logo

فزادهم إيمانًا


بتاريخ : السبت ، 25 رمضان ، 1439 الموافق 09 يونيو 2018
بقلم : تيار الاصلاح
فزادهم إيمانًا

قال الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]؛ أي: الذين توعدهم الناس بالجموع، وخوفوهم بكثرة الأعداء، فما اكترثوا لذلك؛ بل توكلوا على الله واستعانوا به {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.

المراد بالزيادة في الإيمان أنهم لما سمعوا هذا الكلام المخوف لم يلتفتوا إليه؛ بل حدث في قلوبهم عزم متأكد على محاربة الكفار، وعلى طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يأمر به وينهى عنه، ثقل ذلك أو خف؛ لأنه قد كان فيهم من به جراحات عظيمة، وكانوا محتاجين إلى المداواة، وحدث في قلوبهم وثوق بأن الله ينصرهم على أعدائهم، ويؤيدهم في هذه المحاربة، فهذا هو المراد من قوله تعالى: {فَزَادَهُمْ إِيْمَانًا}(1).

إنهم أولئك الذين دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الخروج معه كرة أخرى غداة المعركة المريرة، وهم مثخنون بالجراح، وهم ناجون بشق الأنفس من الموت أمس في المعركة، وهم لم ينسوا بعد هول الدعكة، ومرارة الهزيمة، وشدة الكرب، وقد فقدوا من أعزائهم من فقدوا، فقل عددهم، فوق ما هم مثخنون بالجراح! ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاهم، ودعاهم وحدهم، ولم يأذن لأحد تخلف عن الغزوة أن يخرج معهم، ليقويهم ويكثر عددهم كما كان يمكن أن يقال! فاستجابوا؛ استجابوا لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي دعوة الله، كما يقرر السياق، وكما هي في حقيقتها وفي مفهومهم كذلك، فاستجابوا بهذا لله والرسول {مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ}، ونزل بهم الضر، وأثخنتهم الجراح.

لقد دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم وحدهم، وكانت هذه الدعوة وما تلاها من استجابة تحمل إيحاءات شتى، وتومئ إلى حقائق كبرى، نشير إلى شيء منها:

فلعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شاء ألا يكون آخر ما تنضم عليه جوانح المسلمين ومشاعرهم، هو شعور الهزيمة، وآلام البرح والقرح، فاستنهضهم لمتابعة قريش وتعقبها؛ كي يقر في أخلادهم أنها تجربة وابتلاء، وليست نهاية المطاف، وأنهم بعد ذلك أقوياء، وأن خصومهم المنتصرين ضعفاء، إنما هي واحدة وتمضي، ولهم الكرة عليهم، متى نفضوا عنهم الضعف والفشل، واستجابوا لدعوة الله والرسول.

ولعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شاء في الجانب الآخر ألا تمضي قريش، وفي جوانحها ومشاعرها أخيلة النصر ومذاقاته، فمضى خلف قريش بالبقية ممن حضروا المعركة أمس يشعر قريشًا أنها لم تنل من المسلمين منالًا، وأنه بقي لها منهم من يتعقبها ويكر عليها.

ولعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شاء أن يشعر المسلمين، وأن يشعر الدنيا كلها من ورائهم، بقيام هذه الحقيقة الجديدة التي وجدت في هذه الأرض، حقيقة أن هناك عقيدة هي كل شيء في نفوس أصحابها.

ليس لهم من أرب في الدنيا غيرها، وليس لهم من غاية في حياتهم سواها، عقيدة يعيشون لها وحدها، فلا يبقى لهم في أنفسهم شيء بعدها، ولا يستبقون هم لأنفسهم بقية في أنفسهم لا يبذلونها لها، ولا يقدمونها فداها.

لقد كان هذا أمرًا جديدًا في هذه الأرض في ذلك الحين، ولم يكن بد أن تشعر الأرض كلها، بعد أن يشعر المؤمنون، بقيام هذا الأمر الجديد، وبوجود هذه الحقيقة الكبيرة.

ولم يكن أقوى في التعبير عن ميلاد هذه الحقيقة من خروج هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح.

ومن خروجهم بهذه الصورة الناصعة الرائعة الهائلة؛ صورة التوكل على الله وحده، وعدم المبالاة بمقالة الناس وتخويفهم لهم من جمع قريش لهم، كما أبلغهم رسل أبي سفيان، وكما هوّل المنافقون في أمر قريش، وهو ما لا بد أن يفعلوا(2).

