الثابت والمتغير في الشريعة الإسلامية
إن جدل الثابت والمتغير موجود في كل فكر وثقافة وحضارة وتراث ودين؛ وليس في الفكر الإسلامي وحده، لأن ذلك الجدل يُعبر عن العلاقة بين القديم والجديد، بين الماضي والحاضر، بين الأصالة والمعاصرة، بين النقل والابداع، بين التقدّم والتأخر، بين الثبات والحركة في تاريخ الأمم والشعوب، لا غنى لأحدهما عن الآخر، ويقوم ذلك الجدل أيضًا على التكامل وليس الإقصاء، وعلى التبادل وليس الاستبعاد، هما لفظان متضايفان لغويًا لا يفهم أحدهما إلا بالآخر، كلفظ الأب والابن، والحاكم والمحكوم، ومثل الجوهر والعرَض، والقديم والحادث، والواجب والممكن، والكم والكيف، والثابت والمتحرك، والنفس والبدن -لدى الفلاسفة- كلاهما صحيح، ليس أحدهما صواب والآخر خطأ وكلاهما ضروري لوجود الآخر لأنه يتضمنه .
ولا شك أن الثابت كان وما يزال من خصائص الإسلام التي تميز بها على سائر الشرائع والملل والنِحل، ولا شك أن تحديد الثابت والمتغير في الشريعة الإسلامية لم يكن سابقًا من القضايا والأمور الشائكة في تراثنا الإسلامي العريق، كما أصبح عليه الحال في أيامنا هذه.
والشريعة هي المنهج الرباني الذي أوحى الله به إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليضبط علاقة الناس بالله وعلاقتهم ببعض، فعلاقة الإنسان بالله تحكمها قواعد ثابتة لا تتغير ولا تتبدل لا بتغير الزمان ولا المكان ولا البيئات ولا الأحوال.
أحكام قطعية الثبوت قطعية الدلالة، وهذه لا مجال للاجتهاد فيها، لا يدخلها التطور ولا التغير ولا التجديد، وهي التي تمثل الثوابت، ونقصد بها الثوابت الشرعية، إذ إن الصلوات خمس والزكاة ركنان من أركان الإسلام، والزكاة تصرف في كذا وكذا.. وهناك الحج مرة في العمر، والزنا محرم، والربا محرم... وكذا، هذه أحكام ثابتة لا تختلف باختلاف الزمان ولا المكان، ولا بتغير العصر ولا تغير البيئة، هي في القرن الأول مثل القرن الخامس عشر مثل القرن الخمسين.. هذه أحكام ثابتة.
وكما أن هناك أمورًا ثابتة هناك أمور قابلة للتغير، وعندنا لذلك أسباب وعوامل كثيرة، أولًا أن هناك منطقة في الشريعة اسمها منطقة العفو، وهي منطقة ليس فيها نصوص ملزمة، ليس فيها أوامر ولا نواهٍ تلزمنا بشيء، الله أرادها هكذا كما جاء في بعض الأحاديث: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم في كتابه فهو حرام، وما تركه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئًا»، ثم تلا قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] (1).
من هنا أخذنا تسمية هذه المنطقة المسكوت عنها، واسمها منطقة العفو منطقة فراغ من التشريع المُلزم، فنستطيع أن نملأها بالقياس على المنصوص عليه، أو نملأها بمراعاة المصلحة المرسلة.. بمراعاة الاستحسان.. بمراعاة العرف.. أدلة كثيرة فيما لا نص فيه، وهذا من رحمة الله عز وجل.
ومما ينبغي التأكيد عليه أن نطاق المتغيرات في الفتاوى والأحكام الفقهية الظنية واسع جدًا، وهو يشمل كل الاجتهادات الفقهية السابقة، إضافة إلى منطقة العفو التي تقبل التغييرات بشكل واضح حسب الاجتهادات الفقهية، يقول إمام الحرمين: إن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد، ولا تفي النصوص بعشر معشارها (2).
