الانتصار للأقوال المرجوحة
الأصل وجوب العمل بالقول الراجح، وعدم العمل بالقول المرجوح لمن علم أنه مرجوح، قال الشوكاني في «إرشاد الفحول»: «ومن نظر في أحوال الصحابة والتابعين وتابعيهم، ومن بعدهم، وجدهم متفقين على العمل بالراجح، وترك المرجوح»(1).
الترجيح عبارة عن تقديم أحد القولين أو الدليلين على الآخر استنادًا في ذلك إلى مرجح يقوي الطرف الراجح.
فالقول المرجوح يشمل الضعيف النسبي والضعيف المدرك والشاذ من الأقوال، فهو بذلك:
1- كل قول عارضه ما هو أقوى منه، وإن كانت له قوة في نفسه.
2- كل قول عارض نصًا صريحًا أو صحيحًا.
3- كل قول خالف المدارك الأصولية؛ كالإجماع أو النص أو القياس الجلي.
4- كل قول انفرد به قلة من المجتهدين، وخالفوا في ذلك عامة أهل العلم، مع ضعف مأخذهم ورقة دليلهم(2).
اتفق الفقهاء على وجوب الأخذ بالراجح من الأقوال دون المرجوح منها، وما سمي المجتهد مجتهدًا إلا لاستفراغه الجهد والوسع بين الأدلة الشرعية؛ ليرجح حكمًا شرعيًا يغلب على ظنه أنه الحق الذي يجب عليه أن يعمل به، ويطرح القول المرجوح، والأدلة في ذلك كثيرة؛ كإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل عندما بعثه إلى اليمن(3) حين رتب رضي الله تعالى عنه بين الأدلة وقدم الكتاب على السنة ثم السنة على الرأي، كما أن الأمة مجمعة على أنه لا يجوز العمل بالأضعف عند وجود الأقوى فيكون مخالفه مخطئًا(4).
قال ابن رجب: «وها هنا أمر خفي ينبغي التفطن له، وهو أن كثيرًا من أئمة الدين قد يقول قولًا مرجوحًا ويكون مجتهدًا فيه، مأجورًا على اجتهاده فيه، موضوعًا عنه خطؤه فيه، ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة؛ لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله، بحيث لو أنه قد قاله غيره من أئمة الدين لما قَبِله، ولا انتصر له ولا إلى من يوافقه، ولا عادى من خلفه، ولا هو مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق وإن أخطأ في اجتهاد، وأما هذا التابع فقد شاب انتصاره لما يظنه الحق إرادة علو متبوعه وظهور كلمته، وأنه لا ينسب إلى الخطأ، وهذه دسيسة تقدح في قصد الانتصار للحق فافهم هذا فإنه مهم عظيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم(5).
يتأولون النصوص على غير تأويلها، ويدعون فيها صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بغير دليل سوى آرائهم الكاسدة، وشبههم الفاسدة التي ظنوها بينات؛ وإنما هي في واقع الأمر جهالات وضلالات، فتأويلهم للنصوص حقيقته تحريف كلام الله وكلام رسوله عن مواضعه، وكذب وافتراء على الله وعلى رسوله، فإن التأويل الصحيح هو الذي يوافق ما جاء في الكتاب والسنة، وما خالف ذلك باطل؛ فإن كل تأويل لم يدل عليه دليل من الكتاب ولا معه قرينة تقتضيه فهذا لا يقصده الهادي المبين بكلامه؛ إذ لو قصده لحف به قرائن تدل على المعنى المخالف لظاهره؛ حتى لا يوقع السامع في اللبس والخطأ(6).
