الأسرة ومعركة الهُويَّة
إن أعداء الأمة لم ولن يتركوها على هُويتها الإسلامية وثقافتها الإيمانية؛ بل يكيدون لها الليل والنهار، على مر العصور؛ ليزحزحونا عنها، ويطمسوها عنا، بتذويب الهوية الإسلامية، والقضاء على مقومات كيانها، وعلامات القوة فيها، واحتوائها بأخلاق الضعف والانحلال والإباحية.
قال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة:109].
لقد بدأ أعداء الإسلام منذ اللحظة الأولى لنزول الوحي في معاداته ومحاولة طمس هويته، ووصفه بأنه أساطير، أو سحر، أو ما إلى ذلك.
ومرَّت العصور وازدهر الإسلام، وأصبح له دولة تمتد شرقًا وغربًا، تحمل راية الإسلام هوية ربانية، حتى تكالبت عليها الأمم في عصر الخلافة العثمانية، ورغم هذا لم يستطيعوا طمس هذه الهوية من الخارج، حتى جاء مصطفى كمال أتاتورك، الذي أسس مقوِّمات جديدة للهوية التركية، فاصلًا الرابط الديني عن الرابط القومي، فتمَّ إلغاء استخدام اللغة العربية في الدولة، واستبدال الحروف العربية بحروف أخرى في اللغة التركية، ومنع الآذان في المساجد، وأعلنت الهوية التركية كتحرُّر وطني من الإسلام...، وهكذا ضُربت الهوية الإسلامية من داخلها بتغيير الثقافة والتعليم على يد أبناء الأمة، والتي لم يقدر عليها الأعداء من الخارج.
لقد توالت عملية طمس الهوية الإسلامية بعد ذلك بالغَزْو المركب، تولَّاه نابليون بمدفعه ومطبعته، والحملة التي نجح فيها القس دانلوب بقلبه ميزان التعليم الإسلامي، وإقامته على أساس الفصل بين الدين والحياة، لتتخرَّج أجيال متغربة من المثقفين، بينها وبين هويتها حواجز نفسية(1).
ولما كانت الأسرة قوة الفرد وحصن المجتمع كان أعداء العرب والمسلمين في حربهم علينا يوجهون سهامهم، فيما يوجهون، إلى أسَرِنا؛ إذ يعرفون أن نقضَ الأسرةِ يَهدُّ كاهل المجتمع، وكما يقول ابن خلدون: إن الدول ترقى وتنحط بقدر ما تكون الأسرة فيها قوية أو ضعيفة.
فتارةً يوجه أعداء الأسرة سهامهم إلى الفتاة لينفروها من الزواج، وليوغروا صدرها بالعداء بين الرجل والمرأة، ولينفخوا فيها بكل بوق هدام لتنازع الرجلَ أعمالَه وأقواله ومسئولياته، ولتجابهْ، بكلِّ قوتها، المجتمع الذكوري الظالم كما أوهموها.
وتارة يتوجهون إلى الشاب ليثنوه عن تحمُّل مسئولية الزواج والأسرة، وليضعوا في طريق زواجه العراقيل ويُرجِفوا حوله الأراجيف.
وتارةً يتوجهون للفتيات والشباب معًا ليُضرموا فيهما نار الشهوات وحمأة الفتن، فملبوسات فاضحة، وصور ماجنة، وأفلام ساقطة، وأغانٍ هابطة...؛ كلها لاستهداف الأسرة بشكل مباشر وغير مباشر، هذا فضلًا عن اتفاقات دولية يعتني أعداء الأسرة والعفة والفضيلة، أولَ ما يعتنون، بها؛ لهدم كل رباط زوجي، ودعم كل علاقة خارج الأسرة.
فاتفاقية (سيداو)، لمناهضة كافة أشكال التمييز ضد المرأة، تدعو في المادة السادسة عشر منها لمفرداتٍ تجتمع مع بعضها لنقض عرى الزوجية؛ فالقوامة مشتركة، ولا ولاية للأب على بناته، والإرث بالتساوي، ولا تُكَلِّفُ زوجًا بالنفقة على زوجته، ولا تترك له أمرًا في سفرها ولا حضرها، ولا سكنها معه في البيت أو في غيره إن شاءت!!
