فن التأثير في المدعوين
الإنسان عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك، وغذاء العقل العلم، وغذاء القلب الحب، وغذاء الجسم الطعام والشراب، واللباس والمأوى، وما لم تراع في الخطاب الإسلامي مبادئ العقل، وما لم يتوجه إلى القلب، وما لم يحقق مصالح الإنسان الأساسية والمشروعة فلن ينجح الخطاب الإسلامي في امتلاك القدرة على التأثير في الآخرين، وحملهم على تغيير تصوراتهم، وقناعاتهم من جهة، ثم حملهم على تغيير سلوكهم وأنماط حياتهم من جهة أخرى، مع التأكيد على أن يكون هذا التغيير طوعًا لا كرهًا.
كل داعية ينبغي أن يكون عالمًا بأصول الدين وفروعه، وحقائقه المؤصلة المأخوذة من الكتاب والسنة، عالمًا بطبيعة النفس الإنسانية وخصائصها، عالمًا بالوسائل التربوية الفعالة في إحداث التغيير الحقيقي في النفس، وينبغي للداعية، أيضًا، أن يستوعب الثقافة العصرية بثوابتها ومتغيراتها، وبطبيعة العصر، وسرعة التطور، والقوى الفعالة، والموازين المعتمدة فيه؛ وإذا استثقل الداعية هذا الثمن الباهظ فينبغي ألا يغيب عنه أن الدعوة إلى الله هي أعظم عمل يتقرب به العبد إلى ربه، وأنها تقترب من صنعة الأنبياء، حيث يقول الله جل جلاله: {يَا أَيُهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (46)} [الأحزاب:45-46].
إن من أسباب قوة التأثير الموضوعية ربط الأهداف بالوسائل، وربط الأصالة بالحداثة، وربط الثوابت بالمتغيِّرات، وربط القديم بالحديث، وربط الإسلام بالحياة، فهو دين الفطرة، ودين الواقع، ودين العلم، ودين الوسطية التي جمعت بين الحاجات والقيم، وبين المبادئ والمصالح، وبين المادة والروح، وبين الدنيا والآخرة(1).
الأساليب التي تجعل الداعية يؤثر في الناس:
أولًا: محبة الآخرين والحرص على نفعهم:
وصف الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:128].
قال ابن سعدي رحمه الله: «يمنّ تعالى على عباده المؤمنين، بما بعث فيهم النبي الأمي الذي من أنفسهم، يعرفون حاله، ويتمكنون من الأخذ عنه، ولا يأنفون عن الانقياد له، وهو صلى الله عليه وسلم في غاية النصح لهم، والسعي في مصالحهم {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي: يشق عليه الأمر الذي يشق عليكم ويعنتكم {حَرِيصٌ عَلَيْكُم} فيحب لهم الخير، ويسعى جهده في إيصاله إليكم، ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان، ويكره لكم الشر ويسعى جهده في تنفيركم عنه {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} أي: شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم، ولهذا كان حقه مقدمًا على سائر حقوق الخلق»(2).
قال عمر بن الخطاب: «إنه لا حلم أحب إلى الله من حلم إمام ورفقه، ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه، ومن يعمل بالعفو فيما يظهر به تأتيه العافية، ومن ينصف الناس من نفسه يعطى الظفر في أمره، والذل في الطاعة أقرب إلى البر من التعزز بالمعصية»(3).
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»(4).
ثانيًا: مراعاة النظرة الواقعية للإنسان:
1- النظرة للإنسان من حيث تكوينه ولوازم ذلك: أي ننظر للإنسان نظرة واقعية بعيدة عن المثالية التي تقرب من الملائكة، وعن السافلية التي تقرب من البهيمية.
وما دام الإنسان هو المقصود بهذه الجهود فلا بد من معرفته قدر الاستطاعة؛ حتى يستطيع الداعية المصلح أن يتعامل مع هذا الإنسان تعاملًا سليمًا يحقق الأهداف المرجوة بأيسر الأمور، ومن غير إحداث ردود فعل عكسية، ومن غير تصرفات قد تعثر حركات التغيير والإصلاح، أو تحدث من الآفات الفكرية والنفسية ما هو أعظم مما أريد إصلاحه وتغييره.
قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72].
قال ابن تيمية رحمه الله: «فإن السيئات تهواها النفوس، ويزينها الشيطان، فتجتمع فيها الشبهات والشهوات، وفي قوله في آخر الآية: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النــور:31]، فوائد جليلة، منها:
أن أمره لجميع المؤمنين بالتوبة في هذا السياق تنبيه على أنه لا يخلو مؤمن من بعض هذه الذنوب التي هي ترك غض البصر، وحفظ الفرج، وترك إبداء الزينة، وما يتبع ذلك فمستقلّ ومستكثر.
كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون»(5)، وفي الإنسان الاستئثار والظلم، وفيه الجهل والحب والكره، وفيه الميل إلى العلو والسيطرة والرئاسة، وهذه الأمور يقع لكل واحد منها عدد من الأخطاء والمعاصي والذنوب(6).
