logo

الإحسان في دعوة نبي الله يوسف عليه السلام


بتاريخ : السبت ، 9 رجب ، 1440 الموافق 16 مارس 2019
بقلم : تيار الاصلاح
الإحسان في دعوة نبي الله يوسف عليه السلام

الإحسان هو أقصر الطرق إلى قلب المدعو؛ فالقلب ينفتح لمن يجد منه حرصًا عليه وعلى مصلحته، وإذا انفتح القلب للداعية سهل عليه تقبل أي شيء منه؛ وقديمًا قال الشاعر:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم      فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ

عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تحقرن من المعروف شيئًا، وإن لم تجد فالق أخاك بوجه طلق»(1).

قال ابن المبارك: «كنت عند المنصور جالسًا فأمر بقتل رجل، فقلت: يا أمير المؤمنين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة نادى مناد بين يدي الله عز وجل من كانت له يد عند الله فليتقدم، فلا يتقدم إلا من عفا عن ذنب)(2)، فأمر بإطلاقه»، قال سري السقطي: «الإحسان أن تحسن وقت الإمكان، فليس كل وقت يمكنك الإحسان»(3).

ويعد نبي الله يوسف عليه السلام نموذجًا للحسن والإحسان؛ فهو يُضرب به المثل في الحسن والجمال، وقصته في القرآن من أحسن القصص، وقد وصفه الله تعالى بالإحسان في مقتبل حياته وهو في مرحلة الأشد، واستمر الإحسان معه حتى وصفه الله تعالى به أيضًا بعد التمكين والجلوس على خزائن الأرض، وبين هذه وتلك وصفه صاحباه في السجن بالإحسان، وكذلك وصفه به إخوته حينما تعاملوا معه في التجارة قبل أن يعرفوه.

وإحسان الملك إلى يوسف كان أحد الأسباب التي جعلت يوسف يتعفف عن خيانته مع أهله، كما أن يوسف عليه السلام في آخر قصته يتذكر إحسان الله عز وجل إليه؛ إذ أخرجه من السجن، وجاء له بأبيه وإخوته من البدو، من بعد أن نزغ الشيطان بينه وبين إخوته.

وفي السطور التالية نقف مع بعض محطات الإحسان في حياة نبي الله يوسف عليه السلام.

أحسن القصص:

القرآن الكريم هو أفضل الكتب وأقدسها؛ ولذلك فهو يقص من القصص أحسنها وأرقاها؛ ولم ينزل تلك القصص للتسلية والتسرية فقط، ولكن وراء ذلك أغراض أسمى وأجل، يقول الله تعالى في مفتتح سورة يوسف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3]، يقول الطاهر بن عاشور على هذه الآية: «إن في تلك القصص لعبرًا جمة، وفوائد للأمة؛ ولذلك نرى القرآن يأخذ من كل قصة أشرف مواضيعها، ويُعرض عما عداه؛ ليكون تعرضه للقصص منزهًا عن قصد التفكه بها؛ من أجل ذلك كله لم تأت القصص في القرآن متتالية متعاقبة في سورة أو سور كما يكون كتاب تاريخ؛ بل كانت مفرقة موزعة على مقامات تناسبها؛ لأن معظم الفوائد الحاصلة منها لها علاقة بذلك التوزيع، هو ذكر وموعظة لأهل الدين، فهو بالخطابة أشبه»(4).

وإنما سماها (أحسن القصص) لما فيها من العبر والحكم والنكت والفوائد التي تصلح للدين والدنيا، وما فيها من سير الملوك والمماليك والعلماء، ومكر النساء، والصبر على أذى الأعداء، وحسن التجاوز عنهم بعد اللقاء، وغير ذلك من الفوائد المذكورة في هذه السورة الشريفة.

قال خالد بن معدان: «سورة يوسف وسورة مريم يتفكه بهما أهل الجنة في الجنة»، وقال عطاء: «لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها»(5).

يقول العلامة الألوسي: «اشتمالها على حاسد ومحسود، ومالك ومملوك، وشاهد ومشهود، وعاشق ومعشوق، وحبس وإطلاق، وخصب وجدب، وذنب وعفو، وفراق ووصال، وسقم وصحة، وحلٍّ وارتحال، وذل وعز، وقد أفادت أنه لا دافع لقضاء الله تعالى، ولا مانع من قدره، وأنه سبحانه إذا قضى لإنسان بخير ومكروه، فلو أن أهل العالم اجتمعوا على دفع ذلك لم يقدروا، وأن الحسد سبب الخذلان والنقصان، وأن الصبر مفتاح الفرج، وأن التدبير من العقل، وبه يصلح أمر المعاش، إلى غير ذلك مما يعجز عن بيانه بنان التحرير»(6).