ومؤتمر (بِكِّين) للمرأة والسكان يُشيع أنواع أسَرٍ جديدة؛ مُسَاكنةً أو شذوذًا أو علاقةً غير شرعية، ويدعو إلى الفوضى الجنسية بشكل أو بآخر، والطامة الكبرى أن بعض الدول العربية وافقت على تلك الاتفاقيات، وصارت اليوم تعقد لهؤلاء الشواذ عقودًا تحتوي منكرهم ضمن إطار القانون، ليغدو ذلك، بالتدريج، جزءًا من الواقع وعرفًا في المجتمع(2).
إن استهداف أسَرنا يصرخ بنا لدعم الزواج الشرعي، لدعم عملية التربية، لنفْضِ الغبار عن تلك الصور المشوهة المنفرة، التي لا تتَّسق مع الفطرة الإنسانية، ولا تليق بالأسرة عامة، ولا بالمرأة خاصة، فالإسلام كما اعتنى بالأسرة اعتنى بأفرادها، فسوَّى بين الرجل والمرأة في جملة الحقوق والواجبات٬ وإذا كانت هناك فروق معدودة فاحترامًا لأصل الفطرة الإنسانية وما يُنبني عليها من تفاوت الوظائف، كما يقول شيخنا الغزالي عليه رحمة الله، وإلا فالأساس قول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
الهوية الإسلامية مسئولية أمة بأكملها، وإن كنا نعيش الآن مرحلة تاريخية بها شيء من الضعف والهوان، فإن التاريخ يبين أنه متى عظمت الهوية الإسلامية في نفوس المسلمين كانت الريادة وكان التمكين.
ولما كانت الأمة الإسلامية تتكون في مجملها من مجموعة من الأسر المسلمة المتشابكة، وكانت الأسرة هي المصنع الأول المورد لمكونات جدار الأمة من فتيان وفتيات، فإن مسئولية الأسرة المسلمة في الحفاظ على الهوية الإسلامية وغرسها في نفوس الأبناء تتعاظم كثيرًا أمام باقي مسئوليات قادة المجتمع.
من هنا أجدني أسطر لنفسي وللأسر المسلمة جملة من التساؤلات، المتعلقة بغرس الهوية الإسلامية في البناء الأسري ومحيط الأبناء ودوائر تفاعلهم الاجتماعي؛ ومنها:
1- هل فكر الشاب والفتاة قبل إقدامهما على تكوين مؤسسة الأسرة في مسألة الهوية الإسلامية؛ وفقهوا معنى الهوية الإسلامية، وطبقوها على أنفسهم، وعلموا أن عليهم دورًا مستقبليًا في تربية أولادهم وفق هذه الهوية المميزة لهم، ومن ثم كان اختيار شريك الحياة الزوجية على أسس مبدأها ومنتهاها الهوية الإسلامية؟
2- هل فكر الزوجان في اختيار البيئة المكانية التي سيُكوِّنون فيها مؤسستهم الأسرية، وهل هي معينة على تعزيز الهوية الإسلامية لأبناء المستقبل؟ أم أن الأمر عادي عندهما في السكن والهجرة والغربة في أحياء تغريبية، أو في بلاد تضيق الخناق على الهوية الإسلامية للأبناء؛ بل وتحاربها في أحيان كثيرة؟
3- هل هيأ الوالدان بيت الأسرة ليكون مميزًا للهوية الإسلامية ومعظمًا لها في نفوس الأبناء، من صلاة وصيام وتلاوة قرآن وملبس ومطعم؛ وغيرها من أجواء ومكونات الهوية الإسلامية؟
4- هل يصطحب الأب أبنائه إلى المساجد في الصلوات والجمع لربط ابنه منذ صغره بالمسجد، وليكرس في نفسه أن المسجد عنوان رئيسي من عناوين هويته الإسلامية أينما حل أو ارتحل؟