وعلق الدكتور يوسف القرضاوي على هذا قائلًا: «وهذا قيد مهم، فإن كثيرًا من المشتغلين بالعلوم الإسلامية الأخرى؛ كعلم الكلام أو التصوف أو السيرة أو التاريخ ونحوها، وبعض الخطباء والوعاظ البلغاء يقحمون أنفسهم في ميدان الاجتهاد، ويفتون برأيهم في أعوص المسائل، وهم بعيدون عن ساحة الفقه، والغوص في بحاره، وكل ميسر لما خلق له، كما أن مجرد حفظ فروع الفقه ومسائله في مذهب أو أكثر لا يجعل من صاحبه فقيهًا قادرًا على الاجتهاد والاستنباط»(7).
قال ابن القيم رحمه الله: «ينبغي للمفتي الموفق إذا نزلت به المسألة أن ينبعث من قلبه الافتقار الحقيقي الحالي، لا العلمي المجرد إلى مُلهم الصواب، ومُعلم الخير، وهادي القلوب أن يلهمه الصواب، ويفتح له طريق السداد، ويدله على حكمه الذي شرعه لعباده في هذه المسألة، فمتى قرع هذا الباب فقد قرع باب التوفيق، وما أجدر من أمل فضل ربه ألا يحرمه إياه، فإذا وجد من قلبه هذه الهمة فهي طلائع بشرى التوفيق، فعليه أن يوجه وجهه ويحدق نظره إلى منبع الهدى، ومعدن الصواب، ومطلع الرشد، وهو النصوص من القرآن والسنة وآثار الصحابة، فيستفرغ وسعه في تعرف حكم تلك النازلة منها، فإن ظفر بذلك أخبر به، وإن اشتبه عليه بادر إلى التوبة والاستغفار والإكثار من ذكر الله، فإن العلم نور الله يقذفه في قلب عبده، والهوى والمعصية رياح عاصفة تطفئ ذلك النور أو تكاد، ولا بد أن تضعفه»(8).
وقال أيضًا رحمة الله تعالى عليه: «ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع، بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر»(9).
التأويل المذموم الباطل الذي هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح؛ كتأويل من تأول استوى بمعنى استولى، ونحوه، فهذا عند السلف والأئمة باطل لا حقيقة له؛ بل هو من باب تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسماء الله وآياته؛ إذ هو في الحقيقة صرف للنصوص عن مدلولها ومقتضاها، وإزالة اللفظ عما دل عليه من المعنى، واستعمال التأويل بهذا المعنى لا يوجد الخطاب به إلا في اصطلاح المتأخرين فقط، وأما السلف فالتأويل عندهم بمعنى التفسير، وهذا هو الغالب في اصطلاح المفسرين للقرآن، وهو أيضًا الحقيقة التي يئول إليها الكلام(10).
شروط الترجيح:
- لقد وضع الأصوليون للترجيح شروطًا لا بد من تحقق أحدها ليتمكن المجتهد من ترجيح أحد الآراء على غيره، وهي كما يلي:
- أن يتعذر الجمع بين الدليلين، فإن أمكن الجمع فلا يصح ترجيح أحدهما على الآخر، وهذا ما ذكره الزركشي بقوله: «وشرطوا ألا يمكن العمل بكل واحد منهما، فإن أمكن، ولو من وجه، امتنع؛ بل يصار إلى ذلك لأنه أولى من إلقاء أحدهما، والاستعمال أولى من التعطيل»(11).
- أن تتوفر شروط المعارضة كاملة دون تخلف أحدها، وإلا لما احتاج المجتهد للترجيح بين الأدلة.
- أن يرجح المجتهد بدليل، ولا يصح الترجيح بمجرد هوى.
ويقول ابن القيم: «الفائدة الخامسة عشرة: ليحذر المفتي، الذي يخاف مقامه بين يدي الله سبحانه، أن يفتي السائل بمذهبه الذي يقلده وهو يعلم أن مذهب غيره في تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصح دليلًا؛ فيقتحم الفتوى بما يغلب على ظنه أن الصواب في خلافه؛ فيكون خائنًا لله ورسوله وللسائل، وغاشًّا له، والله لا يهدي كيد الخائنين، وحرم الجنة على من لقيه وهو غاش للإسلام وأهله، والدين النصيحة، والغش مضاد للدين كمضادة الكذب للصدق والباطل للحق.
