يريد الله بكم اليسر
لقد جاءت شريعة الإسلام بالتيسير على العباد ورفع الحرج والمشقة والعنت عنهم، وقد دل على هذه القاعدة المقررة كثير من أدلة الكتاب الحكيم، ومن ذلك قوله تعالى في سورة البقرة عند فرض صيام رمضان: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
قال العلامة ابن عثيمين: {يُرِيدُ} أي يحب؛ فالإرادة شرعية؛ والمعنى: يحب لكم اليسر؛ وليست الإرادة الكونية؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو أراد بنا اليسر كونًا ما تعسرت الأمور على أحد أبدًا؛ فتعين أن يكون المراد بالإرادة هنا الشرعية؛ ولهذا لا تجد -والحمد لله- في هذه الشريعة عسرًا أبدًا (1).
هذا وينبغي أن يعلم الفرق بين الإرادتين: الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، فالإرادة الكونية هي إرادة القضاء والتكوين، وهذه إرادة لا بد من حصولها في كل مخلوق مربوب لله.
أما الإرادة الشرعية فهي إرادة الأمر والتشريع، ومن هذا الباب قوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} يعني أن حكمته التشريعية اقتضت تسهيل التكاليف على العباد تيسيرًا لهم لطريق الوصول إليه، فبنى تكاليفه على الحكمة والرحمة ويسرها عليهم وجعل ثواب الحسنة عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة حسب صدق فاعلها في نشاطه وطيب نفسه وإخلاصه، واستصغاره لما يفعل، واحتقاره، وحسب موقع الفعل، كبرد الماء في الوضوء، وطول الطريق إلى المسجد، وقوة الخشوع في الصلاة، وطول انتظارها، وتجشم الوحل والبرد في سبيلها، وحسب سماحة نفس المتصدق وبعده عن الرياء والسمعة، والمنة في الصدقة، وحسب موقعها من الحاجة في المدفوعة إليه، وحسب شدة البرد أو الحر في الصيام، وطيب نفسه واحتسابه، وحسب طيب نفس الحاج وطهارة ماله من الحرام، وعدم الرفث والأذى، ومبلغ نفعه للمسلمين في حجه، وغير ذلك.
وأما قوله سبحانه: {وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} فهذا أيضًا من إرادته الشرعية ورحمته بعباده أن بنى شريعته على اليسر الموصل إليه ولطف بعباده عن التشريع العسير الذي يفظعهم من الوصول إليه أو ينقص من درجاتهم لديه، وهذا كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا» إلخ (2).
ولئن كان هذا يصح على أحكام الشريعة كلها، فهو يصح بكل تأكيد في باب الصيام، ونحن إذا تأملنا في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وعلاقته بآيات الصيام وجدنا الارتباط جليًا، فمن ذلك:
- أنه جاء بعد قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]، حيث رفع الحرج والمشقة عن المريض والمسافر، فأذن لهما بقضاء الصيام عند البرء من المرض والأوبة من السفر، قال ابن عثيمين رحمه الله: قوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} تعليل لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلخ (3).
- أنه سبحانه وتعالى قال بعد ذلك: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، قال ابن كثير رحمه الله: هذه رُخْصة من الله تعالى للمسلمين، ورَفْع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك، فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة، فوجدوا من ذلك مَشَقة كبيرة (4) - وهناك أيضًا نكتة لطيفة ومعنى دقيق، ذلك أن اعتبار الرؤية في دخول الشهر وخروجه -لا الحساب والفلك- من صور رفع الحرج والمشقة عن الأمة، قال صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وعقد الإبهام في الثالثة، والشهر هكذا وهكذا وهكذا»، يعني تمام ثلاثين (5)، قال الحافظ: والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضًا إلا النزر اليسير، فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير.
واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك، بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلًا، ويوضحه قوله في الحديث الماضي: «فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين»، ولم يقل فسلوا أهل الحساب (6).
