logo

التحذير من الشر


بتاريخ : الاثنين ، 18 شوّال ، 1436 الموافق 03 أغسطس 2015
بقلم : تيار الاصلاح
التحذير من الشر

إن التحذير من الشر باب من أبواب الخير، فإن سبيل المجرمين إذا عُرِفَتْ عرفت منها سبيل المسلمين؛ لأن الأشياء تعرف بأضدادها، وإذا عرف الإنسان الشر عرف أن مقابله هو الخير.

 

عن حذيفة بن اليمان قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم»، فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دخن»، قال: قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر»، فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم: دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها»، فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا؟ قال: «نعم، قوم من جلدتنا، يتكلمون بألسنتنا»، قلت: يا رسول الله، فما ترى إذا أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، فقلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك»(1).

وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم»، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال «فمن؟»(2).

الدفع أسهل من الرفع، والتخلية مقدمة على التحلية، والوقاية خير من العلاج، وأحيانًا تكون العلاجَ الوحيد، والخبرة بالظلام تميزه عن النور، وتعصم من التورط فيه، فالضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتميز الأشياء، قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: يوشك أن يَهدم الإسلامَ حجرًا حجرًا مَن جهل عادات الجاهلية.

عرفتُ الشرَّ لا للشر لكنْ لتوقِّيه      ومن لا يعرف الشرَّ من الخير يقعْ فيه(3).

قال الراشد: كان حذيفة رضي الله عنه لا يقنع أن يشارك إخوته من الصحابة رضي الله عنهم سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكملات الخير الذي هم فيه، وما أن يشاركهم فرحهم بالخير حتى تلذع ابتسامة قلبه تخوفات من احتمالات شر مبهم يراه مقبلًا، يجهل صفته وعلامته، فيظل قلقًا وجلًا، حتى ينعته له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر له بوادره ومقدماته التي ستنبهه يومًا ما إلى الاحتياط ورفع صوته بأذان التحذير.

كان يريد علمًا يكمِّل علم الخير، فصار يحرص على أن يخلو برسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله.

يقول حذيفة رضي الله عنه: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني.

فأتقن علم الشر بهذا الحرص، وأحاط خُبرًا بما سيكون من فتن وسوء ونفاق، حتى احتاج إلى علمه كبار الصحابة، وطفق مثل عمر رضي الله عنه يسأله، ويستشيره.

والمغزى الأكبر هنا يكمن في استجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة، وجوابه له، وقبوله تعليمه علم الشر.

لم يقل له: إننا في خير، ونسير من نصر إلى نصر، فاصرف عنك الهواجس؛ بل أجابه وأعلمه.

وإنما نستمد نحن مُسَوِّغات تطرق بحوث فقه الدعوة لعلم الفتن والقواصم، وما ينجي منها من النور والعواصم، من مواطأة النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة، وتزويده له بما أراد، نتعلم علم الشر كي نراه ونميزه قبل أن يغزونا(4).

صراط الله المستقيم واحد لا اعوجاج فيه، بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كانت سبل الشيطان كثيرة مختلفة بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحذر منها، ونبه على اختلافها ومخالفتها للحق، وأنها سبل ضلالٍ وأبواب لجهنم، ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طريق النجاة منها، وهو اتباع كتاب الله وسنة رسوله ولزوم جماعة المسلمين.

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا، ثم قال: «هذا سبيل الله», ثم خط خطوطًا عن يمينه وشماله، وقال: «هذه سبل, على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه», وقرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام:153](5).

إن هذا المنهج لا يعنى ببيان الحق وإظهاره حتى تستبين سبيل المؤمنين الصالحين فحسب؛ إنما يعنى كذلك ببيان الباطل وكشفه حتى تستبين سبيل الضالين المجرمين أيضًا، إن استبانة سبيل المجرمين ضرورية لاستبانة سبيل المؤمنين، وذلك كالخط الفاصل يرسم عند مفرق الطريق!

إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله سبحانه ليتعامل مع النفوس البشرية، ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر، والتأكد من أن هذا باطل ممحض وشر خالص، وأن ذلك حق ممحض وخير خالص، كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق؛ ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل، وأنه يسلك سبيل المجرمين، الذين يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدوًا منهم {وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:112]، ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين أن الذين يعادونهم إنما هم المجرمون عن ثقة، وفي وضوح، وعن يقين.

إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح، واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات، ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشًا وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم، فهما صفحتان متقابلتان، وطريقان مفترقتان، ولا بد من وضوح الألوان والخطوط.

ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، يجب أن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين، وتعريف سبيل المجرمين، ووضع العنوان المميز للمؤمنين، والعنوان المميز للمجرمين، في عالم الواقع لا في عالم النظريات، فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون، بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم، بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان، ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين.

وهذا التحديد كان قائمًا، وهذا الوضوح كان كاملًا يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية، فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه.

وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدين، ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل، وكان الله سبحانه يفصل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة، ومنها ذلك النموذج الأخير، لتستبين سبيل المجرمين!

