logo

الوهن داء الأمة العضال


بتاريخ : الأحد ، 4 ذو القعدة ، 1440 الموافق 07 يوليو 2019
بقلم : تيار الاصلاح
الوهن داء الأمة العضال

«حب الدنيا، وكراهية الموت» بهذه العبارة القصيرة عرَّف النبي صلى الله عليه وسلم الوهن، وهذه العبارة على وجازتها تحمل في طياتها دلائل كثيرة، فهي لا تتعلق بالموت والحياة فقط؛ بل تتعدى لتشمل صراع الداخل؛ الصراع بين الإنسان والنفس، وصراع المادة مع الروح، والجمود مع الحركة، والتثاقل مع الانتقال، والخمود مع الإبداع والتغيير.

الوهن الفكري والروحي يتحول هنا إلى وهن عضلي وجسدي، ونفسي واجتماعي، ومعرفي وثقافي وديني؛ ليشمل كل مظاهر الدين والدنيا، فيؤثِّر على الأمة والحضارة؛ لأن الدافعية الذاتية في تلك الأمة بدأت تخمد وتتراجع، فيصبح اهتمام الأفراد اهتمامًا ماديًّا صرفًا، وبالتالي يصير اهتمامهم فرديًّا نفعيًّا لا يتعلق بالأمة.

هنا تكمن العلة الأولى، وهي كما قلنا: علة فكرية روحية، تكدست في أذهان أبنائها، وبناءً على التشخيص الخاطئ من تصنيف المرض على أنه مرض مادي، لا فكري وروحي، كان لا بد أن تكون طرق علاجه طرقًا مادية؛ لأنهم لا يرون القضية قضية فكر معوج، يفتقر إلى الرؤية السليمة والعلاج الموضوعي، ولا يرون القضية قضية روح باهتة في الأمَّة تفتقر إلى العزيمة والديمومة، والطاقة التي تدفعها بكل قوة إلى العمل والحركة؛ وهي طاقة الإيمان(1).

لما حاصر المسلمون بلاد فارس، وكان الفرس أقوى أمة آنذاك، جرت لقاءات ومفاوضات بين قادة المسلمين وقادة فارس، أراد رستم أن يظهر قوة الفرس وغناهم أمام ضعف العرب وفقرهم، فأمر بفرش البسط والنمارق، ووُضِع له سريرٌ من ذهب، وأحاط به حاشيته وهم في كمال زينتهم وأبهتهم وسلاحهم، فتعاقب ثلاثة من المفاوضين المسلمين على رستم يفاوضونه، فما غرتهم دنيا الفرس، ولا نظروا إليها إلا نظرة ازدراء واحتقار، فكان أول الداخلين ربعي بن عامر، دخل بفرسه يطأ بها بسطهم ووسائدهم، حتى ربط فرسه ببعضها، ونزل يتكئ بسيفٍ لم يجد له غمدًا فلفه بخرقة، حتى بلغ سرير رستم، وجلس على الأرض ولم يجلس على زينتهم؛ عزة وإباءً، وبَلَّغه بما جاء به.

وفي اليوم الثاني جاء للمفاوضة سعد بن حذيفة بن محصن، ورفض النزول عن فرسه حتى بلغ بها سرير رستم، فكلمه برسالته وهو على فرسه.

وفي اليوم الثالث جاءهم المغيرة بن شعبة، فجلس مع رستم على سريره غير آبهٍ به، فهرع إليه جنده حتى أنزلوه، فعرض رستم على المغيرة شيئًا من الدنيا له وللمسلمين؛ ليرجعوا عن غزو فارس، ولكن المغيرة عرض عليه الإسلام أو الجزية أو السيف، بكل عزة وإباء.

فما أغرت جندَ الإسلام بهرجةُ فارس ودنياها وقوتُها وغناها؛ لأن الدنيا ما كانت في قلوبهم، فسقطت بلاد الفرس في أيديهم، ونقل ذهبها إلى المدينة.

