logo

البصيرة الدينية


بتاريخ : السبت ، 8 ربيع الأول ، 1445 الموافق 23 سبتمبر 2023
بقلم : تيار الاصلاح
البصيرة الدينية

البصيرة الدينية هي الأمر الكاشف الذي يعرف الإنسان به ربه تبارك وتعالى معرفةً صحيحة، ويعرف به الطريق الموصل إليه، وهو ما شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام، وبه يعرف الدار التي يصير الناس إليها.

والتبصر: هو التمهُّل والأناة في تبين الأمور وكشفها، والسير في علاجها على بصيرة ورشد، والتبصر بهذا المعنى هو خلُق حث عليه القرآن، وطلب من المسلم أن يكون صاحبَ تفكر وتدبُّر وتمهل، وألا تغُره المظاهر، بل يحاول أن يستنبط حقائق الأمور، ويستدل بالعلامات والإرشادات على النتائج والغايات، فيكون له ذلك مرشدًا يهديه، وقائدًا يقود قلبه وعقله إلى سواء السبيل؛ قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 104]، وقال أيضًا: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]، فإذا هم أهل بصيرة وعلم وتدبر وتفكر، فلا يقبلون لأنفسهم طاعة الشيطان ولا التأثر بوسواسه، ويتفطَّنون لمداخله فيفرون منها.

قال ابن القيم: فالبصيرة معناها نور يقذفه الله في القلب، يرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل، كأنه يشاهده رأي عين، فيتحقق مع ذلك انتفاعه بما دعت إليه الرسل، وتضرره بمخالفتهم، وهذا معنى قول بعض العارفين: البصيرة تحقق الانتفاع بالشيء والتضرر به، وقال بعضهم: البصيرة ما خلصك من الحيرة، إما بإيمان وإما بعيان (1).

والبصائر جمع بصيرة، وهي فعيلة بمعنى فَاعلة، والبصيرة مأخوذة من البصر، وهو العين، فكأن صاحب البصائر قد بلغ من المعرفة العقلية، والنظر الفكري، والحكمة الثاقبة حدًا يصل إلى درجة المشاهد المحسوس، فانظر إلى جمال هذا المصطلح القرآني (البصائر)، فإنه يغلب على الظن أنه من مبتكرات القرآن، وهو يبني نفوس بني الإنسان، ويمكن تلخيص أبرز الحقائق التي نفهمها من هذه الكلمة القرآنية في الآتي:

الحقيقة الأولى: البصيرة تدل على المعرفة الراسخة التي تؤدي إلى التمييز بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، والرشاد والغي، وهذه المعرفة الراسخة تبنى على مصدرين أساسيين:

المصدر الأول: معرفة النصوص الشرعية معرفة واعية:

فكيف يكون مبصرًا أو مفكرًا أو منظرًا أو قائدًا من عشيت عينه عن النصوص الشرعية، أو لم يستطع عقله استيعابها، أو عمي فؤاده عن مراجعتها؟، وقد بين الله ذلك جليًا فِي قَوْله {أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108]، دعوة تخاطب الكينونة البشرية بجملتها، ولا تخاطب فيها جانبًا واحدًا من قواها المدركة.. جانب الفكر والذهن، أو جانب الإلهام والبصيرة، أو جانب الحس والشعور..

وهذا القرآن ينبغي أن يكون هو كتاب هذه الدعوة، الذي يعتمد عليه الدعاة إلى الله، قبل الاتجاه إلى أي مصدر سواه، والذي ينبغي لهم بعد ذلك أن يتعلموا منه كيف يدعون الناس، وكيف يوقظون القلوب الغافية، وكيف يحيون الأرواح الخامدة.

إن الذي أوحى بهذا القرآن هو الله، خالق هذا الإنسان، العليم بطبيعة تكوينه، الخبير بدروب نفسه ومنحنياتها.. وكما أن الدعاة إلى الله يجب أن يتبعوا منهج الله في البدء بتقرير ألوهية الله سبحانه وربوبيته وحاكميته وسلطانه فإنهم كذلك يجب أن يسلكوا إلى القلوب طريق هذا القرآن في تعريف الناس بربهم الحق- على ذلك النحو- كيما تنتهي هذه القلوب إلى الدينونة لله وحده، والاعتراف بربوبيته المتفردة وسلطانه (2).