5- هناك قواعد إسلامية أساسية في مراحل التربية الأولى، تأتي على رأسها مسألة الطهارة وتعليم الوضوء، فكم من الأسر تهتم بهذا الأمر؟، وكم من الأسر راقبت الأبناء حتى تتيقن أنهم قد تمكنوا من الطهارة والوضوء جيدًا؟ ثم جعلته ديدنًا رئيسيًا لها عند تربية جميع الأبناء؟
6- هناك جملة من القيم المميزة للهوية الإسلامية، تغفل كثير من الأسر عن غرسها في نفوس الأبناء، منها الصدق والحياء والكرم وحسن الخلق والمعاملة الحسنة وغيرها، وحتى لو غُرِست بعض منها فقد يكون المنطلق لدى بعض من الأسر بعيدًا عن المكون الإسلامي، فهل حاولت تلك الأسر تدارك تلك الغفلة، أو أن تجدد نيتها في غرسها لهذه القيم لتكون كلها لله؛ فيجبر معها الخلل في بعضها، ويتوارثها الأبناء جيلًا بعد جيل من منطلق الهوية الإسلامية؟
7- إذا أتت مرحلة اختيار المدرسة المناسبة للأبناء يقف الأبوان حيارى كثيرًا أمام اختيار نوعية التعليم المناسب لأبنائهم، ما بين اقتراب من المسكن وجودته ومناسبته للحالة الاقتصادية للأسرة، وغيرها من الاعتبارات المتعددة؛ لكن السؤال الأهم: كم من الأسر تضع اعتبار الهوية الإسلامية في سلم أولوياتها عند اختيار المدرسة المناسبة لأبنائها، وعلى أي درجة من درجات هذا السلم تكون الهوية الإسلامية؟
8- إذا تم اختيار المدرسة للأبناء لأي اعتبار فكم من الأسر حاولت النظر في مناهج تلك المدرسة، واسترعى انتباهها مسألة الهوية الإسلامية في تلك المناهج الدراسية؟
9- في ضوء النقطة السابقة؛ هل حاولت الأسر المسلمة سد ما وجدته من عجز شرعي في المناهج التعليمية، عبر إلحاق الأبناء بمراكز تحفيظ القرآن الكريم، وتعليم العلوم الشرعية، ليس في فترة الإجازة الصيفية فقط، ولكن على مدار العام.
10- كم من أعضاء مجالس آباء الطلاب حاولوا في اجتماعات المجالس بالمدارس إثارة القضايا التي من شأنها تعظيم وتكريس الهوية الإسلامية داخل المدارس؛ من قبيل وجود مصلى بالمدرسة، وإيقاف الدراسة إذا دخل وقت الصلاة، وتدريب الأبناء على الوضوء، وتدريب وأداء الأبناء للصلاة في جماعة، وعقد مسابقات حفظ القرآن الكريم والسنة النبوية، وتنظيم الرحلات إلى المعالم الإسلامية في البلاد الحاضنة لمدارس الأبناء، وغيرها من الأمور العملية اللازمة لبناء الشخصية المسلمة السوية، وتكريس الهوية الإسلامية في نفوس الطلاب بصورة جماعية من الصغر؟
11- كثير من بلدان العالم الإسلامي الآن تهمش المواد الشرعية في مراحلها التعليمية المتعددة، ولا تجعلها مواد نجاح ورسوب؛ مما جعل الطلاب يعزفون عن حفظ القرآن الكريم، وتعلم الأحكام والتكاليف الشرعية، فلماذا لا تضغط الأسر المتضررة على الحكومات كي تلزمها بإعادة الأمور لنصابها الطبيعي، ولعل في وسائل التواصل الاجتماعي واتساع الرقعة الإعلامية سبيلًا للضغط المجتمعي على الجهات الرسمية باتجاه الإلزامية في العلوم الشرعية، وحفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
12- لماذا لا يكون هناك جلسة أسرية يومية قصيرة أو على الأقل أسبوعية يكون عنوانها )هوية أسرتنا الإسلامية) يكون الحوار فيها مفتوحًا داخل الأسرة الصغيرة حول قضايا الهوية الإسلامية، بدءًا من الزي الشرعي المميز لهوية الفتاة والمرأة المسلمة، وانتهاءً بقضايا الأمة الكبرى؟