وأما الواقع فإن الأعداء ما تمكنوا من المسلمين في العصور المتأخرة، ولا ضاعت الحقوق، واحتلت البلدان، ونهبت الثروات، وامتهنت الكرامة إلا بعد أن عظمت الدنيا عند كثير من المسلمين، وتمكنت من قلوبهم، فتنافسوها واختلفوا عليها، واقتتلوا من أجلها، ووجد الأعداء مداخل عليهم من قِبَلِها؛ حتى كان في المسلمين من خان دينه وأمته ووطنه وأهله لمصلحة أعدائه من أجل شيء من الدنيا.

ووقع ما خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته حين أقسم فقال: «فوالله، لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم»(2)، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: «تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون، أو نحو ذلك»(3).

إن الله عز وجل جعل الذل والهوان في الكافرين {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الكَافِرِينَ} [الأنفال:18]، ونهى المؤمنين عن الهوان؛ لأنهم الأعلون {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، ونُهوا عن الهوان؛ لأن الله تعالى معهم {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ} [محمد:35]؛ ولأنهم يرجون ثواب الله تعالى، وغايتهم الآخرة وليست الدنيا {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء:104]؛ ولأنهم يعلمون أن الله تعالى يحب الثابتين على دينه، الصابرين في مواجهة أعدائه {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146].

إن من تعلق قلبه بالدنيا أخلد إلى الأرض، ورضي بالذل، وأصابه الهوان والخذلان ولو كان مؤمنًا، وقد عاتب الله تعالى من أقعدهم حبُّ الدنيا عن الهجرة إليه، والجهاد في سبيله، والتضحية لدينه، وتوعدهم على ذلك، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} [التوبة:24]، ولا يعوق عن النفير في سبيل الله تعالى، وابتغاء مرضاته إلا حب الدنيا، كما في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38].

وهو واقع المسلمين اليوم، والهزيمة التي حاقت بالفئة المؤمنة في أُحد إنما كان سببها حب الدنيا المتمثل في الغنائم، قال الله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ} [آل عمران:152].

وجاء في السنة النبوية ما يدل على أن حب الدنيا يقود إلى أكل الحرام، والرضا بالملذات، وهجر مواطن العزة والإباء، فتضرب الذلة والهوان على الأمة بسبب ذلك؛ كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم»(4)(5).

وقد وقع هذا عبر التاريخ أكثر من مرة، عندما تداعت الأمم الصليبية إلى غزو هذه الأمة، ومرة أخرى عند اجتياح التتار العالم الإسلامي، ولكن هذه النبوءة تحققت في القرن الأخير بصورة أوضح، فقد اتفق الصليبيون واليهود والملاحدة على هدم الخلافة الإسلامية، ثم جزءوا الديار التي كانت تحكمها، وتقاسموا ديار المسلمين فيما بينهم، وأعطوا فلسطين لليهود، وأصبح المسلمون أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام، ولا تزال قوى الشر إلى اليوم متداعية لتدمير هذه الأمة وامتصاص خيراتها، ونهب ثرواتها، وإذلال رجالها، والأمة الإسلامية خانعة ذليلة، لم تغن عنها كثرتها، غثاء كغثاء السيل، وعلتها كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: «الوَهْن: حب الدنيا، وكراهية الموت»(6).

الحياة الدنيا لعب ولهو، تلعب بها الأبدان وتلهو بها القلوب، وزينة نتزين بها، وتفاخر بيننا بمتاعها، وتكاثر بالعدد في الأموال والأولاد، مثلها كمثل مطر أعجب الزُّرَّاع نباته، ثم يهيج هذا النبات فييبس، فتراه مصفرًا بعد خضرته، ثم يكون فُتاتًا يابسًا متهشمًا، فهي سرعان ما تنقطع وتزول، وما هي إلا متاع الغرور؛ {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20].

ودخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على حصير قد أثر في جنبه فقال: «يا نبي الله، لو اتخذت فراشًا أوثر من هذا!»، فقال: «مالي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها»(7).

وفي حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء»(8).

وما هي الدنيا بالنسبة للآخرة؟ إنها لا تساوي شيئًا، كما في قوله سبحانه: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص:60], إن الحرص على الدنيا واتباع الهوى من موجبات العذاب، والخوف من الله وعدم اتباع الهوى من موجبات الرحمة والفوز بالجنة، قال سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات:37-41].

وقد يفتح الله أبواب رزقه للناس امتحانًا لإيمانهم أو استدراجًا لهم، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج»، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام:44](9).

فمن أراد الفوز بالآخرة فعليه بتقوى الله، وتقديم الآخرة على الدنيا، والسعي للآخرة، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} [الإسراء:19], وقال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].

وقد أعد الله لعباده جنات تجري من تحتها الأنهار، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهذا خير من الدنيا وما فيها من شهوات؛ من نساء وبنين وأموال وزرع وغير ذلك من متاع زائل، قال سبحانه وتعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)} [آل عمران:14-15].

وقال الله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1]، نعم لقد ألهى الناسَ التكاثرُ والتفاخرُ بالمال والولد عن طاعة الله وعبادته، وأشغلهم عن تعلم الإسلام والعمل به والدعوة إليه ونصرته، ومنعهم حرصهم على الدنيا وشهواتها ونعيمها الزائل من الحرص على الآخرة الباقية ذات النعيم المقيم، فحبهما لا يجتمعان في قلب مسلم.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من طلب الدنيا أضر بالآخرة، ومن طلب الآخرة أضر بالدنيا، فأضِرُّوا بالفاني للباقي»(10).

هذا هو الميزان الصحيح للربح أو الخسارة، لقد أصاب الوهنُ القلوبَ، وهو مرض خطير تقاعس الناس بسببه عن عبادة الله.

بسبب هذا المرض ذلت الأمة الإسلامية، واستهان بها عدوها، وتداعى عليها من كل حدب وصوب، وما نراه ونشاهده ويجري في ديار المسلمين اليوم من قتل ودمار وإزهاق للأرواح, ففرق جمع سكانها، وشتت شملهم، ونهبت خيراتهم، واستحلت أموالهم ودماؤهم وأعراضهم، واستهزئ بنبي الأمة صلى الله عليه وسلم، وهي لا تحرك ساكنًا، أَبَعْدَ هذا الذل من ذل يا أمة الإسلام؟!

عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»، فقال قائل: «ومن قلة نحن يومئذ؟»، قال: «بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء [ما يحمله السيل] كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن»، فقال قائل: «يا رسول الله، وما الوهن؟»، قال: «حب الدنيا وكراهية الموت»(11).

لقد كره الناس الموت لحبهم للدنيا، والله تعالى يقول: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى:16-17]، لقد كره الناس الموت لأنهم عمروا دار الخراب فكرهوا أن ينتقلوا من العمار إلى الخراب، فقد قصروا اتجاه ربهم تبارك وتعالى ولم يعملوا ما يرضيه، فمن كان هذا حاله سيندم في وقت لا ينفع فيه الندم، فقد أخبرنا الله تبارك وتعالى عن حال الكافرين والمفرطين بقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)} [المؤمنون:99-100].

فإن مات العبد فلا رجعة للدنيا، ويوم العرض لا ينفعه إلا عمله، فإن كان خيرًا فخير، وإن كان شرًا فلا يلومن إلا نفسه، فلا ينفعه والده ولا ولده ولا الناس أجمعين، قال الله عز وجل: ‏{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33]، ولا ينفعه أقرباؤه أو أقرانه، قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)} [عبس:33-37], ولا ماله، قال الله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ} [الحاقة:28]، ولا ينفعه من اتبعهم من سادة وحكام؛ بل سيتبرءون منه يوم القيامة، قال الله سبحانه وتعالى: {وَبَرَزُواْ للهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} [إبراهيم:21].