ولم يتركنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم هملًا عن إدراك خطورة هذه الحقيقة حيث قال -فيما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما-: «إن اللَّه لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» (3)، كما حذر صلى الله عليه وآله وسلم تحذيرًا بليغًا من التافهين الذين يتصدرون للكلام في أمور العامة، قال الشعبي: لا تقوم الساعة حتى يصير العلم جهلًا، والجهل علمًا، وهذا كله من انقلاب الحقائق في آخر الزمان وانعكاس الأمور (4).

 

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: «سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة»، قيل: وما الرويبضة؟ قال: «الرجل التافه يتكلم في أمر العامة» (5).

فأعظم مصدرٍ للبصيرة هي الشريعة المطهرة التي يشكل القرآن الكريم عمادها، ولا يمكن أن تسمى البصيرة بصيرةً مطلقًا إلا إذا كانت مستمدةً من شريعة الله النيرة، كما قال ابن كثير: وقَوله: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي: على بصيرة من شريعة اللَّه التي أوحاها إليّ (6).

والبصائر القرآنية تبني حياة الأمة، وتعيد لها مجدها، وتحقق لها الفلاح والانتصارات النهضوية؛ فالقرآن هو الذي تضمن البصائر المجيدة التي تحقق الانتصارات في المجالات الشخصية، والتحديات الحياتية الأسرية والمجتمعية، فمن أبصر الحياة من خلال هذه البصائر رجع ذلك بالنفع الحقيقي لنفسه، وكانت البصائر القرآنية مصدر سعادته وراحته وطمأنينته وأنسه، والله يبين ذلك بأجمل عبارةٍ فيقول: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 104]، قال ابن كثير: البصائر: هي البينات والحجج التي اشتمل عليها القرآن، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم (7).

 

إنها البصائر: لا يمكن للأفراد الرؤية بدونها، ولا يمكن للأمة بدونها إدراك كيفية البناء، ولا تحديد ماهية الأعداء، ولا كيفية مواجهة الاعتداء، ولا التفوق في تحديات السلم والحرب والرخاء، أو الشدة والبأساء، فإذا لم تدرك الأمة بصائر القرآن سارت على عمى فسقطت في الـحُفَر، أو وقعت أسيرة المنعطفات والمنزلقات والمنحدر، ومن عَمِيَ عن حقائق البصائر يقع في الحفائر، وتتناوشه الآلام والمخاطر.

 

فهذا الذي جاء من عند الله.. بصائر.. والبصائر تهتدي وتهدي.. وهذا بذاته.. بصائر.. تهدي، فمن أبصر فلنفسه فإنما يجد الهدى والنور، وليس وراء ذلك إلا العمى، فما يبقى على الضلال بعد هذه الآيات والبصائر إلا أعمى.. معطل الحواس، مغلق المشاعر، مطموس الضمير (8).

 

فالبصائر: جمع بصيرة، وهي للقلب بمنزلة البصر للعين، فهي النور الذي يبصر به القلب، كما أن البصر هو النور الذي تبصر به العين.

 

والمراد بها آيات القرآن ودلائله التي يفرق بها بين الهدى والضلالة، أي: قد جاءكم أيها الناس من ربكم وخالقكم هذا القرآن بآياته وحججه وهداياته لكي تميزوا بين الحق والباطل، وتتبعوا الصراط المستقيم.

 

وإطلاق البصائر على هذه الآيات من إطلاق اسم المسبب على السبب.

 

وقوله: {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها} أي: فمن أبصر الحق وعلمه بواسطة تلك البصائر وآمن به فلنفسه أبصر وإياها نفع، ولسعادتها ما قدم من ألوان الخير، ومن عمى عن الحق وجهله بإعراضه عن هذه البصائر فعلى نفسه وحدها جنى وإياها ضرب العمى (9).

