logo

الإدارة وحرية الإرادة‍


بتاريخ : الخميس ، 27 صفر ، 1439 الموافق 16 نوفمبر 2017
بقلم : محمد عمر دولة
الإدارة وحرية الإرادة‍

حينما كتب (باولو فرايري) في القرن الماضي كتابه النفيس (تعليم المقهورين)(1)، وأكد فيه على ضرورة استبدال (التعليم البنكي) بـ (التعليم الحِواري)؛ لقي الكتاب رواجًا وقبولًا وترحيبًا عند أوساط المثقفين في العالم الإسلامي.

وما كان لذلك الأمر من سبب إلا أنه نطق بلسان حال الشعوب المظلومة المغلوبة على أمرها، مؤكدًا أن إدارة التعليم في العالم المتخلف تعمل على صياغة الجيل على نمط من العبودية والاستسلام والقعود؛ بحيث تقنع بمناهج الاجترار التي تتقبل المعلومات دون نقاش أو حوار؛ وترسّخ عقلية (الإمعة)، التي لا اختيار لها ولا قرار!

فالعاملون في الإدارة القهرية أسرى الإشارة الفوقية؛ لا يستطيعون أن يُعْمِلوا عقولهم، أو أن يعبروا بحرية عن رأيهم؛ بل إن سياستهم خبط عشواء، ورايتهم طاعة عمياء، {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} (2)؛ فالصمت عندهم فضيلة، والطاعة فريضة، ولو كان على سبيل الاستخفاف والتلهية والتعمية؛ وما أحسن تعبير القرآن عن (إدارة فرعون)، التي لا تُري الناس إلا ما ترى، وما تهديهم إلا سبيل الرشاد بقول الله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ}!

إذن إدارة الاستخفاف تسعى إلى إخراس الأصوات الجادة، وإلغاء العقول الناقدة، واغتيال الوعي الذاتي، الذي يميز الخبيث من الطيب، وهي تعمل دائبةً على نشر ثقافة الموافقة الدائمة، بنسبة 99%!!، فلا ترضى بغير المدح والثناء، والاستجابة العمياء للأوامر والنواهي في غياب الوعي والإدراك؛ بل إنها تخشى كل كلمة، وتشك في كل نصيحة، وتتوجس من كل صاحب رأي، كما قيل:

اثنان في أوطاننا

يرتعدان خيفةً

من يقظة النائم

اللص والحاكم!(3)

ومن تأمل حال كثير من إداراتنا في العالم الإسلامي أدرك أنها إنما تسعى إلى وأد الحوار؛ حتى لا يُسقط هيبة (السادة)، ولا يُعطي الرعاع سبيلًا إلى مخالفة من يهديهم سبيل الرشاد؛ ولذلك لا تعرف الإدارات الاستبدادية {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}(4)، ولا «أشيروا أيها الناس عليّ»(5)؛ لأن ذلك يعني المساواة في صنع القرار، وبالتالي إصلاح الفساد، وتغيير المناهج؛ ومن هنا فإن إدارة الاستبداد لا تستطيع أن تخاطب الناس على أنهم أصحاب عقول واعية، وما مهازل الانتخابات في العالم الإسلامي ببعيدة!

ولله درّ علماء الإسلام؛ فقد أدركوا خطورة المناهج القمعية والأنظمة الاستبدادية؛ فحذّروا من أن تَقتل إداراتُ التعليم مَلَكات أبناء المسلمين؛ بحيث يصيرون عبيدًا يُقادون إلى الذل والهوان، فقد قرر ابن خلدون "أن الشدة على المتعلّمين مُضرة بهم"(6)، فقال رحمه الله: «‌مَن كان مَرْباه بالعَسْف والقهر من المتعلّمين، أو المماليك أو الخَدَم، سطا به القهر؛ وضيّق عن النفس انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحمل على الكذب والخُبْث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره؛ خوفًا من انبساط الأيدي إليه بالقهر عليه، وعلّمه المكر والخديعة لذلك؛ وصارت له هذه عادةً وخُلُقًا، وفسدت معاني الإنسانية التي له...