إن الواجب على كل مسلم، لا سيما الدعاة إلى الله، حسن الظن بالله سبحانه وتعالى، والإيمان بأنه سبحانه هو الذي ينصر عباده, وأن النصر بيده، وأن المنع والعطاء بيده، والضرر والنفع, فهو سبحانه وتعالى القائل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، وهو القائل جل وعلا: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10]، وهو القائل جل وعلا فيما رواه عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني»(3)، ويقول صلى الله عليه وسلم: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن»(4)، ويقول جل وعلا: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]؛ أي: كافيه.

إن ما ترونه اليوم من كيد أعداء الإسلام ليس إلا سحابة سوداء سوف تنجلي عن قريب، واعلموا أن ما أصاب الأمة من فتور وخور وترك مسايرة الركب والسبق به، إنما جاء من حصول إحباط ويأس استولى على القلوب، فصححوا المفاهيم، وأمِّلوا الأمة بالخير(5).

عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام، وذُلًا يذل الله به الكفر»(6).

ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»(7).

فما سبق يفيد تذكير المؤمنين في كل زمان بأن النصر الذي وعدهم الله سبحانه وتعالى إياه حاصل لا محالة، وفيه إنذار للظالمين ولأعداء الإسلام بأن وعيد الله لهم لا مفرّ لهم منه، فالثقة واليقين بنصر الله سبيل الراشدين والفائزين بالنصر، ولا بد للمسلم ألا يتأثر بما يوضع له من عراقيل؛ بل إن ذلك يزيده طموحًا وتفاؤلًا؛ لأنه واثق بنصر الله، فالمؤمنون هم المتفائلون، وغيرهم البائسون، قال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:173]، وقال سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].

وإن المتأمل في منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وبخاصة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه المؤمنين، ليرى هذه السنة الربانية واضحة وضوح الشمس، وذلك بما تعرض له المسلمون من الابتلاء والتمحيص في مكة والهجرة، والجهاد في سبيل الله عز وجل، وأنهم لم يمكنوا إلا بعد أن ابتلوا ومحصوا.

والابتلاء الذي يتعرض له أصحاب الدعوة نوعان:

أ- ابتلاء عقوبة وتكفير وتنبيه:

وذلك عندما يحصلُ الخلل في الفهم والمعتقد، أو في النية والمقصد، أو في وحدة الصف وتآلف القلوب، فإن الله عز وجل قد يبتلي عباده هؤلاء ببعض العقوبات والابتلاءات لعلهم يرجعون ويراجعون أنفسهم، ويكفِّر الله عز وجل عنهم بهذه العقوبات سيئاتهم.

ب- ابتلاء تمحيص وتمييز للصفوف:

وهذا النوع من الابتلاء هو الذي يتعرض له أصحاب الفهم الصحيح، والقصد الحسن، والصف الموحد، والحكمة منه تمحيص القلوب، وتمييز الصفوف مما قد يكون فيها من المنافقين وأصحاب القلوب المريضة، والذين يكون ضررهم شديدًا على الدعوة فيما لو بقوا مندسين في الصفوف ولم يعرف شأنهم، فيقدر الله عز وجل مثل هذا النوع من الابتلاءات ليتميز المؤمن الصادق من غيره، ويزيد الله عز وجل به المؤمنين إيمانًا وثباتًا وصلابة في إيمانهم، قال الله عز وجل عن المؤمنين في غزوة الأحزاب، عندما رأوا الشدائد والأهوال: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].

وقال عن المنافقين الذين نجم نفاقهم عند الابتلاء: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12].

فما زادت الشدائد المؤمنين إلا إيمانًا وتسليمًا، وما زادت المنافقين إلا مرضًا، وأخرج الله بها ما في قلوبهم من النفاق والكذب، والذي ما كان ليعرف في حال السلم والأمان.

وإن فترات التمحيص والابتلاءات لمن أشدِّ فترات الدعوة على أهلها، فهي تحتاج إلى جهدٍ عظيم من التعليم والتربية والعبادة، والتواصي على الحق والتواصي بالصبر، والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، ومن علم الله عز وجل صحة فهمه وحسن قصده، وعمله الصالح، وحرصه على الوحدة والاجتماع، فإنَّهُ سبحانه يثبته ويخرج من الابتلاءات وقد قوي إيمانه، وصلب عوده، وعلى مثل هؤلاء ينزل نصر الله تعالى ويقوم عز الإسلام.