 

المصدر الثاني: معرفة حقائق الأحداث الواقعة، وليس الاكتفاء بقشرة بريقها ومظهرها:

فالبصيرة –كما يقرر الخليل-: نفاذ في القلب، ونورٌ مضيء فيه يمكنه من الاستبصار بحقائق الواقع، أي رؤيتها على حقيقتها، واتخاذ القرارات بناء على ذلك، وبهذه البَصيرة يتمكن من الاستفادة من المعطيات الماضية لتقرير الأعمال الحالية، فقد قالوا: البصيرة: العبرة، يقال: أما لك بصيرةٌ في هذا؟ أي عبرة تعتبر بها، ومن ذلك القول المنسوب لقس الإيادي:

في الذاهبين الأولين     من القرون لنا بصائر

 

وبذا فلا بد أن يكون عند صاحب البصيرة معرفةٌ بالحوادث الماضية على حقيقتها ليعتبر بها، ويبني رؤاه وقراراته في الأحداث الحاضرة عليها، وهذا الذي ذكره الله تعالى في كثيرٍ من المواضع كقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام: 11]، {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62]، وبناء على ذلك فإن البصائر تعطي الدراسات الأولية التي تبنى عليها الخطوات التنفيذية.

 

الحقيقة الثانية: أهم لوازم المعرفة الراسخة وجود الحجة الواضحة عند اتخاذ القرارات أو بناء المواقف:

فمعنى قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108]، أي: أدعو إلى الله ببصيرة متمكنًا منها.. والبصير: صاحب الحجة لأنه بها صار بصيرًا بالحقيقة، ومثله وصف الآية بمبصرة في قَوله: {فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً} [النمل: 13]، وبعكسه يوصف الخفاء بالعمى كقوله: {وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} [هود: 28]، أي عميت عليكم الرسالة والهداية فلم تفهموها، وهذا يقتضي أن يمتلك الإنسان البصير حجةً واضحةً من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة، وأن يترك التقليد الدال على الضعف والجمود وعدم التفاعل الصحيح مع المواقف، لأن البصيرة المعرفة التي يتميز بها الحق من الباطل دينًا ودنيا بحيث يكون كأنه يبصر المعنى بالعين.

 

وهذا يقتضي العمل على تنمية البصيرة بكثرة مراجعة مصدر الإبصار (القرآن والسنة) مع التدريب العملي على فقه الواقع وفق فقه النص، وكذلك لا بد من العمل على الاستكثار من المستبصرين أي الإكثار من الدراسين والمراجعين لمصدر الإبصار (النص الشرعي) وتطبيقاته في الواقع (الفقه الواقعي).

 

الحقيقة الثالثة: تتفاوت البصيرة بين أصحابها:

فالبصيرة كالبصر في التفاوت، فكما أن الرؤية تتفاوت فكذلك البصيرة، ومن ذلك قوله تعالى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]، فقد يكون أحدهم أقوى إبصارًا، وقد يكون غيره أعظم بصيرةً، وذلك يرجع إلى كثرة مزاولة الشيء الذي تُستمد منه البصيرة وهو القرآن الكريم مع ما يفتح الرحمن للإنسان من الفهم والرأي والإدراك، ومن ذلك قوله تعالى: {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} [طه: 96]، فَالمعنى: علمت ما لم يعلموه وفطنت لما لم يفطنوا له، فبصر بالشيء حقيقَته صار بصِيرا به أو بصيرًا بسببه، أي شديد الإِبصار، فهو أقوى من أبصرت، لأنه صيغ من فعل- بضم العين- الذي تشتق منه الصفات المشبهة الدالة على كون الوصف سجية، قَال تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} [الْقَصَص: 11]، أي رأته من بعيد كالمعرضة عنه، تنظر إليه وكأنها لا تريده وهم لا يشعرون بأنها أخته جاءت لتعرف خبره، فـ(بَصُرَ) هنا تدل على معرفتها المؤكدة لما حدث في قصر فرعون.

 

الحقيقة الرابعة: البصيرة شرط في الدعوة:

فهي شرط في بناء الحقائق الإيمانية في النفس والأسرة، وشرط في بناء الحقائق الإيمانية في المجتمع والحياة كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَن} [يوسف: 108]، وهذا يدل على أن الدعاء إلى الله تعالى إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط؛ وهو أن يكون على بصيرة مما يقول، وعلى هدى ويقين، فإن لم يكن كذلك فهو محض الغرور.

 

فالبصيرة بذلك تقتضي التنوير العقلي كما تعني الاستمداد الشرعي، فقد قال ابن كثير في معنى قوله تعالى: {عَلَى بَصِيرة}: هو وكل من اتبعه، يدعو إلى ما دعا إليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على بصيرة ويقين وبرهان شرعي وعقلي (10).

