logo

التقويم الدعوي


بتاريخ : الأربعاء ، 15 جمادى الآخر ، 1440 الموافق 20 فبراير 2019
بقلم : تيار الاصلاح
التقويم الدعوي

أي عمل يقوم به الإنسان يحتاج لمراجعة، وإعادة تقويم وتمحيص، ومعرفة أسباب النجاح أو دواعي الفشل، وإدراك ما يمكن إدراكه، وتصحيح ما يحتاج إلى تصحيح، وتصويب الأخطاء، والداعية ليس بمنأى عن كل ذلك، فدعوته وعمله وجهوده تحتاج إلى تقويم، كيف بدأ؟ وإلى أين وصل؟، وماذا يريد؟، وما الذي يمكن فعله الآن؟، وما الذي يحتاج إلى إرجاء؟، وما هي أسباب الإخفاق إن وجد؟، وما هي نقاط القوة وعوامل الضعف لدى الداعية؟، كل ذلك يمكن إدراكه من خلال عملية تقويم العمل من حين لآخر.

فالدعاة في حاجة ماسة إلى تقويم مستمر، ومراجعة لعملهم الدعوي وبرامجهم الدعوية، وإلى نظرة متفحصة لما أنجزوه.

فالداعية إلى الله يجب أن يراجع إنجازه على مستويين:

الأول: رأسي؛ وهو مدى تقدمه العلمي والثقافي، وتقدم مواهبه، وحصوله على المعلومات المتدفقة المختلفة التي أثرت فكره ورفعت مستواه العلمي والفقهي والواقعي.

والثاني: أفقي؛ وهو مدى قدرته على إقناع الآخرين بدعوته، ومدى الاستجابة له، ومدى قدرته على التأثير في مجتمعه، وبالعموم فعملية تقويم الداعية لموقفه الدعوي هي حكم كيفي على دوره وقيمته وأنشطته، ومدى تحقيقه للأهداف المحددة له، وقياس نوعية سلوكه بما يتناسب مع الأعمال المنوطة به، وكذلك قياس النتائج التي تحققت من تنفيذ الأساليب التي انتهجها طوال الفترة السابقة، وهي لازمة له بشكل دوري ومنتظم.

أهمية التقويم الدعوي:

وتكمن خطورة التقويم الدعوي من خلال:

1- الانتقال من مستوى إلى مستوى.

2- رفع الواقع والتخطيط للمستقبل.

3- معرفة مدى تحقق الأهداف الدعوية.

4- ما يترتب عليه من أثر (إسناد المهمات والتكاليف).

5- الوقوع في ذات الشخص بما هو منه براء؛ كوصفه بصفات هو بعيد منها، وإبعاده عن صفات هو قريب منها أو مواقعها(1).

قواعد في التقويم الدعوي:

هذه القواعد ستساعد على تلافي الكثير من السلبيات، وتجعل موضوع التقويم الدعوي أكثر حزمًا وانضباطًا والتزامًا.

القاعدة الأولى: الإخلاص:

على مَن يقوم بعملية التقويم الإخلاصُ في قوله، وأن يكون التوثيق والتضعيف مقرونًا بحب الأجر والمثوبة، وأن يكون كل من المدح والثناء أو الذم والنقد خالصًا لوجه الله تعالى، غير مشوب بنيةٍ أخرى؛ كأن يكتسب من وراء ذلك مصلحةً شخصيةً، حتى ولو كانت صغيرة؛ كاكتساب وُد أو عبارة مجاملة، أو أن يُحصِّل شيئًا لنفسه، كما يجب ألَّا يكون المدح من أجل تقريب شخصٍ لصداقةٍ خاصة، أو مودة قريبة، أو علاقة دعوية سابقة، كما ينبغي ألا يكون الذم من أجل استبعاد شخص، أو محاربته لهوى جامح، أو رغبة ذاتية، أو لخلاف في الرأي، أو لحسد طارئ؛ إذ إن عملية التقويم يُراد لها أن تكون خالصةً حتى تُؤتي ببركة ثمارها للدعوة، كما يجب التذكير أن ذمة الله ورسوله تبرآن ممن رشَّح أحدًا لمهمة وهو يرى غيره أصلح لها.

