الاستغراق في الجزئيات
إن الاهتمام بالجزئيات عن الكليات وبالفروع عن الأصول ظاهرة سلبية يعيشها المسلمون اليوم جميعًا، على كافة المستويات، ولا شك أن هذا يعتبر خطأ كبيرًا، فلا بد من التوسط في ذلك، فلا يهتم بالجزئيات اهتمامًا كبيرًا مع التقصير في جانب الأصول والكليات، وكذلك لا تهمل هذه الجزئيات بالكلية؛ بل يعطى كل شيءٍ قدره.
الانشغال بحكم تحريك الإصبع في التشهد، والبسملة في الصلاة، وطريقة الهويّ إلى السجود هل نقدم اليدين أم الركبتين... إلخ، وعدم الانشغال بالقضايا الملحة؛ كقضايا تصحيح تصور المسلم عن الله عز وجل، وقضايا إصلاح الفساد ومقاومة الاستبداد، وتبعية الأمة لغيرها اقتصاديًا وسياسيًا، والتطبيع مع العدو الصهيوني، وتهريب الثروات للخارج، والجهل والأمية، والتخلف العلمي والتقني، وتزوير الإرادة الشعبية، وانتشار الربا والزنا... إلخ.
إنها مشكلة من أدق المشكلات، إن طائفة من المسلمين؛ بل من الدعاة، همهم الكبير تحول إلى العناية بفروع المسائل وجزئياتها، فسهروا ليلهم، وأضنوا نهارهم في هذه المسائل والجدال حولها، حتى لكأنها الدين كله، مع أنها يمكن أن تكون سنة من السنن، لن يكون عليه في ذلك حرج ولا تثريب، وإن كان الأولى بالمسلم أن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في دقيق الأمور وجليلها.
إنه لمن التطرف أن تغرق في الجزئيات وأن تنسى الكليات، أن تغرق في الفروع وأن تنسى الأصول، أن تغرق في الدقائق وأن تنسى كليات الدين، أن تغرق في التفاصيل وأن تنسى مقاصد الشريعة.
في مقابل ذلك هناك طائفة أخرى أرادت، فيما تزعم، أن تعالج هذا الداء، فتحول الأمر عندها إلى إهمال كامل للجزئيات، واعتبار هذه الجزئيات عبارة عن قشور، أو كما يقول بعضهم: توافه الأمور، لا قيمة لها ولا ينبغي الاشتغال بها؛ بل أصبحت موضعًا للسخرية والنقد والتندر.
إن الشريعة عدل كلها، الشريعة رحمة كلها، الشريعة مصلحة كلها، الشريعة حكمة كلها، أية قضية خرجت من العدل إلى الجور، من المصلحة إلى المفسدة، من الحكمة إلى خلافها، فليست من الشريعة ولو أدخلت عليها بألف تأويل وتأويل، ألم يقل الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143].
ألم يكن النبي عليه الصلاة والسلام في دعوته متوازنًا؟ لأنه ينقل عن وحي الله عز وجل، ووحي الله عز وجل من عند الخبير، وحقيقة الأمر أن هذا كله دين، الكبير دين، والصغير دين، الأصل دين، والفرع دين، والجزء دين، والكل دين.
فكل ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام هو دين، ينبغي الاهتمام به، والعناية به، وألا يكون محط سخرية واستهزاء، ونقد من أحد، لكن ينبغي أن يعطى كل ذي حق حقه، وأن يوضع كل شيء في مكانه.
إنه من العجيب أن بعض هؤلاء الدعاة الذين يزعمون أو يعتقدون أنهم يحاولون الإصلاح والتغيير؛ هم في حقيقة الأمر يسببون في كثير من الأحيان الإثارة في الجزئيات، وإشغال الناس بها، وصرفهم عن معالي الأمور، وعما عداه، هم الذين يتسببون في ذلك؛ لأنهم يطرحون وجهات نظر بطريقة غريبة، وبطريقة استفزازية، وبطريقة غير موضوعية، وغير صحيحة أيضًا(1).