 

وبهذا فالبصيرة تقتضي معرفة الأمور الشرعية المناسبة للمعالجة الواقعية على حقيقتها، وليس الأوهام والتخليطات مما تجره أفكار ذوي الأسقام، فهي اسم لِما اعتُقِدَ في القلب من الدِّين وتحَقيق الأمر.

 

الحقيقة الخامسة: البصيرة تؤدي إلى اليقين المطمئن عند اتخاذ القرارات:

فقد قال الطبري في قوله تعالى: {عَلَى بَصِيرَةٍ}: أي بذلك، ويقينِ عليمٍ مني به أنا، ويدعو إليه على بصيرة أيضًا من اتبعني وصدقني وآمن بي (11)، وهذا اليقين الذي كان مفتاحه البصيرة يؤدي إلى عدم الجزع من تبعات القرارات التي يتخذها المرء ما دامت البصيرة موجودة، فإذا ترتب على القرار ضياع خيرٍ مظنون فلن تلعب بصاحب البصيرة الظنون؛ فقد اتخذ القرار على بصيرة، وإذا ترتب على القرار ابتلاء بالمواجهة أو الفقد للأحباب فلن يستهلك الجزع الأصحاب؛ لأن القرار كان على بصيرة.

 

الحقيقة السادسة: وجود البصائر ليس كافيًا لتحريك الضمائر:

للأسف! فالبصيرة لا تقتضي الالتزام بمقتضيات ما يراه البصر، فقد يرى المرء الشيء على حقيقته ولكنه يصر على مخالفته لتملك شهوته له، أو لانحلال عزيمته، وضعف إرادته، واتباعه لغيه، ونبذه لرشده.. فقلب الطرف لتعتبر بأقوامٍ وصفهم الله بذلك فقال عنهم: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38]، نعم كانوا مستبصرين بمعنى أنهم كانوا عارفين بواقعهم وحقائق ما حولهم ولكنهم لم يقوموا بمقتضيات ذلك.. فهم كانوا –كما يقول الزمخشري-: عقلاء متمكنين من النظر والافتكار، ولكنهم لم يفعلوا، أو كانوا متبينين أن العذاب نازلٌ بهم لأن الله تعالى قد بين لهم على ألسنة الرسل عليهم السلام، ولكنهم لجوا حتى هلكوا (12).

 

يا لضعف الإرادة وتملك شهوة البغي عند الناس، ووحل الكبر الذي يكسوا العباد بالأدناس.. هؤلاء كانت لهم عقول، وكانت أمامهم دلائل الهدى؛ ولكن الشيطان استهواهم وزين لهم أعمالهم، وأتاهم من هذه الثغرة المكشوفة، وهي غرورهم بأنفسهم، وإعجابهم بما يأتونه من الأعمال، وانخداعهم بما هم فيه من قوة ومال ومتاع {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} سبيل الهدى الواحد المؤدي إلى الإيمان، وضيع عليهم الفرصة {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}.

 

إنها بصائر القرآن تنير الدروب لبني الإنسان، وتأخذ بيد الحيران إلى المكان الذي يجد فيه السكينة والاطمئنان، إلا أن شرطها ليجد الإنسان نورها، ويشعر بحلاوتها صدق الإيمان، وتربية النفس على قوة الإيقان.. فخذ ذلك في قوله -تعالى ذكره-: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 20] (13).

 

درجات البصيرة:

والبصيرة على ثلاث درجات، من استكملها فقد استكمل البصيرة: بصيرة في الأسماء والصفات، وبصيرة في الأمر والنهي، وبصيرة في الوعد والوعيد.

   

فالبصيرة في الأسماء والصفات: ألا يتأثر إيمانك بشبهة تعارض ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله، بل تكون الشبه المعارضة لذلك عندك بمنزلة الشبه والشكوك في وجود الله، فكلاهما سواء في البلاء عند أهل البصائر.