القاعدة الثانية: الموازنة بين الجرح والتعديل:

وذلك بعدم الاكتفاء بطَرْق جانبٍ على آخر؛ فتطرح محاسن القوم ومساوئهم، ويوازن بينها، وعند تساوي الجرح والتعديل في شخصٍ يقبل الجرح إذا كان مفسرًّا بينًا واضحًا؛ ذلك لما لذلك من خطورة قبول هذا الشخص وترقيه على وحدة الصف، وعلى المهمات الموكلة إليه.

القاعدة الثالثة: عدم الوصف بما لا يعلمه إلا الله:

وذلك كالجزم بالنفاق وسوء الظن والكبر أو دخول الجنة؛ فإن ذاك أمره إلى الله تعالى، فنحن لنا الظاهر، والله يتولى السرائر، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «هلا شققت عن قلبه؟» دليل على أن الحكم إنما يجري على الظاهر، وأن السرائر موكولة إلى الله عز وجل(2).

القاعدة الرابعة: الصدق المبني على العلم:

فشرط في التقويم صحة المعلومة التي يُبنى عليها الجرح والتعديل، ولا مكان فيها للتقديرات أو التوقعات أو الظنون أو الاحتمالات أو الكذب، وقد أخرج مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذبًا أن يُحدث بكل ما سمع»(3).

القاعدة الخامسة: لا يُقبل جرح الأقران في بعضهم:

أفتى بهذا أهل العلم وأجمعوا عليه، إلا بدليلٍ صريحٍ صحيح، وخاصةً عند الفتن، ومن التسرع أن يبادر إلى سؤال قرين عن صاحبه، أو زميل دراسة أو وظيفة قد حدثت بينهما من الاحتكاكات وبعض المشاحنات والحسد ما حدث، فيعتد قوله وليس بمعتمد عند فقهاء هذه الدعوة وعلماء الجرح والتعديل.

القاعدة السادسة: أن يُبنى التوثيق على صفة ملازمة لا طارئة:

فلكل عالم هفوة، ولكل جواد كبوة، والنادر لا حكم له، ولا يعمل بالشاذ ولا بالطارئ إلا إذا تكرر، ووقائع الأعيان لا عموم لها، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعاقب حاطب بن أبي بلتعة على موقف واحد حصل منه؛ فهناك تاريخ مليء بالأحداث المشرفة التي فعلها حاطب، كان منها مشاركته يوم بدر، ولم يكن الأمر إلزاميًا، كما قال كعب بن مالك: «غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدًا تخلف عنها»(4).

القاعدة السابعة: اُكْسُ ألفاظك أحسنها:

لا بد أن يستخدم الجارح أجمل الألفاظ ما وجد إلى ذلك سبيلًا، قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53].

قال المزني: «دخل عليَّ الشافعي وأنا أقول: (فلان كذاب)، فقال: (يا إبراهيم، اُكْسُ ألفاظك أحسنها، لا تقل: كذاب، ولكن قل: حديثه ليس بشيء)»(5).

القاعدة الثامنة: لكل داء دواء يستطب به:

فإذا تم تحديد مكامن الضعف لدى فرد من الأفراد فلا يترك لهذه الأمراض تنال منه، ويخشى من انتشارها وتمكنها منه، وتبقى الدعوة مفتقرة إلى هذا الفرد، وما أعطاه الله من مواهب وقدرات، فكل ميسرٌ لما خُلِقَ له؛ بل تبادر إلى علاج ذاك المرض، وتطبيب المريض وإنقاذه مما هو مصاب به، وما أنزل الله من داءٍ إلا وأنزل له دواء، وإذا حدث أن لم يعالج ويستكمل نقصه ويقوي ضعفه فاللائمة تكون على لجنة التقويم التي أهملت ذلك(6).

إن كثيرًا من الأعمال والمشاريع الدعوية، الحالية أو الماضية، كان يمكن ترشيدها والرفع من جودتها وإنتاجيتها لو أخضعناها لنقدنا وتقويمنا، ولو راعينا عند بنائها مجموعة من المعايير والمهارات والأدوات حين قمنا بالتخطيط لها وتنظيمها وتقويمها.

