logo

الترف وأثره على الدعوة


بتاريخ : الجمعة ، 21 ربيع الأول ، 1437 الموافق 01 يناير 2016
بقلم : تيار الاصلاح
الترف وأثره على الدعوة

الترف داء عضال، ومرض مهلك، إن استشرى في أمة ذهب بعزمها، وأورثها تباطؤا وخمولًا وكسلًا ودعة، وعلقها بالحياة الدنيا، وحببها إليها، والترف إن التصق بشخص ما حتى صار يوصف به كان ذلك إيذانًا بضعفه، وإعلامًا بوهنه، ودليلًا على تراخي شأنه، وعدم ضبطه أمره، وأنه أكثر لذائذ الحياة على الجد والاجتهاد، هذا هو الترف وما يجره على العامة، لكن كيف هو إن صار علامة على عدد من الصالحين، وشارة لبعض الدعاة والمتصدرين؟ هنا يعظم الخطب، ويستشري الفساد.

الترف يفسد الفطرة، ويغلظ المشاعر، ويسد المنافذ، ويفقد القلوب تلك الحساسية المرهفة التي تتلقى وتتأثر وتستجيب، ومن هنا يحارب الإسلام الترف ويقيم نظمه الاجتماعية على أساس لا يسمح للمترفين بالوجود في الجماعة المسلمة؛ لأنهم كالعفن يفسد ما حوله، حتى لينخر فيه السوس(1).

والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين، الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة، حتى تترهل نفوسهم وتأسن، وترتع في الفسق والمجانة، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلغ في الأعراض والحرمات، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادًا، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها، وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها، ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها، فتهلك وتطوى صفحتها...

فإذا قدر الله لقرية أنها هالكة لأنها أخذت بأسباب الهلاك، فكثر فيها المترفون فلم تدافعهم ولم تضرب على أيديهم، سلط الله هؤلاء المترفين ففسقوا فيها، فعم فيها الفسق، فتحللت وترهلت، فحقت عليها سنة الله، وأصابها الدمار والهلاك، وهي المسئولة عما يحل بها؛ لأنها لم تضرب على أيدي المترفين، ولم تصلح من نظامها الذي يسمح بوجود المترفين.

فوجود المترفين ذاته هو السبب الذي من أجله سلطهم الله عليها ففسقوا، ولو أخذت عليهم الطريق فلم تسمح لهم بالظهور فيها ما استحقت الهلاك، وما سلط الله عليها من يفسق فيها ويفسد فيقودها إلى الهلاك.

إن إرادة الله قد جعلت للحياة البشرية نواميس لا تتخلف، وسننًا لا تتبدل، وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج فتنفذ إرادة الله وتحق كلمته، والله لا يأمر بالفسق؛ لأن الله لا يأمر بالفحشاء، لكن وجود المترفين في ذاته دليل على أن الأمة قد تخلخل بناؤها، وسارت في طريق الانحلال، وأن قدر الله سيصيبها جزاءً وفاقًا.

وهي التي تعرضت لسنة الله بسماحها للمترفين بالوجود والحياة.

فالإرادة هنا ليست إرادة للتوجيه القهري الذي ينشئ السبب، ولكنها ترتب النتيجة على السبب، الأمر الذي لا مفر منه؛ لأن السنة جرت به، والأمر ليس أمرًا توجيهيًا إلى الفسق، ولكنه إنشاء النتيجة الطبيعية المترتبة على وجود المترفين، وهي الفسق.

وهنا تبرز تبعة الجماعة في ترك النظم الفاسدة تنشئ آثارها التي لا مفر منها، وعدم الضرب على أيدي المترفين فيها كي لا يفسقوا فيها فيحق عليها القول فيدمرها تدميرًا(2).

إن هلاك الأمم وضعف شأنها وانحلال قواها إنما يكون بالشهوات المتحكمة، والأهواء المردية، وسيطرة ذلك على الذين يوجهونها، وفي الآية الكريمة ما يشير إلى أن الترف هو الذي يؤدي إلى الفسق، وأن الفسق هو الذي يؤدي إلى الدمار، فعلى الذين يعملون لرفعة الأمة أن يتجهوا إلى الدعامة التي تقوم عليها، وهي قوة النفس، وسيطرة الإرادة المؤمنة على الأهواء الجامحة، وأنه كلما كان الترف المردي كانت القوى المنحلة، وكلما كانت الإرادة القوية والعزيمة الصادقة والإخلاص المنير كان النصر المبين، والتأييد من الله رب العالمين(3).

إن زينة الحياة الدنيا وشهواتها أخذت بألباب وعقول أفراد من الأمة حتى عبدوها، وأصبحوا يرون في تعاليم الإسلام وأحكامه ما يفسد عليهم متعتهم بها، فصاروا يحاربون تعاليم الإسلام والداعين إليه، ويقفون في وجه كل دعوة جادة إلى الإسلام تريد إعادة الأمر إلى نصابه، وتقوم ببيان خطر الاغترار بالدنيا، منبهة إياهم إلى ما أحدثه من آثار سلبية كثيرة على دينهم ودنياهم.