صحيح أن الله تبارك وتعالى قد فطر في الإنسان غريزة النوع وغريزة حب البقاء، ولكن نهاه وحذره من أن يجعل الدنيا وشهواتها في رأس سلم أعماله وقيمه، وأوجب عليه أن يجعل حب الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما يقتضيه هذا الحب من طاعة والتزام بدينه وإيثار للآخرة على الدنيا فوق كل شيء، قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24](12).

أخبر الله عز وجل عن الأتباع الحقيقيين للرسل الذين جاهدوا معهم فأصابوا وأصيبوا، فلم يَفُتَّ في عضدهم ما أصابهم في سبيل الله وما لحقهم وَهْنٌ ولا ضعف ولا استكانة، وهكذا ينبغي أن يكون شأن المؤمنين في كل زمان ومكان: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146].

وقد نهانا الله عن الوهن في قتال الأعداء مهما كان الألم الذي أصابنا في جهادهم: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:104].

وقد قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا} [آل عمران:139]؛ أي لا تضعفوا ولا تجبنوا يا أصحاب محمد عن جهاد أعدائكم لما أصابكم(13).

أمة وعدها ربها بالنصر:

والعجب العجاب أن يتسلل الضعف والوهن إلى أمة وَعَدَها ربُها بالنصر على الأعداء، والتمكين لها في الأرض، إن هي عملت بكتاب ربها وسنة نبيها، وجاهدت في سبيل الله، وفوق ذلك جعل كيد أعدائها واهنًا بفضله وكرمه: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [الأنفال:18].

إن الوهن داء عضال، إذا تمكن من الأفراد أو الأمم كان الذل والخزي من نصيبهم، وكانوا عرضة لسطوة أعدائهم وتسلطهم عليهم، بحيث يعيشون في هذه الحياة وكأنهم غير موجودين؛ بل يعيشون مسلوبي الإرادة، مهزومي النفوس، مشلولي الفكر، ولو نظرت في قصص الماضين لوجدت مصداق ذلك، فما استذلت أمة إلا بهذا.

انظر إلى فرعون الذي تصرف بكبر وتجبر حتى قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعـات:24]، وقال: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]، إنه ما كان ليفعل ذلك لو لم يستضعف قومه، فقد كانوا يستأهلون ذلك لخفتهم وضعف إرادتهم: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54].

إن الإسلام يزرع في قلوب أبنائه الاعتزاز بنعمة الإيمان، والاستهانة بالدنيا، وحبَّ التضحية في سبيل الله، ولو بالنفس، لكن إذا تبدلت هذه الأخلاق وسيطر الوهن على النفوس زالت الهيبة، وتجرأ على الأمة الأراذل كما هو حاصل الآن.

ومن مظاهر الوهن أن يلغي المرء عقله، وأن يساير الناس وإن أخطئوا، وهذا الذي يُسمى إمعة، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «لا يكون أحدكم إمعة»، قالوا: «وما الإمعة يا أبا عبد الرحمن؟»، قال: «يقول: إنما أنا مع الناس؛ إن اهتدوا اهتديت، وإن ضلوا ضللت، ألا لَيُوَطِّنُ أحدُكم نفسه على إن كفر الناس ألا يكفر»(14).

إن الأسلاف رضي الله عنهم ما كانوا يعرفون الهزيمة بالمعنى الذي يعرفه الكثيرون اليوم، فإنها اليوم تعني الانكسار، أما الأسلاف فإنهم وإن أصيبوا في موقعة استرجعوا وأخذوا الأهبة لغيرها: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)} [آل عمران:173-174].