ما الذي يجب علينا تقويمه في مشاريع وبرامج العمل الدعوي؟

إن أي مشروع أو برنامج دعوي ننوي إقامته فإن هناك مراحل للتقويم تسبقه وتواكبه وتأتي بعده، وهي على النحو التالي:

أولًا: تقويم الحاجة للمشروع أو البرنامج الدعوي:

وهذه المرحلة تسبق تأسيس المشروع وتخطيطه؛ حيث ينبغي النزول إلى الميدان للتعرف على البيئة الدعوية، وتحديد احتياجاتها ودراسة واقعها، ومعرفة الفرص المتاحة والمخاطر المحتملة، ومن ثم تحديد احتياجات تلك البيئة من المشاريع والبرامج الدعوية، وما الذي يجب أن نبدأ به الآن وما يمكن تأجيله.

ثانيًا: تقويم المشروع أو البرنامج ونظرياته:

إذ إن إقامة أي مشرع دعوي يجب أن يُبنى على أسس ونظريات علمية متينة، من هذا المنطلق يتحتم علينا تقويم ما إذا كنا اخترنا الأساس العلمي الأنسب؟ وما إذا كانت تطبيقاتنا صحيحة؟ وما إذا كانت هناك نظريات أخرى يمكن الاعتماد عليها أو الرجوع إليها؟ مع مراعاة أن كل ذلك يجب الرجوع فيه إلى أهل الخبرة والتخصص، بعيدًا عن الآراء الفردية أو التخمينات والاجتهادات.

ثالثًا: تقويم عمليات المشاريع الدعوية وتطبيقاتها:

يُهدر الكثير من الأوقات والأموال والجهود في كثير من المشاريع الدعوية؛ بسبب اجتهاد خاطئ في سن عمليات وتطبيقات وإجراءات العمل، ولكي يتم تلافي ذلك فلا بد من التقويم، مستفيدين من أهل الخبرة والدراية والتخصص في مجال التنظيم والجودة، وكذلك الاستعانة ببيوت الخبرة المتخصصة، ولو كلفنا ذلك الكثير من المال.

رابعًا: تقويم نواتج المشروع وآثاره:

من أهم ما ينبغي تقويمه في المشاريع والبرامج الدعوية هو تقويم منتجات ومخرجات ذلك المشروع؛ إذ إن الحكم على المخرج معيار أساسي، من معايير الحكم على فاعلية المشروع وجودته.

هذه المستويات الأربع أساسية لتقويم أي مشروع أو برنامج دعوي، لا يستغنى بأحدها عن الآخر، مع التأكيد على أنها يجب أن تتم من خلال أهل الخبرة والتخصص كل في مجاله(7).

ودقة التقويم حاجة ملحة، سواء على المستوى الشخصي للإنسان أو على المستوى العام، والدعوة إلى الله واحدة من هذه المجالات، والتي من الممكن أن يكون لدقة التقويم دور كبير في اختصار كثير من الوقت والمراحل، كما أن فوضوية التقويم كذلك قد تجر على العمل الدعوي آفات وتعطله عن مصالح؛ بل قد تضربه في الصميم، وكم تحفظ ذاكرة الدعوة من أسماء لم يكونوا على مستوى الدور الذي أنيط بهم، فما أحسنوا في العمل، كما أحسن المصطفون لهم بالظن؛ بل ربما أساءوا وأفسدوا!

وهذه بعض الآفات التي تعترض، وتعرض للكثير من المقومين، بقصد أو بدون قصد:

1- الخلفية المسبقة للمقيَّم أو لقبيلته أو لعائلته أو بلدته:

والخطأ هنا يقع من جانبين: الأول منها هو التعميم اللامنطقي في الأحكام بالسلب أو الإيجاب لمجرد انتماء الفرد لبلد أو عائلة، دون التدقيق في ذات الشخص، ومن ثم فإن البعض يلقي بهالة على ابن الدكتور أو الداعية أو الذكي أو الناجح، وقد يكون ابن أي أحد من هؤلاء أفشل وأغبى ممن هم أقل منه في هذه المظاهر والانتماءات.