مخاطر التركيز على الفروع والجزئيات:
وأول ما ينبغي تصحيح التصور فيه وتوجيه الاهتمام إليه هو ما وقع فيه بعض فصائل الصحوةالإسلاميةالمعاصرة من التركيز الشديد على الفروع والجزئيات من الأمور، بدل التركيز على الأصول والكليات والأساسيات؛ ولهذا التركيز الكثير من المثالب والأخطار، منها:
1- أنه مخالف للمنهج القرآني والنبوي :
فالقرآن الذي أنزله الله في ثلاثة وعشرين عامًا، ظل ثلاثة عشر عامًا، أي طوال العهد المكي، يعنى بإيضاح الأصول والكليات، من العقائد والأخلاق والأعمال، والنبي صلى الله عليه وسلم ظلَّ طوال هذه المرحلة يربي الجيل الأول على هذه المعاني الكبار، وهذه القيم العليا، اعتقادًا وتعبدًا وخلقًا وسلوكًا وفكرًا وعملًا؛ بل إن العهد المدني نفسه، وهو عهد التشريع، لم ينسَ يومًا التذكير بهذه الأصول، فكثير من التشريعات تبدأ بصيغة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} دلالة على أن الإيمان هو أساس الالتزام بالتشريع والمحرك للعمل.
2- أن مفردات الجزئيات والفرعيات لا تكاد تنتهي :
فمن شغل نفسه بها أكلت جهده، والتهمت وقته، ولم تدع له من طاقة الجسم والفكر والنفس ما ينفقه في خدمة الأصول والقضايا الكبرى؛ ولهذا جاء عن ابن مسعود: ما اجتهد قوم في بدعة إلا أضاعوا مثلها من السنة، وقال أحد الحكماء: ما وجدت إسرافًا إلا بجانبه حق مضيع.
3- أن هذه الجزئيات الفرعية مظنة الخلاف دائمًا أو غالبًا :
لأن أدلتها ظنية الثبوت، ظنية الدلالة؛ ولهذا يكثر فيها الخلاف، وتتعدد فيها الآراء تبعًا لتعدد الأفهام، والتركيز على هذه الفرعيات من أبناء الصحوة يوقع الخلاف بينهم؛ بل قد يزرع بينهم الشقاق والبغضاء التي تحلق الدين.
ويتساءل البعض: لماذا لا يُدعى الجميع إلى الرأي الصواب، والمذهب الحق، ويتفقون عليه بدل الخلاف والاختلاف؟
والجواب: أنه ليس في هذه المسائل الجزئية الاجتهادية رأي أو مذهب يُجزم بأنه الصواب الذي لا يحتمل الخطأ، والحق الذي لا يشوبه باطل؛ ولهذا ذهب بعض الأصوليين إلى أن آراء المجتهدين جميعًا في المسائل الجزئية العملية صواب؛ بل حكم الله فيها ما انتهى إليه اجتهاد المجتهد، والرأي الأول أرجح فيما أرى.
رفع الخلاف غير ممكن لأسباب، منها:
- لأن الآخرين قد لا يسلمون لهم بثبوت النص الذي يستندون إليه.
- لأنهم قد يخالفونهم في دلالته على الحكم الذي فهموه منه لاعتبارات متعددة، فقهية أو أصولية.
- قد يكون عندهم معارض أقوى من النص المستدل به من نصوص الشرع، أو قواعده، أو مقاصده العامة، أو الإجماع العلمي والعملي(2).
الموضوعية واتباع الدليل:
البحث والدليل رائد الجميع، ولولا الدليل لقال من شاء ما شاء، إذا كنت ناقلًا فالصحة، مدعيًا فالدليل.
ينبغي أن نتكلم بموضوعية، وعقل، واتباع للدليل، من كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع الأمة، ينبغي أن نتكلم في الموضوعات بحسب أهميتها، وثقلها في ميزان الإسلام، عندنا طرفان متقابلان، طرف المهتمين بالجزئيات، وطرف الذين يهونون من شأنها، كيف نقف بين من يعتني بالجزئيات إلى مستوى أنه نسي الكليات، ونسي مقاصد الشريعة، ونسي الأصول، ونسي الحكمة من هذا الدين، وبين من يتوهم أنه يعتني بالأصول وقد ترك التفاصيل، والتفاصيل من الدين؟
لا نستطيع أن نقول إن في الدين لبابًا وقشورًا، ولكن في الدين أولويات، يمكن أن نقول: في الدين كليات وجزئيات، أصول وفروع، أولويات وثانويات، ضرورات وحاجيات وتحسينات، لا بد من تقسيم أمور الدين وفق سلم، هل يعقل أن تكون معصية شرب الماء واقفًا كمعصية خيانة المسلمين؟ فلا بد من وضع سلم للأولويات.