وكثيرًا ما ترد المسألة نعتقد فيها خلاف المذهب؛ فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده؛ فنحكي المذهب الراجح ونرجحه، ونقول: هذا هو الصواب وهو أولى أن يؤخذ به، وبالله التوفيق»(12).
وسئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: هل لطالب العلم أن يأخذ بالرأي المرجوح في بعض الأحوال وهو يعلم الراجح؟، فأجاب بقوله: «لا يجوز له العمل بالمرجوح؛ بل يتعين عليه أن يعمل بالراجح إذا تبين له أنه راجح»(13).
لكن إذا كان في العمل بالقول المرجوح دفع مضرة، أو حرج، أو تحقيق مصلحة معتبرة شرعًا، فقد ذكر أهل العلم جوازَ العمل به حينئذ، جاء في فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى: «إذا ثبتت الضرورة جاز العمل بالقول المرجوح نظرًا للمصلحة، ولا يتخذ هذا عامًّا في كل قضية؛ بل الضرورة تقدر بقدرها، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا»(14).
متى يجوز الأخذ بالمرجوح؟
لا يصار إلى الأخذ بالقول المرجوح إلا عند الضرورة، والحاجة المنزلة منزلتها، وتقدر بقدرها عند وقوعها، فيجوز ذلك لدفع مفسدة معتبرة شرعًا، لا لجلب مصلحة؛ سواء كان ذلك في القضاء أو الإفتاء أو غير ذلك، وغني عن البيان أن فعل المفضول وترك الفاضل أحيانًا أمر جائز حتى مع عدم وجود ضرورة أو مفسدة؛ فلا يدخل فيما نحن بصدده الآن.
ومراعاة حكم الضرورة لا يعد اجتهادًا؛ لأن الاجتهاد إنما يكون له مجال في الأمر ذي الوجوه، أما ما قضت به الضرورة فهو من قبيل المحسوس، لا مجال للنظر فيه حتى يكون فيه اجتهاد.
أما فيما يقدم عليه الشخص من عمل فإن هناك تفصيلًا يقتضيه النظر في مقاصد الشريعة، التي أتت لجلب المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها؛ فإن كان ما يقدم عليه الشخص عملًا فيه خلاف سائغ، لكنه سينفر الناس منه، فإن كان هذا العمل مستحبًا فإنه يستحب له حينئذ ترك هذا المستحب لمصلحة تأليف القلوب؛ إذ هي في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا.
أما إن كان يعتقد حرمة الفعل، وذلك في العمل المختلف فيه اختلافًا سائغًا، فإنه لا يجوز له العمل بخلاف ما اعتقده، إلا لضرورة أو درء مفسدة معتبرة شرعًا، لا لجلب منفعة؛ إذ القواعد الشرعية تقرر أن «الضرورات تبيح المحظورات»، و«ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت أعلاهما»(15).
يقول أهل العلم: قد يُحتاج أحيانًا إلى القول المرجوح بسبب ظرف معين بأن احتِيج إليه في مكان معين أو زمن معين تبعًا للمصالح المترتبة عليه أو المفاسد المترتبة على مقابله، فأهل العلم أحيانًا يترجح لهم قول بدليله، لكن قد يكون العمل بهذا القول الراجح في هذا الظرف المعين في هذا المكان في هذا الزمان بعينه غير مناسب، ولا شك أن مراعاة المصالح والمفاسد مما جاءت به الشريعة، وحينئذٍ يُعاد النظر في الترجيح، فقد يكون المرجوح في زمنٍ راجحًا في زمنٍ آخر، هذا ما أشار إليه بعض أهل العلم، ولا يكون مرجوحًا إذا اقتضى النظر العمل لهذه الأسباب وهذه المبررات، ولا يعني هذا أن من لا يُعجبه قولًا من أقوال أهل العلم وهو في الحقيقة راجح على غيره من الأقوال أنَّه يُطبِّق مثل هذا الكلام عليه.