والمقصود النظر إلى أخطاء الإنسان على أنها أمر لا مفر منه؛ بل قد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بأن كل الناس يخطئون، ولكن الشأن في كيفية علاج تلك الأخطاء، وما هي السبل التي يؤخذ بها المخطئ شيئًا فشيئًا فتؤثر فيه، حتى يقلع عن خطئه، ويسلك طريق الصلاح.
2- حاجة الناس إلى الترويح:
يخطئ بعض الدعاة عندما يتصور أن يكون كل أفراد المجتمع في اتجاه واحد من الاهتمامات والإرادات والجد فيها.
فالناس فيهم ذو الهمة العالية والمتوسطة والأقل من ذلك، وفيهم أنواع من الاهتمامات والقدرات والطاقات.
وتلاحظ مراعاة الشرع للنفوس، وعدم الإثقال عليها بالأمور الفكرية والعلمية الجادة، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومواعظه ودروسه قصيرة، وقد أرشد إلى عدم إطالة خطبة الجمعة، فعن واصل بن حيان قال: قال أبو وائل: خطبنا عمار فأوجز وأبلغ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان، لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفّست، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنةٌ من فقهه، فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة، وإن من البيان سحرًا»(7).
والقرآن الكريم نزل بالتدريج؛ لأنه يحمل التكاليف بالفعل والترك، حتى تتربى النفس المؤمنة على التكامل في حمل التكاليف وتبليغها والدعوة إليها.
روي عن بعض الصحابة أنه قال: لقد أحسن الله إلينا كل الإحسان، كنا مشركين، فلو جاءنا رسول الله بهذا الدين جملة وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا، فما كنا ندخل في الإسلام، ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة، فلما قبلناها وعرفنا حلاوة الإيمان، قبلنا ما وراءها كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق إلى أن تم الدين وكملت الشريعة(8).
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا»(9).
قال ابن حجر رحمه الله: «والمراد تأليف من قرب إسلامه، وترك التشديد عليه في الابتداء، وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطف ليقبل، وكذلك تعلم العلم ينبغي أن يكون بالتدرج؛ لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلًا، حبب إلى من يدخل فيه وتلقاه بانبساط، وكانت عاقبته غالبًا الازدياد، بخلاف ضده والله أعلم»(10).
3- مراعاة الفروق الفردية:
قال ابن تيمية رحمه الله: «فينبغي أن يُعلم أن ترتيب الواجبات في الشرع واحدًا بعد واحد، ليس أمرًا يستوي فيه جميع الناس؛ بل هم متنوعون في ذلك، فكما أنه قد يجب على هذا ما لا يجب على هذا، فكذلك قد يؤمر هذا ابتداءً بما لا يؤمر به هذا، فكما أن الزكاة يؤمر بها بعض الناس دون بعض، وكلهم يؤمرون بالصلاة، فمن كان يحسن الوضوء وقراءة الفاتحة ونحو ذلك من واجباتها أُمِرَ بفعل ذلك، ومن لم يحسن ذلك أُمِرَ بتعليمه ابتداءً، ولا يكون أول ما يؤمر به هذا من أمور الصلاة هو أول ما يؤمر به هذا»(11).
وهذا الأصل التربوي له امتداده من السنة العطرة، ومن هدي معلم البشرية صلى الله عليه وسلم، فكان شديد المراعاة له بين المتعلِّمين من المخاطبين والسائلين، فكان يخاطب كل واحد بقدر فهمه، وبما يلائم منزلته، وكان صلى الله عليه وسلم يحافظ على قلوب المبتدئين، فلا يعلمهم ما يعلِّم المنتهين، ويجيب كل سائل عن سؤاله يما يهمه ويناسب حاله، ويوصي كل واحد، ممن طلبوا منه الوصية، بغير ما أوصى به الآخر، لاختلاف أحوالهم، وأعطى أجوبة حول أفضل الأعمال أو أحبها إلى الله تعالى، بحسب ما رآه من السائل أنه أفضل وأهم له؛ نظرًا لحاجاته وأحواله، ولهذا كله أمثلة عديدة وشهيرة في السنة النبوية(12).
ثالثًا: استخدام أساليب الدعوة في التأثير على الناس:
قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125].
يقول ابن القيم رحمه الله: «إن الله سبحانه جعل مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق، فالمستجيب القابل، الذي لا يعاند الحق ولا يأباه، يدعى بطريق الحكمة، والقابل الذي عنده غفلة وتأخر يدعى بطريق الموعظة الحسنة، وهي الأمر والنهي المقرون بالرغبة والرهبة، والمعاند الجاحد يجادَل بالتي هي أحسن»(13).
على هذه الأسس يرسي القرآن الكريم قواعد الدعوة ومبادئها، ويعين وسائلها وطرائقها، ويرسم المنهج للرسول الكريم، وللدعاة من بعده بدينه القويم، فلننظر في دستور الدعوة الذي شرعه الله في هذا القرآن.
إن الدعوة دعوة إلى سبيل الله، لا لشخص الداعي ولا لقومه، فليس للداعي من دعوته إلا أنه يؤدي واجبه لله، لا فضل له يتحدث به، لا على الدعوة ولا على من يهتدون به، وأجره بعد ذلك على الله.
والدعوة بالحكمة، والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم، والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم، ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها، فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه.
وبالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق، وتتعمق المشاعر بلطف، لا بالزجر والتأنيب في غير موجب، ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية، فإن الرفق في الموعظة كثيرًا ما يهدي القلوب الشاردة، ويؤلف القلوب النافرة، ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ، وبالجدل بالتي هي أحسن، بلا تحامل على المخالف ولا ترذيل له وتقبيح؛ حتى يطمئن إلى الداعي، ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل، ولكن الإقناع والوصول إلى الحق.
فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق؛ حتى لا تشعر بالهزيمة، وسرعان ما تختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس، فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلًا عن هيبتها واحترامها وكيانها، والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة، ويشعر المجادل أن ذاته مصونة، وقيمته كريمة، وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها، والاهتداء إليها، في سبيل الله، لا في سبيل ذاته ونصرة رأيه وهزيمة الرأي الآخر! ولكي يطامن الداعية من حماسته واندفاعه يشير النص القرآني إلى أن الله هو الأعلم بمن ضل عن سبيله وهو الأعلم بالمهتدين، فلا ضرورة للجاجة في الجدل، إنما هو البيان، والأمر بعد ذلك لله.
هذا هو منهج الدعوة ودستورها ما دام الأمر في دائرة الدعوة باللسان والجدل بالحجة(14).
توظيف هذه الأساليب:
أ– أسلوب الحكمة:
وهذا الأسلوب يستخدم مع صاحب الفطرة السليمة، والعقل الرشيد، الذي يعرف الإسلام وأنه هو الحق بمجرد اطلاعه على تعاليم الإسلام.
وهذا الأسلوب يستخدمه الداعية في المدعو ليحرك ذلك الشعور الكامن في قرارة نفسه ليعرض الحق وينقاد له على علم وبصيرة.
ب– أسلوب الموعظة:
يستخدم هذا الأسلوب لصنفين من الناس:
أحدهما: مستجيب قابل عنده نوع غفلة وتأخر، وهو المسلم الذي ألهته الدنيا وزخرفها والهوى عن محاب الله ومراضيه.
الثاني: صاحب العقل السليم المفكر، الذي يدله على الحق من عباد الله جميعًا؛ لأنهم هم الذين نُوِّعَ لهم ضَرْب الأمثال وإقامة الحجج وغير ذلك.
وقد بين ابن القيم أنواع الموعظة على ضربين:
أحدهما: عظة بالمسموع:
وهي الانتفاع بما يسمعه من الهدى والرشد والنصائح التي جاءت على لسان الرسل وما أوحي إليهم، وكذلك الانتفاع بالعظة من كل ناصح ومرشد، في مصالح الدين والدنيا.
ثانيًا: عظة بالمشهود:
وهي الانتفاع بما يشاهده في العالم من مواقع العبر وأحكام القدر ومجاريه، وما يشاهده من آيات الله الدالة على صدق رسله(15).
والمطلوب هو ما يلقيه الداعية المتمكن من المواعظ والنصائح المؤثرة، التي تستميل جمهور المدعوين إلى الاستجابة، أو تنفرهم وتزجرهم عن ارتكاب المنهيات، التي تؤدي بهم إلى الهلاك، وهذه المواعظ اسم يدخل تحته أنواع من الأساليب الوعظية؛ كالترغيب والترهيب، وضرب الأمثال والقصة، فإن هذه المسميات داخلة في مسمى الموعظة، وجميعها وردت في القرآن الكريم، وسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وكلام السلف الصالح رضي الله عنهم.
ج – استخدام أسلوب ضرب الأمثال:
المثل: هو زيادة في الكشف عن المعاني، فأنت أيها الداعية عندما تُشبِّه الشيء المعقول بالمحسوس، فإن ذلك يجعل لهذا المعقول وقعًا في القلب ورسوخًا.
وهذا أسلوب قرآني ونبوي، يستخدمه الداعية في التأثير على الناس بتحبيب الطيبات وتكريه الخبائث والمنكرات.
ومثال على ذلك: غض البصر، وكيف أنه يورث في القلب نورًا وصحة وفراسة، قال ابن القيم رحمه الله: «إن القلب كالمرآة، والهوى كالصدأ فيها، فإذا خلصت المرآة من الصدأ، انطبعت فيها صور الحقائق كما هي عليه»(16).
د– استخدام أسلوب القصة:
فالقصة: حكاية تحكي ما جرى على فرد أو جماعة، وما نالهم في النهاية من حسن الجزاء، أو تروي ما انتهى إليه أمر المخالف، الذي همّه إرضاء نفسه واتباع هواه، من عقاب مؤلم، سواء في الدنيا أو الآخرة.
فعليك أخي الداعية بالقصص القرآني، فإن له من المميزات عن غيره الكثير، فإنه حق لا ريب فيه، واقعي لا مثالية فيه، وكذلك فإن تنوع أسلوبه من سورة إلى سورة في القصة الواحدة، والانتقال في خطابه من أسلوب الخبر إلى الإنشاء إلى الاستفهام معجز بليغ لا تجده في غيره، والله سبحانه هو الذي خلق النفوس ويعلم ما يؤثر فيها، وما يوقظها من غفلتها، فعليك أخي الداعية به وبكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما روي في كتب التفاسير الموثوق بها، فإن فيها ما يغنيك ويشبع رغبة الجمهور، ويوقظ في الحي منهم المشاعر النبيلة ويرسخ في عقولهم(17).