وبقيت مسألة مهمة تتعلق بالتميز، ألا وهي ضرورة تميز أصحاب الدعوات الذين يريدون التمكين لدين الله تعالى عمن حولهم، ممن ابتعدوا عن الدين وتعاليمه، وظهور ذلك في تصوراتهم وأفهامهم، وفي عبادتهم وسلوكهم، وفي دعوتهم وصبرهم وتضحيتهم.

وعليهم أن يوصلوا ما يحملونه من علمٍ ودعوةٍ إلى طبقات الناس قدر استطاعتهم؛ حتى يتم البلاغ وتقوم الحجة، ويُعرف أصحاب الدعوة بين الناس بمنهجهم الواضح، وأهدافهم العالية، ومن أهم ما يقومُ به أصحاب الدعوة، حتى يحصل التميز، القيام بفضحهم للباطل وأهله، وتبيين سبيل المجرمين للناس؛ حتى لا تختلط عليهم الأمور ويلتبس الحق بالباطل، وما لم يتم هذا البيان فإن الناس المضللون قد يُستخدمون في مواجهة أصحاب الدعوة، لعدم وضوحهم ووضوح دعوتهم في مجتمعات الناس، وذلك بما يستخدمه أعداء الدعوة من تضليل وتلبيس للناس، سواء في تشويه أهل الدعوة، وإظهارهم للناس بمظهر المفسدين والمهيجين للفتن، أو بما يضفونه على أنفسهم من أنهم أصحاب الحق وحماته.

إن أمة الإسلام تعيش فرقةً واختلافًا وتباينًا في الآراء؛ مما مكَّن الأعداء من مرادهم، فليحذر المسلمون ذلك، وليتقوا الله، وليصحِّحوا أوضاعهم، وليعلموا أنه لا نجاة لهم من عدوهم ومكائد عدوهم إلا برجوعٍ إلى الله، وتمسك بدين الله، واعتصامٍ بحبل الله، وتعاون على البر والتقوى، {فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة:52].

إن أمة الإسلام اليوم في بلاء وامتحان، وما ذاك إلا بإعراضهم عن دين الله، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، فالعدو المأفون إذا قوبل بالإيمان الصادق والعزيمة الصادقة والإخلاص لله فإنه أذلّ خلق الله، {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران:112].

فالله ناصر دينه، وناصر أوليائه إن صدقوا الله، وقويت عزائمُهم، وصدقت نواياهم، وابتعدوا عن معاصي الله، فإن مخالفةَ شرع الله وارتكابَ محارم الله أعظمُ من نكاية العدو عليهم، فليقابلوا عدوَّهم بالإيمان الصادق، والثقة بالله، والبعد عن محارم الله، والله لا بد أن ينصر دينه، وإن ابتلي العباد أحيانًا فالعاقبة للمتقين(8).

إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يصرفها كيف شاء، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث شاء، ثم قال: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك)»(9).

وهذه أم سلمة رضي الله عنها تحدِّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول: «اللهم مقلبَ القلوب، ثبت قلبي على دينك»، قالت: «قلت: (يا رسول الله، وإنَّ القلوب لتتقلب؟!)»، قال: «نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا إن قلبه بين إصبعين من أصابع الله، فإن شاء الله عز وجل أقامه، وإن شاء الله أزاغه»(10).

أسباب حصول الثبات على الحق والهدى والدين:

أولًا: الشعور بالفقر إلى تثبيت الله تعالى، وذلك أنه ليس بنا غنى عن تثبيته طرفة عين، فإن لم يثبتنا الله وإلا زالت سماء إيماننا وأرضُه عن مكانها، وقد قال مخاطبًا خير خلقه وأكرمهم عليه: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74]، لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى؛ منها مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم، ومنها مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حرامًا كالبيت العتيق الذي حرمه الله، ومنها طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلسًا غير مجلس الفقراء.

والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصلها؛ ليذكر فضل الله على الرسول في تثبيته على الحق، وعصمته من الفتنة، ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوه خليلًا، وللقي عاقبة الركون إلى فتنة المشركين، وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات، دون أن يجد له نصيرًا منهم يعصمه من الله.

هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائمًا.

محاولة إغرائهم لينحرفوا، ولو قليلًا، عن استقامة الدعوة وصلابتها، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة، ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته؛ لأنه يرى الأمر هينًا، فأصحاب السلطان لا يطلبون إليه أن يترك دعوته كلية، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق، وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها! ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق.

وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسير، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل، لا يملك أن يقف عند ما سلم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء! والمسألة مسألة إيمان بالدعوة كلها، فالذي ينزل عن جزء منها مهما صغر، والذي يسكت عن طرف منها مهما ضؤل، لا يمكن أن يكون مؤمنًا بدعوته حق الإيمان، فكل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر، وليس فيها فاضل ومفضول، وليس فيها ضروري ونافلة، وليس فيها ما يمكن الاستغناء عنه، وهي كلّ متكامل، يفقد خصائصه كلها حين يفقد أحد أجزائه؛ كالمركب يفقد خواصه كلها إذا فقد أحد عناصره.

وأصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات، فإذا سلموا في الجزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم، وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة، وارتفاع السعر ينتهيان إلى تسليم الصفقة كلها! والتسليم في جانب، ولو ضئيل، من جوانب الدعوة لكسب أصحاب السلطان إلى صفها هو هزيمة روحية بالاعتماد على أصحاب السلطان في نصرة الدعوة، والله وحده هو الذي يعتمد عليه المؤمنون بدعوتهم، ومتى دبت الهزيمة في أعماق السريرة فلن تنقلب الهزيمة نصرًا؛ لذلك امتن الله على رسوله صلى الله عليه وسلم أن ثبته على ما أوحى الله، وعصمه من فتنة المشركين له، ووقاه الركون إليهم، ولو قليلًا، ورحمه من عاقبة هذا الركون، وهي عذاب الدنيا والآخرة مضاعفًا، وفقدان المعين والنصير(11).

ثانيًا: صدق الإيمان بالله تعالى: قال عز وجل: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة} [إبراهيم:27]، والإيمان الذي وعد أهله وأصحابه بالتثبيت هو الذي يرسخ في القلب، وينطق به اللسان، وتصدقه الجوارح والأركان، فليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، فالالتزام الصادق في الظاهر والباطن والمنشط والمكره هو أعظم أسباب التثبيت على الصالحات، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:66]، فالمثابرة على الطاعة المداوم عليها، المبتغى وجه الله بها، موعود عليها بالخير والتثبيت من الله مقلب القلوب ومصرفها.

ثالثًا: الابتعاد عن المعاصي والذنوب، صغيرها وكبيرها، ظاهرها وباطنها: فإن الذنوب من أسباب زيغ القلوب، فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن»(12).

وأما الصغائر فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب؛ كقوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه)»(13).

رابعًا: الإقبال على كتاب الله تلاوة وتعلمًا وتدبرًا وعملًا، فإن الله سبحانه وتعالى أخبر بأنه أنزل هذا الكتاب المجيد تثبيتًا للمؤمنين وهداية لهم وبشرى، قال الله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}؛ أي: بما فيه من الحجج والآيات(14)، فكتاب الله هو الحبل المتين، والصراط المستقيم، والضياء المبين لمن تمسك به وعمل.

خامسًا: الخوف من مكر الله: فإن الله سبحانه وتعالى قد حذر عباده مكره، فقال عز وجل: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، فما وراء الأمن والغفلة والاستهتار إلا الخسار، وما يغفل عن مكر الله هكذا إلا الذين يستحقون هذا الخسار! أفأمنوا مكر الله وهم يرثون الأرض من بعد أهلها الذاهبين، الذين هلكوا بذنوبهم، وجنت عليهم غفلتهم؟ أما كانت مصارع الغابرين تهديهم وتنير لهم طريقهم؟(15).

إن الذي يكتب الله له الهدى والخير يضع في قلبه الحساسية والحذر والتلفت والحساب، فلا يأمن مكر الله، ولا يأمن تقلب القلب، ولا يأمن الخطأ والزلل، ولا يأمن النقص والعجز، فهو دائم التفتيش في عمله، دائم الحساب لنفسه، دائم الحذر من الشيطان، دائم التطلع لعون الله، وهذا هو مفرق الطريق بين الهدى والضلال، وبين الفلاح والبوار، إنها حقيقة نفسية دقيقة عميقة، يصورها القرآن في ألفاظ معدودة(16).

وقد قطع خوف مكر الله تعالى ظهور المتقين المحسنين، وغفل عنه الظالمون المسيئون، كأنهم أخذوا من الله الجليل توقيعًا بالأمان.

سادسًا: سؤال الله التثبيت: فإن الله هو الذي يثبتك ويهديك: فألحوا على الله تعالى بالسؤال أن يربط على قلوبكم، ويثبتكم على دينكم، فالقلوب ضعيفة، والشبهات خطافة، والشيطان قاعد لك بالمرصاد، ولك فيمن تقدمك من المؤمنين أسوة حسنة؛ فإن من دعائهم: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].