كليات العقائد وكليات العبادات:
قد نتوهم أن الأصول هي كليات العقائد، الحقيقة هي أن الأصول هي كليات العقائد وكليات العبادات، أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى، هذا من الأصول، وأن تؤمن بفرضية الصلاة والصيام والزكاة والحج من كليات الدين ومن أصول الدين، إذًا ينبغي أن تعرف متى تنتهي الأصول وتبدأ الفروع، من أجل أن نتفق على الأصول، أما إذا اختلفنا على الفروع فلا تثريب علينا، لا ينبغي أن نضحي بوحدتنا، لا ينبغي أن نضحي بتماسكنا، لا ينبغي أن نضَّحي بتكتلنا تجاه أعدائنا من أجل فروع لا يمكن أن تكون مثار خلاف بين المسلمين.
هناك بعض الجزئيات أو الفروع التي قَد يرى الداعية وجوب بيانها للناس، إلا أنه لا بد من التأكيد على ربط تلك الجزئية بالكليات العامة، وهذا الربط له أثره في بيان حكم الأمر والنهي والحض على الالتزام بالأمر، واجتناب النهي، وإذا جعل الخطيب مدخله إلى الجزئيات أمورًا كلية كان ذلك أدعى لقبول القول(3).
يقول الشيخ ناصر العقل: «الاستغراق في الجزئيات التي يسع فيها الخلاف، وإشغال المسلمين بها، مع أن المسلمين فيها يعذر بعضهم بعضًا؛ فهذا لا شك أنه مسلك خاطئ، وقد يسلكه بعض الشباب، فيكون همهم إثارة قضايا يسع فيها الخلاف، والمسلمون في حل من الاختلاف عليها علمًا أو عملًا، أو الأمرين جميعًا، وعند المسلمين ما هو أهم منها من المنكرات والمآسي، وإغراق المسلمين فيها لا شك أنه خطأ.
أن يغرق المسلمون في دراسة دينهم بجزئياته وبأحكامه، هذا هو الأصل، ولن تستقيم أمورهم إلا بهذا، فدراسة العلم الشرعي للعمل والدعوة هو الأصل، لكن المذموم هو نقل المسائل الخلافية، التي يسع فيها الاختلاف، إلى ساحة الصراع والولاء والبراء عليها، واتخاذ المواقف من خلالها، والتشنيع على المخالفين فيها، وهذه ظاهرة بدأت تظهر مع الأسف عند بعض الشباب(4).
جزئيات تضعف الأمة أمام أعدائها:
أركان الإيمان الستة التي يقرأها الصغار في المدارس، أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالى، هذه أصول وكليات وقضايا عامة لا شك فيها، إنكارها كفر، والحديث عنها من أولى الأولويات، ومن أهم الضرورات، ولكن تجد في مقابل ذلك في مسائل الأمور العلمية والاعتقادية جزئيات من المؤكد أن العبد لا يُسأل عنها في قبره، وليست من شروط دخول الجنة، فمثلًا: هل رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء أم لم يره؟ هذه من الفروع؛ كيفما اعتقدت في هذه المسألة فأنت ناجٍ، لأنك لن تُسأل عنها في قبرك، ولن تحاسب عنها.
قضية النزاع في معاني بعض الآيات القرآنية أو في بعض الأحاديث النبوية لن تُسأل عنها في قبرك، ولن تحاسب عنها؛ بل قضية النزاع في ثبوت بعض الأحاديث أو عدم ثبوتها لن تُسأل عنها في قبرك، ولن تحاسب عليها، قضية علم الكلام وعلاقته بالدين، قضية الجوهر وبقائه، والعرض وفنائه، قضايا منطقية من علم الكلام لن تُسأل عنها، قضية فناء النار حتى تفنى أو لا تفنى، هذه مسائل لن تُسأل عنها.
معنا مساحة من الكليات، ومساحة من الأصول، ومساحة من محكمات الدين، لا يمكن أن يختلف فيها مسلمان على وجه الأرض، ومع ذلك يتقاتل المسلمون، فإذا نظرت إلى موضوع الخلاف، وموضوع التكفير، وموضوع التبديع؛ لوجدته في المنطقة الثانية، التي لن يُسأل عنها الإنسان يوم القيامة، ولن يحاسب عليها، هل يعقل أن تكون هذه الجزئيات محط خلاف ونزاع وشرذمة بين أفراد الأمة وإضعاف الأمة أمام أعدائها؟
هذه القضايا لا يمكن أن يكون المخالف فيها كافرًا ولا فاسقًا ولا مبتدعًا، هي من القضايا التي يمكن أن تكون من أمور الفروع والجزئيات في المسائل العلمية، وليست هذه كتلك، إن العبد لن يُسأل في القبر عن فناء النار، ولا عن أن النبي رأى ربه ليلة الإسراء والمعراج، ولا عن أسئلة لا تنتهي من هذا القبيل؛ لأنها كلها من الجزئيات.
