logo

تسلية أهل الشدائد والبلاء


بتاريخ : الاثنين ، 3 رجب ، 1445 الموافق 15 يناير 2024
بقلم : تيار الاصلاح
تسلية أهل الشدائد والبلاء

عند حلول البلاء بالعبد يتبين قوي الإيمان واليقين من غيره، فالعبد الموقن بالله والمؤمن به إيمانًا قويًا جازمًا يلتجئ إلى الله تعالى إذا نزل به البلاء، ويلتزم بآداب الصبر التي جاءت الشريعة الإسلامية بالأمر بها والحث عليها، أو بالنهي عن ضدها.

وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ابتلي بأنواع البلايا والمحن، فقد ابتلي بوفاة عمه أبي طالب الذي كان يسانده ويحميه وينافح عنه، وبعد وفاة عمه بشهرين أو ثلاثة ابتلي بوفاة زوجته أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها التي عاشت معه ربع قرن تحن عليه وتسري عنه وتخفف آلامه وتؤازره في أحرج أوقاته وتواسيه بنفسها ومالها.

وابتلي صلى الله عليه وسلم بوفاة جميع أولاده في حياته ما عدا ابنته فاطمة رضي الله عنها، كما ابتلي بمقتل سبعين من أصحابه في غزوة أحد، وكان من بينهم عمه وحبيبه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، هذا بالإضافة إلى ما لحقه من صنوف الأذى من كفار قريش، من تكذيبه، وتأنيبه، وسبه، والاستهزاء به، وتخويفه، ورميه بالجنون، وإلقاء القاذورات عليه وهو يصلي وعلى باب منزله، ومطاردته، ومحاولة قتله ... ونحو ذلك.

فصبر على ذلك كله صبر المؤمن بربه الواثق بنصره المتوكل عليه والراضي بقضائه، فمنّ الله عليه بالنصر والتمكين وإعزاز الدين، وإظهاره على كل دين، وقمع الجاحدين والكفرة والمشركين.

وعن عبد الله بن عمر؛ أن رجلًا من الأنصار كان له ابن يروح إذا راح النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل نبي الله صلى الله عليه وسلم عنه، فقال: «أتحبه؟»، فقال: يا نبي الله، نعم، فأحبك الله كما أحبه، فقال: «إن الله أشد لي حبًا منك له»، فلم يلبث أن مات ابنه ذلك، فراح إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم وقد أقبل عليه بثه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجزعت؟»، قال: نعم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوما ترضى أن يكون ابنك مع ابني إبراهيم يلاعبه تحت ظل العرش؟!» قال: بلى، يا رسول الله (1).

وهذه أم سليم رضي الله عنها زوجة أبي طلحة رضي الله عنه عندما توفي ولدها منه، وأبوه غائب، فتجلدت وصبرت صبرًا جميلًا، حيث هيأت ابنها للدفن ونحته في جانب المنزل، ولما قدم أبو طلحة جهزت له أكله، وتزينت له حتى أصاب منها حاجته، ولما سأل عن الصبي أخفت عنه موته، وأوهمته بأنه سكنت نفسه بالنوم لوجود العافية، وذلك حرصًا منها على عدم إزعاج زوجها بموت ابنه ليبيت مستريحًا بلا حزن.

ولما أصبح أخبرته بموته فحمد الله واسترجع، وغدا على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فدعا لهما بأن يبارك لهما في ليلتهما.

يقول سفيان بن عيينة: قال رجل من الأنصار: رأيت لهما تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن (2).

أما من لم يظهر حزنه عند المصيبة، وترك ما أبيح له من إظهار الحزن الذي لا إسخاط فيه لله تعالى، واختار الصبر كفعل أم سليم، ومن قهر نفسه وغلبها على الصبر، ممن تقدم ذكره في الباب قبل هذا، فهو آخذ بأدب الرب في قوله: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] (3).

ومما جاء في تسلية أهل المصائب قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)} [البقرة: 155- 156]، وآيات الصبر كثيرة جدًا.

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله به: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها، إلا آجره الله في مصيبته وأخلف الله له خيرًا منها» (4).

وقد تضمنت هذه الكلمة: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} علاجًا من الله ورسوله لأهل المصائب، فإنها من أبلغ علاج المصائب وأنفعه للعبد في عاجله وآجله، فإنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما وتسلى عن مصيبته.