ومما ينبغي أن يركز عليه في التأثير على الناس تعاهدهم والسؤال عن أحوالهم، وحل مشكلاتهم، وإعطائهم من المال ما يدفع أمورهم الحاجية والضرورية، وترغيبهم في الآخرة، وتحذيرهم من الدنيا وخطورتها، والصبر على أذاهم، ونحو ذلك.
فالتعامل مع الناس فن من أهم الفنون؛ نظرًا لاختلاف طباعهم، فليس من السهل أبدًا أن نحوز على احترام وتقدير الآخرين، وفي المقابل من السهل جدًا أن نخسر كل ذلك.
وكما يقال: الهدم دائمًا أسهل من البناء، فإن استطعت توفير بناء جيد من حسن التعامل، فإن هذا سيسعدك أنت في المقام الأول؛ لأنك ستشعر بحب الناس لك، وحرصهم على مخالطتك، ويسعد من تخالط ويشعرهم بمتعة التعامل معك.
ثلاثة مداخل للتأثير في الشخصية:
هناك ثلاثة مداخل للتأثير في الناس: الأمن، والإنجاز، والحب.
ثلاثة مداخل مهمة تستطيع من خلالها غزو شخصية الآخر للوصول إلى التأثير فيه وتوجيهه:
فأما الأول فهو الأمن، وأقصد به أن يأمن الآخر أن السلوك الذي تدفعه إليه آمن غير ضار، نافع غير مفسد، وليس المقصود هنا هو الأمن على المصالح الشخصية فحسب؛ بل يتعدى الأمر إلى أكبر من هذا إلى الأمن على المستقبل والمآل والمنتهى، كما يتعدى إلى أمن الحرام، وأمن البعد عن اللعنة الإلهية، والأمن من غضب الرب سبحانه، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، فالأمن هنا هو أمن المآل والرحمة، والأمن من العذاب والسخط، وقد جعل سبحانه بيته بيتًا آمنًا {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67]؛ بل إنه من أراد فيه بسوء عوقب ولو لم يبتدئ تنفيذ عزمه ونيته الفاسدة، قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].
ويشبه العلماء الأمن للإنسان كالتربة الصالحة، وهو هنا تربة نفسية تفتح باب القبول للشخصية الداعية، وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك كثيرًا في أحاديثه، فمنه قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»(18).
كذلك فالإنجاز مدخل مهم للنفوس، فالداعية إلى الله سبحانه لا بد وأن يشعر الآخرين بالإنجاز، فإننا لو شبهنا الأمن بالتربة الصالحة فإن الإنجاز هو ذلك الماء الذي يروي هذه التربة، ويبث فيها الرونق والانتعاش، ويظهر فيها علامات الحياة؛ ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي الناس على إشعارهم بالإنجاز والتميز والتقدم، فيقول لهم صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، لا أقول (الم) حرف؛ بل ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف»(19)، فهو يعلمك أنك تنجز كثيرًا جدًا، وتحصل كثيرًا جدًا بقراءتك أكثر مما تتصور، حتى الذين لم يحسنوا القراءة بعد، يقول لهم صلى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق فله أجران»(20)، فهو يعلمك أنك منجز على كل حال، ولن يمنعك تعلمك أن تحصل الثواب الكبير والعميم، فأنت منجز على كل حال.
عن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له»(21)، فهو يعلمه أنه منجز على كل حال، ومحصل للثواب على كل حال، وهذا الشعور يبث في المدعو الثقة، ويدفعه نحو العمل ونحو التطبيق للتوجيه الذي تعلمه.
كذلك فإن الحب مدخل هام جدًا من مداخل الشخصية، فأنت يا أيها الداعية إذا أردت التأثير في الناس فدعهم يحبونك أولًا، ثم بعد ذلك مرهم فيعملوا، فالحب يرقق القلوب ويقربها إلى الداعية، قال الله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159]، فهو بيان رباني إذن للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أن يجد الطريق إلى القلوب برقة ورحمة ومحبة وتسامح وعفو، قال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
وانظر إلى الداعية المحبوب كيف يجد طريقه إلى التأثير في الناس وفي قلوبهم بمنتهى اليسر والبساطة، وانظر إلى الآخر الذي يريد إجبار الناس على التأثر بكلماته وهو منفر غليظ عبوس متكلف معجب بنفسه وبعمله، مستقل عمل الآخرين وطاعاتهم، لكم يخسر هذا، لكم يخسر(22).
قواعد تؤدي إلى كسب حب الناس:
1- كما ترغب أن تكون متحدثًا جيدًا فعليك بالمقابل أن تجيد فن الإصغاء لمن يحدثك، فمقاطعتك له تضيع أفكاره، وتفقده السيطرة على حديثه؛ وبالتالي تجعله يفقد احترامه لك؛ لأن إصغاءك له يشعره بأهميته عندك.