والجانب الآخر في الخطأ هو في تغافل اعتبار هذه المؤثرات، والتعامل مع ذات الشخص تعاملًا مجردًا عن أي اتصال آخر، والحق أن هذا مخالف للواقعية؛ فتقويم شخص قروي يجيد اللغة الإنجليزية مثلًا لا يصح أن يماثل بقرينه ابن المدينة الذي هو وإياه على نفس المستوى من القدرة والذكاء، ولكنه ليس على نفس المستوى من الإمكانيات المتاحة.

وكذلك الشأن في ابن المدرس وابن العامل، فالدلالات تشير أن أحدهما بذل من الجهد ما لم يبذله الآخر، وهكذا؛ فالأداء الذي يطلب من شخص قد يرضى بنصفه من آخر، ليس لأن الآخر أقل منه قدرة، وإنما أقل منه فرصة وإمكانيات، ومن هنا نستطيع أن نقول إن التعويل التام على العلائق الخاصة بالفرد خطأ مماثل للتجاهل التام لهذه العلائق، وعلى التوازن قامت الدنيا.

2- إعاقة بعض العيوب الاجتماعية نحو النفاذ إلى حقيقة المقوم:

ذلك أن البعض قد يعاني من فقر اجتماعي، إن صح التعبير، في جوانب معينة تعيق الآخرين عن النفاذ إلى حقيقة ما يملك من مواهب وملكات، فعلى سبيل المثال قد يتصف البعض بقدر عالٍ من ثقل الظل، أو التبذل المفرط في المظهر أو الحساسية المملة، أو ضعف إقامة العلاقات وعدم اللباقة في الحديث، أو الحدة في الطباع، أو ما شابه ذلك؛ مما يعكس تقويما سلبيًا وسريعًا تجاهه، لا يراعي جوانب التمييز؛ فيكون سببًا في عدم الخوض فيما وراء هذه المظاهر غير المشجعة، وينسى أصحاب التقويم أنه من الممكن أن يوجد بعض الأكابر والعظماء في مجالاتهم، وهم متصفون بشيء من هذه الصفات؛ بل ربما بها مجتمعة.

3- التقويم من الموقف الواحد والرؤية الواحدة:

والمشكلة تكمن في أن الإنسان عاجز عن عدم تكوين تصور مباشر ولا إرادي لمن يلتقي بهم، ولو من أول نظرة، ولكن المشكلة الأكبر تكمن في التعويل على هذا التقويم، والحكم من خلاله، فالذي يجب أن يستقر أن الانعكاس النفسي للأشخاص من أول لقاء شيء، والتعويل على هذا الانعكاس على أرض الواقع شيء آخر، هذا من جهة، ثم إنه من جانب آخر لا يخفى أن النفس قد تتعرض لفترات متباينة من العواطف والظروف؛ مما يؤثر على سلوكها بالجملة؛ كالانقباض والانبساط والخجل والرهبة والحزن وغيرها، ومن ثم يصبح التقويم من الموقف الواحد أو حتى اللقاء الواحد عرضة للخطأ في عكس حقيقة الشخص المقوم، أضف أن هذا التبدل والانقلاب كما أنه مما يتعرض له المقوم (بالفتح)؛ فإن المقوم كذلك يتعرض لمثل ذلك؛ مما يؤثر عليه في الحكم على الأشخاص سلبًا أو إيجابًا.

4- الاغترار بالمكتسبات عن الحقائق والجواهر:

وتحميلها ما لا تحتمل من الدلالات من خلال الاستدلال بها على أمور بعيدة لا يحتملها الفعل؛ وذلك لشيوع ارتباطات بين بعض الأمور ودلالتها من خلال العرف الاجتماعي السائد، وهو عرف ما لم يكن مستندًا إلى مقاييس شرعية دقيقة فإنه معرض للخطأ، فالبعض، مثلًا، قد اكتسب بعض الأمور التي لا يصح أن يتجاوز في النظر إليها دلالتها المباشرة عليها؛ فالذي استطاع أن يحفظ القرآن، مثلًا، لا يعني أنه رجل صالح كما يتبادر للبعض؟ وإنما يعني أنه رجل يملك جلدًا على الحفظ، أما الصلاح فله مقاييس أخرى.