ومعلوم أن الغالبية العظمى من الأمة اليوم -بل من الناس كافة- لا علم لهم بطرق حساب دخول الشهر وولادة الهلال، ولو كان الواحد خاليًا عن الناس فلن يستطيع أن يعرف ذلك إلا بالرؤية فإن ظهر له الهلال صام، وإن لم يظهر له بأن غم عليه أو لم يتمكن من رؤيته لقلة خبرته في تحري منازل الهلال أو لأي سبب آخر أتم شعبان ثلاثين يومًا.
ولهذا تعلق بالآية الكريمة، قال ابن تيمية رحمه الله: وقد روي عن غير واحد من أهل العلم أن أهل الكتابين قبلنا إنما أمروا بالرؤية أيضًا في صومهم وعباداتهم، وتأولوا على ذلك قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ولكن أهل الكتابين بدّلوا (7)، والمقصود أن شريعتنا سهلة ميسرة لا تكلف الناس ما يعنتهم، وإنما تجيء تشريعاتها العامة بما يناسب حال العامة، وتلك واحدة من سمات سماحة هذا الدين (8).
وهذه هي القاعدة الكبرى في تكاليف هذه العقيدة كلها، فهي ميسرة لا عسر فيها، وهي توحي للقلب الذي يتذوقها، بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلها، وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة التي لا تكلف فيها ولا تعقيد، سماحة تؤدى معها كل التكاليف، وكل الفرائض، وكل نشاط الحياة الجادة، وكأنما هي مسيل الماء الجاري، ونمو الشجرة الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء، مع الشعور الدائم برحمة الله وإرادته اليسر لا العسر بعباده المؤمنين.
وقد جعل الصوم للمسافر والمريض في أيام أخر، لكي يتمكن المضطر من إكمال عدة أيام الشهر، فلا يضيع عليه أجرها (9).
وقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: 185]، بتخفيف الميم على قراءة الأكثرين، أو تشديدها على قراءة عاصم من طريق أبي بكر بن عياش، فالمقصود بها التكميل على القراءتين واللام للتعليل، فهي معطوفة على التعليل السابق المستفاد من قوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} يعني أن ما حصل من التخفيف عليكم في أمر الصيام هو لأجل أن تكملوا العدة، فمن لم يكملها أداء في وقتها قام بتكميلها قضاء من أيام أخرى، فيكون إكمالكم لها في حالة يسر واطمئنان وانشراح صدر، فتحصلوا على بركة الصيام وخيراته المعنوية من تهذيب النفس وتربيتها بما يزكيها وينفعها، ومن تحصيل الأجور العظيمة عند الله بهذا الإكمال الميسر، ولا يفوتكم شيء من بركاته ولا من أجوره.
وهذه نعمة عظيمة من نعم الله عليكم بتيسير التكليف وتوفيقكم إلى فعله والخروج منه ببراءة ذمة وإحسان في العمل، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]، لأن أداء الصوم على ما يقتضيه الشرع، كما أسلفنا تفصيله، يربي على تحقيق الشكر والقيام به (10).
فاليُسْر مقصد من مقاصد الدِّين الكبرى، جعله الله تعالى أساسًا لكل ما أمر به ونهى عنه في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأمرنا أن نلتزمه في فهمنا للدين والعمل به والدعوة إليه؛ فقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة: 185].
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن خير دينكم أَيْسره، إن خير دينكم أَيْسره، إن خير دينكم أَيْسره» (11).
ولكن ما معنى أن يكون الدِّين يسرًا؟ إن آية اليُسْر نزلت تعليلًا لأمره تعالى بالفطر للمريض والمسافر، ولكن هل الصيام نفسه الذي وردت بمناسبته قاعدة التيسير شيء لا مشقة فيه؟ ماذا لو قال إنسان: لو كان الصيام نصف شهر لكان أيسر، ولو كان أقل من ذلك لكان أكثر يُسْرًا، بل لو لم نُؤمر بالصيام لكان اليُسْر كله؟! وما يُقال عن الصيام يُقال عن سائر ما أمر الله تعالى به من صلاة وصيام وحج وزكاة وجهاد بالمال والنفس؛ إنها كلها تكاليف فيها شيء من مشقة؟
فلو كان معنى التيسير: ألا يُؤمر الناس بشيء فيه أدنى مشقة؛ لما كان هنالك تكليف بصلاة ولا صيام ولا حج ولا زكاة ولا جهاد؛ لأن فعل ما لا مشقة فيه البتة أَيْسر فيما يبدو لأول وَهْلَة مما في فعله أدنى مشقة.
