الإفراط في السهر والسمر
إن مما ابتُليَ به أهل هذا الزمان، ما فتح عليهم من أبواب الترفيه والتسلية والملهيات وأساليب الحياة التي تحوَّل بها ليل كثير منهم إلى نهار، يسهرون أغلبه وينامون أقله، ولم يعد لهم من منافعه ما كان لسابقيهم من أهل الإيمان وسلف الأمة الصالحين.
ولقد جعل الله الليل برحمته وفضله وقت منام، وهدوء عام، قال الله المتفضل، في شأن التفضل: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73]، وكما قال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)} [النبأ: 10- 11].
وكان من تدبير الله للبشر أن جعل النوم سباتًا يدركهم فيقطعهم عن الإدراك والنشاط، ويجعلهم في حالة لا هي موت ولا هي حياة، تتكفل بإراحة أجسادهم وأعصابهم وتعويضها عن الجهد الذي بذلته في حالة الصحو والإجهاد والانشغال بأمور الحياة.. وكل هذا يتم بطريقة عجيبة لا يدرك الإنسان كنهها، ولا نصيب لإرادته فيها ولا يمكن أن يعرف كيف تتم في كيانه.
فهو في حالة الصحو لا يعرف كيف يكون وهو في حالة النوم، وهو في حالة النوم لا يدرك هذه الحالة ولا يقدر على ملاحظتها! وهي سر من أسرار تكوين الحي لا يعلمه إلا من خلق هذا الحي وأودعه ذلك السر وجعل حياته متوقفة عليه، فما من حي يطيق أن يظل من غير نوم إلا فترة محدودة، فإذا أجبر إجبارًا بوسائل خارجة عن ذاته كي يظل مستيقظًا فإنه يهلك قطعًا.
وفي النوم أسرار غير تلبية حاجة الجسد والأعصاب؛ إنه هدنة الروح من صراع الحياة العنيف، هدنة تلم بالفرد فيلقي سلاحه وجنته- طائعًا أو غير طائع- ويستسلم لفترة من السلام الآمن، السلام الذي يحتاجه الفرد حاجته إلى الطعام والشراب، ويقع ما يشبه المعجزات في بعض الحالات حيث يلم النعاس بالأجفان، والروح مثقل، والأعصاب مكدودة، والنفس منزعجة، والقلب مروع، وكأنما هذا النعاس- وأحيانًا لا يزيد على لحظات- انقلاب تام في كيان هذا الفرد، وتجديد كامل لا لقواه بل له هو ذاته، وكأنما هو كائن حين يصحو جديد..
ولقد وقعت هذه المعجزة بشكل واضح للمسلمين المجهودين في غزوة بدر وفي غزوة أحد، وامتن الله عليهم بها، وهو يقول: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال: 11]، {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} [آل عمران: 154]، كما وقعت للكثيرين في حالات مشابهة، فهذا السبات: أي الانقطاع عن الإدراك والنشاط بالنوم ضرورة من ضرورات تكوين الحي وسر من أسرار القدرة الخالقة ونعمة من نعم الله لا يملك إعطاءها إلا إياه، وتوجيه النظر إليها على هذا النحو القرآني ينبه القلب إلى خصائص ذاته، وإلى اليد التي أودعتها كيانه، ويلمسه لمسة تثير التأمل والتدبر والتأثر.
وكان من تدبير الله كذلك أن جعل حركة الكون موافقة لحركة الأحياء، وكما أودع الإنسان سر النوم والسبات، بعد العمل والنشاط، فكذلك أودع الكون ظاهرة الليل ليكون لباسًا ساترًا يتم فيه السبات والانزواء.
وظاهرة النهار ليكون معاشًا تتم فيه الحركة والنشاط، بهذا توافق خلق الله وتناسق، وكان هذا العالم بيئة مناسبة للأحياء، تلبي ما ركب فيهم من خصائص، وكان الأحياء مزودين بالتركيب المتفق في حركته وحاجاته مع ما هو مودع في الكون من خصائص وموافقات (1).