وحيثما واجه الإسلام الشرك، والوثنية، والإلحاد، والديانات المنحرفة المتخلفة من الديانات ذات الأصل السماوي، بعد ما بدّلتها وأفسدتها التحريفات البشرية، حيثما واجه الإسلام هذه الطوائف والملل كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة، وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك، لا يجدي معها التلبيس! ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا، إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين، في أوطان كانت في يوم من الأيام دارًا للإسلام، يسيطر عليها دين الله، وتحكم بشريعته، ثم إذا هذه الأرض، وإذا هذه الأقوام، تهجر الإسلام حقيقة، وتعلنه اسمًا، وإذا هي تتنكر لمقومات الإسلام اعتقادًا وواقعًا، وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقادًا!

فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله وحده هو خالق هذا الكون، المتصرف فيه، وأن الله وحده هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله، وأن الله وحده هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله، وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله بهذا المدلول فإنه لم يشهد، ولم يدخل في الإسلام بعد، كائنًا ما كان اسمه ولقبه ونسبه، وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله، بهذا المدلول، فهي أرض لم تدن بدين الله، ولم تدخل في الإسلام بعد.

وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين، وهم من سلالات المسلمين، وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام دارًا للإسلام، ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلا الله، بذلك المدلول، ولا الأوطان اليوم تدين لله بمقتضى هذا المدلول.

وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام! أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله، ومدلول الإسلام في جانب وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر.

أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين، وطريق المشركين المجرمين، واختلاط الشارات والعناوين، والتباس الأسماء والصفات، والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق! ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة، فيعكفون عليها توسيعًا وتمييعًا وتلبيسًا وتخليطًا، حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام!، تهمة تكفير المسلمين!!!

ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله! هذه هي المشقة الكبرى، وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل! يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة، وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف، وألا تقعدهم عنها لومة لائم، ولا صيحة صائح: انظروا! إنهم يكفرون المسلمين! إن الإسلام ليس بهذا التميع الذي يظنه المخدوعون! إن الإسلام بيّن والكفر بين، الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، بذلك المدلول، فمن لم يشهدها على هذا النحو ومن لم يقمها في الحياة على هذا النحو، فحكم الله ورسوله فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين المجرمين.

قال تعالى: {وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] .

أجل، يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة، وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة؛ كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله، لا تصدها شبهة، ولا يعوّقها غبش، ولا يميعها لبس، فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم (المسلمون)، وأن الذين يقفون في طريقهم، ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم (المجرمون)، كذلك فإنهم لن يحتملوا متاعب الطريق إلا إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان، وأنهم وقومهم على مفرق الطريق، وأنهم على ملة وقومهم على ملة، وأنهم في دين وقومهم في دين: {وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55](6).

فمن لم يعرف الجاهلية المعاصرة، وسبيل المجرمين، وأحوال الطغاة والظالمين، كان أعجز من أن يعرف السبيل للخروج بالأمة من حالتها الجاهلية إلى واقع إسلامي!

إن من نشأ في الإسلام غير عالم تفصيل ضده التبس عليه بعض تفاصيل سبيل المؤمنين بسبيل المجرمين، فإن اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما، كما قال عمر بن الخطاب: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية، وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه، فإنه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها؛ وهو كل ما خالف الرسول فهو من الجهل، فمن لم يعرف سبيل المجرمين ولم تستبن له أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين، كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الاعتقاد والعلم والعمل، هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل، أدخلها مَن لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين، ودعا إليها وكفَّر من خالفها، واستحل منه ما حرمه الله ورسوله، كما وقع لأكثر أهل البدع، من الجهمية والقدرية والخوارج والروافض وأشباههم، ممن ابتدع بدعة ودعا إليها وكفر من خالفها.

والناس في هذا الموضع أربع فرق:

الأولى: مَن استبان له سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين على التفصيل علمًا وعملًا؛ وهؤلاء أعلم الخلق.

الفرقة الثانية: من عميت عنه السبيلان من أشباه الأنعام، وهؤلاء بسبيل المجرمين أحضر ولها أسلك.

الفرقة الثالثة: من صرف عنايته إلى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها، فهو يعرف ضدها من حيث الجملة والمخالفة، وأن كل ما خالف سبيل المؤمنين فهو باطل، وإن لم يتصوره على التفصيل؛ بل إذا سمع شيئًا مما خالف سبيل المؤمنين صرف سمعه عنه، ولم يشغل نفسه بفهمه ومعرفة وجه بطلانه، وهو بمنزلة من سلمت نفسه من إرادة الشهوات فلم تخطر بقلبه، ولم تدعه إليها نفسه، بخلاف الفرقة الأولى فإنهم يعرفونها، وتميل إليها نفوسهم، ويجاهدونها على تركها لله، وقد كتبوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه عن هذه المسألة أيهما أفضل؟ رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله، أو رجل نازعته إليها نفسه فتركها لله؟ فكتب عمر: أن الذي تشتهي نفسه المعاصي ويتركها لله عز وجل من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، لهم مغفرة وأجر عظيم.