فما المقصود باليُسْر إذًا؟ معناه فيما يبدو لي: فعل ما يحقق الغاية بأدنى قدر من المشقة، مثلًا: إذا كان لا بد لك من وسيلة للكسب تحفظ لك ماء وجهك وتغنيك عن السؤال وتوفر لك ما تحتاج إليه من طعام ولباس وسكن وزيادة توفر بعضها وتتصدق ببعض؛ فإن خير وسيلة هي عمل يحقق لك كل هذا بأدنى قدر من المشقة.
فإذا قال لك الشيطان: لكن عدم الكسب أَيْسر من أية وسيلة فيها شيء من مشقة، ولذلك فإن الأفضل لك أن لا تعمل إطلاقًا.. ستقول له إن كنتَ عاقلًا: هذا صحيح بادئ الرأي أيها الخبيث! لكن انظر ماذا سيترتب على البطالة، إنها ستجعل حياتي أعسر نفسيًا وربما جسديًا؛ فعملي رغم ما فيه من مشقة هو في النهاية أَيْسر من البطالة التي يبدو أنه لا مشقة فيها.
وكذلك الأمر بالنسبة للدِّين؛ فما يأمرنا الله تعالى به هو أعمال تحقق غايات ضرورية لنا، غايات لا تكون لنا سعادة إلا بها، ولكنها باعتبارها أعمالًا فلا بد أن تتضمن شيئًا من الجهد والمشقة، لكن الله تعالى الخالق لكل شيء، المحيط علمًا بالوسائل والغايات، الرحيم بعباده، يختار لنا أسمى الغايات، ثم يدلُّنا إلى أحسن الوسائل التي تحققها بأدنى مشقة، كما قال الله تعالى في أول آية علّل بها أمره بالصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] .
فالغاية المطلوب الوصول إليها هي التقوى، والوسيلة إليها التي لا وسيلة غيرها لتحقيق هذا النوع من التقوى هو صيام شهر رمضان.
وعليه؛ فيمكن تقسيم الأعمال بالنسبة لغاياتها ووسائلها إلى أربعة أنواع: أحسنها: غاية حسنة ووسيلة ميسرة، وهذا هو الذي اختاره الله تعالى لعباده.
وأسوؤها: غاية سيئة ووسيلة شاقة، من أمثلتها: محاربة الكفار للمسلمين، وبذلهم أموالهم وأنفسهم في سبيل ذلك.
وأقل منه سوءًا: غاية سيئة ووسيلة سهلة، وأحسن من هذا: غاية حسنة ووسيلة عسرة، وهذا يشمل كل ما خالف السُّنّة من أنواع الأعمال الصالحة.
عن ابن عباس، عن جويرية، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح، وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى، وهي جالسة، فقال: «ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟» قالت: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته» (12).
فالحديث يدل على أنه بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في عبادته يحصل الإنسان بالعمل القليل في الوقت القصير على الأجر الكبير.
فيا خسارة الذين يستبدلون بأذكار النبي صلى الله عليه وسلم أذكارًا اخترعوها أو اخترعها لهم سادتهم، إنها في أحسن أحوالها جهد كبير وأجر قليل، ولذلك كان عدد من الصحابة رضي الله عنهم يقول: اقتصاد في سُنّة خير من اجتهاد في بدعة، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان: 23].
قال سماحة الشيخ صالح بن حميد في خطبة له جامعة عن اليُسْر: والتيسير مقصد من مقاصد هذا الدِّين، وصفة عامة للشريعة في أحكامها وعقائدها، وأخلاقها ومعاملاتها، وأصولها وفروعها؛ فربُّنا بمنِّه وكرمه لم يكلِّف عباده بالمشاق، ولم يردعنا كالناس، بل أنزل دينه على قصد الرِّفق والتيسير.
شريعة الله حنيفية في التوحيد، سمحة في العمل، فلله الحمد والمنّة.. {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة: 185]، {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78].