أما عند تمكن الوهن من النفوس فإنها تستخزي ويستأسد عليها الأعداء؛ فعند هجوم التتار على بلاد المسلمين واستباحة البلاد والأعراض كان الوهن هو المسيطر على النفوس، حتى إن الفقهاء والعلماء لما ساروا في الناس يحثونهم على الجهاد، ويرغبونهم في استنقاذ البلاد، ما قدَّم الناس أكثر من العويل والبكاء(15).

إن لأحوال الأمم العامة تأثيرًا عظيمًا في فهم أفرادها لنصوص الدين وغيرها من أقوال الحكماء والشعراء، فهي في حال ارتقائها بالعلم والحكمة وما يثمران من العزة والقوة تكون أصح أفهامًا، وأصوب أحكامًا، وأكثر اعتبارًا وادكارًا، وأحسن استفادة واستبصارًا، وفي حال فشو الغباوة والجهل، وما ينتجان من الضعف والذل، تكون بالضد من ذلك(16).

وترجع أسباب الضعف والتأخر وتسليط الأعداء إلى سببٍ نشأت عنه أسباب كثيرة، وعامل واحد نشأت عنه عوامل كثيرة، وهذا السبب الواحد والعامل الواحد هو الجهل؛ الجهل بالله وبدينه وبالعواقب التي استولت على الأكثرية، فصار العلم قليلًا والجهل غالبًا، وعن هذا الجهل نشأت أسباب وعوامل منها حب الدنيا وكراهية الموت، ومنها إضاعة الصلوات واتباع الشهوات، ومنها عدم الإعداد للعدو، والرضا بأخذ حاجاتهم من عدوهم، وعدم الهمة العالية في إنتاج حاجاتهم من بلادهم وثرواتهم، ونشأ عن ذلك أيضًا التفرق، والاختلاف، وعدم جمع الكلمة، وعدم الاتحاد، وعدم التعاون.

وعن الجهل نشأت هذه الكوارث وهذه العواقب الرديئة، التي هي حب الدنيا وكراهية الموت، والإقبال على الشهوات، وإضاعة الواجبات والصلوات، وإضاعة الإعداد للعدو من كل الوجوه إلا ما شاء الله من ذلك.

وبالعلم تكون النفوس والأموال رخيصة في جلب رضا الله، وفي سبيل إعلاء كلمة الله، وفي سبيل إنقاذ المسلمين من سيطرة عدوهم، وتخليصهم مما أصابهم من أنواع البلاء، وفي سبيل استنقاذ المستضعفين من أيدي أعدائهم، وفي سبيل حفظ كيان المسلمين وحوزتهم، وألا تنتقص بلادهم وحقوقهم.

فالجهل داء عضال يميت القلوب والشعور، ويضعف الأبدان والقوى، ويجعل أهله أشبه بالأنعام؛ لا يهمهم إلا شهوات الفروج والبطون، وما زاد على ذلك فهو تابع لذلك من شهوات المساكن والملابس.

فالجاهل قد ضعف قلبه، وضعف شعوره، وقلت بصيرته، فليس وراء شهوته الحاضرة وحاجته العاجلة شيء يطمح إليه ويريد أن ينظر إليه.

فقد سيطر الوهن عليهم، واستقر في قلوبهم، ولا يستطيعون الحراك إلى المقامات العالية والجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته؛ لأن حبهم للدنيا وشهواتها، من مآكل ومشارب وملابس ومساكن وغير ذلك، أقعدهم عن طلب المعالي وعن الجهاد في سبيل الله، فيخشون أن تفوتهم هذه الأشياء.