الإحسان طريق التمكين:

لقد وصف الله تعالى نبيه يوسف عليه السلام بالإحسان مرتين؛ مرة في بداية القصة بعد أن ألقاه إخوته في الجب وأخذه عزيز مصر، والمرة الأخرى بعد التمكين وجعله على خزائن الأرض.

فقد جاء وصف يوسف عليه السلام بالإحسان أول مرة في قول الله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:22]؛ فالحكم والعلم هما جزاء الإحسان، والملاحظ أن هذه الآية الكريمة جاءت في الترتيب القصصي للسورة قبل أن يتولى نبي الله يوسف أي حكم؛ بل جاءت بعد بيعه بدراهم معدودة لعزيز مصر؛ حيث إن الآيتين السابقتين لهذه الآية هما: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)} [يوسف:20-21].

فكأن الله تعالى يخبرنا بأن الحكم والتمكين ليوسف بدأ مع دخوله قصر عزيز مصر؛ فمن هنا كانت بداية الطريق إلى الملك، بما اعترى هذا الطريق من عوائق وفتن.

فالله عز وجل آتى يوسف عليه السلام العلم المتمثل في تأويل الأحاديث، والحكم المتمثل في دخوله بيت العزيز وتمكنه من قلبه حتى أكرم مثواه؛ حيث يُعد التمكن من قلب العزيز بمثابة التمكين ليوسف في الأرض {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ}.

أما الموضع الآخر الذي وصفه الله تعالى فيه بالإحسان فهو بعد التمكين الحقيقي، والإمساك بخزائن أرض مصر، وهو ما ذكره القرآن في قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [يوسف:54-56].

فتمكنه من خزائن الأرض نوع من الجزاء له مقابل إحسانه في عبادته لله تعالى، وإحسانه إلى الناس في تعاملاته؛ حيث وصفه من تعاملوا معه بالإحسان وسلوكه(7).

{نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَاءُ} فنبدله من العسر يسرًا، ومن الضيق فرجًا، ومن الخوف أمنًا، ومن القيد حرية، ومن الهوان على الناس عزًا ومقامًا عليًا، {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}، الذين يحسنون الإيمان بالله، والتوكل عليه، والاتجاه إليه، ويحسنون السلوك والعمل والتصرف مع الناس، هذا في الدنيا، {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ}، فلا ينقص منه المتاع في الدنيا وإن كان خيرًا من متاع الدنيا، متى آمن الإنسان واتقى، فاطمأن بإيمانه إلى ربه، وراقبه بتقواه في سره وجهره.

وهكذا عَوَّض الله يوسف عن المحنة، تلك المكانة في الأرض، وهذه البشرى في الآخرة جزاءً وفاقًا على الإيمان والصبر والإحسان(8).

حينما يُحسن المظلوم!

إن الإنسان إذا تعرض لظلم في حياته فإنه ربما يتخلى عن بعض صفاته الإيجابية، وكلما ازداد الظلم على الإنسان انعكس ذلك على تصرفاته وسلوكياته تجاه الآخرين، لكن نبي الله يوسف عليه السلام لم يقابل الظلم الكبير الذي وقع عليه بالتخلي عن فضائل الأخلاق ومكارم الصفات، المتمثلة في الإحسان الذي شهد له به من تعاملوا معه، وقد تجلى هذا في موقفين:

الموقف الأول: حينما دخل السجن؛ فرغم ما يعانيه السجين ويكابده من آلام نفسية وضغوط اجتماعية، يكون لها تأثيرها على سلوك الفرد؛ فإن نبي الله يوسف عليه السلام احتفظ بأخلاقه الفاضلة، المتمثلة في الإحسان في تعامله لرفقائه في السجن، رغم أن ضغوط وآلام السجن يضاف إليها بالنسبة لنبي الله يوسف ضغوط وآلام الظلم البين الذي وقع عليه من امرأة العزيز.