وهكذا من عرف البدع والشرك والباطل وطرقه؛ فأبغضها لله، وحذرها وحذر منها، ودفعها عن نفسه، ولم يدعها تخدش وجه إيمانه ولا تورثه شبهة ولا شكًا؛ بل يزداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له، وكراهة لها ونفرة عنها، أفضل ممن لا تخطر بباله ولا تمر بقلبه، فإنه كلما مرت بقلبه وتصورت له ازداد محبة للحق، ومعرفة بقدره وسرورًا به، فيقوى إيمانه به، كما أن صاحب خواطر الشهوات والمعاصي كلما مرت به فرغب عنها إلى ضدها ازداد محبة لضدها، ورغبة فيه، وطلبًا له وحرصًا عليه، فما ابتلى الله سبحانه عبده المؤمن بمحبة الشهوات والمعاصي، وميل نفسه إليها إلا ليسوقه بها إلى محبة ما هو أفضل منها وخير له وأنفع وأدوم، وليجاهد نفسه على تركها له سبحانه، فتورثه تلك المجاهدة الوصول إلى المحبوب الأعلى.

الفرقة الرابعة: فرقة عرفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصلة وسبيل المؤمنين مجملة، وهذا حال كثير ممن اعتنى بمقالات الأمم ومقالات أهل البدع، فعرفها على التفصيل، ولم يعرف ما جاء به الرسول كذلك؛ بل عرفه معرفة مجملة، وإن تفصلت له في بعض الأشياء، ومن تأمل كتبهم رأى ذلك عيانًا، وكذلك من كان عارفًا بطرق الشر والظلم والفساد على التفصيل، سالكًا لها، إذا تاب ورجع عنها إلى سبيل الأبرار يكون علمه بها مجملًا غير عارف بها على التفصيل معرفة من أفنى عمره في تصرفها وسلوكها(7).

وتعليل حذيفة رضي الله عنه: «مخافة أن أقع فيه»، حينئذ معرفة الشر والتَّبصُّر به يكون من أمور الخير، وبذلك أقره النبي صلى الله عليه وسلم فيكون أمرًا مشروعًا، معرفة الشر ومعرفة طرق الشر من أجل الحذر منها، وعدم التلبس بها هذا من الأمور المشروعة؛ لكنها في الجملة؛ بمعنى أن الإنسان لا ينشغل بمعرفة الباطل عن معرفة الحق، يعرف الحق أولًا، ثم بعد ذلك يعرف نقيضه على جهة الإجمال، وأما أن يكون العكس؛ أن يشتغل المسلم بمعرفة الباطل وتفاصيله ونحو ذلك، ثم هو في الحق يكون ضعيفًا؛ هذا ليس هو المراد، ولذلك حذيفة صحابي جليل، وهو من المحققين إن شاء الله تعالى للتوحيد، وأراد أن يعرف الشر بعد أن أتى بالتوحيد.

ولا يستدل بهذا الأثر على أن الإنسان ينشغل بالباطل وأهله ومعرفة طرقه عن معرفة الحق، يعلم ويتعلم، ثم إن وُجِدَ عنده من الوقت عرف ذلك، وأما الشر الذي هو كائن في الشرك فهذا يتعين على كل مسلم معرفته، على كل مسلم أن يعرف التوحيد وأن يعرف نقيضه؛ إذ لا يسلم من الوقوع في نقيض التوحيد إلا بمعرفته، فيعرفه على جهة الإجمال(8).

ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم أعرف الأمة بالإسلام، وتفاصيله، وأبوابه، وطرقه، وأشد الناس رغبةً فيه، ومحبة له، وجهادًا لأعدائه؛ لعلمهم بضده.

فإذا عرف العبد الضدين، وعلم مباينة الطرفين، وعرف أسباب الهلاك على التفصيل كان أحرى أن تدوم له النعمة، ما لم يُؤْثرْ أسباب زوالها.

وهذه حال المؤمن؛ يكون فطنًا حاذقًا، أعرف الناس بالشر، وأبعدهم عنه، فإذا تكلم في الشر وأسبابه ظننته من شر الناس، فإذا خالطته، وعرفت طويَّته رأيته من أبر الناس.

والمقصود أن من بلي بالآفات صار أعرف الناس بطرقها، وأمكنه أن يسدها على نفسه، وعلى من استنصحه، ومن لم يستنصحه.

ومن المعلوم أن الشر العظيم، والداء الوبيل أن يقع المسلم في شيء من شعائر الذين كفروا دون علمه أن ذلك من شعائرهم وأخص عاداتهم، التي أُمرنا بمجانبتها والحذر منها؛ لأنها رجس وضلال.

فيجب علينا معرفة الشر حتى نقدر على مواجهته، فهل نحارب عدوًا لا نعرفه؟ المهم أن نعرفه، ونعرف أسلحته، ونقاط ضعفه وقوته.

***

__________________

(1) رواه البخاري (3606)، ومسلم (1847).

(2)رواه مسلم (2669).

(3) بصائر في الفتن، د. محمد إسماعيل المقدم، ص12.

(4) العوائق، لمحمد الراشد، ص173-175.

(5) رواه أحمد (4437).

(6) في ظلال القرآن (الأنعام:55).

(7) الفوائد، لابن القيم، ص142-145.

(8) شرح كتاب التوحيد، للحازمي (17/1).