الأول: أن يتحقق العبد أن نفسه وأهله وماله وولده ملك لله عز وجل حقيقةً، وقد جعله الله عند العبد عارية فإذا أخذه منه فهو كالمعير يأخذ عاريته من المستعير، وأيضًا: فإنه محفوف بعدمين عدم قبله وعدم بعده، وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير، وأيضًا: فإنه ليس هو الذي أوجده من عدم، حتى يكون ملكه حقيقةً ولا هو الذي يحفظه من الفات بعد وجوده فليس له فيه تأثير ولا ملك حقيقي.

وأيضًا فإنه متصرف فيه بالأمر، تصرف العبد المأمور المنهي، لا تصرف الملاك، ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي.

والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره، ويأتي ربه يوم القيامة فردًا، كما خلقه أول مرة، بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن يأتيه بالحسنات والسيئات.

فإذا كانت هذه بداية العبد وما خوله، ونهايته وحاله فيه كيف يفرح العبد بولد أو مال أو غير ذلك من متاع الدنيا؟ أم كيف يأسى على مفقود؟

ففكرة العبد في بدايته ونهايته من أعظم علاج المصائب، ومن علاجه أن يعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} [الحديد: 22- 23]، ومن تأمل هذه الآية الكريمة وجد فيها شفاء أو دواء المصائب (5).

ومن تسلية أهل المصائب أن ينظر المصاب في كتاب الله وسنة رسول الله، فيجد أن الله تعالى أعطى- لمن صبر ورضي- ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي. 

ومن أنفع الأمور للمصاب أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب، وليعلم أنه في كل قرية ومدينة؛ بل في كل بيت من أصيب، فمنهم من أصيب مرةً، ومنهم من أصيب مرارًا، وليس ذلك بمنقطع حتى يأتي على جميع أهل البيت، حتى نفس المصاب؛ فيصاب، أسوة بأمثاله ممن تقدمه، فإنه إن نظر يمنةً فلا يرى إلا محنةً، وإن نظر يسرةً فلا يرى إلا حسرةً.

فهذا نبي الله أيوب عليه السلام كان له من الدواب والأنعام والحرث الشيء الكثير، كما كان له أولاد كثيرون ومنازل مرضية، فابتلي في ذلك كله وذهب عن آخره، ثم ابتلي بمرض عم سائر بدنه، ولم يبق منه شيء سليم سوى قلبه ولسانه يذكر بهما الله عز وجل، حتى عافه الجليس وأفرد في ناحية من البلد، ولم يبق من يرق له ويحنو عليه سوى زوجته التي كانت تقوم بأمره، وإذا اشتدت بها الحاجة خدمت الناس من أجله.

واستمر به هذا البلاء سبع سنين، فلم يضق صدره عليه السلام ولم يتململ من الضر، ولم يزد في دعاء ربه عن وصف حاله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ}، ووصف ربه بصفته: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]، ثم لا يدعو بتغير حاله صبرًا على بلائه، بل إنه ليتحرج أن يطلب إلى ربه رفع البلاء عنه، فيدع الأمر كله للعليم الخبير، اطمئنانًا على علمه بالحال، وثقة باستجابته في كشف ضره، فاستجاب الله له النداء، فكانت الرحمة وكانت نهاية الابتلاء، حيث رفع الله عنه الضر في بدنه فإذا هو معافى صحيح، قد زال عنه ما مسه وأهمه، ورفع عنه الضر في أهله فعوضه الله عمن فقد منهم ورزقه مثلهم.

يقول عز وجل: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)} [الأنبياء: 83- 84].

وهذا نبي الله يعقوب عليه السلام امتحن أولًا- على كبر سنه ورقة عظمه- بفقد مهجة فؤاده وأحب أبنائه إليه يوسف عليه السلام، إذ كاد له إخوته وطرحوه في الجب، وجاءوا إلى أبيهم بدم كذب كدليل مقنع بأن الذئب أكله.

ولم يكن الفراق بين يعقوب وابنه كأي فراق آخر بين حبيبين يعرف كلاهما أين يقيم صاحبه، ويرجو أن ينتهي الفراق يومًا ما بلقاء قريب، وإنما كان فراقًا بعد مؤامرة انتهى إلى انقطاع كلي بين الابن وأبيه، كما لم تكن هذه المؤامرة من غرباء موتورين، وإنما كانت كيدًا من إخوة لأخيهم، وكذبًا من أبناء على أبيهم، علمه الوالد الحنون في قرارة نفسه، فقال صابرًا محتسبًا: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18].