وذلك لأن الاجتهادات الفقهية السابقة لفقهائنا الكرام ما دامت ليست محل إجماع فهي تقبل إعادة النظر، بل ينبغي إعادة النظر فيها وغربلتها بكل تقدير واحترام من خلال الاجتهاد الانتقائي، والترجيح فيما بينها للوصول إلى ما هو راجح، ثم تنزيله على قضايا العصر بكل دقة ووضوح.
بل يمكن إعادة النظر في فهم هذه النصوص الظنية مرة أخرى على ضوء قواعد اللغة العربية وأصول الفقه، والسياق واللحاق، وحينئذ يمكن الوصول إلى معان جديدة وأحكام جديدة لم ينتبه إليها السابقون، أو لم يخترها الجمهور، بل ذكرها قلة قليلة من السابقين.
وأما منطقة العفو فيكون الاجتهاد فيها اجتهادًا إنشائيًا لا بد فيه من توافر شروط الاجتهاد وضوابط من يتصدى له (3).
قواعد هامة:
لا بدَّ من توضيح أصولٍ وقواعدَ تتعلق بديننا العظيم الثابت المستمر إلى يوم القيامة:
1- ديننا ثابتٌ لا يتغير، فهو شجرة ثابتة الأصول مرتفعة الفروع، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)} [إبراهيم: 24- 25].
2- وديننا كاملٌ لا نقص فيه ولا زيادة، ولا نسخ بعد كماله، وما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا وقد بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، وأكمل الله به الدين وأتم به النعمة، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
وهذا الكمال له ميزتان: الصدق في الأخبار، والعدل في الأحكام، كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115].
3- وهذه الشريعة شاملةٌ قد استوعبت الزمان والمكان والناس، فهي تخاطب جميع الخلق من الجن والإنس على اختلاف ألوانهم وألسنتهم، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأرسلت إلى الخلق كافة» (4).
وهي مستوعبة لجميع النوازل والأحكام على اختلاف الزمان والمكان، إما تفصيلًا وإما تأصيلًا، كما قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].
وفي الصحيح قال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله» (5).
وصلاح الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان دليل على مرونتها، حيث تساير أحكامها مختلف الأحوال دون حرج ولا مشقة ولا عسر.
4- والتشريع حقٌّ إلهي فلا يرجع فيه إلى العقول والأذواق والأهواء، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57]، وقال أيضًا: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40]، وقال أيضًا: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 21].
وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 49- 50].
من أين يأتي التغير؟
التغيّرُ في الأحكام الشرعية يأتي من جهتين:
الأولى: من جهة المنظور فيه.
الثانية: من جهة الناظر.
أما التغيّرُ من جهة المنظور فيه: فهي الأحكام الشرعية المتعلقة بمتغير فتتغير بتغيره، وهذا الذي قال فيه العلماء: إن الفتوى تتغير بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد.
قال ابن القيم: الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة، ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرَّمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك؛ فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وُضع عليه.
والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكانًا وحالًا، كمقادير التّعْزيراتِ، وأجناسها، وصفاتها؛ فإن الشارع يُنوِّعُ فيها بحَسْبِ المصلحة.
وأما التغير بحسب الناظر فهو المجتهد المؤهل الناظر في النصوص، فيختلف اجتهاده في المسألة الواحدة بحسب ما جَدَّ له من نصوص وقرائن فيتغير اجتهاده (6).
وفي رسالة عمر رضي الله عنه المشهورة إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال له: ولا يمنعنك قضاءٌ قَضيتَ به اليوم فراجعت فيه رأيك وهُديت فيه لرُشْدك أن تُراجعَ فيه الحق، فإنَّ الحق قديم، ولا يبطله شيءٌ، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل (7).
قال ابن القيم شارحًا لهذه الجملة: يريد أنك إذا اجتهدت في حكومة ثم وقعت لك مرة أخرى فلا يمنعك الاجتهاد الأول من إعادته، فإنَّ الاجتهاد قد يتغير، ولا يكون الاجتهاد الأول مانعًا من العمل بالثاني إذا ظهر أنه الحق، فإنَّ الحقَّ أولى بالإيثار؛ لأنه قديمٌ سابقٌ على الباطل، فإن كان الاجتهاد الأول قد سبق الثاني والثاني هو الحق فهو أسبق من الاجتهاد الأول، لأنه قديم سابق على ما سواه، ولا يبطله وقوع الاجتهاد الأول على خلاف، بل الرجوع إليه أولى من التمادي على الاجتهاد الأول (8).