والذي يتفوق على زملائه في الفصل لا يعني بالضرورة أنه أذكى منهم، وإنما يعني أنه صاحب همة، أو أن وراءه أبًا حازمًا، أو أن الملهيات عنده قليلة ومحصورة، نعم قد يعني أنه ليس بغبي، لكن لا يعني بالضرورة أنه ذكي!

5- التأثير الخفي لقوة العلاقة أو ضعفها بين المقوم والمقوم:

وهذه كما أنها تكون بالمحاباة، وهي الأكثر شهرة، فإنها تكون كذلك بالتجرد المفتعل والمبالغ فيه، وهو الأكثر خفاءً، والذي قد يجر صاحبه إلى تقويم مختل، من خلال هضم حقوق صاحبه المقوم، الذي قد يكون أخًا أو ابنًا أو قريبًا، والمشكلة تكمن في أن كلا الأمرين، التأثير بالإيجاب أو بالسلب، من الأمور الخفية على النفس؛ ولذا جاءت النصوص الشرعية بعدم قبول أو جواز هدايا العمال ابتداءً، كتدبير شرعي ابتدائي وقائي حكيم؛ ذلك أن الأمر كما قيل: «حبك الشيء يعمي ويصم».

وبالمقابل نستطيع أن نقيس فنقول: بغضك الشيء يعمي ويصم أيضًا {وَلا يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ عَلَى أَلَّا تَعدِلُوا اعدِلُوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ} [المائدة:8].

6- الاعتماد الكلي على تقويم الآخرين:

ولقد ذكرنا لفظة الكلي؛ ذلك أن الاستئناس بتقويم الآخرين مهم، وإلا كان في ذلك تبديد لعقولهم وخبراتهم، إلا أن المرفوض هو تعطيل النظر الشخصي نظرًا لوجود تقويمات (معلبة وجاهزة للتصدير والاستيراد دون أي فحص أو تحقق جمركي)، والمشكلة أن هذه التقويمات المسبقة قد تكون من الكثرة مما يشوش على أية نظرة مضادة لها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن بعض التقويمات ما هي إلا سلسلة منشؤها شخص واحد، تابعه أو قلده مجموعة من الأناسي عليها، حتى أصبحت مسلَّمة لا تقبل النقض أو النقد، وبذلك تصبح سلسلة مبدؤها ومردها حلقة واحدة.

7- التأثر بتقويم شخص من الأكابر أو الفضلاء:

ومنشأ هذا التأثر هو التقدير والاحترام في بعض الأحيان، أو التسليم المطلق في أحيان ثانية، أو المركزية والشخصية الساحرة والقوية في آن ثالث، والمشكلة التي تعاني منها الشعوب العربية والإسلامية أنها بقدر ما هي شعوب فوضوية في مواقفها في جانب، بقدر ما هي عاطفية في جانب آخر؛ وعليه فإن عندها من الاستعداد أن تتأثر بتقويم أي رمز، دونما أن تعمل عقلها في ذلك التقويم.

وعندما تضع الأمة عقولها في أكف فضلائها وعلمائها فتأخذ عنهم دون تمييز تكن قد ارتكبت خطأً في حق نفسها، وإن كانت ما تزال بخير، فكيف بها عندما تضع عقلها في أكف رموز غير مستأمنين على دينها وعقلها ومصلحتها؟!

وعلى سبيل المثال فإننا لو تتبعنا ما سطر عن إمام من الأئمة؛ كشيخ الإسلام بن تيمية أو محمد بن عبد الوهاب؛ تجد أن تأثر الشعوب كبير (سلبًا أو إيجابًا) بما يسطره رموز هذا القطر أو ذاك، بينما لا تجد عند الغالبية العظمى من هؤلاء المتحمسين، بالسلب أو الإيجاب، أيَّ تتبعٍ وتصورٍ دقيق بَنى عليه نظرته، سوى أن الرمز الفلاني قال...! وعليه فقس.