ثم امتحن ثانيًا بفقد ابنه الآخر، الشقيق الأصغر ليوسف وهو بنيامين، فقال كما قال في المرة الأولى: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}، ورجا ربه بلسان صادق وقلب ينتظر فرج الله ولطفه وعونه: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 83].

واشتد به الحزن وأخذ منه الأسى كل مأخذ، فقد هاج فقد ولده الثاني -بنيامين- ذكرى فقد ولده الأول -يوسف- والأسى يبعث الأسى.

ثم امتحن ثالثًا بفقد بصره، حيث ابيضت عيناه من شدة الحزن، فهو كئيب حزين ساكت لا يشكو أمره إلى مخلوق، مما حدا بأبنائه إلى الشفقة عليه، فقالوا: -رفقًا به- لا تكاد تفارق ذكر يوسف حتى تضعف قواك أو تهلك، فقال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وحده، فهو الذي يكشف الضر ويجيب دعاء المضطر، وإليه المشتكى وبيده إجابة الدعاء (6).

وفي هذا يقول عز وجل: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)} [يوسف: 84 - 86].

وانتهى به الحال بعد سنين من الصبر والتحمل إلى كشف الضر عنه، حيث رد الله إليه بصره، وجمعه بابنيه المفقودين، واستقر به المقام مع أهله بمصر آمنين من الجهد والقحط.

فإذا علم المصاب أنه لو فتش العالم، لم ير فيهم إلا مبتلى، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، فسرور الدنيا أحلام نوم، أو كظل زائل، إن أضحكت قليلًا أبكت كثيرًا، وإن سرت يومًا ساءت دهرًا، وإن متعت قليلًا منعت طويلًا، وما ملأت دارًا حبرةً إلا ملأتها عبرةً وما حصلت للشخص في يوم سرورًا، إلا خبأت له في يوم شرورًا.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لكل فرحة ترحة، وما ملئ بيت فرحًا إلا ملئ ترحًا.

وقال ابن سيرين: ما كان ضحك قط إلا كان بعده بكاء (7).

فليعلم العبد أن فوت ثواب الصبر والتسليم هو الصلاة والرحمة والهداية في قوله تعالى: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 156- 157] (8).

مما يسلي أهل المصائب أن المصاب إذا صبر واحتسب وركن إلى كريم، رجاء أن يخلف الله تعالى عليه، ويعوضه عن مصابه، فإن الله تعالى لا يخيبه بل يعوضه، فإنه من كل شيء عوض إلا الله تعالى فما منه عوض كما قيل.

من كل شيءٍ إذا ضيعته عوضٌ وما من الله إن ضيعته عوضُ بل يعلم أن حظه من المصيبة ما يحدثه له، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط، فاختر لنفسك خير الحظوظ أو شرها، فإن أحدثت لك سخطًا وكفرًا كنت في ديوان الهالكين، وإن أحدثت لك جزعًا وتفريطًا في ترك واجب أو فعل محرم كنت في ديوان المفرطين، وإن أحدثت لك شكايةً وعدم صبر ورضى كنت في ديوان المغبونين، وإن أحدثت لك اعتراضًا عليه وقدحًا في حكمته ومجادلة في الأقدار، فقد قرعت باب الزندقة، وفتح لك وولجته، فأحذر عذاب الله يحّل بك، فإنه لمن خالفه بالمرصاد.

وإن أحدثت لك صبرًا وثباتًا لله كنت في ديوان الصابرين، وإن أحدثت لك رضى بالله ورضى عن الله وفرحًا بقضائه كنت في ديوان الراضين، وإن أحدثت لك حمدًا وشكرًا كنت في ديوان الشاكرين الحامدين، وإن أحدثت لك محبة واشتياقًا إلى لقائه كنت في ديوان المحبين المخلصين (9).

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط» (10)، فأنفع الأدوية للمصاب موافقة ربه وإلهه فيما أحبه ورضيه له، وإن خاصية المحبة وسرها موافقة المحبوب، فمن ادعى محبة محبوب ثم سخط ما يحبه، وأحب ما يسخطه فقد شهد على نفسه بكذبه، وأسخط عليه محبوبه.