وهكذا وقع لكل أُمة حصلت في قبضة القهر، ونال منها العَسْف؛ وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خُلُق السوء؛ حتى إنهم يُوصَفون في كل أفق وعصر بالحرج، ومعناه في الاصطلاح المشهور التخابث والكيد»(7).

ورحم الله العلامة محمد قطب، حيث بيّن أن الإسلام قد وضع لتحرير الناس من العبودية علاجًا نافعًا وحلًا ناجعًا؛ إذ إن حياة الإنسان «في ظل العبودية الدائمة جعلت أجهزته النفسية تتكيف بهذه الملابسات؛ فتنمو أجهزة الطاعة إلى أقصى حدٍّ، وتضمر أجهزة المسئولية واحتمال التبعات إلى أقصى حدٍّ...، هذا التكيف النفسي للعبد هو الذي يستعبده، وهو ناشئ في أصله من الملابسات الخارجية بطبيعة الحال؛ ولكنه يستقل عنها، ويصبح شيئًا قائمًا بذاته، كفرع الشجرة الذي يتدلى إلى الأرض ثم يمدُّ جذورًا خاصةً به، ويستقل عن الأصل»(8).

ومَن أنصف عَلِم أن العبودية تصدق على كثير من الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعاصرة، المؤسَّسة على الهزيمة النفسية والتبعية الاستعمارية؛ فمناهج التعليم في كثير من دول العالم الإسلامي ما زالت تعاني من العبودية، وقد ذكر العلامة ابن خلدون أن "المغلوب مُولَعٌ بتقليد الغالب في كل شيء"، وأشار مالك بن نبي رحمه الله إلى (قابلية العالم الإسلامي للاستعمار).

وأفاد الشيخ محمد قطب أن من آثار هذه العبودية الخفية، التي زرعها الاستعمار الخبيث في نفوس المسلمين، "المشروعات المعطلة التي لا يعطلها، في كثير من الأحيان، إلا الجبن عن مواجهة نتائجها! والمشروعات المدروسة التي لا تنفذّها الحكومات حتى تستقدم خبيرًا إنجليزيًا أو أمريكيًا... إلخ؛ ليتحمل عنها مسئولية المشروع، ويُصدر الإذن بالتنفيذ! والشلل المروِّع الذي يخيم على الموظفين في الدواوين، ويقيد إنتاجهم بالروتين المتحجر؛ لأن أحدًا من الموظفين لا يستطيع أن يصنع إلا ما أمر به (السيد) الموظف الكبير, وهذا بدوره لا يملك إلا طاعة (السيد) الوزير؛ لا لأن هؤلاء جميعًا يعجزون عن العمل, ولكن لأن جهاز التبعات عندهم معطل، وجهاز الطاعة عندهم متضخم، فهم أشبه شيء بالعبيد, وإن كانوا رسميًا من الأحرار"(9).

نسأل الله عز وجل أن يقيض لهذه الأمة إدارةً راشدةً، تُوقظ المسلمين من غفلتهم، وترفعهم بعد كبوتهم، وتغرس في قلوبهم الوعي الرساليَّ والسعي الجهادي؛ تحقيقًا لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(10).

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على أشرف الخلق وعلى آله وصحبه وسلم.

_________________

(1) لعل هذا العنوان مُستوحى من كلام العلامة ابن خلدون في المقدمة؛ للموافقة في المعاني وفي بعض الألفاظ، كما سيأتي، ولشهرة كتاب ابن خلدون عند الغربيين، والله أعلم.

(2) سورة الأحزاب: 67.

(3) من ديوان (لافتات)، للشاعر أحمد مطر.

(4) سورة الشورى: 38.

(5) رواه البخاري، (كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية)، وقد ورد هذا المعنى بألفاظ متقاربة في مواضع كثيرة من الجامع الصحيح وغيره.

(6) الفصل الثاني والثلاثون من مقدمة ابن خلدون.

(7) المقدمة، ص540.

(8) شبهات حول الإسلام، ص47–49.

(9) المصدر السابق، ص48.

(10) سورة العنكبوت: 69.

 

المصدر: موقع: المختار الإسلامي