2- حاول أن تنتقي كلماتك، فكل مصطلح تجد له الكثير من المرادفات فاختر أجملها، كما عليك أن تختار موضوعًا محببًا للحديث، وأن تبتعد عما ينفر الناس من المواضيع، فحديثك دليل شخصيتك.
3- حاول أن تبدو مبتسمًا هاشًا باشًا دائمًا، فهذا يجعلك مقبولًا لدى الناس حتى ممن لم يعرفوك جيدًا، فالابتسامة تعرف طريقها إلى القلب.
4- حاول أن تركز على الأشياء الجميلة فيمن تتعامل معه وتبرزها، فلكل منا عيوب ومزايا، وإن أردت التحدث عن عيوب شخص فلا تجابهه بها، ولكن حاول أن تعرضها له بطريقة لبقة وغير مباشرة، كأن تتحدث عنها في إنسان آخر من خيالك، وسيقيسها هو على نفسه وسيتجنبها معك.
5- حاول أن تكون متعاونًا مع الآخرين في حدود مقدرتك، ولكن عندما يطلب منك ذلك؛ حتى تبتعد عن الفضول، وعليك أن تبتعد عن إعطاء الأوامر للآخرين فهو سلوك منفر.
6- حاول أن تقلل من المزاح، فهو ليس مقبولًا عند كل الناس، وقد يكون مزاحك ثقيلًا فتفقد من خلاله من تحب، وعليك اختيار الوقت المناسب لذلك.
7- حاول أن تكون واضحًا في تعاملك، وابتعد عن التلون والظهور بأكثر من وجه، فهما بلغ نجاحك، فسيأتي عليك يوم وتتكشف أقنعتك، وتصبح حينئذٍ كمن يبني بيتًا يعلم أنه سيهدم.
8- ابتعد عن التكلف بالكلام والتصرفات، ودعك على طبيعتك، مع الحرص على عدم فقدان الاتزان، وفكر بما تقوله قبل أن تنطق به.
9- لا تحاول الادعاء بما ليس لديك، فقد توضع في موقف لا تحسد عليه، ولا تخجل من وضعك، حتى لو لم يكن بمستوى وضع غيرك، فهذا ليس عيبًا، ولكن العيب عندما تلبس ثوبًا ليس ثوبك ولا يناسبك.
10- اختر الأوقات المناسبة للزيارة ولا تكثرها، وحاول أن تكون بدعوة، وإن قمت بزيارة أحد فحاول أن تكون خفيفًا لطيفًا، فقد يكون لدى مضيفك أعمال وواجبات يخجل أن يصرح لك بها، ووجودك يمنعه من إنجازها، فيجعلك تبدو في نظره ثقيلًا.
11- لا تكن لحوحًا في طلب حاجتك، لا تحاول إحراج من تطلب إليه قضاءها، وحاول أن تبدي له أنك تعذره في حالة عدم تنفيذها، وأنها لن تؤثر على العلاقة بينكما، كما يجب عليك أن تحرص على تواصلك مع من قضوا حاجتك؛ حتى لا تجعلهم يعتقدون أن مصاحبتك لهم لأجل مصلحة.
12- مارس الصبر مع الآخرين: في أوقات الضغط النفسي، يكون فقدان الصبر لدينا طافيًا على السطح، متحفِّزًا ليجعلنا نقول ما لا نقصد، وقد يظهر فقدان الصبر على شكل التجهم والتقطيب، وقد لا يكون هذا أفصح من الكلمات، إن الصبر هو التعبير العملي عن الثقة والأمل والحكمة والحب، وليس الصبر شيئًا سلبيًا؛ بل هو سلوك عملي، إنه ليس الصمت الغاضب، إنه قبول لحقيقة التقدم والنمو الطبيعي، وفي الحياة مواقف كثيرة تظهر فيها قدرتنا على الصبر؛ مثل انتظار شخص متأخر، والاستماع الصبور للصغير وهو يفرغ عواطفه برغم إلحاح المشاغل.
13- حافظ على ما قطعته من وعود: إن محافظتنا على الوعود تعني أن يكون لنا تأثير على الآخرين، وحتى نعطي الوعود التي سوف نفي بها نحتاج أن نفهم أنفسنا، وهذا يعني أننا نقوم بعملية انتقاء دقيق لما سنعطيه من وعود، إن قدرتنا على إعطاء الوعود والوفاء بها هو أحد مقاييس سلامة شخصيتنا.
14- ركز على دائرة التأثير: حينما نركز على المجال الذي نستطيع أن نتحكم فيه فإن دائرة تأثيرنا تتوسع.
15- حسن الظن بالآخرين: إن افتراض حسن النية يؤدي إلى نتائج طيبة، وحينما يكون تعاملك مع الآخرين على افتراض أنهم يفعلون أحسن ما لديهم، بحسب ما يرون الأمور، يعطيك القدرة على أن تستثيرهم على فعل أفضل ما يستطيعون فعله، بينما بالمقابل حينما نجهد لنصنف الآخرين ونصدر عليهم أحكامنا؛ فإن هذا يدل على أننا لا نشعر بالأمان، إن لكل إنسان أبعادًا كثيرة، بعضها ظاهر وأكثرها هاجع كامن، ويميل الناس إلى أن تكون استجابتهم لنا بحسب ما نعتقده عنهم، فلا تسئ الظن في الأكثرين بسبب الأقلين.