وشباب الصحوة الإسلامية بعامة والدعاة إلى الله سبحانه بخاصة جزءٌ من أفراد المجتمع الإسلامي يصيب بعضهم، سواء أكان ذلك في حياتهم الشخصية والاجتماعية أو في البيئة الدعوية التي يعملون من خلالها، ما يوجد في مجتمعاتهم من أمراض وأدواء، ومن ذلك وجود ظاهرة الترف والرفاهية الزائدة في حياة بعضهم، وانشغالهم بذلك عن تربية أنفسهم، والقيام بواجبهم تجاه دينهم وأمتهم؛ بل إن الأمر لدى أولئك تجاوز حد التشاغل إلى مرحلة التساقط عن الطريق، وترك الطاعة، ومبارزة الله تعالى بالمعاصي.

والمراد بالترف هنا مجاوزة حد الاعتدال بنعمة، أو الإكثار من النعم التي يحصل بها الترف، وعليه فإن المترفين هم الذين أبطرتهم النعمة وسعة العيش، الحريصون على الزيادة في أحوالهم وعوائدهم، الساعون إلى بلوغ الغاية في حاجات الذات الحسية، من مأكل ومشرب ومسكن ومركب... الخ، ومع أن الترف قائم على الغنى ومبني عليه إلا أنه ليس بلازم له، فكم من غني وهو بخيل، يعيش هو وأهله عيشة البؤساء والمعوزين، وكم من فقير حرص على توفير النعم، وتحصيل ملذات الحياة وشهواتها من أي سبيل.

نظرة الإسلام للترف:

ورد ذكر الترف في القرآن الكريم في ثمانية مواضع، كلها في موضع الذم له والتحذير منه، كما تحذر الأحاديث النبوية من تعلُّق القلب به، وغلو الإنسان في الانغماس في متع الحياة وملذاتها، وبعضها الآخر ينهى عن مظهر من مظاهر الترف، ويحث على تركه والانصراف عنه إلى ما هو خير في الدارين.

فمن الآيات قوله تعالى: {وإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16]، وقوله تعالى: {حَتَّى إذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إذَا هُمْ يَجأرُونَ} [المؤمنون:64]، وقوله سبحانه: {وكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف:23].

ومن الأحاديث ما رواه عمرو بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فوالله، ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم»(4)، وما رواه عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف أو مخيلة»(5).

ودعوة الإسلام إلى ترك الترف ومحاربته له لا تعني ترك النعم والملذات، وإنما المراد الاقتصاد في الإنفاق، وعدم تعلق القلب بها والركون إليها، وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم الذي حذر من الترف وأحوال المترفين قد قال: «إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ويبغض البؤس والتباؤس»(6)، وقال صلى الله عليه وسلم لوالد أبي الأحوص: «فإذا آتاك الله مالًا فليُرَ أثر نعمة الله عليك وكرامته»(7)، وقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم أصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي»(8).

وأما قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه عندما ذكروا عنده الدنيا: «ألا تسمعون، ألا تسمعون؛ إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان!»(9)، فالمراد به التواضع في اللباس وترك التبجح به(10)، وعدم غلو الشخص في الاهتمام بمظهره حتى يشار إليه بالبنان.

من مظاهر الترف:

* الإفراط في تناول الطعام والشراب، وتوفير متطلبات النفس مما لذ وطاب؛ مما جعل الجم الغفير من الناس، دعاة وغيرهم، يعانون بسبب ذلك من السمنة وكثيرٍ من الأمراض الناشئة عن التخمة.

* جعل المال في الملابس الراقية، والاكتفاء بلبس الجديد والفاخر، حتى كثرت بسبب ذلك الملابس غير المستخدمة في المنازل، وتكدست مع وجود تنوع في الاستعمال حسب تعدد فصول العام، واختلاف أوقات اليوم، ويبرز الترف في هذا الجانب لدى النساء.

* صرف الأموال الضخمة في بناء المنازل والدور، والتباهي في إعدادها وتصاميمها البديعة في الشكل الخارجي والداخلي، مع الحرص على تعدد مواقعها؛ فبعضها للشتاء والآخر للصيف، وبعضها للسكن، وبعضها للنزهة، ومع الحرص على سعتها وكثرة غرفها ووجود ملحقات لها، ووفرة وسائل الترفيه فيها، مع أن الذي يكفي الإنسان من ذلك الشيء القليل.

* الاستكثار من وسائل الزينة، والاعتناء الزائد بالنفس، والإفراط في التدهن والتطيب والترجيل للشعر، ونحو ذلك من أمور الناس، حتى إن بعضهم ليزيد إنفاقه على زينته وبعض مظاهر الترف الأخرى على دخله؛ مما يضطره إلى الاقتراض أو إلى تعاطي أمور أخرى لا تحمد عقباها.