والتيسير له معانٍ أخرى، منها: أن الله تعالى لا يكلِّف الناس بما يطيقون، بل بما هو في وُسْعهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وتأمل قوله عز وجل: {إِلَّا وُسْعَهَا}، كيف تجد تحته أنهم في سِعَة ومنحة من تكاليفه، لا في ضيق وحرج ومشقة؛ فإن الوُسْع يقتضي ذلك؛ فاقتضت الآية أن ما كلَّفهم به من غير عُسْر لهم ولا ضيق ولا حرج، بخلاف ما يقدر عليه الشخص؛ فإنه قد يكون مقدورًا له ولكن فيه ضيق وحرج عليه، وأما وُسْعه الذي هو منه في سِعَة فهو دون مدى الطاقة والمجهود، بل لنفسه فيه مجال ومتّسع (13).
ومنها: أن العمل وإن كان فيه مشقة إلا أن الله تعالى يجعله سهلًا بطرائق كثيرة، منها: أنه يغير طبيعته الشاقة فيجعلها سهلة، كما ذكر الشيخ بالنسبة للقرآن الكريم ذكرًا وتدبُّرًا وفهمًا.
ومنها: أن يجد المؤمن في العمل لذّة روحية، حتى إنه ليكاد ينسى ما فيه من مشقة.
وإذا حلَّت الهداية قلبًا نشطت للعبادة الأعضاءُ
ومنها: أن يريد المؤمن تحقيق غاية يحبها لكنه يعلم أنها لا تتحقق إلا بعبادة معينة فيحرص عليها طلبًا لتلك الغاية المحبوبة فتهون عليه؛ كما في قوله تعالى عن الصلاة: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)} [البقرة: 45- 46]، وقوله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45].
عن المغيرة بن شعبة، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى حتى انتفخت قدماه، فقيل له: أتكلف هذا؟ وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» (14).
فحرصه صلى الله عليه وسلم على شكر ربه، وهو شعور له لذّة لا تعدلها لذّة، هو الذي يسَّر له هذا العمل الذي يبدو شاقًّا.
ومنها: أن الله تعالى قد يزيل مشقات العمل حتى لا يكاد يبقى منها شيء؛ فأشق شيء على الإنسان أن يُقْتل لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة» (15).
يعني أنه تعالى يهون عليه الموت ويكفيه سكراته وكربه، بل رب شهيد يتلذذ ببذل نفسه في سبيل الله طيبة بها نفسه كقول خبيب الأنصاري حين قتل:
ولست أبالي حين أقتل مسلمًا على أي شق كان لله مصرعي
وعليه؛ فإذا كان الله تعالى قد تكفَّل بتسهيل العمل بما أنزل من أمر ونهي؛ فكذلك يجب أن نفهمه نحن في ممارستنا له، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح مشيرًا إلى هذه الممارسة: «إن خير دينكم أَيْسره، إن خير دينكم أَيْسره، إن خير دينكم أَيْسره» (16)، فعبارة «خير دينكم» هي إشارة إلى الدِّين الممارس لا الذي أنزله الله تعالى، فإن ذلك ميسّر في أصله لا يحتاج إلى أن ييسّره إنسان.
ومن أحسن ما قرأت تطبيقًا لهذه الأحاديث ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه قال: عن الأزرق بن قيس، قال: كنا على شاطئ نهر بالأهواز، قد نضب عنه الماء، فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس، فصلى وخلى فرسه، فانطلقت الفرس، فترك صلاته وتبعها حتى أدركها، فأخذها ثم جاء فقضى صلاته، وفينا رجل له رأي، فأقبل يقول: انظروا إلى هذا الشيخ، ترك صلاته من أجل فرس، فأقبل فقال: ما عنفني أحد منذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إن منزلي متراخ، فلو صليت وتركته، لم آت أهلي إلى الليل، وذكر أنه قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم فرأى من تيسيره (17) .
