logo

اجعل التفاؤل منهج حياة


بتاريخ : الثلاثاء ، 27 جمادى الآخر ، 1442 الموافق 09 فبراير 2021
بقلم : تيار الاصلاح
اجعل التفاؤل منهج حياة

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطير تجري بقدر»، وكان يعجبه الفأل الحسن (1)؛ لأن الفَأْل الطيب يُنشّط أجهزة الجسم انبساطًا للحركة، أما التشاؤم فيدعو للتراجع والإحجام، ويقضي على الحركة والتفاعل في الكون.

وبهذا الحديث النبوي يصح معنى الحكمة المشهورة أيضًا، التي تقول: تفاءلوا بالخير تجدوه؛ إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشجع الناس على التفاؤل، وينهاهم عن التشاؤم والتطير.

وحين سار موسى بقومه وهم شرذمة قليلون، أَتْبَعهم فرعوم بجنوده، وطغيانه واستبداده، وحقده وبطشه وجبروته، هل هناك أمل أن ينجو أحد، بالمقياس المادي، ولو واحدًا بالمليار؟! لا.

{قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]، البحر أمامهم، والعدو من خلفهم، والخوف يملأ قلوبهم، بالنظرة المادية مدركون لا محالة؛ لكن موسى عليه السلام ذهب إلى ربه، يلوذ به ويحتمي بحماه، ويهتدي بهداه، {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]؛ فجاءت الإجابة الفورية، وكانت النتيجة الحاسمة، والإجراءات الصارمة، والرسائل القاصمة لعدو الله البغيض، وعدو الإسلام اللعين، {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63]، قرب الله سبحانه فرعون وقومه من الهلاك، فأغراهم بالفوز والظفر بموسى ومَن معه، لكن الأمر تحوَّل في آخر لحظة بقدرة القادر جل وعلا.

يحكى أنه: سجن شاعران؛ متفائل ومتشائم، فأطلا من نافذة السجن، فأمّا المتفائل فنظر نظرة في النجوم فضحك، وأما المتشائم فنظر في طين الطريق فبكى.

إليكم هذه الحادثة التي سطر حروفها التاريخ وخلد ذكرها على مر الزمن، لتكون نبراسًا لنا وتحيى في نفوسنا الأمل والتفاؤل، ذكرَ أهل السيرِ أن الصليبيين جاؤوا إلى ديار الإسلامِ في ألف ألف مقاتل، ودخلوا بيت المقدس، وصنعوا فيه ما لا تصنعه وحوش الغاب، ولبثوا فيه أسبوعًا يقتلون المسلمين، حتى بلغ عدد القتلى أكثر من ستين ألفًا؛ منهم الأئمة والعلماء والمتعبدون والمجاورون، وكانوا يجبرون المسلمين على إلقاء أنفسهم من على الأسطح، وأخذوا أطنان الذهب والفضة، والدراهم والدنانير، ووضعت الصلبان على بيت المقدس، وأدخلت فيه الخنازير، ونودي مِن على مآذن التوحيد بأن الله ثالث ثلاثة، وساعتها ظن اليائسون ألا عودةَ لبيتِ المقدسِ أبدًا إلى المسلمين.

كم طوى اليأس نفوسًا لو رعت        منبتًا خصبًا لصارت جوهرًا

وقام لله بالإيمان رجل من أهل العراق، واسمه في ربى التاريخ عطر ونور، واسمه كما تعرفون صلاحَ الدين الأيوبي، الذي جهز جيشًا لاسترداد بيت المقدس وتأديب المعتدين، فتقدم إلى بحيرة طبرية، واستحوذ عليها، فصار جيش الصليبيين في عطش عظيم، وقام الوعاظ والخطباء يعلمون الجماهير أخلاق الإسلام ونصر الله تعالى المؤمنين، وهلك من أعدائهم ثلاثون ألفًا، حتى قيل: لم يبق أحد، وأسر منهم ثلاثون ألفًا حتى قيل: لم يقتل أحد، ودخل المسلمون بيت المقدس، وطهروه من الصليب، وطهروه من الخنزير، ورقى الخطيب المنبر بعد تعطل للجمعة دام واحدًا وتسعين عامًا، وكان أول ما قال قوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45].