 

وعقد هذا: أن يشهد قلبك الرب تبارك وتعالى مستويًا على عرشه، متكلمًا بأمره ونهيه، بصيرًا بحركات العالم علويه وسفليه، وأشخاصه وذواته، سميعًا لأصواتهم، رقيبًا على ضمائرهم وأسرارهم، وأمر الممالك تحت تدبيره، نازل من عنده وصاعد إليه، وأملاكه بين يديه تنفذ أوامره في أقطار الممالك، موصوفًا بصفات الكمال، منعوتًا بنعوت الجلال، منزهًا عن العيوب والنقائص والمثال، هو كما وصف نفسه في كتابه، وفوق ما يصفه به خلقه، حي لا يموت، قيوم لا ينام، عليم لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.

 

وتفاوت الناس في هذه البصيرة بحسب تفاوتهم في معرفة النصوص النبوية وفهمها، والعلم بفساد الشبه المخالفة لحقائقها.

 

وتجد أضعف الناس بصيرة أهل الكلام الباطل المذموم الذي ذمه السلف، لجهلهم بالنصوص ومعانيها، وتمكن الشبه الباطلة من قلوبهم، وإذا تأملت حال العامة الذين ليسوا مؤمنين عند أكثرهم رأيتهم أتم بصيرة منهم، وأقوى إيمانًا، وأعظم تسليمًا للوحي، وانقيادًا للحق.

 

المرتبة الثانية من البصيرة: البصيرة في الأمر والنهي، وهي تجريده عن المعارضة بتأويل، أو تقليد، أو هوى، فلا يقوم بقلبه شبهة تعارض العلم بأمر الله ونهيه، ولا شهوة تمنع من تنفيذه وامتثاله والأخذ به، ولا تقليد يريحه عن بذل الجهد في تلقي الأحكام من مشكاة النصوص.

 

وقد علمت بهذا أهل البصائر من العلماء من غيرهم.

 

المرتبة الثالثة: البصيرة في الوعد والوعيد: وهي أن تشهد قيام الله على كل نفس بما كسبت في الخير والشر، عاجلًا وآجلًا، في دار العمل ودار الجزاء، وأن ذلك هو موجب إلهيته وربوبيته، وعدله وحكمته، فإن الشك في ذلك شك في إلهيته وربوبيته، بل شك في وجوده، فإنه يستحيل عليه خلاف ذلك، ولا يليق أن ينسب إليه تعطيل الخليقة، وإرسالها هملًا، وتركها سدى، تعالى الله عن هذا الحسبان علوًا كبيرًا (14).

 

وبناء على ذلك صارت بصائر الناس في هذا النور الباهر تنقسم ثلاثة أقسام:

 

القسم الأول: مَن عَدِم البصيرة بالكلية، فصار في حال من العمى، فاضمحلت بصيرته، فهو في ظلمات، كما ذكر الله خبر المنافقين في سورة البقرة، في المثل المضروب لهم: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة: 19].

 

فهؤلاء لا يرون من هدايات القرآن، ومن أنواره، وإشراقاته إلا الظلمات، والرعد، والبرق، فهو يجعل أصبعه في أذنه من الصواعق، ويجعل يده على عينه من البرق خشية أن يخطف بصره.

 

فهو لا يجاوز نظره ما وراء ذلك من الرحمة، وأسباب الحياة الأبدية.

 

فهذا القسم أصحابه أولئك الذين لم يرفعوا لهذا الدين رأسًا، ولم يقبلوا هدى الله الذي هدى به عباده، ولو جاءتهم كل آية لما انتفعوا بها؛ لأنه سبقت لهم من الله الشقاوة.

 

وإنما فائدة إنذار هؤلاء هي إقامة الحجة عليهم.

 

القسم الثاني: هم أصحاب البصائر الخفاشية، البصائر الضعيفة، الذين أصابهم في بصائرهم شيء من الضعف لأسباب معلومة، فهؤلاء نسبة أبصارهم إلى هذا النور، والهدى الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كنسبة بصر هذا الإنسان الضعيف إلى هذه الأشياء التي نشاهدها من الأمور المتشخصة، التي نراها في هذه الدنيا.

 

فهؤلاء هم الذين نشأوا على دين الأسلاف، فدينهم دين العادة، الذين ورثوا ذلك وراثة من غير أن يكون لهم معرفة، وبصر، وقناعات، وعلم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

 

فإذا عرضت لهم الشبهات تزلزلوا، وحرّكتهم، وأورثهم ذلك ريبًا، وشكًا، وكان ذلك سببًا لارتكاسهم، وتراجعهم، وردتهم عن دينهم.