13- عطفًا على النقطة السابقة، فإن هناك قضايا عظيمة للأمة يتعاظم حمل همها في نفوس الأبناء بتعاظم تمسكهم بهويتهم الإسلامية؛ مثل: الأقصى الأسير، وألم سوريا وبورما، وغيرها من قضايا الاحتلال والظلم والطغيان في عالمنا الإسلامي، فهل ينجح الآباء في حمل هذا الهم أولًا، ومن ثم تحميله لأبنائهم كي يكونوا رجالًا حاملين للواء الأمة مستقبلًا؟
14- هناك ارتباط عميق بين اكتساب المال الحلال وقوة الهوية الإسلامية؛ فكلما كان الأب متمسكًا بهويته الإسلامية كان حرصه على تحري الحلال في أعماله المتعددة، وكلما تولدت لديه نعمة التحري، كان حرصه على تكريس الهوية الإسلامية في نفوس أبنائه، فكم من الآباء يتحرى الحلال في حياته، ويسعى لغرسه في أعماق أبنائه؟ وهل من وقفة مع النفس يراجع فيها كل أب تاريخه المهني والمالي، وينظر في مكتسباته من الحلال والحرام، ويحاول تصويب المسار قبل فوات الأوان؟
15- الأم يقع عليها دور كبير في تكريس الهوية الإسلامية في نفوس الأبناء، فشتان بين أم تقضي وقتها لهوًا وترفًا بين التلفاز، بمسلسلاته وأفلامه، والجوال والنت بغيبتهما ونميمتهما ومفاسدهما، والموضات بتحررها وسفورها ومخالفتها للشريعة الإسلامية، والأعراس باختلاطها ومفاسدها، والصديقات بمشكلاتهن وتخبيبهن، وبين أم وضعت نصب عينها أبناءها كي تنشئهم وفق مراد الله سبحانه وتعالى، فعظمت الهوية الإسلامية في نفسها، وكرستها وعظمتها في نفوس أبنائها، فهل من وقفة مع النفس تراجع فيها كل أم الآن حالها مع الله ثم مع أبنائها، لتسأل نفسها في هذه الوقفة: ما هي هويتي؟ وتتساءل: أين هي من الهوية الإسلامية؟ وأين هي من غرسها في أبنائها؟ ولماذا لا تبدأ نقطة من أول السطر على طريق الهوية الإسلامية، تنهل من نعيمها ما ينفعها وينفع أبناءها دنيويًا وأخرويًا؟
تساؤلات أتمنى أن تجلس كل أسرة جلسة مودة، تناقش بقلب مفتوح ومقبل على الله القضايا التي أثارتها، وكيف لها أن تصوب مسارها، وتتدارك ما فاتها، قبل أن نُعرض جميعًا على رب العباد، ونسأل حينها عن حالنا وأدوارنا مع هويتنا الإسلامية(3).
كيف هددت هويتنا؟
الهوية الإسلامية مستهدفة من يومها الأول، فمنذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ومشركو قريش والمنافقون في توافق تام لوأد هذه الدعوة، وإيقاف مَدها، وبتعاقب السنوات وتبدل الدول ازدادت الهجمة شراسة وقوة، وبلغت هذه الهجمة ذروتها في العصر الحديث، فلم يدخر أعداؤنا جهدًا في تفريغ هذا الدين عن محتواه لطمس الهوية الإسلامية والعربية، وقد سار هذا الأمر وفق منهج مرتب ومنظم، نوجزه في النقاط الآتية:
1- إضعاف العقيدة، وزعزعة الإيمان.
2- التآمر على اللغة العربية.
3- استقطاب المرأة المسلمة والتغرير بها.
4- إشغال المسلمين بالترفيه والشهوات.
5- السيطرة العلمانية، والترويج لدعوى العولمة والتغريب.
6- طمس المعالم التاريخية والحفريات التي تصحح تاريخ العقيدة.