أيها المسلمون: الخير في هذه الأمة إلى قيام الساعة، مهما كثر فيها الفساد والضلال والفجور، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم» (2)، وقال الشيخ بن باز رحمه الله: هذهِ الأمة تغفو ولكنها لا تنام، وتمرض ولكنها لا تموت.

أيها الأحبة الكرام، فْلنحذر من إشاعة روح التشاؤم في المجتمع، وبث الأخبار التي فيها تثبيط العزائم، ونشر الخوف والهلع بين الناس، والأخبار الحزينةِ، «وإذا قال الرجل هلك الناس، فهو أهلكهم».

الفــأل نــور للفتى وســعـادة      فاهنأ بدرب يستضِيء بفالِكًا

ما الشؤم إلا ظلمة وشقاوة      من نال منه الشؤم أصبح هالكًا

إن التفاؤل إكسير الحياة السعيدة، وما فقد الإنسان هذا الإكسير إلا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأصبح وجه الحياة قاتمًا مظلمًا في عينيه، يفقد الأمل والراحة والهناء، يمل الحياة وما فيها، ويراها قد أصبحت مجرَّدة عن أي معنى.

لن يفقد نافذة النور من تعوِّد التفاؤل، وليوافينه الأمل ملوحًا له من بعيد، إذ المشاعر الإيجابية التي تحيطه لا تسمح له، يغرق في السلبيات وينظر إلى الحياة نظرة تشاؤمية، وأما المتشائم فلا يجني الراحة والسرور ولو كان في رغد العيش ورحراح الحياة، لأنّ نظرته السلبية لا تدعه يهدأ وينعم، بل تنغّص عليه عيشه وفرحه، وتسلبه متعة الاستمتاع بالحياة وتزهّده فيما يملك.

المتشائم يسيء الظن بالله تعالى، ومن هنا ينشأ يأسه وتشاؤمه، وأما المحسن الظن بالله تعالى فهو لا يفقد النور وبصيص الأمل في الحياة مهما اشتدت الظروف وتتابعت المحن، فكلما ذكر أن الله مدبر أموره ازداد قوة وتفاؤلًا، علمًا منه أنه مدبر لا يتهم في جميل تدبيره، وهو دائمًا يختار له الأجمل والأكمل والأفضل.

يظل المتشائم خبيث النفس، مبخوس الحظ، معقود الجبين، كالح الوجه، ضيق الصدر، متوتّر الأعصاب، مسلوب الراحة والسكون، ولو حيزت له الدنيا بحذافيرها، لا يجد في الوجود ما يحسِّن حاله حتى ولو كان يعيش فيما لا يمكن الآخرين رؤيته إلا في الأحلام؛ لأنه يرى أن الراحة تزول، والمال ينفد، والصبح ينتهي، والسلامة تنهار، ويحل محل هذا كله ليل يبقى، وفقر يستمر، وجوع يدوم، ومرض لن يقلع، إنه دوّن لنفسه قاموسًا مفرداتُه هي: (الموت، والسقم، والهلاك، والفشل، والإحباط، والسقوط)، وهكذا يموت وهو حيّ، ويجوع وهو شبعان، ويفتقر وهو غني.

ما أحوجنا إلى إكسير التفاؤل في الحياة، نطرد به جيوش الهموم والغموم، ونزيل الأحزان والأتراح، ونجلب لنا الرضى والسكينة والسرور؛ وبخاصة في عصرنا هذا، حيث كثرت فيه المحن، ولكن لا كـكلمة نرددها على ألسنتنا؛ وإنما كمنهج حياة، فإذا صار التفاؤل منهج الحياة، يساعد على تحمُّل المصائب والمصاعب، ويؤدي إلى الانشراح الدائم والتام، والإنسان عندما يصل عند هذا الحد يرى كل شيء جميلًا، حتى وإن كان يظهر للناس على أنه قبيح.