والذي يجب أن يستقر أن احترام العلماء والفضلاء شيء، ومراجعتهم في آرائهم، والتي منها تقويماتهم للأفراد أو المؤلفات، شيء آخر؛ إذ إن ذلك بعيد كل البعد عن أي مظهر من مظاهر التنقص أو الازدراء، ويطول عجب الإنسان عندما يقرأ مراجعات عمر بن الخطاب رضي الله عنه للمصطفى صلى الله عليه وسلم في شأن بعض الأفراد، عندما أشكل عليه، ظاهرًا، تعامل وتقويم المصطفى مع ما تلقاه منه سابقًا، علمًا أن فعل المصطفى تشريع لأمته بحد ذاته، لبعض الأفراد؛ كحاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه أو المنافق عبد الله بن أبي، وهو هو عمر بن الخطاب، خير الناس بعد الصديق رضي الله عنهما وأرضاهما.

8- تثبيت صورة التقويم وعدم تغييرها مع مرور الزمن:

إن من الأمور المستقرة في عرف الناس أن الإنسان قد يمر بظروف أو مراحل تقلب عليه شخصيته، أو جوانب منها على أقل تقدير، والذين يثبتون حكمهم على الأشخاص لا يراعون هذه المسلّمة، وإن كنا ينبغي أن نشير إلى أن هذا التغيير ليس بالأمر البسيط والسريع؛ فالإنسان قد يحتاج إلى وقت مديد ليغير جبلة أو طبعًا اجتماعيًا قديمًا وموروثًا واحدًا؛ فكيف بالشخصية بالعموم، إلا أن الذي يحسن التنبه له أن بعض الصفات تتواجد وتتكاثر في مرحلة عمرية معينة، قد تخلو منها مرحلة عمرية أخرى؛ كالطيش في المراهقة، وعدم التؤدة؛ مما يغلب سلامة الفرد منها بعد تجاوز تلك المرحلة وهكذا.

هذا من جانب، ومن جانب آخر أن التغيير قد لا يكون كليًا كما يظن البعض، بل تغييرًا جزئيًا، وهذا هو الأغلب، وبقدر ما يكون التغيير في الصفات العميقة بقدر ما يكون جذريًا وحاسمًا في تغيير صورة التقويم.

إنك كثيرًا ما تصاب بالإحباط عندما تلصق بفلان نظرة معينة؛ لأن آخر قد زامله على مقاعد الدراسة منذ عشر سنوات، وهو يقول فيه كذا وكذا، ومرة أخرى إلى صحابة رسول الله؛ فإذا بعمر يحاسب ويراجع كبار الصحابة على الدرهم والدينار، ممن خشي عليهم عمر أن تكون نفوسهم قد تغيرت فترخصوا أو تساهلوا، حاشاهم، وهم هم الصحابة الذين لولا عدالتهم وثقة عمر بهم ما عينهم!

9- التقويم التعميمي:

ونعني بالتقويم التعميمي ذلك التقويم الذي يعدل بالجملة أو يجرح بالجملة، فليس عند أصحاب هذا التقويم نظرة وسطى، وعليه فإن أحكامهم تتجه دائمًا نحو الأطراف والتطرف، والحق أن التفصيل والتجزيء لأي شيء هو السبيل إلى فهمه أولًا، وإطلاق حكم سديد عليه ثانيًا، أما أخذ جانب من الصورة ثم تعميمها على الصورة كاملة؛ فهذا ما يعد خللًا في الحكم على الأمور، إن الخطيب الجيد والمفوه لا يعني أنه فقيه أو محدث أو حتى صاحب علم راسخ، والرجل المخلص، فيما يبدو من حاله وصلاحه، لا يعني أنه الأنسب في الريادة الدعوية والشرعية، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن الكثير من الناس يعانون من جور هذه النظرة التعميمية، والتي تصبغهم بلون واحد فقط، بينما لا تراعي القدرات الخاصة المتعلقة بالمقوم.

إن كون فلان غبيًا لا يعني أنه عاجز عن عمل شيء، كما أن كون فلان صاحب كبر أو غرور أو حتى بدعة فإن هذا لا يعني أنه لا حسنات له وأنه عار من الفضائل.