عن الحكم بن مسعود الثقفي قال: قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وإخوتها لأبيها وأمها وأخوتها لأمها، فأشرك عمر بين الإخوة للأم والأب والإخوة للأم في الثلث، فقال له رجل: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا، قال عمر: تلك على ما قضينا يومئذٍ، وهذه على ما قضينا اليوم (9)؛ فأخذ أمير المؤمنين في كلا الاجتهادين بما ظهر له أنه الحق، ولم يمنعه القضاء الأول من الرجوع إلى الثاني، ولم ينقض الأول بالثاني؛ فجرى أئمة الإسلام بعده على هذين الأصلين، انتهى.
والمرجعُ في كل ذلك إلى الشرع، فالنازلة إذا تغير متعلقها يتغير حكمها حسب الشرع، وليس حسب الأهواء، والمجتهد الناظر في النصوص يتغير اجتهاده بحسب ما يظهر له من النصوص لا من عقله وهواه، والقاعدة عند العلماء: إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي، وقبل ذلك قول الله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].
ثوابت الدين مراتب:
- أعظمها ما كان مشتركًا بين جميع الأنبياء من التوحيد، وما يتبع ذلك من الأصول التي لم يختلف حكمها باختلاف الأحوال والأزمان، ولم يجر فيها النسخ والتبديل أبدًا، فهي ثابتة قبل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في جميع الشرائع، كالتوحيد وأصول المحرمات والمعاملات والأخلاق والآداب.
- ثم الثوابت في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الثوابت هي ما عبّر عنها شيخ الإسلام ابن تيمية بالشرع المُنَزّل، حيث قال: فلفظ الشرع قد صار له في عرف الناس ثلاث معان: الشرع المنزل، والشرع المؤول، والشرع المبدل.
فأما الشرع المنزّل: فهو ما ثبت عن الرسول من الكتاب والسنة، وهذا الشرع يجب على الأولين والآخرين اتباعه، وأفضل أولياء الله أكملهم اتباعًا له، ومن لم يلتزم هذا الشرع أو طعن فيه أو جوّز لأحد الخروج عنه فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
وأما المؤول: فهو ما اجتهد فيه العلماء من الأحكام، فهذا من قلَّد فيه إمامًا من الأئمة ساغ ذلك له، ولا يجب على الناس التزام قول إمام معين.
وأما الشرع المبدَّل: فهو الأحاديث المكذوبة، والتفاسير المقلوبة، والبدع المضلة التي أدخلت في الشرع وليست منه، والحكم بغير ما أنزل الله، فهذا ونحوه لا يحل لأحد اتباعه (10).
اتجاهات الناس في مسألة الثابت والمتغير:
واتجاهات الناس في مسألة الثابت والمتغير في الدين بين إفراط وغلو في توسيع دائرة الثابت، وبين تفريط وجفاء عن الثابت في تقليصه إلى درجة الإلغاء والإلحاد.
1- اتجاه التفريط، وهو الاتجاه المقتحم للثوابت بين مقل ومكثر والذي يبالغ في التوسع والتساهل، مع التضييق لمساحة الثوابت.
وهؤلاء طبقات:
- منهم من يجعل العقائد والعبادات باقية على الثبات، أما الأحكام الشرعية فيجعلونها من المتغيرات، ويقولون الشريعة ثابتة والحياة متطورة، ولا يفي الثابت بحاجة المتطور؛ فلا بدَّ من تحريك محتواها، فلا نأخذ حرفيتها وإنما مقاصديتها.