16- حاول أولًا أن تفهم الطرف الآخر: لتكن محاولتك أن تفهم الآخر قبل رغبتك في أن يفهمك الآخر، تقمص دور من أمامك؛ أي افهم كيف يفكر ولو لبعض الوقت، مثل هذا السلوك يتطلب شجاعة وصبرًا وشعورًا بالأمان.
17- إذا أساء إليك أحد فكن المبادر بإصلاح العلاقة: فإن من أحس بالإساءة وانكب بتفكيره عليها سوف يجعل المشكلة تتضخم حتى تخرج عن السيطرة، وحينما تصلح العلاقة فافعل ذلك بطيب نفس، دون أن يكون في قلبك غضب وغيظ.
18- اعترف بأخطائك واعتذر واطلب الصفح: حينما تتأزم العلاقات فعلًا فقد يكون الحل أن نعترف أننا مسئولون على الأقل عن الأزمة، ولا يكفي أن نشعر هذا في السر؛ بل كثيرًا ما يكون الحل الوحيد أن نعترف بالخطأ ونعتذر، ولا نقدم أعذارًا ودفاعات.
19- تجنب مواقف الهجوم أو الدفاع: في حالات الخلاف تجنب ما يفعله كثير من الناس حينما يحيلون الخلاف إلى عنف، سواء أكان العنف بالغضب الظاهر أو بالكلام الساخر أو بالعبارات الجارحة أو بالانتقاد، وتجنب كذلك الدفاع، سواء أكان بصورة الانسحاب والحسرة، والدليل لكل ذلك هو الحديث الهادف لإنهاء الخلاف.
20- اختر الوقت الصحيح للتعليم: ليس كل وقت مناسبًا للتعليم، فالناس مستعدون للتعليم حينما لا يشعرون أن هناك ما يهددهم، وحينما لا تكون أنت غاضبًا أو في حالة إحباط، وإنما تظهر احترامًا وعطفًا وتكون أنت في أمان في داخل نفسك، ولا يناسب التعليم كذلك حينما يحتاج الآخر إلى المساعدة، تذكر من جهة أخرى أننا نقوم بالتعليم غير المباشر كل الوقت؛ لأننا نشع باستمرار ما يدل على حقيقتنا.
ثلاثة أخطاء يجب التغلب عليها:
هناك ثلاثة أخطاء شائعة في مجال التأثير على الآخرين:
الخطأ الأول: أن ننصح قبل أن نفهم: قبل أن تؤثر فيَّ لا بد أن تفهمني، إنَّ لي وضعي الخاص ومشاعري الفريدة، فقبل أن تحاول التأثير عليَّ يجب أن تتأثر أنت بوضعي الفريد.
الخطأ الثاني: محاولة إصلاح العلاقة من دون إصلاح الموقف أو السلوك.
الخطأ الثالث: افتراض أن القدوة الطيبة والعلاقة أمر كافٍ، حينما نخطئ هذا الخطأ نغفل أهمية التعليم الواضح، والحل أن نتحدث كثيرًا عن الرؤية والمهمة والأدوار والغايات والمقاييس.
ونهاية المطاف هنا أن حقيقتنا هي ما يحقق التواصل بشكل أكثر فعالية وأكثر إقناعًا مما نقول(23).
مقومات التأثير في الآخرين:
إن على الداعية إلى الله أن يملك القدرة على التأثير في الآخرين؛ ليتمكن من تأدية رسالته المقدسة التي وقف نفسه عليها، تأدية كاملة، أو قريبة من الكمال، ويمكن للداعية أن يمتلك الكثير من مقومات التأثير في الآخرين:
- جلب انتباههم، والحركة بمعناها الواسع تجلب الانتباه، فتحرك المتكلم تحركًا معتدلًا، وذا معنى، وتحريك يديه ورأسه حركة ذكية مُعبرة، وتحريك عينيه لتقعا على كل مُستمع، وتحريك الصوت بتلوينه ارتفاعًا وانخفاضًا، رقَّة وجزالة، بحسب المعنى والهدف، وتحريك الأسلوب بين الخبر والإنشاء، وبين الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وبين الوصف والتحليل، وبين السرد والنقد، وبين القصة والمثل، وبين التقرير والتصوير، وبين الترغيب والترهيب، وبين الحوار والحدث، فإن في الحركة جلبًا لانتباه الآخرين، وجلبُ انتباههم شرطٌ لإحداث التأثير فيهم.
- الاستعانة بالرغبات والحاجات، فمن الضروري إذا أريد التأثير في شخص ما، أن يُجعل من رغباته المشروعة وحاجاته وسيلةً للتأثير فيه، فمجرد إلقاء المعلومات لا يأتي بالثمرة المطلوبة، ما لم تكن هذه المعلومات مرتبطة بالاهتمامات الحقيقية للشخص المستمع، فالإنسان نادرًا ما يتأثر عن طريق العقل المجرد، أو الحقائق الجافة، التي ليس لها صلة بحياته، فالوعظ والتعنيف واللوم مضيعةٌ للوقت، مجلبةٌ للسأم، والحديث عن الحياة الطيبة، التي وعد الله بها المؤمنين أقرب إلى قلب المستمع من موضوع المواريث أو عتق العبيد.