عندئذ تنطلق ألسنتهم وقلوبهم في دعاء خاشع وفي ابتهال منيب أن يثبتهم على الحق، وألا يزيغ قلوبهم بعد الهدى، وأن يسبغ عليهم رحمته وفضله، ويتذكرون يوم الجمع الذي لا ريب فيه، والميعاد الذي لا خلف له.

هذا هو حال الراسخين في العلم مع ربهم، وهو الحال اللائق بالإيمان المنبثق من الطمأنينة، لقول الله ووعده، والثقة بكلمته وعهده، والمعرفة برحمته وفضله، والإشفاق مع هذا من قضائه المحكم وقدره المغيب، والتقوى والحساسية واليقظة التي يفرضها الإيمان على قلوب أهله، فلا تغفل ولا تغتر ولا تنسى في ليل أو نهار.

والقلب المؤمن يدرك قيمة الاهتداء بعد الضلال، قيمة الرؤية الواضحة بعد الغبش، قيمة الاستقامة على الدرب بعد الحيرة، قيمة الطمأنينة للحق بعد الأرجحة، قيمة التحرر من العبودية للعبيد بالعبودية لله وحده(17).

وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24]، ويا لها من صورة رهيبة مخيفة للقدرة القاهرة اللطيفة، {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} فيفصل بينه وبين قلبه، ويستحوذ على هذا القلب ويحتجزه، ويصرفه كيف شاء، ويقلبه كما يريد، وصاحبه لا يملك منه شيئًا وهو قلبه الذي بين جنبيه! إنها صورة رهيبة حقًا، يتمثلها القلب في النص القرآني، ولكن التعبير البشري يعجز عن تصوير إيقاعها في هذا القلب، ووصف هذا الإيقاع في العصب والحس.

إنها صورة تستوجب اليقظة الدائمة، والحذر الدائم، والاحتياط الدائم، اليقظة لخلجات القلب وخفقاته ولفتاته، والحذر من كل هاجسة فيه وكل ميل مخافة أن يكون انزلاقًا، والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف والهواجس، والتعلق الدائم بالله سبحانه مخافة أن يقلب هذا القلب في سهوة من سهواته، أو غفلة من غفلاته، أو دفعة من دفعاته.

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو رسول الله المعصوم، يكثر من دعاء ربه: «اللهم يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك»(18)، فكيف بالناس، وهم غير مرسلين ولا معصومين؟! إنها صورة تهز القلب حقًا، ويجد لها المؤمن رجفة في كيانه حين يخلو إليها لحظات، ناظرًا إلى قلبه الذي بين جنبيه، وهو في قبضة القاهر الجبار، وهو لا يملك منه شيئًا، وإن كان يحمله بين جنبيه ويسير! صورة يعرضها على الذين آمنوا وهو يناديهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ}(19).

سابعًا: نصر دين الله الواحد الديان ونصر أوليائه المتقين، قال الله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].

ونصر دين الله تعالى وأوليائه يكون بطرائق عديدة، لا يحدها حد ولا تقف عند رسم، فالدعوة إلى الله بجميع صورها نصر لدين الله، وطلب العلم نصر لدين الله، والعمل بالعلم نصر لدين الله، وجهاد الكفار والمنافقين والعصاة نصر لدين الله، والرد على خصوم الإسلام وكشف مخططاتهم نصر لدين الله، والبذل في سبيل الله والإنفاق في وجوه البر نصر لدين الله، والذب عن أهل العلم والدعوة وأهل الخير والصحوة نصر لدين الله، وطرائق نصر دين الله وأوليائه كثيرة.

ثامنًا: الرجوعُ إلى أهل الحق والتلقي من العلماء والدعاة، فهم أوتاد الأرض، ومفاتيح الخير، ومغاليق الشر، فافزع إليهم عند توالي الشبهات وتعاقب الشهوات، قبل أن تنشب أظفارها في قلبك فتوردك المهالك، قال ابن القيم رحمه الله حاكيًا عن نفسه وأصحابه: «وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه [أي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله]، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه؛ فيذهب ذلك كله عنا، وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة»(20).