وقال قتادة: قال لقمان وقد سأله رجل: أي شيء خيرًا؟ قال: صبرٌ لا يتبعه أذى، قال: بأي الناس خيرًا؟ قال: الذي يرضى بما أوتي، قال: فأي الناس أعلم؟ قال: الذي يأخذ من علم الناس إلى علمه، قيل: فما خير الكنز من المال أو من العلم؟ قال: سبحان الله، بل المؤمن العالم الذي ابتغى عنده خيرًا وجد، وإن لم يكن عنده كف نفسه، وبحسب المؤمن أن يكف نفسه (11).

وكان الصالحون يفرحون بالشدة لما يرجون من ثوابها (12).

والشكر لله جل وعلا شكرٌ باللسان وبالعمل، وأما من شكر بلسانه ولم يشكر بجميع أعضائه؛ فمثله كمثل رجل له كساء فأخذ بطرفه ولم يلبسه، فما ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج المطر (13).

يبين إيمان المؤمن عند الابتلاء، فهو يبالغ في الدعاء ولا يرى أثرًا للإجابة، ولا يتغير أمله ورجاؤه، ولو قويت أسباب اليأس، لعلمه أن الحق أعلم بالمصالح، أو لأن المراد منه الصبر أو الإيمان، فإنه لم يحكم عليه بذلك إلا وهو يريد من القلب التسليم لينظر كيف صبره، أو يريد كثرة اللجأ والدعاء، فأما من يريد تعجيل الإجابة ويتذمر إن لم تتعجل، فذاك ضعيف الإيمان، يرى أن له حقًا في الإجابة، وكأنه يتقاضى أجرة عمله.

أما سمعت قصة يعقوب عليه السلام: بقي ثمانين سنة في البلاء ورجاؤه لا يتغير، فإياك أخي أن تستطيل زمان البلاء، وتضجر من كثرة الدعاء، فإنك مبتلى بالبلاء متعبد بالصبر والدعاء، ولا تيأس من روح الله وإن طال البلاء (14).

عزى ابن السماك رجلًا فقال: عليك بالصبر فإنه يعمل من احتسب، وإليه يصير من جزع (15).

ومن المصائب استطالة الناس وتعرضهم وكثرة قيلهم وقالهم.. استطال رجل على أبي معاوية الأسود فقال له رجل: مه، فقال أبو معاوية: دعه يتشفى ثم قال: اللهم اغفر الذنب الذي سلطت عليّ به هذا.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من زهد في الدنيا هانت عليه المصائب، ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات (16).

اشتكى ابن أخي الأحنف بن قيس وجع ضرسه فقال له الأحنف: لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة ما ذكرتها لأحد (17).

قال الفضيل: إذا أحب الله عبدًا أكثر غمه، وإذا أبغض عبدًا وسع عليه دنياه (18).

واعلم أخي: أن الزمان لا يثبت على حال كما قال عز وجل: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]، فتارة فقر، وتارة غنى، وتارة عز، وتارة ذل، وتارة يفرح الموالي، وتارة يشمت الأعادي، فالسعيد من لازم أصلًا واحدًا على كل حال وهو تقوى الله (19).

ذكر أبو الفرج ابن الجوزي في المصائب المختصة بذات الإنسان.. قال: رأيت جمهور الناس إذا طرقهم المرض أو غيره من المصائب اشتغلوا تارة بالجزع والشكوى، وتارة بالتداوي إلى أن يشتد عليهم، فيشغلهم اشتداده عن الالتفات إلى الصالح من وصية، أو فعل خير، أو تأهب للموت، فكم ممن له ذنوب لا يتوب منها، وعنده ودائع لا يردها، أو عليه دين أو زكاة، أو في ذمته ظلامة لا يخطر له تداركها، وإنما حزنه على فراق الدنيا، إذ لا هم له سواها، وربما أفاق وأوصى بجور (20).