لكنَّ فعل أبي برزة يختلف عما يفعله بعض الناس الآن في اختيارهم لما يختارون من الأقوال التي اختلف فيها العلماء، يقول أحدهم لنفسه: ما دام الدِّين يسرًا فإنني سأختار ما أراه أسهل عليّ أو على الناس، ثم يبدأ ينظر في الأقوال بهذا المعيار فيقول مثلًا: قول الحنفية هذا صعب، لكن قول الحنابلة أصعب، أما قول المالكية فسهل، وأسهل منه قول الشافعية، وأسهل من هذا كله قول العالم الفلاني الذي خالفهم جميعًا، فأنا آخذ به.
إن المنهج الصحيح هو أن يقول الإنسان لنفسه: ما دام دين الله كله يُسْرًا فسأختار ما أراه بأدلّته أقرب إلى الشرع؛ لأن الأقرب إلى الشرع هو الأقرب لتحقيق الغاية بأدنى مشقة.
قد يقول قائل: أليس هذا الذي انتقدتَ منهجه متأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم في أنه ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أَيْسرهما؟ يقال له: نعم إذا خُيِّر كما في قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}
[البقرة: 196].
والتخيير معناه أن كل واحد من الأمور المخيّر فيها يؤدي الغرض المطلوب، لكن بعضها قد يكون أَيْسر على الإنسان من بعض، فيختاره، لكن ما نحن في صدده لا علاقة له بالتخيير، بل المطلوب فيه معرفة حكم الله تعالى في الأمر الذي اختلفت فيه الأقوال أو الاجتهادات؛ لأنها إذا تناقضت فلا يمكن أن يكون كل واحد منها صحيحًا مؤدّيًا الغرض، نعم؛ إذا استوت الأدلة ولم يمكن ترجيح بعض الأقوال على بعض، فإن الأخذ بالأَيْسر يكون منهجًا صحيحًا.
لكن رغم هذا فقد يحدث التعسير في الدِّين شرعًا أو قدرًا، ويكون عقابًا من الله تعالى لبعض الناس، مثال التعسير شرعًا: ما قال الله تعالى فيه: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا} [النساء: 160].
وأما التعسير القدري فيكون بسبب سوء فهم بعض الناس للدِّين وإلزامهم أنفسهم بما لم يلزمهم به الله تعالى من أنواع العنت، وهذا هو الذي يحدث لأناس من هذه الأمة التي اختار الله لها الحنيفية السمحة، والتي قال الله تعالى عن رسولها: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] .
هذا العنت القدري العقابي هو الذي يدعو المسلمُ ربَّه أن يعيذه منه: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ} [البقرة: 286] (18).
آثار الابتعاد عن منهج التيسير:
للابتعاد عن منهج التيسير آثار خطيرة على الفرد والمجتمع، ومنها:
١ -التكليف بما لا يطاق:
إن أي تشدد زائد في تطبيق أحكام هذا الدين وتكاليفه، وأي تجاوز للخط الذي رسمه الله تعالى لعباده، سيعرض صاحبه للوقوع في الحرج والمعصية، وقد بيّن ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام لأولئك النفر الذين حاولوا أن يكلفوا أنفسهم ما لا تطيق، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (19).
إن طبيعة الإنسان وفطرته لا تتحمل المداومة على القيام بأعمال تناقض هذه الطبيعة والفطرة، فالنوم فطرة وغريزة لا بد للإنسان أن يشبعها، فالذي يقل نومه لا يستطيع القيام بأعماله العلمية والدعوية والمعيشية في النهار، وقد ذكر الله تعالى أنه راحة وسبات للإنسان في أكثر من موضع في كتابه العزيز: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ: 9].
وكذلك الزواج الذي به تدوم الحياة ويزداد النسل البشري، وهي سنة لا ينفك عنها الإنسان، والذي يريد أن يمتنع عن الزواج يناقض فطرته، ويسهم في تدمير الحياة، ويخالف شرع الله تعالى الذي أوجب مبدأ الزواج وحث عليه في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة النبوية.
والأمر الثالث الذي أشار إليه الحديث الامتناع عن الأكل والصيام المستمر، فهذا أيضًا ثقل على النفس وعبء لا يتوافق مع فطرة الإنسان وغريزته التي تميل إلى الاستمتاع بطيبات الله التي أخرجها لعباده من هذه الأرض.