عاشرًا: الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصي: فإنه لن يحصل العبد الخيرات إلا بهذا، وقد أمر الله تعالى نبيه بالصبر فقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28]، اصبر نفسك مع هؤلاء؛ صاحبهم وجالسهم وعلمهم، ففيهم الخير، وعلى مثلهم تقوم الدعوات، فالدعوات لا تقوم على من يعتنقونها لأنها غالبة، ومن يعتنقونها ليقودوا بها الأتباع، ومن يعتنقونها ليحققوا بها الأطماع، وليتجروا بها في سوق الدعوات تشترى منهم وتباع! إنما تقوم الدعوات بهذه القلوب التي تتجه إلى الله خالصة له، لا تبغي جاهًا ولا متاعًا ولا انتفاعًا، إنما تبتغي وجهه وترجو رضاه(21)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وما أعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر»(22)(23).

وسائل الثبات:

ومن رحمة الله عز وجل بنا أن بيَّن لنا في كتابه وعلى لسان نبيه وفي سيرته صلى الله عليه وسلم وسائل كثيرة للثبات.

أولًا: الإقبال على القرآن:

القرآن العظيم وسيلة الثبات الأولى، وهو حبل الله المتين، والنور المبين، من تمسك به عصمه الله، ومن اتبعه أنجاه الله، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم.

لماذا كان القرآن مصدرًا للتثبيت؟

- لأنه يزرع الإيمان ويزكي النفس بالصلة بالله.

- لأن تلك الآيات تتنزل بردًا وسلامًا على قلب المؤمن، فلا تعصف به رياح الفتنة، ويطمئن قلبه بذكر الله.

- لأنه يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة، التي يستطيع من خلالها أن يُقوِّم الأوضاع من حوله، وكذا الموازين التي تهيئ له الحكم على الأمور فلا يضطرب حكمه، ولا تتناقض أقواله باختلاف الأحداث والأشخاص.

- أنه يرد على الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين؛ كالأمثلة الحية التي عاشها الصدر الأول.

ثانيًا: التزام شرع الله والعمل الصالح:

قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاء} [إبراهيم:27].

قال قتادة: «أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، وفي الآخرة في القبر، وكذا روي عن غير واحد من السلف»(24).

وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:66]؛ أي على الحق، وهذا بيّن، وإلا فهل نتوقع ثباتًا من الكسالى القاعدين عن الأعمال الصالحة إذا أطلت الفتنة برأسها وادلهم الخطب؟! ولكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم صراطًا مستقيمًا؛ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يثابر على الأعمال الصالحة، وكان أحب العمل إليه أدومه وإن قل، وكان أصحابه إذا عملوا عملًا أثبتوه.

ثالثًا: تدبر قصص الأنبياء ودراستها للتأسي والعمل:

والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَكُلًا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120]، لقد كان يجد من قومه، ومن انحرافات النفوس، ومن أعباء الدعوة ما يحتاج معه إلى التسلية والتسرية والتثبيت من ربه، وهو الصابر الثابت المطمئن إلى ربه، فما نزلت تلك الآيات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم للتلهي والتفكه، وإنما لغرض عظيم؛ هو تثبيت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفئدة المؤمنين معه.

رابعًا: الدعاء:

من صفات عباد الله المؤمنين أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء أن يثبتهم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8]، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [البقرة:285]، ولما كانت «قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء»(25)، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «يا مقـلـب القـلـوب والأبصار ثبت قلبي على دينك».

خامسًا: ذكر الله:

وهو من أعظم أسباب التثبيت؛ تأمل في هذا الاقتران بين الأمرين في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]، فجعله من أعظم ما يعين على الثبات في الجهاد.

سادسًا: الحرص على أن يسلك المسلم طريقًا صحيحًا:

والطريق الوحيد الصحيح الذي يجب على كل مسلم سلوكه هو طريق أهل السنة والجماعة، طريق الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، أهل العقيدة الصافية والمنهج السليم واتباع السنة والدليل، والتميز عن أعداء الله ومفاصلة أهل الباطل.

سابعًا: التربية:

التربية الإيمانية العلمية الواعية المتدرجة عامل أساسي من عوامل الثبات.

التربية الإيمانية: التي تحيي القلب والضمير بالخوف والرجاء والمحبة، المنافية للجفاف الناتج من البعد عن نصوص القرآن والسنة، والعكوف على أقاويل الرجال.

والتربية العلمية: القائمة على الدليل الصحيح، المنافية للتقليد والإمعية الذميمة.

والتربية الواعية: التي لا تعرف سبيل المجرمين، وتدرس خطط أعداء الإسلام، وتحيط بالواقع علمًا وبالأحداث فهمًا وتقويمًا، المنافية للانغلاق والتقوقع على البيئات الصغيرة المحدودة.