فقد نقل القرآن عن صاحبي يوسف عليه السلام في السجن حينما طلبا منه تأويلًا لرؤييهما قولهما: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.

وشهادة صاحبي السجن ليوسف بالإحسان شهادة معتبرة؛ إذ هي ناتجة عن ممارسة واحتكاك مباشر، وتعامل طوال الليل والنهار، جعله محل ثقة لهما؛ وهو ما يجعل لشهادتهما مصداقية كبيرة.

ويجوز أن يكون قولهما {نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}؛ أي نرى إحسانك في أفعالك وتصرفاتك وعباداتك، وربما يكون: نرى علامات الإحسان في قسمات وجهك.

معناه إنا نراك تؤثر الإحسان وتأتي بمكارم الأخلاق وجميع الأفعال الحميدة، قيل: إنه كان يعود مرضاهم، ويؤنس حزينهم، فقالوا: إنك من المحسنين؛ أي في حق الشركاء والأصحاب، وقيل: إنه كان شديد المواظبة على الطاعات؛ من الصوم والصلاة، فقالوا: إنك من المحسنين في أمر الدين، ومن كان كذلك فإنه يوثق بما يقوله في تعبير الرؤيا، وفي سائر الأمور، وقيل: المراد إنا نراك من المحسنين في علم التعبير؛ وذلك لأنه متى عبر لم يُخْطِ كما قال: {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف:101](9).

وقد استثمر يوسف عليه السلام هذا الفرصة وفتح مع رفيقيه هذين حوارًا دعويًا راقيًا، وصل فيه لهما معالم دعوة التوحيد لله تعالى، قبل أن يبدأ في تفسير رؤييهما.

فكونه سجينًا لا يعفيه من تصحيح العقيدة الفاسدة والأوضاع الفاسدة، القائمة على إعطاء حق الربوبية للحكام الأرضيين، وجعلهم بالخضوع لهم أربابًا يزاولون خصائص الربوبية، ويصبحون فراعين! ويبدأ يوسف مع صاحبي السجن من موضوعهما الذي يشغل بالهما، فيطمئنهما ابتداءً إلى أنه سيئول لهم الرؤى؛ لأن ربه علمه علمًا لدنيًا خاصًا، جزاءً على تجرده لعبادته وحده، وتخلصه من عبادة الشركاء(10).

الموقف الثاني: وهو موقف، في عمومه، لا يقل ظلمًا وألمًا عن الموقف السابق؛ ذلك هو موقف يوسف مع إخوته الذين ظلموه صغيرًا، وأكل الحسد قلوبهم فكادوا له المكائد حتى هداهم تفكيرهم الحاقد إلى التخلص منه؛ حتى يستأثروا بقلب أبيهم؛ فذهبوا به وألقوه في الجب، وتطورت الأحداث كما تسردها السورة حتى وصل يوسف إلى حال التمكين في الأرض، وأن يكون على خزائن أرض مصر.

ثم حينما أصاب الجدب أرض كنعان، وسمع أهلها بالخير الوفير الذي يفيض على أهل مصر، اتجه إخوة يوسف، كحال غيرهم من الناس، إلى مصر ليأتوا منها بالمئونة، وحينما وصل إخوة يوسف ودخلوا على أخيهم يوسف، الذي كان قائمًا على خزائن مصر، حينها عرفهم، وهم لم يعرفوه.

وليتخيل كل منا حاله مكان نبي الله يوسف في هذا الموقف؛ حيث يجد أمامه إخوته الذين ظلموه وفعلوا به ما يصعب على القلب تجاوزه والصفح عنه، كيف سيكون حاله معهم؟ وكيف ستكون مقابلته لهم؟

لكن مع تطور الأحداث نجد هؤلاء الإخوة يشهدون ليوسف بما شهد له به صاحباه في السجن {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:78]، ويا له من قلب كبير ذلك الذي يتجاوز كل تلك الأحداث والإيذاءات التي تعرض لها؛ بل ويرتقي في تعامله مع من أساءوا إليه هذه الإساءات إلى درجة الإحسان التي شهدوا له بها!!

لأن الإحسان لا يكون إحسانًا إلا إذا قصد المحسن بفعله إيصال النفع إلى المحسن إليه.

