logo

الاستبداد الدعوي


بتاريخ : الأحد ، 26 محرّم ، 1437 الموافق 08 نوفمبر 2015
بقلم : تيار الاصلاح
الاستبداد الدعوي

الاستبداد أعظم بلاء؛ لأنه وباء دائم بالفتن، وجَدْبٌ مستمر بتعطيل الأعمال، وحريق متواصل بالسلب والغصب، وسيل جارف للعمران، وخوف يقطع القلوب، وظلام يعمي الأبصار، وألم لا يفتر، وصائل لا يرحم، وقصة سوء لا تنتهي.

الاستبداد صفة من صفات التسلط وفرض الرأي بالقوة، وهو يقتضي تكميم الأفواه، وقطع الألسن؛ فلا تتحدث إلا في مجال محدود لا تتجاوزه، وبطريقة معينة لا تتغير؛ بل ينطلق الاستبداد أحيانًا ليحجر على أفكار الإنسان وخواطره؛ بل أنفاسه وزفراته.

والاستبداد الدعوي، إن صح التعبير، ممارسة تربوية ذات أبعاد خطيرة، تقتل ملكات الإبداع والإنتاج، وتعطل الطاقات.

أرأيت إلى ذلك الداعية الذي لا يحب أن يسمع رأيًا غير رأيه، ولا يرضى باقتراح أو نصح من أحد، فإذا تكلم فمن حوله سكوت، وإذا أشار فالناس له تبع، أتباعه ومريدوه حقهم السمع والطاعة، في المنشط والمكره، في العسر واليسر، في الخير والشر.

مفهوم الشورى عنده إخبار الآخرين بما يرى، فإن وافقوه فبها ونعمت، وإن خالفوه فالشورى معلمة لا ملزمة.

إذا نظر إلى وجه مريده طأطأ المريد رأسه حياءً وخجلًا، واحمر وجهه وفرقع أصابعه؛ حتى إذا اشتد عوده، واستوى ساقه، أصبح بارعًا في اجترار الأفكار، وترديد الكلمات، لا يباريه أحد في فن التقليد، ليس له عقل يفكر؛ فقد ضمر وتآكل مع طول العجز، واستفحال المرض، أقرب الأمثال إلى عقله: «من قلد عالمًا لقي الله سالمًا»، ولماذا يفكر ويجهد ذهنه، ويضيع وقته وبين يديه شيخه الجهبذ الذي أبصر الحقائق، وأدرك الأمور، وانكشفت له المعضلات؟!

يظن أن رأيه هو عين الحق الذي لا حق غيره، ولا يحق لأحد أن يخالفه أو يعترض عليه، اجتهاده قاطع لكل اختلاف، ورأيه جامع لكل خير، فهو البحر الذي تجتمع عنده الأنهر، والوادي الذي تصب فيه الشعب.

إذا خالفه أحد ضاق صدره، واضطربت نفسه، وتزلزلت أقدامه، وإذا أفاق من هول الصدمة سل سيوفه مستعدًا للمبارزة والطعان، دون أن ينظر أحق هو أم باطل.

كل مخالف له مبطل مهما كان دليله!وكل معارض له مفسد مهما كانت حجته!

همه أن يتلقى عنه الأتباع، ومراده أن يستمع له الناس، كل تقليد مذموم إلا تقليده! أحكامه صارمة قاطعة، لا تقبل المناقشة أو المحاورة، ومن لم يقبل هذه الأفكار فلينطح برأسه الجدار.

إن مصادرة آراء الآخرين، وغلق الأبواب في وجوههم يجعل جذور الخطأ تمتد إلى الأعماق، ثم يصعب تصحيحها أو على الأقل تخفيفها؛ ولهذا فنحن نحتاج إلى ترويض ومتابعة؛ لكي نتعلم كيف نقدر الرأي الآخر، وننجو من مصادرة عقول الآخرين، والمنهج الشرعي يقتضي أن نقطع في الأمور القطعية التي قطع بها السلف الصالح.

وأما المسائل الاجتهادية في فروع العلم، سواءً في الفقهيات أو في فروع العمل الدعوي المتجددة، فالأمر فيها واسع ولله الحمد والمنة، والاختلاف فيها أمر وارد لم يسلم منه جيل الصحابة رضي الله عنهم وما وسعهم يسعنا، وما قد يكون واضحًا عندك قد لا يكون كذلك عند غيرك، وما يتبين لك صوابه الآن قد يتبين لك خطؤه غدًا؛ لأمر ينقدح في ذهنك، ولهذا تواتر عن علمائنا وأئمتنا أنهم يقولون في المسألة الفرعية الواحدة قولًا، ثم يقولون بخلافه بعد ذلك(1).

إن الاستبداد بالرأي، والفردية والاستئثار بالقرار، يثير مشاعر الآخرين، ويحرك في نفوسهم رغبة البحث عن خطأ موجود عندك أو زللْ، أما إذا كانوا شركاء معك في الرأي وأهل شورى فإن المحذور يزول حينئذ، فإذا مكنك الله تعالى من عمل، أو مكنك من دعوة، أو جعل بيدك مقاليد مؤسسةٍ من المؤسسات، أو فوض إليك بقدرته ورحمته خيرًا من الخير، فلتكن هذه الأشياء التي تملكها أنت تحت تصرف الجميع، وليشعر الكل بأن هذه مكسب لهم جميعًا، وليست مكسبًا لشخص، ولا لجهة معينة أو طائفة خاصة، فهذا العمل الذي أملكه هو ملك لكم جميعًا، فشاركوا فيه واستفيدوا منه، وأنا لا أفرض عليكم فيه شيئًا أبدًا، فنحن شركاء في هذه الدعوة وفي هذا العمل.

وإذا كنا نرى أن الاستبداد السياسي، الذي يعصف بالعالم الإسلامي، من أهم أسباب الانشطار والتمزق في المجتمعات، فإننا نعلم أن الاستبداد الدعوي هو من أهم أسباب التمزق داخل الصف الإسلامي.

إن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد وتساس بالظلم والاضطهاد تفسد أخلاقها، وتذل نفوسها، ويذهب بأسها، وتضرب عليها الذلة والمسكنة، وتألف الخضوع، وتأنس بالمهانة والخنوع، وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة حتى تكون كالغرائز الفطرية، والطبائع الخلقية، إذا أخرجت صاحبها من بيئتها ورفعت عن رقبته نيرها، ألفيته ينزع بطبعه إليها، ويتفلت منك ليتقحم فيها، وهذا شأن البشر في كل ما يألفونه، ويجرون عليه من خير وشر، وإيمان وكفر.