعيني (2/ 371).
(20) أخرجه البخاري (869).
(21) أخرجه النسائي (5126).
(22) أخرجه أبو داود (2149).
(23) أخرجه البخاري (5240).
(24) أخرجه مسلم (1403).
(25) أخرجه مسلم (1403).
(26) أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031).
(27) أخرجه مسلم (2550).
(28) أخرجه أحمد (23854).
(29) أخرجه البخاري (5974).
(30) دروس للشيخ محمد المنجد (98/ 12)، بترقيم الشاملة آليًا.