كان الليل في زمن مضى، وذهب وانقضى، ميدان سبق، ومطية تنافس، ومضمار صدق، لا ترى فيه إلا مصليًا، أو ساجدًا أو باكيًا، أو مستغفرًا أو داعيًا، وكان السلف رحمهم الله تعالى يرونه أعظم مطية، إلى الجنة العلية.
أما اليوم فقد أصبح الليل وقتًا للتهريب، وزمنًا لفعل الفواحش والتخريب، وحلبة لاقتراف الكبائر، واقتراف الجرائم، وتعدٍ لحدود الله تعالى.
اليوم أضحى الليل لدى كثير من الناس، لحظات طيش، وظلال عيش، وأصبح السهر اليوم في الأعم الأغلب منبعًا للعار، وإيذاءً للجار، صار السهر اليوم مجمعًا للأخطار، وطريق للمهالك والمضار، ومسرحًا للأعمال الخبيثة، والأفعال القبيحة، والليالي الحمراء، لأصحاب الوجوه الغبراء، في الليل تعرض الأفلام الخليعة، والبرامج المريعة، والحركات الفظيعة، مشحونة بخطوات الشيطان ونزغاته، وأحلامه وترهاته، مدفوعة بأفكاره وحزبه، وأوهامه وجنده، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور: 21].
ولما كان أكثر الناس يضيع ليله في غير قربة، أحببنا أن نبين حكم السهر والسمر والحديث بعد العشاء، وهل هو محمود أم مذموم، أو ممنوع أم مشروع؟
وقد اختلف الآراء في حكم السهر والسمر "وهو الجلوس للحديث" بعد صلاة العشاء، وذلك أنه وردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وآثار عن الصحابة والسلف تنهى عن السمر بعد العشاء، وأتت أحاديث أخرى وآثار تدل على جواز ذلك، وتثبت فعل النبي صلى الله عليه وسلم له، وكذلك جماعة من السلف.
المنع والتحذير من الإفراط السمر:
فمما ورد في المنع منه، ما رواه البخاري عن أبي برزة، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها» (2).
وهذ الحديث أصل في هذا الباب، وقد ذكره العلماء وترجموا لأبوابه بما يدل على كراهة ذلك:
فبوب الترمذي في جامعه: باب ما جاء في كراهية النوم قبل العشاء والسمر بعدها، وبوب الإمام أبو داود في سننه: باب النهي عن السمر بعد العشاء، وكذلك ابن ماجة في السنن: باب النهي عن النوم قبل صلاة العشاء وعن الحديث بعدها، وبوب النووي في رياض الصالحين: باب كراهة الحديث بعد العشاء الآخرة.
وقد أخذ العلماء من هذا الحديث كراهية السهر والسمَر بعد صلاة العشاء، وإن كان في الأمور المباحة.
قال الإمام النووي: واتفق العلماء على كراهة الحديث بعدها إلا ما كان في خير (3).
وقال الحافظ ابن رجب: ومتى كان السمر بلغو، ورفث، وهجاء، فإنه مكروه بغير شك (4).
ومن الأدلة أيضًا: ما رواه ابنُ ماجة في سننه عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما نام رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل العشاء، ولا سمر بعدها (5).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والسمر بعد هدوء الليل؛ فإن أحدكم لا يدري ما يبث الله من خلقه، ...» الحديث (6)، وفي رواية المستدرك: «إياك والسمر بعد هدأة الليل؛ فإنكم لا تدرون ما يأتي الله من خلقه» (7).
وجاء في مسند أحمد وسنن ابن ماجة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: جدب إلينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم السمر بعد العشاء، قال خالد -هو أحد الرواة-: معنى جدب إلينا يقول: عابه، وذمه (8).
وممن ورد عنه النهي أيضًا من الصحابة رضوان الله عليهم: الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عن سلمان يعني ابن ربيعة، قال: قال لي عمر: يا سلمان، إني أذم لك الحديث بعد صلاة العتمة (9)، وعن خرشة بن الحُرِّ الفزاري قال: رأى عمر بن الخطاب قوما سمروا بعد العشاء ففرق بينهم بالدرة فقال: أسَمَرًا من أوله ونومًا من آخره (10).