فالوهن أصاب القلوب، إلا ما شاء الله، واستحكم عليها، إلا من رحم ربك وما أقلهم، فهم في الغالب قد ضعفوا أمام عدوهم، ونزعت المهابة من قلوب أعدائهم منهم، وصار أعداؤهم لا يهتمون بهم، ولا يبالون بهم، ولا ينصفونهم؛ لأنهم عرفوا حالهم، وعرفوا أنهم لا قوة ولا غيرة عندهم، ولا صبر لهم على القتال، ولا قوة أيضًا تعينهم على القتال، ولم يعدوا لهذا المقام عدته، فلذلك احتقرهم العدو ولم يبال بشأنهم، وعاملهم معاملة السيد للمسود، والرئيس للمرءوس، وهم سادرون في حب الدنيا والبعد عن أسباب الموت، إلا من رحم ربك، حريصون على تحصيل الشهوات المطلوبة بكل وسيلة، حذرون من الموت، حريصون على العلاج والدواء في كل صغيرة وكبيرة من الأدواء خوف الموت، وحريصون أيضًا ألا يتعاطوا أمرًا يسبب الموت والانقطاع عن هذه الشهوات.

فالداء واضح وبيِّن، وهو مكون من عدة أدواء نشأت عن الجهل والإعراض والغفلة، حتى صار الموت مرهوبًا، والدنيا مؤثرة ومرغوب فيها، وحتى صار الجهاد شبحًا مخيفًا، لا يقبله إلا القليل من الناس، وصار الهدف ليس لإعلاء كلمة الله؛ بل إما لقومية، وإما لوطنية، وإما لأشياء أخرى غير إعلاء كلمة الله، وإظهار دينه والقضاء على ما خالف ذلك(17).

علاج الوهن:

إن اعتصام هذه الأمة بدينها ووحدتها حاجز يقف دون مطامع أعدائها، فمهما كان مكر الأعداء وقوتهم فإنهم لن ينالوا من هذه الأمة نيلًا إذا كانت متحدة، وفي الحديث الذي يرويه ثوبان أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «وإني سألت ربي لأمتي ألَّا يهلكها بِسَنَةٍ عامة، وألا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، أو قال: مَن بين أقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا»(18).

وواضح من الحديث أن وحدة الأمة عصمة لها من أعدائها، فإذا أصبح بأسها بينها، ووقعت الفرقة والاختصام فيما بينها سلط الله عليها أعداءها، وتلك نتيجة حتمية؛ لأن قوتها في هذه الحال لا تتجه إلى الأعداء؛ بل إلى نفسها، فتدمر نفسها بنفسها؛ مما يُطمِع أعداءها فيها(19).

والتربية الإسلامية تعالج هذا الوهن وهذه الخواطر الفطرية بوسائلها، وقد نجحت نجاحًا خارقًا، ولكن هذا لا ينفي أن تكون هناك رواسب في بعض النفوس، وبخاصة في ذلك الوقت المبكر من العهد المدني، وهذه الآية بعض العلاج لهذه الرواسب، فلننظر كيف كان القرآن يأخذ النفوس، فنحن في حاجة إلى تحري خطوات القرآن في التربية، والنفوس هي النفوس: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35].

أنتم الأعلون؛ فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم، أنتم الأعلون اعتقادًا وتصورًا للحياة، وأنتم الأعلون ارتباطًا وصلة بالعلي الأعلى، وأنتم الأعلون منهجًا وهدفًا وغاية، وأنتم الأعلون شعورًا وخلقًا وسلوكًا، ثم أنتم الأعلون قوة ومكانًا ونصرة، فمعكم القوة الكبرى: {وَاللهُ مَعَكُمْ}، فلستم وحدكم، إنكم في صحبة العلي الجبار القادر القهار، وهو لكم نصير حاضر معكم، يدافع عنكم، فما يكون أعداؤكم هؤلاء والله معكم؟ وكل ما تبذلون، وكل ما تفعلون، وكل ما يصيبكم من تضحيات محسوب لكم، لا يضيع منه شيء عليكم: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} ولن يقطع منها شيئًا لا يصل إليكم أثره ونتيجته وجزاؤه.