ويقولون: إن أحكام الشريعة لم تشرع إلا لتحقيق مقاصدها، فأحكام الحدود مثلًا لم تشرع إلا لردع مقترفي المعاصي، ومنع الربا لم يشرع إلا لتحقيق مقصد العدالة، وهكذا الأمر في كل حكم من أحكام الشريعة بحيث لا تحمل هذه الأحكام قيمة في ذاتها، وإنما فقط في مقاصدها.
- ومنهم من يبالغ في نسف الثوابت؛ فيوسع دائرة التشكيك حتى يصل إلى العقيدة، ويطعنون بالسنة، ويحرفون معاني القرآن على غير ما أجمع عليه المسلمون في القديم والحديث.
وهم بذلك سائرون على طريقة أساتذتهم من ملحدي الغرب والشرق، والذين يؤمنون بفكرة التغيّر المطلق التي انبنت عليها الفلسفة الغربية في تقديرها للطبيعة؛ كما بدا في نظرية التطور، فهذه الفكرة حملها أصحاب هذه القراءة ليسقطوها على النص الديني، ذاهبين إلى أن النص لا يحمل قيمًا موضوعية ثابتة، وإنما قيمه كلها متغيّرة بتغيّر الظروف والأوضاع.
وهذا هو مذهب قديم عند الفلاسفة الغربيين، وتأثر به بعض المنظرين الحداثيين.
وهذا المبدأ الذي يكاد يستفرد برأس الهرم في المنظومة الحداثية ويشكل البعد المعرفي الأكثر عمقًا وتقديسًا في المشروع الحداثي.
يقولون: لا بدَّ من التفريق بين إسلام الرسالة وإسلام التاريخ، ويقولون إن القرآن مغلق لدينا نحن المعاصرين، وما كان عليه السلف إنما هو تجربة مثالية خاصة.
وقد اعتمد الخطاب الحداثي على نظرية المقاصد لتأصيل مسألة التاريخية.
2- اتجاه الإفراط، وهؤلاء هم المبالغون في توسيع نطاق الثوابت، وهؤلاء هم أهل البدع الذين يجعلون المختلف فيه كالمجمع عليه ويوالون ويعادون فيه، بل يبتدعون البدع الاعتقادية والعملية فيجعلونها من أصول الدين فيكفرون ويبدعون المخالف في ذلك.
كالجهمية والمعتزلة الذين عطلوا الصفات فجعلوه دينًا وتوحيدًا.
والجبرية والقدرية الذين ابتدعوا في القدر وجعلوه من أصول الدين.
فإذا أنكرت شيئًا من ذلك يقال لك قد أنكرت أصول الدين.
ومنهم الرافضة الذين جعلوا الإمامة والعصمة والولاية من أصول الدين وأركانه.
وقد أنكر ابن تيمية على أهل الكلام إطلاق اسم أصول الدين على ما ليس من أصوله، قال: وهذا كما أنَّ طائفةً من أهل الكلام يسمي ما وضعه أصول الدين، وهذا اسم عظيم، والمسمّى به فيه من فساد الدين ما الله به عليم.
فإذا أنكر أهل الحق والسنة ذلك قال المبطل: قد أنكروا أصول الدين، وهم لم ينكروا ما يستحق أن يسمى أصول الدين؛ وإنما أنكروا ما سماه هذا أصول الدين، وهي أسماء سموها هم وآباؤهم بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، فالدين ما شرعه الله ورسوله، وقد بيَّن أصولَه وفروعَه، ومن المحال أن يكون الرسول قد بيَّن فروع الدين دون أصوله (11).
التوازن بين الثوابت والمتغيرات:
يوازن الإسلام منذ اليوم الأول بين الثابت والمتغير، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، فلا يتحول الثابت إلى جمود، ولا يتحول التغيير إلى انفلات، ويجعل الإسلام الثابت هو الأساس، ويضع القواعد الثابتة، ويجعل التغير تابعًا ومحكومًا لها، ويظهر هذا في العديد من آيات القرآن الكريم، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن الثابت كان وما يزال من خصائص الإسلام، التي تميز بها على سائر الملل والأديان، ولا شك أن تحديد الثابت والمتغير في الإسلام لم يكن من القضايا والأمور الشائكة في تراثنا الإسلامي العريق، كما أصبح عليه الحال في أيامنا هذه.