تحكيم العقل حين انطماس الفطرة:
إننا بين طرفين متطرفين: طرف يعتني بالجزئيات، وليس الاعتناء بها خطأً، ولكن إلى درجة أنه ينسى الكليات، هنا الخطأ، وينسى مقاصد الشريعة، وينسى أن الشريعة عدل، وأن الشريعة رحمة، وأن الشريعة حكمة، وأن الشريعة مصلحة.
والطرف الآخر يهمل تفاصيل الدين، كأن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نؤمن به من خلال هذا الكون، وأن نعبده من خلال هذا الشرع، أنت بالكون تعرفه، وبالشرع تعبده، أنت إن تفكرت في خلق السماوات والأرض مهما يكن التفكر دقيقًا وعميقًا تصل إلى حقيقة واحدة هي أنه لا بد لهذا الكون من إله عظيم، لكن هذا الإله العظيم ماذا يريد منك؟ هذا لا يمكن أن تجده إلا في الوحي، إذًا لو اكتفينا في التفكر لا نفلح، لو اكتفينا بالجزئيات لا نفلح، لا بد من أن نضم الإيمان بالله إلى الإيمان بالمنهج، لا بد من أن نتأمل ومن أن نتلقى، لا بد من أن نحكم العقول في بعض القضايا التي تدلنا على الله عز وجل حينما تنطمس الفطرة، ولا بد من أن نتبع المنهج الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيعقل أن يأتيك مريض مصاب بأزمة قلبية حادة تقتضي أن تفتح قلبه فورًا، وأن تبدل أحد الشرايين، ثم تجد أظافره طويلة، فتنسى قلبه الخطر وتهتم بقص أظافره؟ لا بد من قص الأظافر، ولكنها من الجزئيات والثانويات، هذه تؤجل إلى الغد، قد تجد إنسانًا يتوجه إلى الجزئيات، لكنه في عقيدته منحرف.
داعية تجده في القضايا الكبرى واقعًا في الشرك الأكبر، أما إذا سألته في تفاصيل الشريعة فهو متقن لها، وقد يجادلك ساعات وساعات في أدق فروع الشريعة، أما في أن الله سبحانه وتعالى وحده الذي يشرِّع، ولا يطاع مخلوق في معصية الخالق فهذه قد لا نجدها عنده(5).
ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية تُردُّ إليها الجزئيات؛ ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات؛ فيتولد فساد عظيم»(6).
لأجل هذا عني أهل العلم كثيرًا بوضع القواعد وجمعها في الفنون المختلفة، فلا تكاد تجد فنًا من الفنون إلا وله قواعد كثيرة، وضوابط عديدة، تجمع متفرقه، وتزيل مشتَبهَه، وتنير معالمه، وتيسر فهمه وحفظه وضبطه، ويحصل بها من النفع والفائدة على اختصارها ما لا يحصل في الكلام الطويل(7).
ولهذا فإنه يترتب على العناية بالقواعد المأثورة والأصول الكلية المنقولة عن السلف الصالح رحمهم الله من الفوائد والمنافع ما لا يعلمه إلا الله؛ لأن فيها كما يقال وضع النقاط على الحروف، وفيها تجلية للأمور، وتوضيح للمسائل، وإزالة للّبْس، وأَمْنٌ من الخَلْط، إلى غير ذلك من الفوائد.
قال ابن القيم: «الأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه»(8).
فمعنى هذا أنه لا يوجد عمل هو الأفضل على الإطلاق، وإنما لكل وقت عبادة تكون هي الأفضل بالنسبة له.