فعلام يهن ويضعف ويدعو إلى السلم، من يقرر الله سبحانه له أنه الأعلى، وأنه معه، وأنه لن يفقد شيئًا من عمله، فهو مكرم منصور مأجور؟

هذه هي اللمسة الأولى، واللمسة الثانية تهوين من شأن هذه الحياة الدنيا، التي قد يصيبهم بعض التضحيات فيها، وتوفية كاملة في الآخرة للأجور، مع عدم إبهاظهم ببذل المال مقابل هذه الأجور {إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ} [محمد:36].

والحياة الدنيا لعب ولهو حين لا يكون وراءها غاية أكرم وأبقى، حين تعاش لذاتها مقطوعة عن منهج الله فيها، ذلك المنهج الذي يجعلها مزرعة الآخرة، ويجعل إحسان الخلافة فيها هو الذي يستحق وراثة الدار الباقية.

وهذا هو الذي تشير إليه الفقرة التالية في الآية: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ}، فالإيمان والتقوى في الحياة الدنيا هو الذي يخرجها عن أن تكون لعبًا ولهوًا، ويطبعها بطابع الجد، ويرفعها عن مستوى المتاع الحيواني إلى مستوى الخلافة الراشدة، المتصلة بالملأ الأعلى، ويومئذ لن يكون ما يبذله المؤمن المتقي من عرض هذه الحياة الدنيا ضائعًا ولا مقطوعًا، فعنه ينشأ الأجر الأوفى، في الدار الأبقى، ومع هذا فإن الله لا يسأل الناس أن يبذلوا أموالهم كلها، ولا يشق عليهم في فرائضه وتكاليفه؛ لعلمه سبحانه بشح نفوسهم فطرة وخلقة.

وهو لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وهو أرحم بهم من أن يكلفهم بذلها كلها، فتضيق صدورهم، وتظهر أضغانهم: {إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ} [محمد:37].

وهذا النص يوحي بحكمة اللطيف الخبير، كما يوحي برحمته ولطفه بالنفوس، ويكشف عن التقدير الدقيق في تكاليف هذا الدين، ومراعاته للفطرة، وتناسقه مع بشرية البشر بكل استعداداتها وطاقاتها وأحوالها، فهو عقيدة ربانية لإنشاء نظام رباني إنساني، نظام رباني من ناحية أن الله هو الذي يقيم منهجه وقواعده، وإنساني من ناحية أن الله يراعي في تكاليفه طاقة الإنسان وحاجته، والله هو الذي خلق، وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير.

وفي النهاية يواجههم بواقع حالهم تجاه دعوتهم إلى البذل في سبيل الله، ويعالج شح النفوس بالمال بالوسائل القرآنية، كما عالج شحها في ذات النفس عند الجهاد: {هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].

والآية ترسم صورة وصفية لواقع الجماعة المسلمة يومذاك، ولواقع الناس تجاه الدعوة إلى البذل في كل بيئة.

فهي تقرر أن منهم من يبخل، ومعنى هذا أن هنالك من لا يبخلون بشيء، وقد كان هذا واقعًا، سجلته الروايات الكثيرة الصادقة، وسجله القرآن في مواضع أخرى، وقد حقق الإسلام في هذا المجال مثلًا يحسب من خوارق الأمثال في البذل والتضحية، عن رضًا، وعن فرح بالبذل والعطاء، ولكن هذا لم يمنع أن يكون هنالك من يبخل بالمال، ولعل الجود بالنفس أرخص عند بعضهم من الجود بالمال! والقرآن يعالج هذا الشح في هذه الآية: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ}.

فما يبذله الناس إن هو إلا رصيد لهم مذخور، يجدونه يوم يحتاجون إلى رصيد، يوم يحشرون مجردين من كل ما يملكون، فلا يجدون إلا ذلك الرصيد المذخور، فإذا بخلوا بالبذل فإنما يبخلون على أنفسهم، وإنما يقللون من رصيدهم، وإنما يستخسرون المال في ذواتهم وأشخاصهم، وإنما يحرمونها بأيديهم! أجل، فالله لا يطلب إليهم البذل إلا وهو يريد لهم الخير، ويريد لهم الوفر، ويريد لهم الكنز والذخر.