ويبقى أنَّ الأصل هو العمل بالراجح وترك المرجوح، وعلى نطاقٍ ضيقٍ جدًّا كما ذكر بعض أهل العلم أنه قد يصار إلى القول المرجوح إذا ترتبت عليه المصالح أو ترتب على غيره مفاسد ولو بحسب النظر، وقد يختلف اجتهاد المجتهد لا سيما إذا لم يكن في المسألة دليل ونص صحيح صريح؛ بل كان مبنى الترجيح على الاجتهاد المحض، فقد يترجح ما يخالفه ويتغير الاجتهاد حينئذٍ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ليس لأحد أن يتبع زلات العلماء، كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم والإيمان إلا بما هم له أهل»(16).
وقال أيضًا: «نعوذ بالله سبحانه مما يفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة، أو انتقاص أحد منهم، أو عدم المعرفة بمقاديرهم وفضلهم، أو محادتهم وترك محبتهم وموالاتهم، ونرجو من الله سبحانه أن نكون ممن يحبهم ويواليهم ويعرف من حقوقهم وفضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع، وأن يكون نصيبنا من ذلك أوفر نصيب وأعظم حظ، ولا حول ولا قوة إلا بالله»(17).
شروط إعمال الأقوال المرجوحة:
المتتبع لأقوال العلماء في المذاهب الأربعة يجدهم قد اعتبروا الأقوال المرجوحة التي لم تخالف النصوص الصحيحة والصريحة، وكانت فيما يسوغ فيه الخلاف، وجعلوا لها أثرًا في كثير من الأحكام، إلا أنهم قيدوا هذا الإعمال بشروط؛ حتى لا تكون منفذًا لتسيب الأحكام الشرعية، وأهمها هي:
أن يعدل المجتهد إلى الأقوال المرجوحة للضرورة:
تحدث ابن عابدين عن العمل بالقول المرجوح في شرحه للرسالة الثانية المسماة بـ«عقود رسم المفتي» فقال: «الواجب على من أراد العمل لنفسه أو يفتي غيره أن يتبع القول الذي رجّحه علماء مذهبه، فلا يجوز له العمل أو الإفتاء بالمرجوح إلا في بعض المواضع»(18)، ثم بيّن أن من هذه المواضع الضرورة فقال: «والحاصل أنه إذا اتفق أبو حنيفة وصاحباه على جواب لم يجز العدول عنه إلا لضرورة، وكذا إذا وافقه أحدهما»(19).
أن يصدر ممن هو أهل للاجتهاد ويترجح بأحد المرجحات:
قال الدسوقي: «فالمقلد لا يحكم إلا بالراجح من مذهب إمامه لا بقول غيره ولا بالضعيف من مذهبه، وكذا المفتي، فإن حكم بالضعيف نقض حكمه، إلا إذا لم يشتد ضعفه، وكان الحاكم من أهل الترجيح، وترجح عنده ذلك الحكم بمرجح من المرجحات المعتبرة، فلا ينقض كما لو قاس عند عدم النص وهو أهله»(20).
وقال الشاطبي رحمه الله: «فمن واقع منهيًا عنه فقد يكون فيما يترتب عليه من الأحكام زائد على ما ينبغي بحكم التبعية لا بحكم الأصالة، أو مؤد إلى أمر أشد عليه من مقتضى النهي، فيترك وما فعل من ذلك، أو نجيز ما وقع من الفساد على وجه يليق بالعدل، نظرًا إلى أن ذلك الواقع وافق المكلف فيه دليلًا على الجملة، وإن كان مرجوحًا، فهو راجح بالنسبة إلى إبقاء الحالة على ما وقعت عليه؛ لأن ذلك أولى من إزالتها مع دخول ضرر على الفاعل أشد من مقتضى النهي، فيرجع الأمر إلى أن النهي كان دليله أقوى قبل الوقوع، ودليل الجواز أقوى بعد الوقوع، لما اقترن به من القرائن المرجحة»(21).