* جعل المال في الفرش الوثيرة، والأواني الفاخرة، والمتاع الراقي، أو الإكثار من ذلك، وإن لم يكن الشيء غالي الثمن، كثرة تقصر معها أيام العمر وتأبى أن تتسع للعبد لكي ينتفع بها ويستخدمها.

* عدم قيام الإنسان بحاجاته الذاتية والاجتماعية، التي يتمكن من القيام بها، والمجيء بالخدم رجالًا ونساءً، لكي يقوموا بذلك من غير حاجة، وإنما رغبة منه في ترفيه نفسه، وتقديم الراحة لأهله وأولاده، وحبًا منه في التفاخر والتباهي، والظهور بمظهر المتميز أمام بقية أفراد المجتمع.

* كثرة استخدام وسائل الترويح عن النفس؛ من مزاح وألعاب ونزهة وزيارات كثيرة، تخرج بالترويح عن الأمر الذي شرع له، وتصبح في حياة كثير من الناس كأنها هي الأصل والجد هو الفرع.

* ضياع الأوقات وانتشار البطالة في حياة بعض من الدعاة والمصلحين؛ حيث تكثر ساعات نومهم، ويتتابع فناء أعمارهم دون أن يقضوا شيئًا منها في أمر ينفعهم في دينهم أو دنياهم.

* التعلق بالتوافه، وضعف التفكير، وغياب القدرة على النقد البناء، وانتشار التقليد، والتسرع في الحكم على الأشياء بناءً على ظواهرها، وإمكانية التلاعب بالشخص واستدراجه إلى ما يراد من قبل الآخرين بيسر وسهولة، وبدون عناء أو مشقة.

* عدم الحرص على الطاعة، والتواني عن القيام بما يقرب في الآخرة، سواء أكان ذلك فيما يتعلق بذات الشخص؛ كصلاة النفل وصيام التطوع، أو فيما يتعلق بشئون الدعوة؛ إذ تكثر عند التنفيذ المشاغل، وتتعدد المبررات للتقاعس عن العمل أو التأخر في أدائه، وفي المقابل توجد، لدى ذلك الصنف، عجلة في تحصيل وسائل الترف، وسرعة في تحقيق مطلوبات النفس وشهواتها.

* تتبع أقوال أهل العلم للأخذ بالأيسر منها، ويرجع ذلك إلى أن كثرة النعم تقود إلى الدعة والراحة، وتلك تقود إلى اقتحام سبيل الشهوات والانغماس في الملذات، التي قد لا يجد العبد متنفسًا له فيما أحل الله فيقرر الأخذ بما يراه حرامًا، ولكن لكي يزيل الحرج عن نفسه، ويدفع عنه لوم الآخرين، إن وجد، يقوم بتتبع أقوال أهل العلم في الأمر الذي قرر إتيانه، إلى أن يجد له عالمًا في القديم أو الحديث يقول بجواز فعله، فيفرح به ويبدأ بإعلانه ونشره لا اعتقادًا بصحة ذلك القول والرغبة في إذاعته، ولكن حبًا في رفع الحرج عن النفس؛ نظرًا لموافقة ذلك القول لما قد عزمت نفسه على فعله.

أسباب الترف:

1- طول الأمل ونسيان الموت:

الانشغال بمتاع الدنيا وشهواتها ناتج عن طول الأمل، ونسيان الإنسان كونه في رحلة إلى الدار الآخرة، تكتمل بنزول ملك الموت لقبض الروح، ونظرًا لخطورة تلك الغفلة عن ذلك المصير وما تنتجه من ضعف الخوف من الله تعالى وقلة الخشية له، وبالتالي عدم المحاسبة للنفس والمراقبة لعملها، قال عز وجل محذرًا من ذلك: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا ويَتَمَتَّعُوا ويُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3]، وقال صلى الله عليه وسلم موصيًا ابن عمر: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»(11)؛ وذلك لأن الغريب لا تعلق له ببلد الغربة، ولا تشاغل لديه بملذاتها وملهياتها؛ بل قلبه معلق بوطنه الذي يرجع إليه، والمسافر لا هم له في الاستكثار من متاع الدنيا أثناء قطعه لمنازل السفر، وإنما يكتفي بتحصيل زاد السفر له ولراحته لا غير(12).

2- عدم موازنة الإنسان بين جوانبه المختلفة:

الانغماس في زهرة الحياة وبهارجها ناتج عن تغليب الإنسان لمتطلبات جسده، من مأكل ومشرب وملبس ومركب ومسكن ووسائل ترويح... الخ، وإغفاله لمتطلبات مهمة أخرى من عقل وروح، وعدم قيامه بالأخذ بالهدي النبوي الرشيد، الداعي إلى الموازنة بين تلك الجوانب المختلفة، روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو حين علم بمغالاته في العبادة: «ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل»، فقلت: بلى يا رسول