7- استغلال العامل الاقتصادي في تذويب الهوية(4).
كيف نحفظ هويتنا؟
إن موضوع الهوية وكيفية الحفاظ عليها في حاجة إلى جهود ضخمة، لا يسع مقال كهذا حصرها، لكننا سنمر عليه مرورًا سريعًا، نذكر فيه رءوس أقلام لأهم سبل المواجهة للمحافظة على هويتنا:
- فعلى المستوى العقدي: على المجتمعات الإسلامية حكومة وشعبًا تنمية هذا الجانب، والاهتمام به لأنه الضمانة الوحيدة لبقاء واستمرارية الحياة بهذه الهوية، فجانب الدين والعقيدة بالنسبة للهوية بمثابة الروح بالنسبة للجسد، وبفقدها تتحول كل المكتسبات العلمية والثقافية والأدبية إلى نقم ومنغصات على هذه الشعوب، وإلى معاول هدم لحضارتها.
وهذه التنمية تكون بـإحياء حركة تجديد الدين بالمفهوم السلفي الواضح؛ لنعود إلى منابع الإسلام الصافية، متمثلة في (منهاج النبوة) بعيدًا عن مخلفات القرون، والدعوة إلى حتمية الحل الإسلامي لمعضلات واقعنا الأليم، وتحرير الهوية المسلمة من كل مظاهر الخور والتبعية والتقليد، والقضاء على العقبات التي تحول دون تطبيق الإسلام كمنهج شامل للحياة، والتصدي لمحاولات تذويب الهوية الإسلامية، وقطع صلة الأمة بدينها(5).
- وعلى المستوى التاريخي: لا بد من العمل على استعادة ذاكرة التاريخ مرة ثانية؛ للوقوف على تاريخ هذه الحضارة؛ وذلك لأن التاريخ عنصر مهم من عناصر الهوية الإسلامية، ويشمل ذلك سرد الأحداث السياسية والاقتصادية والعسكرية المتصلة بحقب مختلفة، وتحليلها في ضوء الدوافع والآثار والظروف الزمانية والمكانية، فقد ضمت مصادر الإسلام كثيرًا من النصوص التاريخية، والغاية من التحليل استنباط العبر من النصر أو الهزيمة، والتأمل في قصور العقل البشري، فالانتصار سيظل موضع فخر الأجيال المتعاقبة، والهزيمة ستبقى محل اعتبار القرون المتوالية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها(6).
- وعلى المستوى الثقافي: لا بد لنا من ملء الفراغ الحضاري الذي وصلنا إليه؛ بتطوير معارفنا، والعمل على استيعاب القديم بعقل منفتح، كذلك علينا الحفاظ على اللغة الحافظة والناقلة لهذه الثقافة؛ لأنها الضمانة الوحيدة لاستمرار هذا المكون وتطوره، ولا بأس بعد ذلك من الانفتاح على الآخر للاستفادة من علومه ومعارفه، وهي إشكالية أوجزها الدكتور محمد عمارة، في معرض حديثه عن العولمة وكيفية مواجهتها، بقوله: «لا بد، في مواجهة العولمة الغربية، من التمييز بين مستويات ثلاث: فهناك (الإنسان الغربي) وهذا لا مشكلة بيننا وبينه؛ بل إن لنا في بعض دوائره الفكرية وتياراته السياسية الكثير من التفهم والمناصر والتأييد، وهناك (العلم الغربي)، وخاصة ثمرات إبداع العبقرية الغربية في العلوم الطبيعية وتطبيقاتها، وفيه تتمثّل (الحكمة) التي نحن مدعوون، بمعايير الدين والدنيا، إلى طلبها، والتتلمذ على أهلها، والاستلهام لحقائقها وصوابها، وهناك أخيرًا (المشروع الغربي)، الذي لا نعاديه إلا عندما ينفي مشروعنا العربي والإسلامي(7).