وقد وصف ابن تيمية فقه مراتب الأعمال بأنه حقيقة الدين، وحقيقة العمل بما جاءت به الرسل، وبأنه خاصة العلماء بهذا الدين, يقول: «فتفطّن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد، بحيث تعرف ما ينبغي من مراتب المعروف ومراتب المنكر، حتى تقدم أهمها عند المزاحمة، فإن هذا حقيقة العمل بما جاءت به الرسل، فإن التمييز بين جنس المعروف وجنس المنكر وجنس الدليل وغير الدليل يتيسّر كثيرًا؛ فأما مراتب المنكر ومراتب الدليل بحيث تقدم عند التزاحم أعرف المعروفين فتدعو إليه، وتنكر أنكر المنكرين، وترجح أقوى الدليلين، فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين»(9).
وقد اعتبر ابن القيم انشغال الإنسان بالأعمال المفضولة عن الفاضلة من عقبات الشيطان التي لا يتجاوزها المسلم إلا بفقه في الأعمال ومراتبها، حيث يُحَسّن الشيطان له الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات، ويريه ما فيها من الفضل والربح؛ ليشغله بها عما هو أفضل وأعظم كسبًا وربحًا، فقال في توجيه ذلك: «لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب، طمع في تخسيره كماله وفضله، ودرجاته العالية، فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب لله عن الأحب إليه، وبالمرضي عن الأرضى له».
إلى أن قال: «فإن نجا منها بفقه في الأعمال ومراتبها عند الله، ومنازلها في الفضل، ومعرفة مقاديرها، والتمييز بين عاليها وسافلها، ومفضولها وفاضلها، ورئيسها ومرءوسها، وسيدها ومسودها؛ فإن في الأعمال والأقوال سيدًا ومسودًا، ورئيسًا ومرءوسًا، وذروة وما دونها...، ولا يقطع هذه العقبة إلا أهل البصائر والصدق من أولي العلم السائرين على جادة التوفيق، قد أنزلوا الأعمال منازلها، وأعطوا كل ذي حق حقه»(10).
إن عدم فقه الأولويات يؤدي إلى الإغراق في الجزئيات على حساب المحافظة على الكليات؛ فعند النظر في حال العمل الإسلامي نجد أن الأماني واسعة، في حين أن الأهداف غامضة، ونجد أن المبادئ بارزة في حين أن البرامج غائبة، والسبب هو عدم وجود دراسات جادة تتولى معالجة مثل هذه القضايا الكلية، وإذا وُجدت فهي دراسات محدودة ومتدنية في مستواها، بينما تقاس اهتمامات الأمم بقضيةٍ ما بإنتاجها الثقافي ونضجها الفكري، فأين تسخير طاقات شباب الأمة، وهم كثير، ممن يمكن توجيهه وتدريبه للقيام ببحوث ودراسات حول قضايا الأمة الكبرى والمصيرية(11).
ومن هنا لا نعجب عندما تنسى الأمة أبجديات وتتوه عن بدهيات؛ لأجل أنها صرفت النظر بعيدًا حول بعض المفردات والجزئيات، ما فوت أصولًا لا يتم النجاح وتجاوز الأزمات إلا بتحققها.
إننا ونحن نواجه التحديات المعاصرة لا بد لنا من اصطحاب هذا النوع من الفقه، وإلا كان ما نفسد أكثر مما نصلح.
إن أول واجب على الداعية هو إصلاح النفوس بالإيمان وتطويعها لشرع الله، وهذا ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يمكث تلك المدة الطويلة بمكة لتحقيق هذا الأمر، فمخالفة هذا المنهج لدى بعض من يمكنه الله على العباد بتشريعه قوانين العقوبات الرادعة قبل إصلاح البواطن لا تنشئ مجتمعًا صالحًا(12).
وقال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْـحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِندَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِـمِينَ} [التوبة:19].
بيَّن الله تعالى درجات الفريقين عنده، وأن أهل الإيمان والهجرة والجهاد أعظم درجة، ومن هنا نص أهل العلم على أن المقام في الثغور بنية المرابطة في سبيل الله أفضل من المجاورة بالمساجد الثلاثة؛ لأن جنس أعمال الجهاد أفضل من جنس أعمال الحج(13).
ومن هنا أيضًا أفتى من أفتى من أهل العلم في مسألة المكان الأفضل لإقامة الشخص فيه؟ فأجاب: بأن الإقامة في كل موضع تكون الأسباب فيه أطوع لله ورسوله، وأفعل للحسنات والخير بحيث يكون أنشط له، أفضل من الإقامة في مكان يكون حاله فيه دون ذلك(14).
وحديث عبد الله بن مسعود رض