فمن أجل ترسيخ مبدأ اليسر والسماحة في تطبيق هذا الدين أسرع النبي صلى الله عليه وسلم لإحضار هؤلاء النفر وبيان الخطأ الكبير الذي حاولوا أن يقعوا فيه، وأخبرهم بعد ذلك أنه عليه الصلاة والسلام أخشاهم لله وأتقاهم له، ولكنه لا يفرط في شيء على حساب آخر، فينام ويصلي، ويتزوج النساء، ويصوم ويفطر، وهذا هو الاعتدال والسماحة والسعة التي جاء بها هذا الدين العظيم.
٢ -الفهم الخاطئ لهذا الدين:
إن الذي يتجاهل منهج التيسير والمسامحة في الإسلام يولد لديه قصور في فهم هذا الدين، لأنه لم يفهم هذا الدين كما أراده الله تعالى لعباده، وكما بيّنه لهم رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الفهم الخاطئ مع مرور الزمن يمتد ليغوص في مجمل أمور الدين ومجالاته، فلا يتوقف عند بعض العبادات أو أحكام معينة وإنما يتغلغل إلى الداخل حتى يتولد لدى صاحبه تصورات وأفكار بعيدة عن روح هذا الدين، ويدعو الناس إليها، ويحسب أنه يحسن صنعًا.
وهذه كانت حال الكثيرين ممن زهدوا في الدنيا فهجروا الطيبات، وامتنعوا عن الزواج وتركوا الأموال والأولاد، بقصد التفرغ للعبادة والدعوة، فأدخلهم ذلك في ضلالات الشرك وترهات التصوف، وأدخلوا في الدين ما ليس منه من الطقوس والبدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، وما ذلك كله إلا بسبب تشددهم وتنطعهم الذي أدى إلى فهم خاطئ لهذا الدين وعدم إدراك منهج اليسر والسماحة فيه.
٣ -الأثر السلبي على الدعوة إلى الله:
تميل النفس البشرية دائمًا إلى السماحة والسعة في كل شيء، وتضيق ذرعًا بالمشقة والعنت في كل شيء أيضًا، كما تميل هذه النفس إلى أولئك الناس الذين ينتهجون السماحة في حياتهم وتتعلق بهم أكثر من الذين ينتهجون خلاف ذلك.
ومعلوم أن من أهم عوامل نجاح الدعوة إلى الله تعالى أن يألف الناس الداعية ويحبوه، وذلك من خلال فهمه لدين الله تعالى وطريقته لنقل هذا الدين بالصورة التي أرادها الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وهو أمر ضروري في الدعوة، فإن كان الداعية ممن ينتهجون السماحة والسعة في تبليغ الإسلام ومبادئه، ولا يحمل الناس فوق طاقاتهم كما كان يفعل الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنه على خير ودعوته تسير نحو النجاح والتوفيق، وأما إذا شدد على الناس وكلفهم بما لا يطيقون، كأن ينكر عليهم كل شيء ولو كان مباحًا، ويحرم عليهم ما لم يحرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فإن هذا الداعية إنما ينفخ في الهواء ويسير نحو الفشل المؤكد، لأنه بذلك خالف الشرع وطبائع البشر، وتجاهل فطرهم ورغباتهم وحاجاتهم، وتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه بكل وضوح: «ما خُيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه» (20).
فالتشدد الذي في غير موضع التشدد ينفّر الناس من الدين، ويجعلهم يسلكون مناهج أخرى في الحياة غير منهج الله، وهذه هي طبيعة البشر، تريد اليسر والسعة والسماحة ولا تطيق غيرها.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه: بال أعرابي في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوه وهريقوا على بوله سجلًا من ماء، أو ذنوبًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين» (21).