 

القسم الثالث: هم خلاصة هذا الوجود، وهم لباب بني آدم، وهم أولو البصائر النافذة، الذين عرفوا الحق بدلائله، فأبصروه على حقيقته، فهؤلاء هم الذين يثبتون إذا تواردت الشبهات، أو لاحت، وعرضت لهم الشهوات، لما عندهم من اليقين الثابت الكامل، الذي لا يتزعزعون معه حينما ترد مثل هذه الأمور التي تعصف بكثير من الناس، كما نشاهد في مثل هذه الأيام (15).

 

وسائل تحصيل البصيرة:

- صدق الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤتِكُم كِفلَينِ مِن رَّحمَتِهِ وَيَجعَل لَّكُم نُورًا تَمشُونَ بِهِ} [الحديد: 28]، يعني: هدى يتبصر به من العمى والجهالة، فهذا النور هبة لدنيه يودعها الله القلوب التي تستشعر تقواه، وتؤمن حق الإيمان برسوله، هبة تنير تلك القلوب فتشرق وترى الحقيقة من وراء الحجب والحواجز، ومن وراء الأشكال والمظاهر فلا تتخبط ولا يلتوي بها الطريق (16).

 

- العلم النافع بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنهُم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّـمُهُمُ الكِتَابَ وَالـحِكمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلالٍ مٌّبِينٍ} [الجمعة: 2].

 

 فالحكمة نور الأبصار، وموقظة القلوب من سِنَة الغفلة، ومنقذة للبصائر من سِنَة الحيرة، ومحيية لها بإذن الله من موت الجهالة، ومستخرجة لها من ضيق الضلالة، وهي صديقة العقل، وميزان العدل، وروضة الأرواح، ومزيحة الهموم عن النفوس، وأنس المستوحش، وأمن الخائف، ومتجر الرابح، وحظ الدنيا والآخرة.

 

ومن أحب أن يكون للأنبياء وارثًا وفي مزارعهم حارثًا فليتعلم العلم النافع، ففي الحديث: «العلماء ورثة الأنبياء» (17)، وليحضر مجالس العلماء فإنها رياض الجنة، ومن أحب أن يعلم ما نصيبه من عناية الله فلينظر ما نصيبه من الفقه في دين الله، ففي الحديث: «مَن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» (18)، وكفى بالجهل قبحًا أن صاحبه عدو للحق وأهله، قيل للحسين بن الفضل: هل تجد في القرآن: مَن جهل شيئًا عاداه؟ قال: نعم، في موضعين: {بَل كَذَّبُوا بِمَا لَم يُحِيطُوا بِعِلمِهِ} [يونس: 39]، وقوله تعالى: {وَإذ لَم يَهتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إفكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11].

 

- العمل بالعلم: فمن عمل بما علم رزقه الله علم ما لم يعلم، وحقيقة التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّـمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]، والتقوى تقود إلى نور البصيرة، قال تعالى: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجعَل لَّكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّر عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِر لَكُم وَاللَّهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ} [الأنفال: 29]، فإذا اتقى العبد ربه، وذلك باتباع أوامره واجتناب نواهيه وترك الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات، وشحن قلبه بالنية الخالصة وجوارحه بالأعمال الصالحة، وحفظ نفسه من شوائب الشرك الخفي والظاهر بمراعاة غير الله في الأعمال والركون إلى الدنيا بالعفة عن المال الحرام جعل له بين الحق والباطل فرقانًا، ورزقه فيما يريد من الخير إمكانًا.

 

عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «كيف أصبحت يا حارث؟» قال: أصبحت مؤمنًا حقًا، فقال: «انظر ما تقول؟ فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟» فقال: قد عزفت نفسي عن الدنيا، وأسهرت لذلك ليلي، واطمأن نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، فقال: «يا حارث عرفت فالزم» ثلاثًا (19).