إن علماءنا الأجلاء ضربوا أمثلة مشرقة في دقة التقويم، وعدم الوقوع في الأحكام التعميمية، وطالع، إن شئت، ما سطره الذهبي أو ابن تيمية عن بعض المتصوفة أو المتلبسين ببعض الأفكار المخالفة، وكيف أنصفوهم وحكموا عليهم حكمًا عروا فيه جوانب الخلل، وألمحوا إلى مواطن الإحسان، دون تعميم يفضي إلى تغليب جانب على حساب جانب آخر.

وينشأ التقويم التعميمي من عدة عوامل؛ قد يكون من بينها العقلية ذات البعد الواحد، أو الميل الطبيعي عند الناس إلى تبسيط الأمور، وإطلاق التقويمات التعميمية التي تريحهم من عناء التفصيل والتدقيق، أو غير هذا وذاك.

10- التقويم المباشر عن طريق المقابلات:

لا عن طريق الملاحظة والتجريب، وحتى نكون بعيدين عن المثالية فإننا لا نستطيع أن ننفي أنه قد لا يتيسر في بعض، بل في كثير، من الأحيان التقويم عن طريق الملاحظة والتجريب، فمقابلات الجامعات، مثلًا، لا تعتمد إلا على أسلوب المقابلات، وكذلك اختبارات القبول لكثير من المؤسسات والشركات وما شابهها، ولكن الذي يعنينا هنا أمور:

أولًا: إذا صح أن تعد هذه الوسيلة هي الأكثر عملية على نطاق المؤسسات المهنية؛ فإنها لا تصلح أن تكون كذلك في مجال التقويم الدعوي والتربوي؛ ذلك أن الشهادات والأوراق ليست هي لغة التقويم التربوي والدعوي كما هو في الأعمال الوظيفية المؤسسية.

ثانيًا: ينبغي أن نفرق بين أن تكون المقابلات الشخصية هي الوسيلة المتاحة، وبين أن يعول على هذه الوسيلة تعويلًا كاملًا، ذلك أنها، جزمًا، ليست وسيلة دقيقة أو الأدق على أقل تقدير.

ثالثًا: المقابلات الشخصية تعتمد في جزء كبير منها على الحذاقة والنباهة وحسن العرض والمنطق والحجة، وعلى هذا فإن بعض من يملكون صفات أفضل قد يفشلون؛ لأنهم يملكون قدرات أقل فيما ذكرنا من الصفات الاجتماعية الظاهرة، ونلاحظ أن هذا المعنى نفسه قد أشار إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم في باب التخاصم فقال: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذ، فإنما أقطع له قطعة من النار»(8)، فإذا كان المصطفى عليه الصلاة والسلام لم يأمن الاغترار بمنطق أحدهما فكيف بغيره؟

رابعًا: إن من أسباب عدم دقة أسلوب المقابلات اعتمادها على حالة نفسية واحدة، في الغالب أنها وجلة ومضطربة، ولا تعكس طبيعة الشخصية وأريحيتها دون تكلف، ذلك أن المتكلفين لا يستطاع النفاذ إلى حقيقة جوهرهم؛ بينما تعتمد طريقة الملاحظة الأطول زمنًا من خلال المؤاخاة أو السفر إلى استرخاء نفسي، تتجلى من ورائه شخصية المقوم؛ بسبب ذهاب التوتر من جهة، وكذلك تبدل المواقف والأحداث التي تكشف، وبجلاء، جوانب متعددة من تلك الشخصية في الغضب والرضا والمنشط والمكره؛ ذلك أن كثيرين من الناس قادرون على التمثيل، ولكن القليل منهم فقط قادرون على التمثيل لفترات طويلة ومتباينة.

11- تأثر المقوم بميوله الشخصية في التقويم:

لكل إنسان نبوغ أو ميول إلى علوم أو مهارات أو وجهات معينة، وهذا من الاختلاف الجبلي الذي جبل عليه البشر، إلا أن هذا الاختلاف في الميولات ينبغي ألا يعكس على التقويمات على الأفراد، سلبًا أو إيجابًا، على حسب وجودها أو انعدامها في المقوم (بالفتح).