وكذلك نهت عنه عائشة أم المؤمنين، فعن عروة قال: سمعتني عائشة رضي الله عنها وأنا أتكلم بعد العشاء الآخرة، فقالت: يا عُرَىُّ ألا تريح كاتبَيك؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ينام قبلها، ولا يتحدث بعدها (11).
سبب النهي والمنع:
وأما سبب الكراهة وعلة النهي، فقد بينها العلماء.. فمن ذلك:
أولًا: الخوف من تضييع صلاة الليل، وفوات صلاة الفجر:
قال النووي: وسبب كراهة الحديث بعدها أنه يؤدي إلى السهر، ويخاف منه غلبة النوم عن قيام الليل أو الذكر فيه، أو عن صلاة الصبح في وقتها الجائز أو في وقتها المختار أو الأفضل، ولأن السهر في الليل سبب للكسل في النهار عما يتوجه من حقوق الدين والطاعات ومصالح الدنيا (12).
وقال الحافظ ابن حجر: لأن النوم قبلها قد يؤدي إلى إخراجها عن وقتها مطلقًا، أو عن الوقت المختار، والسمر بعدها قد يؤدي إلى النوم عن الصبح، أو عن وقتها المختار، أو عن قيام الليل (13).
ثانيًا: مخالفة سنة الله في خلقه:
فإنه سبحانه جعل الليل محلًا للنوم والراحة، والنهار للعمل والكسب، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس: 67]، وقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)} [النبأ:10- 11]، ففي الليل سكينة وقرار ونومٌ وراحة، وفي النهار نشاط وعمل، وسعي وجد.
قال القرطبي: وقد قيل: إن الحكمة في كراهية الحديث بعدها أن الله تعالى جعل الليل سكناً، أي يُسكن فيه، فإذا تحدث الإنسان فيه فقد جعله كالنهار الذي هو متصرف المعاش، فكأنه قصد إلى مخالفة حكمة الله تعالى التي أجرى عليها وجوده (14).
ثالثًا: الكسل وتضييع المصالح والحقوق:
لأن في السهر إتعابَ البدن وإرهاقَه، فيؤدي إلى الكسل والوخم بالنهار..
وقال الإمام الشوكاني: ولا أقلَّ لمن أمن من ذلك (أي مما فات ذكره من مكروهات السهر) لا أقل له من الكسل بالنهار عما يجب من الحقوق فيه والطاعات (15).
رابعًا: نوم أول النهار وتضييع بركة البكور:
كما قال الشيخ ابن عثيمين: ثم ينام في أول نهاره عن مصالحهِ الدينية والدنيوية، والنوم الطويل في أول النهار يؤدي إلى فوات مصالح كثيرة، وقد جرب الناس أن العمل في أول النهار أبرك من العمل في آخر النهار، وأنه أسد وأصلح وأنجح، فإن البكور مبارك فيه (16).
خامسًا: كراهة أن ينام على لغو:
قال ابن رجب: ومنهم من علل بأن الصلاة ينبغي أن تكون خاتمةَ الأعمال، فيستحب النوم عقيبها، حتى ينام على ذكر، ولا ينام على لغو (17).
وقال الطحاوي في شرح معاني الآثار: أما الكلام الذي ليس بقربة إلى الله عز وجل، وإن كان ليس بمعصية، فهو مكروه حينئذ لأنه مستحب للرجل أن ينام على قربة وخير وفضل يختم به عمله، فأفضل الأشياء له أن ينام على الصلاة فتكون هي آخر عمله (18).
سادسًا: العطالة وقلة الإنتاج:
فسهر الليل يؤدي إلى تعب البدن فيحتاج إلى الراحة بالنهار، فيقعد عن الضرب في الأرض والخروج للعمل، فتكون البطالة.. وربما كان صاحبَ عمل ووظيفة فيقل إنتاجه، ويضعف أداؤه، وهي خسارة اقتصادية له ولمجتمعه، وربما يخسر وظيفته.. وقد يكون في موقع لقضاء معاملات الجمهور فيؤخرها أو يعطلها فتختل معاملات الناس.