- الجدَّةُ والإبداع، إن مقدارًا معينًا من الجدة والإبداع ضروري لجلب انتباه الآخرين والتأثير فيهم، على ألا تكون تلك الجدة بعيدةً جدًا عن المألوف؛ لأن الناس يخشون قليلًا الأشياء الغريبة المخالفة، وهم من جهة أخرى لا يُصغون إلى الحكاية القديمة المألوفة، لهذا نحن بحاجة إلى مزيج عادل من القديم والجديد، قال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:8].
إن معرفة خطوط دفاع الآخرين، والتغلغل وراءها ضروري لإحداث الأثر المطلوب؛ فالإنسان، عادة، مستمسك بما هو عليه من تصورات، ومواقف، وتصرفات، وعادات، وتقاليد، وهو يدافع عنها ويرفض كل تجديد؛ لأنه يدافع عن شخصيته، ويؤكد ذاته، والتأثير في مثل هذا النوع من الناس صعب، إلا إذا تمكن الداعية من تحطيم خطوط دفاعه، أو التسلل وراءها ليصل إلى حاجاته الأساسية، أو سماته العميقة، ويستعين بها لإحداث قناعات جديدة، ومواقف صحيحة مخاطبًا العقل تارةً والعاطفة تارةً أخرى.
- مشاركتهم معاناتهم؛ فإذا اقترب الداعية من واقع الناس وعاش مشكلاتهم كان أقرب إلى قلوبهم، وأقدر على حل مشكلاتهم، وأملك لقوة التأثير فيهم.
إن الداعية الحقيقي يختلط مع الناس ليفهم مشكلاتهم، ويرشدهم إلى حلها، فالأنبياء العظام اختلطوا مع الناس، ومشوا في الأسواق، وشاركوا الناس كل ما في الحياة، إلا الصغائر والآثام، إنهم قاسموهم كل شيء إلا ضعفهم الفكري والخلقي، إنهم مع الناس ليفهموهم ويرحموهم، ويرشدوهم، وليكونوا لهم القدوة والنبراس.
ولا يكون كلام الداعية مؤثرًا إلا إذا توافرت فيه شروط، منها:
- الإعداد العلمي الجيد: فينبغي أن يعرف المتكلم ماذا يريد أن يقول، وما الهدف من المحاضرة، ما موضوعها الأساسي، ما الأفكار الرئيسية، ما المعاني التفصيلية التي تُعمق الأفكار الأساسية، ما الأدلة النقلية، ما الأدلة العقلية، التي تدعم ما يذهب إليه، ما الأمثلة الواقعية وما القصص المؤثرة التي توضح وترسخ ما يريد أن ينقله إلى الناس، ثم كيف يرتب وينظم هذه الأفكار والشواهد، والأدلة والقصص، وما الذي ينبغي أن يُقال أولًا، أنشرح الفكرة ثم نأتي بالدليل، أم نأتي بالدليل ثم نشرحه؟ فلا بد من تنظيم الأفكار، وتشقيقها وتفريعها، وفق خطة واضحة، محكمة معلومة لدى المستمع، ولا بد من محور تاريخي أو موضوعي أو شخصي تسير عليه الأفكار في حركتها وانتقالها، ولا بد من التنويه عند الانتقال من فكرة إلى أخرى، ولا بد من تلخيص الموضوعات الكبرى في المحاضرة، فمن الثابت أن الإنسان لا يصغي عادة إلى الحديث المضطرب غير المنظم.
- على الداعية أن يفكر بسامعيه، فعليه أن يجعل لهم صورة في ذهنه، ماذا يحبون؟ وبماذا يهتمون؟ وما الموضوعات التي تعنيهم؟ وما الموضوعات التي سئموها؟ فالموضوعات التي لا تتصل بحياة الناس، ولا تتعلق بمشكلاتهم، ولا تُجيب عن تساؤلاتهم ولا تنهي حيرتهم، مثل هذه الموضوعات لا يلقون إليها آذانًا صاغية، ولا يجدون رغبة في متابعة الاستماع إليها.
ففي الجامعة يُلزم الطالب بمتابعة المحاضرات، وربما توقف نجاحه على هذه المتابعة، بينما لا يملك الداعية أو المدرس الديني أن يُلزم أحدًا على حضور دروسه، لكن قوة المضمون، وروعة العرض، وجمال الأسلوب، ودقة الأمثلة، وحضور القلب، والإخلاص في هداية الآخرين، كل هذه الشروط تجعل الآخرين ملتزمين بحضور هذا الدرس.
ولا يستطيع الداعية الناجح أن يشد الناس إليه إلا أن يعتقد الذكاء والنباهة في المستمعين، فلا يفرض أنهم لا يعرفون شيئًا، ولا يستطيعون أن يفكروا في شيء، فهو يلقي إليهم أبسط الحقائق وأتفه التفصيلات، ويجري أمامهم المحاكمات الشاذة، عندئذ يخسر فئة الأذكياء من مستمعيه، أو يخسر انتباههم، ثم يخسر تقديرهم، ثم يخسر وجودهم؛ بل يجب عليه أن يجعل المستمعين يفكرون معه، ويملئون بعض الفراغات الفكرية، ويحملهم على أن يستنبطوا بعض الحقائق بأنفسهم، والقرآن الكريم يعلمنا أن نلحظ ذكاء المستمع، قال تعالى: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف:45-46].