ألا يتعارض القول المعدول إليه مع نص صريح من الكتاب والسنة:
بأن يكون في مسألة يسوغ فيها الاجتهاد، قال القرافي: «كل شيء أفتى فيه المجتهد فخرجت فتياه فيه على خلاف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي السالم عن المعارض الراجح لا يجوز لمقلده أن ينقله للناس، ولا يفتي به في دين الله تعالى، فإن هذا الحكم لو حكم به حاكم لنقضناه، وما لا نقره شرعًا بعد تقرره بحكم الحاكم أولى ألا نقره شرعًا إذا لم يتأكد، وهذا لم يتأكد، فلا نقره شرعًا والفتيا بغير شرع حرام»(22).
أن يقصد المجتهد مصلحة دينية راجحة:
يقول السبكي: «إذا قصد المفتي الأخذ بالقول المرجوح مصلحةً دينية جاز»(23)، ونقل ابن سليمان الكردي المدني عن بعض محققي المذهب الشافعي الإفتاء بالعزائم، إلا إذا كان السائل من الضعفاء الذين هم تحت أسر النفوس، يفتى لهم حينها بالتخفيف؛ شفقة عليهم من الوقوع في ورطة الهلاك، لا تهاونًا في دين الله(24).
وينبغي التنبه إلى أن المراد بالمصالح والمفاسد ما كانت كذلك في حكم الشرع لا ما كان ملائمًا ومنافرًا للطبع، ولا يكون تقريرها وفق أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية ودرء مفاسدها العادية(25).
أن يترتب على الإفتاء بالقول الراجح مفسدة ظاهرة:
قال الحافظ ابن رجب: «ومن تأمل هذا القيد، الذي قيد به محققو الأصحاب، علم أنه لا تجوز الفتيا في كثير من هذه الأزمان المتأخرة بتغيير الخراج؛ سدًا للذريعة؛ لأن ذلك يتطرق به كثير إلى الظلم والعدوان، وقد يترك القول الراجح المجتهد فيه إلى غيره من الأقوال المرجوحة إذا كان في الإفتاء بالقول الراجح مفسدة»(26).
ومثاله ما ورد عن ابن تيمية في تمديد مدة المسح على الخفين لو ترتب على خلعه ضرر، كما في حالة أرض فيها الثلوج، أو كان في رفقة متى خلع وغسل لم ينتظروه، أو يخاف إذا فعل ذلك من عدو أو سبع، أو كان إذا فعل ذلك فاته واجب ونحو ذلك(27).
وقل رحمه الله: «فهذه الأمور وإن كان أحدها أرجح من الآخر، فمن فعل المرجوح فقد فعل جائزًا، وقد يكون فعل المرجوح أرجح للمصلحة الراجحة، كما يكون ترك الراجح أرجح أحيانًا لمصلحة راجحة، وهذا واقع في عامة الأعمال»(28).
وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم، وقال لعائشة: «لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة، ولجعلتها على أساس إبراهيم، فإن قريشًا حين بنت البيت استقصرت، ولجعلت لها خلفًا»(29)، فلما كانت المفسدة المترتبة على هدم الكعبة أعظم من المصلحة امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن هدمها.
قال ابن تيمية: «ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات؛ لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيير بناء البيت؛ لما في إبقائه من تأليف القلوب»(30).
أن يقتصر المجتهد على محل الفتوى دون تعميمه على كل واقعة:
فعلى المجتهد أن يبقي الفتوى التي أصدرها وفق قيد معين، أو راعى فيها وضعًا خاصًا استثناءً للواقع الذي صدرت فيه، ولا يعممها في غيره، حتى لا يتخذ ذلك سببًا لتسيب الأحكام فيلتبس الناس في أمرهم.