ما يباح من السمر والسهر:
غير أن السهر والسمر إنما يكره ما لم تكن فيه مصلحة، وهذا ما ورد في كلام العلماء.. فمن ذلك:
السهر في مصالح المسلمين:
عن عمر بن الخطاب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمر مع أبي بكر في الأمر من أمر المسلمين وأنا معهما (19).
السمر لمصلحة سفر أو صلاة:
لما ورد عن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا سمر إلا لمصل أو مسافر» (20)، وذلك أن المسافر يحتاج إلى ما يدفع النوم عنه، ليسير ويقطع الطريق فأبيح له السمر، وكذا المصلي يحتاجه أحيانًا حتى لا ينام ويكمل صلاته.
السهر لعبادة وطاعة:
قال الله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6]، وقال: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر (21).
وروى الطحاوي في شرح معاني الآثار، عن أبي سعيد مولى الأنصار قال: كان عمر لا يدع سامرًا بعد العشاء، يقول: ارجعوا لعل الله يرزقكم صلاة أو تهجدًا، فانتهى إلينا وأنا قاعد مع ابن مسعود وأبيِّ بن كعب وأبي ذر، فقال: ما يقعدكم؟ قلنا: أردنا أن نذكر الله، فقعد معهم (22).
السهر لمدارسة العلم وحفظه:
وأفضل ما يدرس من العلم القرآن الكريم، وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة (23).
وبوب البخاري في صحيحه، في كتاب العلم، باب: السمر في العلم، وذكر فيه حديثَ ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم العشاء، ثم جلس فحدثهم.
وقال سفيان الثوري: كان يقال: لا سمر بعد العشاء، إلا لمصل، أو مسافر، قال: ولا بأس أن يكتب الشيء، أو يعمل بعد العشاء (24).
وهذا يدل على أن سهر الأنسان في عمل يعمله وحده، من غير مسامرة لغيره، أنه لا كراهة فيه، بخلاف المسامرة والمحادثة، والله سبحانه وتعالى أعلم (25).
السمر لمؤانسة ضيفه أو أهله:
وقد بوب بهذا البخاري رحمه الله في صحيحه.. وذكر حديث ضيف أبي بكر، وما وقع له معهم، وما بارك الله في طعامه حتى ربا وكثر.
ويدل عليه أيضًا ما ثبت في الصحيحين عن صفية بنت حيي، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفًا فأتيته أزوره ليلًا، فحدثته ثم قمت فانقلبت، فقام معي ليقلبني (26).
من أضرار السهر الاجتماعية
في النوم المبكِّر -إذا التزمت به الأسرة- مؤانسة للأسرة؛ وذلك عندما يعود الأب إلى بيته مُبكِّرًا فيُؤانس أولاده وأهله مدة، وفيه رعاية للأولاد في دروسهم وواجباتهم، ثم يُشرِف الأب على ذَهاب الأولاد إلى غرفة النوم، ويَخلُد الجميع إلى النوم، وإذا كان هناك عمل يُطلَب من الرجل إنجازه، فمن الأفضل إنجازه قبيل الفجر وبعده في وقت يكون فيه الذهن صافيًا، والبال هادئًا، والدنيا ساكنة، فلا ضَجيج ولا مُعكِّرات، وهذا الذي كان عليه سلفُنا الصالح، واستمرَّ حتى وقت قريب.
أما السهر المتواصل فيؤدي إلى:
1- إهمال المنزل وأهله:
يجلس الشاب في المقهى أو على الأرصفة أو في الاستراحات أو في غيرها، ويتلذذ بالسمر مع أصحابه إما بمشاهدة القنوات الفضائية أو بلعب الكرة، وينسى نفسه وأهله ووالديه وقضاء حوائجهما، وتزداد المصيبة إذا كان صاحب أسرة فهو مشغول عن متابعة أولاده ورعايتهم والنظر في مصالحهم وقضاء حوائجهم ومتابعة دروسهم، أما الزوجة فهي آخر ما يفكر فيها فتجلس المسكينة إلى ساعة متأخرة من الليل واضعة يدها على خدها تنتظر زوجها الذي لم تكن في باله، ولم تَرِدْ في خياله.