- ومن عوامل الحفاظ على الهوية تعزيز الاعتزاز بالذات، ويأتي ذلك عن طريق تنمية الثقة لدى أفراد المجتمع المسلم في أمته وحضارتها، فالأمة التي لا تثق بقدراتها، ولا تقدر إمكاناتها الذاتية حق قدرها، لا يمكن إلا أن تكون على الدوام ظلًا للآخرين، تابعة لهم، لا تعتمد إلا ما يقولون، ولا تنفذ إلا ما يقررون، وهذا هو التسول الحضاري بعينه، الذي يُمثِّل قمة العجز والفشل والاستسلام أمام التحديات التي تواجهها(8).
لقد ميز الله تعالى المجتمعات الإسلامية بهوية فريدة في مصادرها، وأصولها وفروعها، وكل متعلقاتها، ومن عايشها وفهمها والتزم بها سّعِد في الدنيا والآخرة.
ومن أهم ما يجب المحافظة عليه العقيدة الإسلامية الصحيحة، والشعائر الإسلامية كلها، وفي مقدمتها أداء الصلوات في المساجد، والمحافظة على اللغة العربية، لغة القرآن الكريم، واللباس المحتشم بالنسبة للرجال والنساء، وكل الأخلاق الإسلامية الفاضلة.
منطلقات وأسس مهمة:
إن قضية المحافظة على الهوية الإسلامية هي محافظة على الدين الإسلامي، وإن ما يشاهد اليوم في بعض المجتمعات الإسلامية، من ضعف في التمسك بالهوية الإسلامية، مرحلة لن تطول بإذن الله تعالى؛ ولذلك يجب على الجميع التعاون المثمر في تحقيق تعزيز هـويتنا في نفوس ناشئتنا وشبابنا، ومن أهم المنطلقات لذلك:
أولًا: يجب العمل على إعداد مشروع استراتيجي، وفق خطط مدروسة بين المجتمعات الإسلامية المختلفة؛ للتعاون الجاد فيما بينهم للمحافظة على الهوية الإسلامية، ووضع السبل الملائمة لوضعها موضع التنفيذ.
ثانيًا: يجب أن تتولى وسائط التربية المهمة، ابتداءً من الأسرة، والمدرسة، والجامعة، والمسجد، والإعلام بوسائله المختلفة، المحافظة على الهوية الإسلامية، وترسيخها، والاعتزاز بها من خلال بيان مكانتها، وصحة وصدق أصولها، وكذلك إيضاح خطر وسلبيات تجاهلها، والانسلاخ منها على المجتمع والأمة الإسلامية.
ثالثًا: ضبط عدم شيوع الأسماء غير الإسلامية، سواء كانت أسماءً لأشخاص، أو محلات تجارية، أو أماكن، أو شوارع عامة، وإزالة كل الأسماء الأجنبية، واستبدالها بأسماء إسلامية.
رابعًا: العناية بتوجيه الشباب المبتعثين للعمل أو للدراسة في الخارج، وإقناعهم، بالأساليب المناسبة، بأهمية المحافظة على هويتهم، والعمل على تهيئة محاضن تربوية إسلامية مناسبة لأسرهم وأطفالهم؛ حتى لا تحدث فجوة بينهم وبين مجتمعاتهم عند عودتهم، فيصعب علاجها.
خامسًا: يجب على القدوات أو الأسماء المشهورة في المجتمعات الإسلامية عدم الظهور في وسائل الإعلام المختلفة أمام العامة، وهم متأثرون بالثقافات الأجنبية؛ لأن هذا مدعاة لتقليدهم من الناشئة والشباب.
سادسًا: هناك قلة من أبناء جلدتنا الذين تأثروا بالثقافات الأخرى، وأصبحوا دعاة إلى التغريب، وإلى الانسلاخ من الهوية الإسلامية، فيجب محاورتهم ونصحهم بالأساليب المناسبة من خلال نخبة من طلبة العلم المتميزين، وفي الوقت نفسه بيان خطرهم، وفساد طرحهم للعامة؛ حتى لا يتأثروا بهم.