والتربية المتدرجة: التي تسير بالمسلم شيئًا فشيئًا، ترتقي به في مدارج كماله بتخطيط موزون، والمنافية للارتجال والتسرع والقفزات المحطمة.

ثامنًا: الثقة بالطريق:

لا شك أنه كلما ازدادت الثقة بالطريق الذي يسلكه المسلم كان ثباته عليه أكبر، ولهذا وسائل، منها:

- استشعار أن الصراط المستقيم الذي تسلكه يا أخي ليس جديدًا، ولا وليد قرنك وزمانك، وإنما هو طريق عتيق، قد سار فيه من قبلك الأنبياء والصديقون والعلماء والشهداء والصالحون، فتزول غربتك، وتتبدل وحشتك أنسًا، وكآبتك فرحًا وسرورًا؛ لأنك تشعر بأن أولئك كلهم إخوة لك في الطريق والمنهج.

- الشعور بالاصطفاء، قال الله عز وجل: {الْحَمْدُ للهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59]، وقال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32]، وقال: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف:6]، وكما أن الله اصطفى الأنبياء فللصالحين نصيب من ذلك الاصطفاء، وهو ما ورثوه من علوم الأنبياء.

ماذا يكون شعورك لو أن الله خلقك جمادًا، أو دابة، أو كافرًا ملحدًا، أو داعيًا إلى بدعة، أو فاسقًا، أو مسلمًا غير داعية لإسلامه، أو داعية في طريق متعدد الأخطاء؟ ألا ترى أن شعورك باصطفاء الله لك، وأن جعلك داعية من أهل السنة والجماعة من عوامل ثباتك على منهجك وطريقك؟

تاسعًا: ممارسة الدعوة إلى الله عز وجل:

النفس إن لم تتحرك تأسن، وإن لم تنطلق تتعفن، ومن أعظم مجالات انطلاق النفس الدعوة إلى الله، فهي وظيفة الرسل، ومخلصة النفس من العذاب؛ فيها تتفجر الطاقات، وتنجز المهمات {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [الشورى:15]، وليس يصح شيء يقال فيه: (فلان لا يتقدم ولا يتأخر)، فإن النفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، والإيمان يزيد وينقص.

عاشرًا: الالتفاف حول العناصر المثبتة:

فالبحث عن العلماء والصالحين والدعاة المؤمنين، والالتفاف حولهم معين كبير على الثبات، وقد حدثت في التاريخ الإسلامي فتن ثبت الله فيها المسلمين برجال.

ومن ذلك ما قاله علي بن المديني رحمه الله تعالى: «أعز الله الدين بالصِّدِّيق يوم الردة، وبأحمد يوم المحنة»، وتأمل ما قاله ابن القيم رحمه الله عن دور شيخه شيخ الإسلام في التثبيت: «وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله عنا، وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، وآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها»(26).

وهنا تبرز الأخوة الإسلامية كمصدر أساسي للتثبيت، فإخوانك الصالحون والقدوات والمربون هم العون لك في الطريق، والركن الشديد الذي تأوي إليه، فيثبتوك بما معهم من آيات الله والحكمة، الزمهم وعش في أكنافهم، وإياك والوحدة فتتخطفك الشياطين، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.

الحادي عشر: الثقة بنصر الله وأن المستقبل للإسلام:

نحتاج إلى الثبات كثيرًا عند تأخر النصر، حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها، قال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)} [آل عمران:146-148].

ولما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يثبت أصحابه المعذبين أخبرهم بأن المستقبل للإسلام في أوقات التعذيب والمحن، فماذا قال؟ جاء في حديث خباب مرفوعًا عند البخاري: «وليُتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله، والذئب على غنمه».

الثاني عشر: معرفة حقيقة الباطل وعدم الاغترار به:

في قول الله عز وجل: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ} [آل عمران:196]، تسرية عن المؤمنين وتثبيت لهم.

وفي قوله عز وجل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} [الرعد:17]، عبرة لأولي الألباب في عدم الخوف من الباطل والاستسلام له، ومن طريقة القرآن فضح أهل الباطل وتعرية أهدافهم ووسائلهم: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55]، حتى لا يؤخذ المسلمون على حين غرة، وحتى يعرفوا من أين يؤتى الإسلام.

وكم سمعنا ورأينا حركات تهاوت، ودعاة زلت أقدامهم؛ ففقدوا الثبات لما أتوا من حيث لم يحتسبوا؛ بسبب جهلهم بأعدائهم(27).