فينبغي للمتيقظ أن لا يتأسف على ما فات، وأن يتأهب في حال الصحة قبل هجوم المرض، فربما ضاق الوقت عن عمل واستدراك فارط، أو وصية، فإن لم تكن له وصية في صحته فليبادر في مرضه، وليحذر الجور في وصيته، فإنه من المحرمات، فإنه يمنع المستحق ويعطي من لا يستحق، فيحتاج أن يحارب نفسه وشيطانه، وليعلم أن هذا الواقع من المصائب في نفسه وماله وولده، وقع برضى مالكه وخالقه، فيجب على العبد أن يرضى بما يرضى به السيد، ويعاقب نفسه إذا جزعت، ويقول لها: أما علمت أن هذا لا بد منه، فما وجه الجزع، وإنما هي ساعة كأن لم يكن ما كان، ومن تلمح العواقب هان عليه مرارة الدواء. وعن أبي محمد الحريري قال: حضرتُ عند الجنيد قبل وفاته بساعتين، فلم يزل تاليًا وساجدًا، فقلت له: يا أبا القاسم قد بلغ ما أرى من الجهد، فقال: يا أبا محمد، أحوج ما كنت إليه هذه الساعة، فلم يزل كذلك حتى فارق الدنيا (21).

لم يجزع على الدنيا إلا بقدر فوات العمر بدون طاعة، فإن دنا حبًا للدنيا أشدنا جزعًا عند المصيبة.

وقال إسماعيل بن عمرو: دخلنا على ورقاء بن عمر وهو في الموت، فجعل يهلل ويكبر ويذكر الله عزّ وجل، وجعل الناس يدخلون عليه ويسلمون عليه فيرد عليهم السلام، فلما كثروا عليه أقبل على ابنه فقال: يا بُني، اكفني رد السلام على هؤلاء لا يشغلوني عن ذكر ربي عزّ وجل (22).

وقال عمر بن عبد العزيز: ما أحب أن يُهوَّنَ علي في سكرات الموت فإنه آخر ما يكفر عن المرء المسلم (23).

قال إبراهيم بن داود: قال بعض الحكماء: إن لله عبادًا يستقبلون المصائب بالبشر، قال: أولئك الذين صفت من الدنيا قلوبهم (24).

ينبغي للمصاب بنفسه أو بولده أو بغيرهما، أن يجعل في المرض مكان الأنين ذكر الله تعالى والاستغفار والتعبد، فإن السلف رحمهم الله تعالى كانوا يكرهون الشكوى إلى الخلق، سأل رجل أبا بكر بن عبد الله، فقال: ما تمام النعمة؟ قال: أن تضع رجلًا على الصراط ورجلًا في الجنة (25).

قال الحسن: وذكر الوجع.. أما والله ما هو بشر أيام المسلم أيام نورت له فيها مراحله، وذكر فيها ما نسي من معاده، وكفر بها عنه خطاياه (26).

قال أبو مسعود البلخي: من أصيب بمصيبة فمزق ثوبًا أو ضرب سدرًا فكأنما أخذ رمحًا يريد أن يقاتل به ربه عزّ وجل (27).

إن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيرًا من أهل الإيمان في الدنيا من المصائب وما ينال كثيرًا من الكفار والفجار والظلمة في الدنيا من الرياسة والمال، وغير ذلك، فيعتقد أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا للكفار والفجار، وأن المؤمنين حظهم من النعيم في الدنيا قليل، وكذلك قد يعتقد أن العزة والنصرة في الدنيا تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين.. فإذا سمع في القرآن قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، وهي وإن كان فيها راحة إلا إنها تدل على ضعف وخور، والصبر عنها دليل قوة وعز، وهي إشاعة سر الله تعالى عند العبد، وهي تؤثر شماتة الأعداء ورحمة الأصدقاء.

لا تشكون إلى صديق حالة تأتيك في السراء والضراء فلرحمة المتوجعين مرارةٌ في القلب مثل شماتة الأعداء (28)، قال عون بن أبي جحيفة الكوفي: الإنسان إن سقم ندم، وإن صح أمن، وإن استغنى فتن، وإن افتقر حزن (29).

وعندما سئل الأحنف بن قيس: ما الحلم؟ قال: أن تصبر على ما تكره قليلًا (30).

وصدق والله فهو وقت قليل ثم يزول.. سحابة صيف وتنقشع ولو تأملت ما جرى لك من المصائب والآفات لرأيت كيف طواها النسيان، فإن احتسبتها فقد بقيت لك حسناتها وأجر صبرها، وإلا فقد سليت كما تسلو البهائم (31).