وهكذا يكون حال المتعلق بالله تعالى؛ يعفو ويصفح، ويجاوز ويغفر، ولا تتغير طبائعه الطيبة مع تغير أحول الزمان وتوالي صروف الدهر عليه؛ فيوسف المحسن وهو فتى، هو يوسف المحسن في السجن، هو أيضًا يوسف المحسن بعد التمكين والتحكم في خزائن مصر(11).

هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟

إذا كان يوسف عليه السلام موصوفًا بالإحسان من الخالق سبحانه ومن الخلق؛ فإن ذلك ناتج عن إدراك خاص لديه للإحسان وحقيقته وجزائه؛ وهو ما ظهر في أثر الإحسان إلى يوسف على تصرفاته، ومقابلته الإحسان بإحسان مثله؛ فإحسان عزيز مصر إلى يوسف كان أحد الذرائع التي حاول من خلالها الإفلات من إغواء امرأة العزيز له؛ حيث قال لها: {مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23]؛ أي أنه لا ينبغي لي أن أسيئ إلى العزيز الذي أحسن إلي؛ فنجاني من الجب وآواني في بيته، وأنا غريب مقطوع الرجاء إلا بالله تعالى.

وفي نهاية القصة ها هو يوسف عليه السلام يذكر لأبيه إحسان الله تعالى إليه في هذه النهاية السعيدة بعد أن خرج من السجن وجمعه بأبيه وإخوته؛ حيث يقول: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا  وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100].

فيوسف المحسن ينسى كل إساءة وكل ابتلاء مر به في حياته، ويذكر إحسان الله عز وجل به؛ وينسب الإحسان لله تعالى، والإساءة للشيطان الذي نزغ بينه وبين إخوته، وهو بهذا يرفع الحرج النفسي الذي ربما يصيب إخوته في مثل هذا الموقف جراء ما فعلوا به.

وصدق الله العظيم الذي ختم هذه السورة بقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُّفْتَرَى}.

والإحسان في المعاملة يعرفه كل أحد، وهو يختلف باختلاف أحوال الناس وطبقاتهم، وإن العامي الجاهل ليدري كيف يحسن ما لا يدري العالم النحرير إذا أراد أن يحدد له ذلك، فالتعليم الحرفي لا يحدد الإحسان المطلوب من كل أحد؛ بل العمدة فيه اجتهاد المرء وإخلاص قلبه في تحري ذلك بقدر طاقته، وحسب فهمه، لأكمل الإرشاد الإلهي التفصيلي في ذلك(12).

والإحسان مطلوب في كل شيء بهدي دين الفطرة، الداعي لحسنتي الدنيا والآخرة، وجزاء الإحسان في كل شيء بحسبه، قال عز وجل: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، كما أن الإساءة محرمة في كل شيء وجزاءها من جنسها، قال عز وجل: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته»(13).

فالإحسان واجب في دين الإسلام حتى في قتال الأعداء؛ لأنه في حكمه من الضرورات التي تقدر بقدرها، ويتقى ما يمكن الاستغناء عنه من شرها، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4]، أي فإذا لقيتم أعداءكم الكفار في المعركة فقاتلوهم بضرب الرقاب لأنه أسرع إلى القتل وأبعد عن التعذيب، بمثل ضرب الرأس مثلًا، وناهيك بتهشيم الرءوس وتقطيع الأعضاء في عهد التنزيل، الذي لم يكن فيه أطباء جراحة يخففون آلامها، حتى إذا ظهر لكم الغلب عليهم بالإثخان فيهم فاتركوا القتل واعمدوا إلى الأسر، ثم إما أن تمنوا على الأسرى بالعتق مَنًّا، وإما أن تفدوا بهم مَن أُسِر منكم فداءً.

وكذلك الإحسان في الحيوان والرفق به، ومنه ذبح البهائم للأكل يجب أن يحسن فيها بقدر الطاقة حتى لا يتعذب الحيوان؛ ولهذا حرم الله الموقوذة؛ وهي التي تضرب بغير محدد حتى تنحل قواها وتموت(14).

وللإحسان ضدان: الإساءة، وهي أعظم جرمًا، وترك الإحسان بدون إساءة، وهذا محرم، لكن لا يجب أن يلحق بالأول، وكذا يقال في صلة الأقارب واليتامى، والمساكين، وتفاصيل الإحسان لا تنحصر بالعد؛ بل تكون بالحد، كما تقدم.