قال العلامة المحقق الشوكاني: «فالحق، الذي لا شك فيه ولا شبهة، أن الحق واحد، ومخالفه مخطئ مأجور إذا كان قد وفى الاجتهاد حقه، ولم يقصر في البحث بعد إحرازه لما يكون به مجتهدًا»(31).
ولكن إذا عدل المجتهد إلى رأي وخالف فيه نصًا قطعيًا أو إجماعًا أو قاعدة شرعية وجب إنكار قوله اتفاقًا بين أهل العلم.
قال ابن تيمية: «من خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافًا لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع»(32)، وعليه يجب الإنكار على من خالف ما هو مقطوع به في الشريعة، أو أطلق الحكم فيما ليس بمطلق أو عمم فيما هو خاص(33).
وهذا ما قرره ابن القيم رحمه الله تعالى بقوله: «الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة والأمكنة ولا اجتهاد الأئمة؛ كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد مخالف لما وضع عليه، والنوع الثاني: ما يتغير فيها بحسب اقتضاء المصلحة»(34).
وبيَّن في موضع آخر أهمية القِسم الثاني وخطورته في آن واحد فقال: «هذا فصل عظيم النفع جدًا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة؛ أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة، التي في أعلى رتب المصالح، لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله»(35).
أورد ابن القيم في أعلام الموقعين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقي رجلًا فقال: «ما صنعت؟»، قال: «قضى علي وزيد بكذا»، قال: «لو كنت أنا لقضيت بكذا»، قال: «فما منعك والأمر إليك؟»، قال: «لو كنت أردك إلى كتاب الله، أو إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكني أردك إلى رأي، والرأي مشترك»(36)، ولم ينقض أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه ما قضى به علي وزيد رضي الله تعالى عنهما ما دام أنهما لم يخالفا نصًا أو إجماعًا.
_____________
(1) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول (2/ 263).
(2) العدول عن القول الراجح إلى المرجوح دراسة تطبيقية، ص25، 38.
(3) أخرجه أبو داوود (544).
(4) المحصول (6/ 56).
(5) جامع العلوم والحكم (2/ 267).
(6) التحفة المهدية شرح العقيدة التدمرية (1/ 27) بتصرف.
(7) الاجتهاد في الشريعة الإسلامية مع نظرات تحليلية في الاجتهاد المعاصر، ص6.
(8) إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 132).
(9) المصدر السابق (1/ 69).
(10) شرح العقيدة الواسطية، ص18.
(11) البحر المحيط في أصول الفقه (8/ 148).
(12) إعلام الموقعين، لابن القيم (4/ 177).
(13) مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين (26/ 431).
(14) الأخذ بالقول المرجوح عند الاقتضاء، موقع: ملتقى أهل الحديث.
(15) حكم الأخذ بالمرجوح، مجلة البيان (العدد:279).
(16) الفتاوى الكبرى (6/ 92).
(17) المرجع السابق (4/ 473).
(18) مجموعة رسائل ابن عابدين (1/ 10).
(19) المرجع السابق (1/ 26).
(20) الشرح الكبير، للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (4/ 130).
(21) الموافقات (5/ 191).
(22) أنوار البروق في أنواء الفروق (2/ 109).
(23) المصدر السابق (2/ 319).
(24) الفوائد المدنية فيمن يفتى بقوله من أئمة الشافعية، ص371.
(25) الموافقات (2/ 37).
(26) الاستخراج لأحكام الخراج، ص138.
(27) الفتاوى الكبرى (1/ 314).
(28) مجموع الفتاوى (24/ 198).
(29) أخرجه مسلم (2375).
(30) مجموع الفتاوى (22/ 407).
(31) إرشاد الفحول، ص851.
(32) مجموع الفتاوى (24/ 172).
(33) الإنكار في المسائل الخلافية، مجلة البحوث الإسلامية (العدد:47).
(34) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، ص331.
(35) إعلام الموقعين (3/ 11).
(36) المرجع السابق (1/ 52).