وما يناله شيء مما يبذلون، وما هو في حاجة إلى ما ينفقون: {وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ}.

فهو الذي أعطاكم أموالكم، وهو الذي يدخر لكم عنده ما تنفقونه منها، وهو الغني عما أعطاكم في الدنيا، الغني عن أرصدتكم المذخورة في الآخرة، وأنتم الفقراء في الدارين وفي الحالين، أنتم الفقراء إلى رزقه في الدنيا، فما لكم من قدرة على شيء من الرزق إلا أن يهبكم إياه، وأنتم الفقراء إلى أجره في الآخرة، فهو الذي يتفضل به عليكم، وما أنتم بموفين شيئًا مما عليكم، فضلًا على أن يفضل لكم شيء في الآخرة، إلا أن يتفضل عليكم.

ففيم البخل إذن وفيم الشح؟ وكل ما في أيديكم وكل ما ينالكم من أجر على ما تنفقون هو من عند الله، ومن فضل الله؟

إن اختيار الله لكم لحمل دعوته تكريم ومَنٌّ وعطاء، فإذا لم تحاولوا أن تكونوا أهلًا لهذا الفضل، وإذا لم تنهضوا بتكاليف هذه المكانة، وإذا لم تدركوا قيمة ما أعطيتم فيهون عليكم كل ما عداه، فإن الله يسترد ما وهب، ويختار غيركم لهذه المنة ممن يقدر فضل الله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ}.

وإنها لنذارة رهيبة لمن ذاق حلاوة الإيمان، وأحس بكرامته على الله، وبمقامه في هذا الكون وهو يحمل هذا السر الإلهي العظيم، ويمشي في الأرض بسلطان الله في قلبه، ونور الله في كيانه، ويذهب ويجيء وعليه شارة مولاه.

وما يطيق الحياة وما يطعمها إنسان عرف حقيقة الإيمان وعاش بها ثم تسلب منه، ويطرد من الكنف، وتوصد دونه الأبواب؛ لا بل إن الحياة لتغدو جحيمًا لا يطاق عند من يتصل بربه ثم يطبق دونه الحجاب.

إن الإيمان هبة ضخمة، لا يعدلها في هذا الوجود شيء، والحياة رخيصة، والمال زهيد زهيد، حين يوضع الإيمان في كفة ويوضع في الكفة الأخرى كل ما عداه، ومن ثم كان هذا الإنذار أهول ما يواجهه المؤمن وهو يتلقاه من الله(20).

***

_______________

(1) وهن الأمة مرض مزمن أم سوء تشخيص، شبكة الألوكة.

(2) أخرجه البخاري (3158).

(3) أخرجه مسلم (2962).

(4) أخرجه أبو داود (3462).

(5) حب الدنيا وكراهية الموت، موقع: مداد.

(6) القيامة الصغرى، ص185.

(7) أخرجه أحمد (2744).

(8) أخرجه الترمذي (2320).

(9) أخرجه أحمد (17311).

(10) أخرجه ابن أبي عاصم في «الزهد» (78/ 161).

(11) أخرجه أبو داود (4297).

(12) حب الدنيا وكراهية الموت، موقع: إمام المسجد.

(13) تفسير القرطبي (4/ 216).

(14) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (8765).

(15) الوهن داء الأفراد والأمم، موقع: الشبكة الإسلامية.

(16) تفسير المنار (7/ 414).

(17) أسباب ضعف المسلمين أمام عدوهم ووسائل العلاج لذلك، ابن باز.

(18) أخرجه مسلم (2889).

(19) القيامة الصغرى، ص186.

(20) في ظلال القرآن (6/ 3302-3304).