ثم أمر بالإحسان إلى الناس عمومًا فقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، ومن القول الحسن أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليمهم العلم، وبذل السلام، والبشاشة، وغير ذلك من كل كلام طيب.

ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله، أمر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق، وهو الإحسان بالقول، فيكون في ضمن ذلك النهي عن الكلام القبيح للناس حتى للكفار، ولهذا قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46].

ومن أدب الإنسان الذي أدب الله به عباده، أن يكون الإنسان نزيهًا في أقواله وأفعاله، غير فاحش ولا بذيء، ولا شاتم، ولا مخاصم؛ بل يكون حسن الخلق، واسع الحلم، مجاملًا لكل أحد، صبورًا على ما يناله من أذى الخلق، امتثالًا لأمر الله، ورجاءً لثوابه(15).

وقوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]، وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان؛ لأنه لم يقيده بشيء دون شيء، فيدخل فيه الإحسان بالمال كما تقدم.

ويدخل فيه الإحسان بالجاه، بالشفاعات ونحو ذلك، ويدخل في ذلك الإحسانُ بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم العلم النافع، ويدخل في ذلك قضاء حوائج الناس، من تفريج كرباتهم، وإزالة شداتهم، وعيادة مرضاهم، وتشييع جنائزهم، وإرشاد ضالهم، وإعانة من يعمل عملًا، والعمل لمن لا يحسن العمل ونحو ذلك، مما هو من الإحسان الذي أمر الله به، ويدخل في الإحسان أيضًا الإحسان في عبادة الله تعالى، وهو كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»(16).

فمن اتصف بهذه الصفات كان من الذين قال الله فيهم: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، وكان الله معه يسدده ويرشده ويعينه على كل أموره(17).

والناس في الإحسان على مراتب مختلفة، حسب قدرة الإنسان واستِعداده الخُلقي.

وأول هذه المراتب كظم الغيظ، من كَظْم القِرْبة المملوءة، فالإنسان يكظم غَيْظه في نفسه، ويحتمل ما يَعتلج بداخله على المذنب دون أن يتعدَّى ذلك إلى الانفعال والردّ بالمثل، ولكنه يظل يعاني ألم الغيظ بداخله، وتتأجج ناره في قلبه.

لذلك يحسُن الترقي إلى المرتبة الأعلى، وهي مرتبة العفو، فيأتي الإنسان ويقول: لماذا أدَعْ نفسي فريسة لهذا الغيظ؟ لماذا أشغل به نفسي، وأُقَاسي ألمه ومرارته؟ فيميل إلى أنْ يُريح نفسه، ويقتلع جذور الغيظ من قلبه، فيعفو عمن أساء إليه، ويُخرِج المسألة كلها من قلبه.

فإن ارتقى الإنسان في العفو سعى إلى المرتبة الثالثة، وهي مرتبة أن تُحسن إلى مَن أساء إليك، وتزيد عما فرضَ لك حيث تنازلتَ عن الردِّ بالمثل، وارتقيتَ إلى درجة العارفين بالله، فالذي اعتدى اعتدى بقدرته، وانتقم بما يناسبه، والذي ترقّى في درجات الإحسان ترك الأمر لقدرة الله تعالى، وأين قدرتك من قدرة ربك سبحانه وتعالى؟ إذن: فالإحسان أجمل بالمؤمن، وأفضل من الانتقام(18).

***

________________

(1) أخرجه مسلم (2626).

(2) ضعيف الجامع (669).

(3) تفسير القرطبي (4/ 208).

(4) التحرير والتنوير (1/ 64).

(5) لباب التأويل في معاني التنزيل (2/ 511).

(6) التفسير الموضوعي، ص271.

(7) الإحسان في دعوة نبي الله يوسف عليه السلام، موقع: مهارات الدعوة.

(8) في ظلال القرآن (4/ 2014).

(9) مفاتيح الغيب (18/ 454).

(10) في ظلال القرآن (4/ 1988).

(11) الإحسان في دعوة نبي الله يوسف عليه السلام، موقع: مهارات الدعوة.

(12) تفسير المنار (5/ 69).

(13) أخرجه مسلم (1955) عن شداد بن أوس رضي الله عنه.

(14) تفسير المنار (8/ 411).

(15) تفسير السعدي، ص58.

(16) أخرجه البخاري (50)، ومسلم (8).

(17) تفسير السعدي، ص90.

(18) تفسير الشعراوي (13/ 8166).