فلينظر الدعاة الذين يخالطون الناس ويعلمونهم أمور دينهم إلى هذا الموقف العظيم للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو القدوة والأسوة لنا إلى يوم الدين، ليعلموا مدى الفسحة والسعة التي جعلها الله في دينه، والحكمة في دعوة الناس إليه، فهذا الأعرابي قادم من البادية لا يعرف للمسجد حرمة ولا قداسة ويظنه كسائر الأمكنة، فأراد أن يقضي حاجته فيه، فقام عليه الصحابة ليضربوه وينهروه على هذه الفعلة، فأوقفهم رسول الرحمة عليه الصلاة والسلام وجعله يكمل تبوله، ثم أمرهم أن يريقوا على بوله دلوًا من الماء لتطهير المكان، ثم أخذ الأعرابي برفق ولين، وعلّمه أن هذه الأماكن بيوت الله أقيمت للذكر والصلاة ولا يجوز إحداث النجاسات فيها.
فحينها أحس الأعرابي بخطئه وندم على فعلته، وأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحكمته ولطفه معه، مقابل سلوك الصحابة معه ومحاولتهم ضربه وتأديبه، فلم يسعه إلا أن يقول: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: «لقد حجرت واسعًا» يريد رحمة الله (22).
ومن أجل ذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا وأبا موسى رضي الله عنهما باليسر عندما بعثهما إلى اليمن فقال: «يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا» (23).
وهو القائل عليه الصلاة والسلام «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» (24).
٤ -ومن الآثار الخطيرة:
القول على الله تعالى، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، وتحميل الشرع ما لا يحتمل وفي هذا جناية أيما جناية، جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «فمن رغب عن سنتي فليس مني» (25)، ومن ثمَّ يوصف الدين بما ليس فيه.
وأخيرًا: إن تقرير مبدأ المسامحة والتيسير في الدين لا يعني:
- الإخلال بمقاصد الشريعة والدين، فلا يفهم من مبدأ التيسير أنه تفريط أو تسيب في تطبيق أحكام هذا الدين وتنفيذ أوامره، لأن هذا اليسر لا يكون في إثم أو معصية كما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في حديث سابق: «ما خُيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه» (26)، فيجب ملاحظة ذلك والحذر منه.
- ولا يعني هذا المبدأ تجاوز الحلال والحرام أو الإخلال بالمفاهيم الإسلامية والآداب العامة، لأنه مبني أصلًا على النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الواضحة، فليس في تقرير هذا المبدأ ابتداع أو إدخال أمر جديد في الدين، لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
- ولا يعني إقرار هذا المبدأ تحكيم الأهواء والرغبات، وتحقيق المصالح الشخصية من وراء ذلك، فقد يستغله ضعاف الإيمان لتحكيم أهوائهم ورغباتهم ويجعلون هذا يسرًا أو سماحة، بل اليسر والسماحة يجب أن تكون مبنية على مصادر التشريع الأصلية وهي القرآن الكريم والسنة والنبوية والإجماع (27).
------------
(1) تفسير القرآن للعثيمين (4/ 271).
(2) أخرجه البخاري (69).
(3) تفسير القرآن للعثيمين (4/ 271).
(4) تفسير ابن كثير (1/ 510).
(5) أخرجه البخاري (1814)، ومسلم (1080) واللفظ له.
(6) فتح الباري (4/ 127).
(7) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 221).
(8) يريد الله بكم اليسر/ شبكة المسلم.
(9) في ظلال القرآن (1/ 172).
(10) يريد الله بكم اليسر/ منتديات الألوكة.
(11) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (342).
(12) أخرجه مسلم (2726).
(13) الفتاوى (14/ 137- 138).
(14) أخرجه مسلم (2819).
(15) أخرجه الترمذي (1668).
(16) تقدم تخريجه.
(17) أخرجه البخاري (6127).
(18) يريد الله بكم اليسر/ المنتدى العالمي للوسطية.
(19) أخرجه البخاري (5063)، ومسلم (1401).
(20) أخرجه البخاري (٣٥٦٠)، ومسلم (٦٠٤٥).
(21) أخرجه البخاري (220).
(22) أخرجه البخاري (٦٠١٠).
(23) أخرجه البخاري (٣٠٣٨)، ومسلم (٤٥٢٦).
(24) أخرجه البخاري (39).
(25) سبق تخريجه.
(26) سبق تخريجه.
(27) اليسر والسماحة في الإسلام/ جامع الكتب الإسلامية.