يا من أصابه هم وحزن وغم، إلى كل مريض ومبتلى في نفسه أو في أهله أو في ماله، يا فاقد عزيزٍ وصديق...، تذكر قول الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]، وقوله تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 1- 3]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن السعيد لمن جُنِّب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواهًا» (32)، وقوله: فواهًا؛ أي: ما أحسنَ فعله!، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما يصيب المسلم من نصبٍ ولا وَصَبٍ ولا هم ولا حزنٍ ولا أذًى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه» (33)، الهمّ على المكروه في المستقبل، والحزن على الماضي، والغمّ على النازل بك المتلبس أنت به، والهمّ يسهر، والغمّ ينوم، والنصب التعب، والوصب المرض.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه، إلا الجنة» (34)، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنيًا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي» (35).

ولهذا نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن تتمنى الموت للضر الذي ينزل بك، ولكن قابل هذه المصائب بالصبر، والاحتساب، وانتظار الفرج، واعلم أن دوام الحال من المحال، والله عزَّ وجلَّ يقدَّر الليل والنهار، ويخلف الأمور على وجه لا يحتسبه الإنسان ولا يظنه؛ لأن الله إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون، فلا تتمن الموت لضرّ نزل بك.

فوائد الشدائد:

الشدائد التي تصيب المسلم في حياته بشتى الصور، لا بد لها من فوائد فبالرغم من أنها مكروهة للنفس، إلا أن الله يكفر بها الخطايا، ويرفع بها الدرجات، كما أن الكرب يدفع بالمكروب إلى التوبة، فيلجأ إلى الله وينكسر بين يديه، وهذا الانكسار أحب إلى الله من كثير من العبادات، فما أجمل أن ينكسر المخلوق لله، ويشعر بذلة أمامه، ويشعر بحاجته إليه وافتقاره إلى خالقه، فينقطع إلى الخالق ويترك المخلوق، وهنا يتحقق التوحيد وينتفي من أدران الشرك بأنواعها، ويخلص الإنسان لربه، وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعية إذا نزل بنا الكرب، واشتدت الأمور، وضاقت علينا الأرض بما رحبت، فقد جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  كان يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم» (36).

عن أنس بن مالك، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر قال: «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث» (37).

وقال عليه الصلاة والسلام لأسماء بنت عُميس: «ألا أعلمك كلمات تقولهن عند الكرب: الله ربي لا أشرك به شيئًا» (38).

-----------

(1) أخرجه الطبراني (14096).

(2) أخرجه البخاري (1301).

(3) شرح صحيح البخاري لابن بطال (3/ 284).

(4) أخرجه مسلم (918).

(5) تسلية أهل المصائب (ص: 13- 14).

(6) الصبر في القرآن (ص: 68).

(7) الآداب الشرعية والمنح المرعية (2/ 188).

(8) تسلية أهل المصائب (ص: 15).

(9) تسلية أهل المصائب (ص: 41).

(10) أخرجه الترمذي (2396).

(11) عدة الصابرين (ص: 126).

(12) تنبيه الغافلين (ص: 124).

(13) عدة الصابرين (ص: 172).

(14) صيد الخاطر (ص: 552).

(15) عدة الصابرين (ص: 129).

(16) تسلية أهل المصائب (ص: 245).

(17) صفة الصفوة (3/ 119).

(18) سير أعلام النبلاء (8/ 432).

(19) صيد الخاطر (ص: 170).

(20) تسلية أهل المصائب (ص: 35).

(21) تسلية أهل المصائب (ص: 36).

(22) نفس المصدر.

(23) تسلية أهل المصائب (ص: 37).

(24) المصدر السابق (ص: 23).

(25) الشكر (ص: 54).

(26) عدة الصابرين (ص: 119).

(27) إحياء علوم الدين (4/ 139).

(28) تسلية أهل المصائب (ص: 36).

(29) الزهد لابن أبي عاصم (ص: 37).

(30) عدة الصابرين (ص: 125).

(31) مما يسلي أهل المصائب/ إسلام أون لاين.

(32) أخرجه أبو داود (4263).

(33) أخرجه البخاري (5641).

(34) أخرجه البخاري (6424).

(35) أخرجه مسلم (2680).

(36) أخرجه البخاري (6346)، ومسلم (2730).

(37) أخرجه الترمذي (3524).

(38) أخرجه أبو داود (1525)