وهذا كله من التفريط الذي يحاسب عليه العبد يوم القيامة؛ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راع ومسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته» (27)، فأعِدّ للسؤال جوابًا وللجواب صوابًا.
كما أن الاستمرار على هذه العادة قد يؤدي إلى الانفصال بين الزوجين؛ لأن المرأة مع كثرة الضغوط التي تواجهها والمصاعب التي تقابلها مِن جَرّاء تخَلِّي الزوج عن المنزل والأولاد قد تنفجر بكثرة المشاكل، أو بطلب الفراق والطلاق!! ثم لك بعد ذلك أن تفكر في المفاسد المترتبة على الطلاق خاصة إذا كان بينهما أولاد.
2- التفريط في الأداء الوظيفي أو الحضور المدرسي:
فإذا كان الشاب يسهر إلى ساعات متأخرة من الليل فهل يمكن لهذا الشاب أن يحضر لمدرسته مبكرًا؟ وهل يمكن لهذا الموظف أن يأتي لعمله في الوقت المحدد؟ وإذا أتى على سبيل الافتراض في الوقت المحدد، فهل سيكون حضوره له فعاليته ونشاطه المطلوب؟ أم يكون على حالة يُرْثَى لها؟ فيكون وجوده كعدمه!! فجسم الإنسان لا بد أن يأخذ قسطًا من الراحة حتى يستعيد قدراته ونشاطاته الفكرية والبدنية، وبدون هذه الراحة سيظل طيلة يومه متعبًا قلقًا.
3- تفويت بركة البكور: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا لأمته بالبركةِ في البكور، عن صخر الغامدي، عن النبي صلى عليه وسلم قال: «اللهم بارك لأمتي في بكورها»، وكان إذا بعث سرية أو جيشًا بعثهم من أول النهار، وكان صخر رجلًا تاجرًا، وكان يبعث تجارته من أول النهار فأثرى وكثر ماله، قال أبو داود: وهو صخر بن وداعة (28).
من أضرار السهر الصحية:
أضراره على ذاكرة الإنسان والجهاز العصبي:
أكدت الدراسات والبحوث أن السهر من أقوى العوامل المؤثرة على الجهاز المناعي والمثبطة لنشاط ذاكرة الجسم المناعية وحركة خلايا الجهاز المناعي، وقد ثبت أيضًا أن السهر يعوق طرفيات الجهاز العصبي وخلايا الإحساس من أداء عملها بشكل فعال، وللسهر تأثير سلبي حاد على الجهاز العصبي والمخ، ويتسبب السهر في فقدان التركيز وضعف الذاكرة وبُطْء الاستجابة العصبية.
وينصح من يريد الإبداع والإنتاج وزيادة القدرة العقلية والجسدية بالنوم مبكرًا والاستيقاظ مبكرًا لكي تنتظم حياته وتستقر صحته.
- أضراره في نمو الإنسان وتكامل بنيته:
لقد أثبتت الأبحاث العلمية ذلك وأوضحت أن الكثير من الهرمونات التي تفرزها ساعات النوم ومنها -على سيبل المثال لا الحصر- هرمون النمو وهو مسؤول عن إكساب الجسم المزيد من القوة العضلية والقوة الذهنية، ومع طول السهر يُحْرَم الإنسان من إفراز الهرمونات بالصورة الطبيعية.
ولوحظ كذلك زيادة إفراز هرمون الميلاتونين أثناء النوم ليلًا وهو المسؤول عن إعطاء الجسم المزيد من الحيوية والنشاط وإكسابه المزيد من المناعة ضد الإصابة بالأمراض المختلفة بما فيها الأورام الخبيثة؛ ولذلك نلاحظ أن الذين يدمنون سهر الليالي يعانون من الكسل والهزال وضعف البنية الجسدية.