ومن الواقع المر في العمل التربوي، مثلًا، أنك ترى أن البعض من القائمين عليه يحتفون بالأفراد الذين تتوافق قدراتهم مع قدراتهم، ومن ثم يقدرونهم ويطورونهم، بينما يخصِّص للآخرين مساحةً واهتمامًا أقل؛ فلا يعني مثلًا كون المربي أو المقوم شاعرًا أو محبًا للشعر أنه يزيد من حسن تقويمه لأرباب الشعر، بينما لا يجد أصحاب الميولات الفكرية، مثلًا، نصيبهم من التقدير في نظر المقوم؛ لأنه ليس في هذا الوادي، إننا إن تجاوزنا عن المربي في عدم تطويره لهذه الخصال لأي سبب كان؛ فإننا لا نتجاوز عن عدم تقديره لها واعتبارها مقياسًا من مقاييس التقويم لأي سبب كان.

12- استخدام المقاييس النفسية غير الموضوعية:

الراحة الشخصية، والظن، والتخمين، والاستشفاف، والفراسة، والشعور الخفي، والحاسة السادسة؛ قد يصلح استخدامها في اصطفاء صديق أو خليل، إلا أنها لا تصلح أن تكون عوامل مفردة للتقويم، ذلك أن أحدًا لا يستطيع الجزم بصحة نبوءاته، أو صدق فراسته؛ ولذلك لا بد أن تستبدل أو تدعم، على أقل تقدير، تلك الأمور النفسية بالحقائق والوقائع والإنجازات.

إن شيوع التقويم الموضوعي، المبني على حقائق، يدل على مدى احترام المقوم لسامعه ولنفسه وللآخرين، بخلاف ما يعكسه ذلك التقويم الذي لا يبرره صاحبه إلا بقوله: لم أرتح له، أو هكذا أشعر، أو أظن ذلك، أو حاستي السادسة تقول، أو من خلال فراستي التي لا تخطئ؛ فرأيي هو... إلخ.

13- الوقوع بين فكي المثالية الحالمة، والواقعية المفرطة:

وآفة من آفات أمتنا الوسط أنها تجنح كثيرًا إلى الأطراف، تاركة حد التوسط والاعتدال!

14- تقديم الجرح على التعديل:

وذلك من خلال البحث الدقيق عن جوانب القصور مقابل إهمال جوانب البروز، هذا من جهة، ومن جهة أخرى الاعتقاد خطأً أن التقويم الناجح هو التقويم الذي يجلي الأخطاء والمعايب وينقب عنها، وهي نظرة مع قتامتها إلا أنها شائعة في المجالات التربوية والدعوية والاجتماعية كذلك، حيث أصبح الكثيرون لا ينظرون إلا إلى نقاط الافتراق مقابل إهمالهم لنقاط الاتفاق، والمشكلة أن هذه المشكلة تجاوزت المجالات التربوية لتلج إلى المجالس الشرعية البحتة من خلال تقويمات الأئمة والدعاة، والتي تنقب عن المثالب وتهمل الحسنات بدعاوى شرعية(9).

15- غياب الإنصاف: التقويم لا ينبغي أن يتحول إلى قضية شخصية، فالرأي الشخصي شيء والعمل ينبغي أن يكون شيئًا آخر، فليس من الإنصاف إقحام المواقف الخاصة في تقويم العمل، وكذلك لا ندخل في  التقويم عنصر القرابة أو العدائية، فلا هذا ولا ذاك يتدخل في التقويم؛ بل التجرد والإخلاص، وكلٌ يأخذ ما يستحق، قال الله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152].

وقد قيل: العدل في الشيء صورة واحدة، والجور صور كثيرة، وهما يشبهان الإصابة في الرماية والخطأ فيها؛ فإن الإصابة تحتاج إلى ارتياض وتعهد، والخطأ لا يحتاج إلى شيء من ذلك.

***

______________

(1) انظر: المفصل في فقه الدعوة إلى الله تعالى (6/ 77).

(2) شرح السنة، للبغوي (10/ 243).

(3) أخرجه مسلم (5).

(4) أخرجه البخاري (4418).

(5) فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (2/ 128).

(6) التقويم الدعوي، إخوان أون لاين.

(7) طرق تقويم العمل الدعوي، منتديات تربويات.

(8) أخرجه البخاري (6967).

(9) معالم على طريق التقويم، موسوعة البحوث والمقالات العلمية.