فهناك تفصيلات كثيرة لم يذكرها القرآن، مفترضًا الذكاء والنباهة في القارئ، ولو ذُكرت لكانت عبئًا على القصة وليس في خدمتها، وهذا هو سر أن البلاغة في الإيجاز، وقد قيل: البلاغة بين الإيجاز المخل والإطناب الممل.
- لا يُشعر المستمعين بالنقص، فهم لا يعرفون شيئًا وهو يعرف كل شيء، فلا ينبغي أن يُحدثهم بلغة لا يفهمونها، ولا ينبغي أن يعرض عليهم أفكاره بطريقة لا يألفونها، ولا ينبغي أن يجعل بينه وبينهم هوة كبيرة؛ بل عليه أن يبسط لهم الحقائق المعقدة، وييسر لهم سُبل الفهم باستخدام العبارة الواضحة المألوفة، عليه أن يضرب لهم الأمثلة، أن يقصَّ عليهم القصص الموضحة، إن هذا الأسلوب هو ما يوصف بالسهل الممتنع، فهو سهل على المستمع، ممتنع على المقلد، وإن الذين تركوا آثارًا واضحة في مستمعيهم تميزت أساليبهم بالسهولة والامتناع.
- استعمال الفكاهة الذكية الرصينة، التي لا تجرح ولا تؤذي أحدًا؛ بل ربما كانت نابعة من موضوع الحديث نفسه، وقد تكون موضحة لبعض الحقائق فيه، فهي تجدد نشاط المستمع، وتقوي فيه الانتباه، وتعزز عنده الفهم، وهي تقيم نوعًا من الصلة المحببة بين المتكلم والمستمع.
- النظر إلى من يستمع إليه، فكأن هذه النظرة التي يُلقيها المتكلم على المستمع تقيم اتصالًا روحيًا بينهما، فضلًا عن أنها تشدُّ المستمع إلى المتكلم، وتُعينه على متابعة الموضوع، والتفاعل معه، بينما انقطاع النظر بين المتكلم والمستمع يضعف المتابعة، ويسبب السأم، ويقطع الصلة الروحية بينهما؛ لهذا كانت المساجد التي تتيح للخطيب أو المدرس أن يرى كل المستمعين أكثر فعالية في أداء رسالة المسجد.
- أن لكل شيء حدًا يقف عنده، وإذا تجاوزه أدى ذلك إلى تأثير سلبي معاكس لهدف المتكلم، فهناك حد لما ينبغي أن يعمل في وقت معين، هناك حد لانتباه المستمع، هناك حد لمقدار التأثير الذي يمكن إحداثه في فرصة معينة، إننا نُخفق حينما نحاول أن نعمل أكثر مما ينبغي في مرة وحدة، لذلك على المتكلم أن يعرف متى ينبغي أن يقف، قف متى انتهيت، قف متى انتهى الذي أعددته، قف إذا شعرت أن الملل والسأم قد بدا على وجوه المستمعين، قف وهم يتمنون لو تتابع الحديث، لا أن يتمنوا أن تقف وأنت تتابع الحديث.
وهنا محل الإشارة؛ أن من عوامل نجاح المتكلم؛ بل من عوامل جلب انتباه المستمعين طوال فترة المحاضرة، أن يعلموا جميعًا متى تنتهي المحاضرة، فهذا الدرس، مثلًا، ينتهي مع أذان العشاء، إذن الجميع منصرفون إليه؛ لأنهم يعرفون توقيته ومدته، وقد يبنون على مدته المحددة مواعيدهم الأخرى، ويستريحون من القلق الذي يساورهم إذا كانت مدة المحاضرة مفتوحة(24).
***
______________
(1) موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة (1/ 21).
(2) تفسير السعدي، ص356.
(3) كنز العمال (5/ 770).
(4) أخرجه البخاري (13)، ومسلم (45).
(5) أخرجه ابن ماجه (4251).
(6) التفسير الكبير (3/ 116).
(7) أخرجه مسلم (869).
(8) تفسير الرازي (9/ 405).
(9) أخرجه البخاري (69).
(10) فتح الباري (1/ 163).
(11) درء تعارض العقل والنقل (8/ 16-17).
(12) الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم وأساليبه في التعليم، ص81-91.
(13) مفتاح دار السعادة، ص217.
(14) في ظلال القرآن (4/ 2202).
(15) مدارج السالكين، ص478.
(16) إغاثة اللهفان (1/ 48).
(17) منهج ابن القيم في الدعوة إلى الله (1/ 304–325).
(18) أخرجه البخاري (10)، ومسلم (41).
(19) أخرجه الترمذي (2910).
(20) أخرجه مسلم (798).
(21) أخرجه مسلم (2999).
(22) كيف تكون شخصية دعوية مؤثرة، موقع: المسلم.
(23) القيادة على ضوء المبادئ، ص94-99.
(24) شروط الداعية الناجح، موسوعة النابلسي للعلوم.