ومما هو معلوم من الدين بالضرورة أن الثابت في الإسلام هو مجموعة الأسس والحقائق التي لا بد من ثباتها، بما تشمله من أصول العقيدة وأركان الإيمان الستة، وأركان الإسلام الخمسة، وما يتعلق بالله سبحانه من توحيده وإثبات أسمائه وصفاته وأفعاله، وإفراده بالألوهية والربوبية والحاكمية والعبادة، وأصول العبادات والمعاملات، ومكارم الأخلاق، وأن الإسلام هو وحده الدين المقبول عند الله سبحانه، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وغيرها من أصول الإسلام التي يصعب حصرها، والتي منها وجوب الالتزام بأحكام الله تعالى وتشريعاته، وعدم جواز إقرار أي تشريع يخالف تشريعه سبحانه.
ولعل من أبرز المجالات الثابتة في الأحكام الشرعية: أن المصادر الأصلية للتشريع الإسلامي المتفق عليها محصورة في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة، وأن مقاصد الشريعة تتمثل في حفظ الضروروات الخمس، وهي الدين والنفس، والعقل، والمال، والعرض، ثم القواعد الفقهية الكبرى التي تنظم حياة الناس وتحقق لهم الخير، والتي منها (لا ضرر ولا ضرار) وغيرها.
وكذلك الواجبات القطعية التي وجبت بأدلة قطعية ثابتة من القرآن الكريمة والسنة الصحيحة، مثل وجوب الصلوات الخمس، وغيرها، التي يمتنع الاجتهاد فيها، لأن القاعدة الشرعية تقول: (لا اجتهاد في مورد النص)، وكذلك المحرمات اليقينية، التي ثبت أدلة تحريمها القطعية مثل الزنا، وغيره، والمبادئ العامة التي تنظم حياة المسلمين التي أقرها الإسلام مثل إفراد الله بالحاكمية وغيرها، ومكارم الأخلاق المتفق عليها، وغير ذلك مما اصطُلح على تسميته بـ (المعلوم من الدين بالضرورة).
ومما ينبغي التنويه إليه أن هذا الثبات فيها في مثل هذه الحقائق والتعاليم وأمثالها ليس مطلقًا شاملًا، وأن المتغير الذي يكون في الفرعيات والأساليب ليس مطلقًا، ولا يمكن لأمةٍ من الأمم أن تحيا أو تقيم حضارة إذا كان كل شيء في حياتها ثابتًا كأنه قوالب جامدة، ولا يمكن أن تحيا كذلك إذا كان كل شيء في ثقافتها متغيرًا، من هنا كانت أهمية التوازن الدقيق بين الثوابت والمتغيرات في أحكام الإسلام وتعاليمه، وكانت ضرورة تحديد المبادئ الثابتة، وبيان أن التغير إنما يكون في الفرعيات وفي الأساليب والوسائل، والوقوف على أهمية وجود التناسق بين الثابت والمتغير، وضرورة ضبط المتغيرات بالثوابت.
وحتى تتضح ملامح هذا التقسيم بين الثوابت والمتغيرات في الإسلام، لا بد من الوقوف على بعض المصطلحات التي تتمثل فيها معالم هذا الدين ويكثر تداولها في هذا الباب، ومنها مصطلح (الدين) الذي هو مأخوذ من الجذر دان يدين، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فلا يزاد في الدين ولا ينقص منه، وهو يشتمل على العقيدة والأخلاق والعبادات والمعاملات، ولا شك أن مفهوم العبادة لا يقتصر على الشعائر كالصلاة والصوم والحج والزكاة، وهناك مرادفات لكلمة الدين الذي هو الطاعة والانقياد للشريعة، منها الإسلام والشريعة والملة، وتنوب هذه المصطلحات بعضها عن بعض، فالإسلام هو الانقياد والخضوع لأحكام الله تعالى، وقد يأتي بمعنى الدين، وبمعنى الإخلاص، قال سبحانه: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131].