وقال الإمام أحمد في سياق رحلته إلى المأمون: «صرنا إلى الرحبة منها في جوف الليل، فعرض لنا رجل فقال: (أيكم أحمد بن حنبل؟)، فقيل له: (هذا)، فقال للجمال: (على رسلك)، ثم قال: (يا هذا، ما عليك أن تُقتل ها هنا، وتدخل الجنة)، ثم قال: (أستودعك الله)، ومضى، فسألت عنه، فقيل لي: (هذا رجل من العرب من ربيعة، يعمل الصوف في البادية، يقال له: جابر بن عامر، يُذكر بخير)»(28).

وفي رواية أن الإمام أحمد قال: «ما سمعت كلمة وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة الأعرابي، كلمني بها في رحبة طوق [وهي بلدة بين الرقة وبغداد على شاطئ الفرات]، قال: (يا أحمد، إن يقتلك الحق متّ شهيدًا، وإن عشت عشت حميدًا...)، فقوي قلبي»(29).

مواطن الثبات:

وهي كثيرة تحتاج إلى تفصيل، نكتفي بسرد بعضها على وجه الإجمال في هذا المقام:

أولًا: الثبات في الفتن: التقلبات التي تصيب القلوب سببها الفتن، فإذا تعرض القلب لفتن السراء والضراء فلا يثبت إلا أصحاب البصيرة الذين عمّر الإيمان قلوبهم.

ومن أنواع الفتن:

- فتنة المال: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76)} [التوبة:75-76].

- فتنة الجاه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].

- فتنة الزوجة: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14].

- فتنة الأولاد: «الولد مجبنة مبخلة محزنة»(30).

- فتنة الاضطهاد والطغيان والظلم: ويمثلها أروع تمثيل قول الله عز وجل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)} [البروج:4-9].

- فتنة الدجال: وهي أعظم فتن المحيا: « إنه لم تكن فتنة في الأرض، منذ ذرأ الله ذرية آدم، أعظم من فتنة الدجال، وإن الله لم يبعث نبيًا إلا حذر أمته الدجال...، يا عباد الله، فاثبتوا فإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه قبلي نبي...»(31).

ثانيًا: الثبات في الجهاد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ} [الأنفال:45].

ومن الكبائر في ديننا الفرار من الزحف، وكان عليه الصلاة والسلام وهو يحمل التراب على ظهره في الخندق يردد مع المؤمنين: «وثبت الأقدام إن لاقينا»(32).

ثالثًا: الثبات على المنهج: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]، مبادئهم أغلى من أرواحهم، إصرار لا يعرف التنازل.

رابعًا: الثبات عند الممات: أما أهل الكفر والفجور فإنهم يحرمون الثبات في أشد الأوقات كربة، فلا يستطيعون التلفظ بالشهادة عند الموت، فعن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة»، وخرجت روحه رحمه الله(33).

ومثل هؤلاء قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30](34).

***

__________________

(1) مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (9/ 434).

(2) في ظلال القرآن (1/ 520).

(3) أخرجه مسلم (2675).

(4) أخرجه مسلم (2877).

(5) اليأس والأمل، موقع: طريق الإسلام.

(6) أخرجه أحمد (16957).

(7) أخرجه البخاري (6943).

(8) اليهود أمة الغدر والخيانة، منتديات ستار تايمز.

(9) أخرجه مسلم (2654).

(10) أخرجه الطبراني في الكبير (785).

(11) في ظلال القرآن (4/ 2246).

(12) أخرجه البخاري (2475).

(13) أخرجه أحمد (22808).

(14) تفسير القرطبي (10/ 177).

(15) في ظلال القرآن (3/ 1340).

(16) المصدر السابق (5/ 2927).

(17) المصدر السابق (1/ 370).

(18) أخرجه الترمذي (2140).

(19) في ظلال القرآن (3/ 1495).

(20) الوابل الصيب من الكلم الطيب، ص48.

(21) في ظلال القرآن (4/ 2268).

(22) أخرجه البخاري (1469).

(23) وسائل الثبات على دين الله، موقع: طريق الإسلام.

(24) تفسير القرآن العظيم (3/ 421).

(25) أخرجه مسلم (2654).

(26) الوابل الصيب، ص97.

(27) الثبات على دين الله، مجلة البيان (العدد:15).

(28) سير أعلام النبلاء (11/ 241).

(29) صحيح الجامع (7037).

(30) صحيح الجامع (7752).

(31) أخرجه البخاري (2837).

(32) سير أعلام النبلاء (13/ 76-85).

(33) أخرجه أبو داود (3116).

(34) الثبات على دين الله، مجلة البيان (العدد:15).