وفي تقرير آخر ذُكِرَ أن سهر الأطفال يؤدي إلى التأخير في نموهم أو حتى توقفه، وذلك لعدم إفراز هرمون النمو بكمية كافية، وهذه الهرمونات تنشط البروتينات التي تساعد على بناء خلايا الجسم التي يموت منها عشرات الآلاف يوميًّا، وتقوي العظام وتعطي الطاقة للعضلات، كما أن هرمون النوم الذي تقوم بإفرازه الغدة النخامية، ينظم نشاط الهرمونات التي تساعد على التئام كسور العظام وتقلل نسبة الكوليسترول في الدم، إضافة إلى أن المعادن التي يحتاج إليها الجسم لا تثبت إلا ليلًا.
وثبت علميًّا أن النوم مهم جدًّا لنضج مخ الطفل، كما أن النوم بمنزلة المأوى والهرب من المشكلات ويساعدنا على مواجهة ضغوط الحياة.
هذه الحقائق دعت فريقًا من الباحثين وعلماء النفس بجامعة فلوريدا الأمريكية إلى دعوة الآباء والأمهات والمعلمين إلى ضرورة تعليم الأطفال نظام النوم منذ الصغر بنفس طريقة تلقينهم آداب المائدة والمحادثة.
وأجريت دراسة على ألف طفل في نيويورك، من أولئك الأطفال الذين يشخص الأطباء حالتهم على أنها نوع من الضعف الذهني، وهم في الواقع أصحاء نفسيا وذهنيا، ولكنهم يعانون اضطرابا في النوم يشتت أذهانهم وقدراتهم على التركيز والتذكر والتعليم. وأظهرت الدراسة أن 40% من الأطفال لا يحصلون على قسط كاف من النوم، وأن 17% يشكون دائما من الإرهاق، وأكثر من 11 % يشكون من صعوبات في النوم.
- السهر سبب من أسباب الحوادث:
أعرب خبراء بريطانيون عن قلقهم من أن السهر وقلة النوم مشكلة كانت سببًا في كثرة الحوادث العالمية كانفجار تشيرنوبل، وكارثة مكوك الفضاء الأمريكي تشالينجر وغيرها من الحوادث، وضع فيها اللوم على العمال الذين غلبهم النعاس، أو الذين يشكون من التعب الشديد ولم يتمكنوا من القيام بعملهم على أكمل وجه، كما أثبتت دراسة أمريكية أن 90% من الحوادث الصناعية و(200) ألف حادث مروري كل عام سببها قلة النوم.
- السهر من أسباب زيادة الوزن:
فقد جاء في دراسات أن زيادة السهر تزيد من مستوى هرمون الجوع، وتقلل من مستوى هرمون الشبع في الجسم، وبالتالي زيادة مفرطة في الوزن، فلقد أظهرت دراسة شملت 12 رجلًا في بداية العشرينيات من العمر، أن مستوى هرمون الشبع «ليبتين» قد انخفض بمقدار 18% لدى الذين ناموا 4 ساعات فقط من الليل لمدة ليلتين، بينما ارتفع هرمون الجوع «جريلين» بمقدار 28%. كما أظهرت الدراسة أن المشتركين فيها قد مالوا إلى تناول الأطعمة السكرية على حساب الفواكه والخضار أو منتجات الألبان.
وقد يفسر ذلك حاجة الدماغ إلى طاقة سريعة «سكر الجلوكوز» والتي فقدها خلال السهر.
وأظهرت دراسة أخرى أن أكثر الناس سهرًا هم أكثر زيادة في الوزن، وقد فحص «د. مانويل» في جامعة «ستانفورد» بكاليفورنيا 1000 شخص، وسجل ساعات النوم لكل منهم، كما سجل مستوى هرموني «ليبتين، جريلين»، ووجد أن الذين ينامون خمس ساعات أو أقل ليلًا بشكل ثابت، قد ارتفع لديهم هرمون الجوع «جريلين» بمعدل 14.9%، بينما انخفض لديهم هرمون الشبع «ليبتين» بمعدل 15.5%، مقارنة بأولئك الذين ناموا 8 ساعات ليلًا.