سابعًا: التحذير الشديد من مخططات أعداء الإسلام والمسلمين، الذين يحرصون على طمس الهوية الإسلامية، وعلى تشويه صورة الإسلام، وعلى إثارة النزاعات والفتن بين المجتمعات الإسلامية، من خلال القنوات الفضائية، والشبكة العنكبوتية، وغيرها، والتصدي لهم بكل الوسائل الممكنة(9).
إن الناظر والمتأمل في أحوال الكثير من المجتمعات الإسلامية اليوم يرى تساهلًا في الحفاظ على الهوية الإسلامية في كل مجالاتها، ولعلك لو قمت بزيارة إلى بعض هذه المجتمعات، في مساجدها أو أسواقها أو شوارعها، لأخذتك الدهشة والاستغراب لما تراه من ضعف التمسك بالهوية الإسلامية، وقد تظن أحيانًا أنك في مجتمع غير إسلامي؛ لكثرة المؤثرات الغربية التي غزت مجتمعاتنا.
وللأسف قد تفشى، منذ زمن، في الكثير من المجتمعات الإسلامية، وعلى مستوى الرجال والنساء وخصوصًا الأطفال والشباب، تقليد المجتمعات الغربية في لغاتهم، وفي ملابسهم؛ بل وفي كثير من أساليب وطرق حياتهم المختلفة، وهذا أمر مؤلم؛ لأن الاستمرار في قبول هذه المؤثرات، وعدم السعي إلى تغييرها، والاعتزاز بالهوية الإسلامية يجعل مجتمعاتنا قابعة في ظل التبعية والتقليد، ثم الإحساس بالدونية والغلبة، وهنا تنطبق علينا مقولة عالم الاجتماع المسلم عبد الرحمن بن خلدون رحمه الله بأن المغلوب مولع بتقليد الغالب.
إن الواجب على المسلمين في كل مكان ليس المحافظة على الهوية الإسلامية فحسب؛ بل الواجب عليهم الدعوة إليها بالحكمة والموعظة الحسنة، ونشرها في كافة أصقاع الدنيا؛ لأنها مستمدة من ديننا القويم، وهو أشرف الأديان وخاتمها، وإذا كان غيرنا من المجتمعات غير المسلمة يفتخر ويعتز بهويته أيما اعتزاز، وهي هوية جلها ممسوخ من الأخلاق والقيم الفاضلة، فنحن أحق بالافتخار والاعتزاز بهويتنا، التي هي فعلًا متميزة؛ لأنها معتمدة على أصول ربانية، وتتماشي مع الأخلاق والقيم والفضائل السامية، والفطر والعقول السليمة.
إن التربية وهي تضطلع بمهمتها في تخريج أجيال مسلمة ذات هُوية إسلامية في كافة مجالات العلم، لَيَنْبغي عليها التَّنَبُّه إلى أمر مهم، وهو الحَذَر من الانفصام بين ثقافة المسلم وبين أصوله الدينية، وما هذا إلا تقليد أعمى، فمن خلال المدرسة والجامعة والمنهج، ومن خلال التربية، والتوجيه الإعلامي والفكري تمكَّن الغرب من فرض رؤيته العلمانية، وأحيانًا المادية، على مساحات واسعة من علوم المسلمين، وآدابهم، وفنونهم، وأنشطتهم التربوية، وتحقق لهم، بعد جهد لم يكلل بالنجاح الكامل، الفصام بين العلوم بعامة وبين إطارها الإيماني(10).
***
__________________
(1) الهوية الإسلامية والتحديات التي تواجهها، شبكة: الألوكة.
(2) الأسرة المسلمة.. ومعركة الهُويَّة، موقع الأستاذ أحمد رباح.
(3) الأسرة والهوية الإسلامية للأبناء، موقع: المسلم.
(4) الهوية أو الهاوية، للدكتور محمد إسماعيل المقدم.
(5) المصدر السابق.
(6) الفرق بين الهوية الإسلامية والهويات الأخرى، د. جمال محمد الزكي.
(7) مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، ص44.
(8) المصدر السابق.
(9) المحافظة على الهوية الإسلامية، موقع: الألوكة.
(10) مؤشرات حول الحضارة الإسلامية، ص34.