 

- صدق اتباع السنة ظاهرًا وباطنًا: فالطريق إلى الله مسدود على خلق الله عز وجل إلا علـى المقتفين آثـار النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {لَقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وقليل في سنة خير من كثير في بدعة، وهذا يستلزم تعلم السنة، وتقديمها في الأصول والفروع على قول كل أحد وهديه، كما قال ابن القيم في شأن الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالقلب: سفر النفس في كل مسألة من مسائل الإيمان، وحادثة من حوادث الأحكام، ومنزلة من منازل القلوب إلى منبع الهدى، ومصدر النور المتلقي من فم الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فكل مسألة طلعت عليها شمس رسالته وإلا فاقذف بها في بحر الظلمات، وكل شاهد عدله هذا المزكي وإلا فعدّه من أهل الريب والتهمات (20).

 

- المداومة على ذكر الله عز وجل: فالذكر يورث حياة القلب، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟! (21)، وأشرف الذكر تلاوة القرآن وفهمه وتدبره، وبحسب نصيبك من القرآن يكون نصيبك من نور البصيرة، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن هذا القرآن مأدبة الله، فمن دخل فيه فهو آمن، وقال: من أحب القرآن فليبشر (22).

 

- كثرة العبادة: فمن أعظم الوسائل التي ينال بها العبد نصر الله وتأييده الاجتهاد في العبادة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنه» (23).

 

ومن أفضل العبادات الصلاة، فإنها خير موضوع، قال تعالى: {كَلَّا لَا تُطِعهُ وَاسجُد وَاقتَرِب} [العلق: 19]، وفي الحديث: «والصلاة نور» (24)، وفيه: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء» (25)، فكلما اقترب العبد من ربه رأى الأمور على حقيقتها، وقدرها حق قدرها، ووزنها بميزان الحق، وكلما أخلد إلى الأرض ولم يرتفع واتبع هواه التبس عليه الحق بالباطل وترك الحق، ومن خير العبادات أيضًا الصوم، فإنه نصف الصبر، وفي الحديث: «والصبر ضياء» (26).

 

- غض البصر وحفظ الفرج وتجنب الاختلاط المحرم: فغض البصر يلبس القلب نورًا، كما أن إطلاقه يلبسه ظلمة، ولهذا ذكر الله سبحانه آية النور عقيب الأمر بغض البصر: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشكَاةٍ فِيهَا مِصبَاحٌ الـمِصبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزٌّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوكَبٌ دُرِّيُّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مٌّبَارَكَةٍ زَيتُونَةٍ لَا شَرقِيَّةٍ وَلا غَربِيَّةٍ يَكَادُ زَيتُهَا يُضِيءُ وَلَو لَم تَمسَسهُ نَارٌ نٌّورٌ عَلَى نُورٍ يَهدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضرِبُ اللَّهُ الأَمثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35]، أي مثل نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه، وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل ناحية، كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان، ونور القلب يورث صاحبه فراسة صادقة يميز بها بين الحق والباطل، وكان شجاع الكرماني يقول: من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشبهات، واغتذى بالحلال لم تخطئ له فراسة (27)، وكان شجاع لا تخطئ له فراسة (28).

------------

(1) مدارج السالكين (1/ 143).

(2) في ظلال القرآن (4/ 2069).

(3) أخرجه البخاري (100)، ومسلم (2673).

(4) جامع العلوم والحكم (1/ 140).

(5) أخرجه ابن ماجه (4036).

(6) تفسير ابن كثير (3/ 264).

(7) تفسير ابن كثير (3/ 312).

(8) في ظلال القرآن (2/ 1167).

(9) التفسير الوسيط لطنطاوي (5/ 149).

(10) تفسير ابن كثير (4/ 422).

(11) تفسير الطبري (16/ 291).

(12) تفسير الزمخشري (3/ 454).

(13) قد جاءكم بصائر من ربكم/ موقع مقالات إسلام ويب.

(14) مدارج السالكين (1/ 144- 145).

(15) البصيرة في الدين/ الموقع الرسمي للشيخ خالد السبت.

(16) في ظلال القرآن (6/ 3496).

(17) أخرجه أحمد (6297).

(18) أخرجه ابن ماجه (3348).

(19) أخرجه الطبراني (3367).

(20) الرسالة التبوكية (ص: 31).

(21) الوابل الصيب (1/ 63).

(22) أخرجه الدارمي (3322)، (3323).

(23) أخرجه مسلم (6502).

(24) أخرجه مسلم (328).

(25) أخرجه مسلم (744).

(26) أخرجه مسلم (328).

(27) فيض القدير (2/ 515).

(28) نور البصيرة/ موقع مداد.