- السهر من أسباب ضعف التحصيل العلمي:
فقد أظهرت الأبحاث الطبية أن الطلبة الذين لا يحصلون على نوم كاف أثناء الليل يكون أداؤهم الأكاديمي أقل من الطلبة الذين ينامون لساعات كافية، كما أن قلة النوم تؤثر سلبًا على قدرة الطالب على التركيز، وتضعف الذاكرة قصيرة المدى، مما يؤثر على قدرة الطالب على التحصيل العلمي، وقد أظهرت الدراسات أن الأطفال المتفوقين ينامون 15-30 دقيقة ليلًا أكثر من غيرهم.
ويزداد السهر للأسف في إجازة الصيف، وهو سهر كثير من الشباب في هذا الزمن، سهر على الفضائيات، أو تجمع في الاستراحات، أو تسكع في الأسواق والطرقات.
وشبكات التواصل الاجتماعي تنشط في الليل أكثر من النهار، وفيها من المحادثات المحرمة شيء كثير من الغيبة واللغو والقيل والقال وغير ذلك مما يعلمه الناس، والواحد ممن يسهرون على مثل ذلك يتثاقل عن الوتر، وربما تثاقل عن صلاة الفجر، وهو يمضي الليل كله يكابد السهر، وعيناه محملقة في جهازه.
فعلى كل مسلم ومسلمة أن يكون سهرهما فيما ينفعهما من أمور الدين أو الدنيا، وعلى الآباء والأمهات والمربين والمربيات توجيه ظاهرة السهر التي انتشرت في البيوت إلى ما ينفع البنين والبنات؛ فإن النفس إذا ما شغلت بما ينفع شغلت صاحبها بما يضر، والتوجيه يكون بالموعظة والقول الحسن والإقناع العقلي، كما يكون بتوفير البدائل الملائمة، والتكليف بأعمال نافعة، ووضع الحوافز المادية والمعنوية على إنجازها؛ فإن ذلك من أسباب حفظ الأولاد من أسباب الضياع والانحراف (29).
والخلاصة:
أن السمر بعد صلاة العشاء إذا كان في اللغو واللهو وما لا يفيد من الأقوال والأفعال –وإن كان مباحًا وليس بمعصية- فهذا مكروه، لما قد يترتب عليه مما سبق ذكره، وإن كان السمر في طاعةٍ لله تعالى كالصلاة، وقراءة القرآن، ومدارسة العلم الشرعي، والبحث في شؤون المسلمين، ومؤانسة الزوجة والأهل والأضياف، أو ونحو ذلك فهو طاعة وقربة.
----------
(1) في ظلال القرآن (6/ 3805).
(2) أخرجه البخاري (568).
(3) شرح النووي (5/ 146).
(4) فتح الباري (3/ 377).
(5) أخرجه ابن ماجه (702).
(6) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1230).
(7) أخرجه الحاكم (7764).
(8) أخرجه أحمد (3894).
(9) أخرجه ابن أبي شيبة (6679).
(10) أخرجه عبد الرزاق (2134).
(11) موارد الظمآن (ص: 91).
(12) شرح النووي على مسلم (5/ 146).
(13) فتح الباري لابن حجر (2/ 73).
(14) تفسير القرطبي (12/ 138).
(15) نيل الأوطار (2/ 20).
(16) اللقاء الشهري (1/ 333).
(17) فتح الباري لابن رجب (5/ 159).
(18) شرح معاني الآثار (4/ 329).
(19) أخرجه الترمذي (169).
(20) أخرجه أحمد (4244).
(21) أخرجه النسائي (1639).
(22) شرح معاني الآثار (4/ 331).
(23) أخرجه البخاري (6).
(24) فتح الباري لابن رجب (5/ 176).
(25) المصدر نفسه.
(26) أخرجه البخاري (3281).
(27) أخرجه البخاري (2409).
(28) أخرجه أصحاب أبو داود (2606).
(29) السهر الدائم أضرار وأخطار/ إسلام ويب.