ومما هو معلوم أن تعاليم الإسلام تتصف بعدة خصائص منها أنها ربانية، وأن فيها الشمول والكمال، والتوازن والاعتدال، والتطور والثبات، والإيجابية والواقعية، والوسطية وعدم التطرف، وأنها تصلح لكل زمان ومكان، ولكافة الناس، ومن مظاهر هذا التوازن أنها ليست ثابتة في كل شيء، ولا متطورة في كل شيء.
وإن هذا التطور الذي تتصف به بعض الأحكام هو الذي يجعل الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، وهو أمر لا بد منه في بعض المجالات والمظاهر، ولكنها في نفس الوقت جعلت هناك أساسًا ثابتًا في تحديد معالم المتغير من الثابت، ليكون التحرك داخل إطار ثابت، وحول محور ثابت كما عبر ذلك الأستاذ سيد قطب رحمه الله في كتابه خصائص التصور الإسلامي، فالمحور الثابت يتمثل في الحقائق الأساسية الثابتة، والإطار الثابت هو الحدود والأحكام، وهما أي -المحور والإطار- الحقائق والقواعد والأسس والمبادئ والقيم التي جاء بها الإسلام وقررها، وجعلها ثابتة راسخة، ملزمة للناس في كل زمان ومكان.
ولا يعني هذا الثبات في تعاليم الإسلام وأحكامه بأي صورة من الصور الجمود أو محاربة كل جديد، فالحركة المتطورة في حياة المسلمين مستمرة، ولكنها حركة منضبطة، وهي دائمًا تتم داخل إطار ثابت، وعلى محور ثابت، كما يقول سيد قطب، وتكمن أهمية هذا الثبات في أنه يحافظ على حقائق الدين، ويحصن أفراد الأمة أمام أعدائها، ويحفظ لها هويتها، حتى لا تذوب وسط الثقافات والحضارات الأخرى، ويضع لأبنائها الميزان الذي يتحاكمون إليه.
ويبقى هذان العنصران -المحور والإطار- لا يتغيران ولا يتبدلان ولا يتطوران، ويبقى التغير ضمن المساحة الواقعة بينهما، فتكون حركةً متوازنة متناسقة، يصفها سيد قطب بقوله: راشدة نافعة، مشدودة إلى المحور الذي يحركها ويوجهها، ومحكومة بالإطار الذي يضبطها وينظمها، فلا تخرج عن حدوده.
وتبقى الحركة داخل الإطار وحول المحور تتوجه إلى المتغيرات، التي تكون عادة في الظواهر والأشكال والجزئيات، والفرعيات والتفصيلات الثانوية التي هي غالبًا ما تكون قابلة للتغيير، ولكنها تبقى دائمًا محكومة بالإطار والمحور الثابتين.
أما أبرز المجالات المتغيرة في الأحكام الشرعية فتتمثل في الأحكام الفرعية المستمدة من نصوص ظنية الدلالة، مما يجعلها قابلة للاجتهاد، أو تلك النصوص التي تستمد من نصوص معللة بعلل خاصة، والتي تتغير بتغير الزمان أو المكان، أو الأحكام المبنية على قواعد العرف، والتي تتغير بتغير ذلك العرف، وكذلك الأمور التي تندرج تحت الكماليات والتحسينيات، وهي التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، مما يتعلق بمسائل فرعية، وأشياء غير ضرورية، إنما يفعلها الناس من أجل تحسين حياتهم، ورفاهية عيشهم (12).
--------------
(1) أخرجه الحاكم (3419).
(2) البحر المحيط في أصول الفقه (6/ 425).
(3) العلاقة بين الراعي والرعية في ظل الحكم الرشيد (ص: 52).
(4) أخرجه مسلم (523).
(5) أخرجه مسلم (1218).
(6) إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان (1/ 570).
(7) أخرجه البيهقي (3259).
(8) إعلام الموقعين (2/ 206).
(9) أخرجه الدارقطني (4126).
(10) مجموع الفتاوى (11/ 506).
(11) مجموع الفتاوى (4/ 56).
(12) ميزان الثابت والمتغير في منهج الإسلام/ إسلام ويب.