ليس عند الناس ما هو أشد وأهول من الموت، لكن المتفائل والذي يحسن الظن بالله تعالى يجد في الموت وفيما بعده من المشاهد الكثيرَ ممّا يسرُّه ويُرضيه: كيف لا؟ وهو سوف يرى الملائكة، ويزور النبي صلى الله عليه وسلم، ويلقى الله الرحمن الرحيم الذي ما به من نعمة إلا منه، ويجتمع مع أهله وأقربائه وذريته في جنَّات ربه، وبهذا لا يخاف الموت، بل هو مستعد للموت رغبةً فيما بعده.

قيل لأعرابي: إنك ميت، فقال: ثم إلى أين؟ قيل له: إلى الله تعالى، فقال: ما وجدنا الخير إلا من الله تعالى، أفنخشى لقاءه؟

ما أجمل هذه القصة الموجزة من حيث الألفاظ العامرة من حيث المعاني الفياضة.

زار النبي صلى الله عليه وسلم أعرابيًا به حمى فقال له مواسيًا: «لا بأس طهور إن شاء الله»، فلم يقبل الأعرابي هذا الفأل الحسن؛ بل قال: بل حمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فنعم إذن» (3)، فما دام أراد لنفسه هذا فهذا نصيبه، إنه لا يريد أن يكون متفائلًا.

إننا في زمن كورونا؛ وعلى الرغم من كل ذلك الإجهاد النفسي والمجتمعي الذي نعيش فيه، وكل الخسائر اللاحقة في الأنفس والأموال والتعليم، وكل تلك الظروف القاسية التي تمر على البشرية جمعاء، يمكننا التفاؤل، إذا نظرنا إلى ما تعلمنا من هذا الفيروس، فقد تعلمنا منه الكثير، وجرّبنا ما لم نجرّب سابقًا، وكم كانت خسائر البشرية فيما إذا لم تكن لديها وسائل التواصل الاجتماعي وهذه الإمكانيات المتطورة والتكنولوجيا الحديثة، إنه جعلنا نعيد النظر في أعمالنا وصلتنا بالله تعالى، ومنحنا فرصة للتوبة.

هذه هي النظرة التفاؤلية الإيجابية للحالة الكارثية التي نعيشها.

لا يعني التفاؤل عدم الحزن، بل يعني أن نعيش لحظة الحزن بعقلانية بدون الغرق فيها، وألا نسمح للحزن أن يستبد بنا، وأن نرى الجوانب الإيجابية رغم الحزن، ونكون واثقين بالله، مستعدين دائمًا لرؤية الجانب الجيد والإيجابي في الأشياء والاطمئنان إلى الحياة، والنظر إلى النصف الممتلئ من الكوب أيضًا بدل التركيز على النصف الفارغ منه فقط، كما يعني النشاط وتحمّل المسؤولية.

تسلح بالتفاؤل وافتح نوافذ قلبك أمام شمس التفاؤل، تتغلغل بداخلك، وتجري في عروقك، فأنت تحتاج إلى نور التفاؤل، ولتعرف أنه لا شيء كامل في دنيانا، لذلك طِبْ نفسًا وتفاءل بالخير تجده (4).

أسباب التشاؤم:

للتشاؤم أسباب كثيرة، نستطيع أن نوجزها في الأمور التالية:

1- سوء الظن بالله تعالى:

إن من أهم أسباب التشاؤم لدى الإنسان، سوء الظن بالله تعالى؛ فالذي يحسن ظنَّه بربِّه دائم التفاؤل، ودائم الرضا، لا يسخط ولا يغضب، حتى عند نزول البلاء.

روى مسلم عن صهيب الرومي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر، فكان خيرًا له» (5).

فالإنسان الذي يتشاءم من شخص أو زمن أو حيوان، أو غيره، وينسى أن الله هو مقدر الأمور، ويلقي اللوم على هذا وعلى ذاك، قد ظن بالله ظن السوء؛ لأن التشاؤم هو: صرف شيء من حقوق الله عز وجل لغيره، وتعلُّق للقلوب بمخلوق، لا ينفع ولا يضرُّ.

2- الإسراف في المعاصي:

الإسراف في المعاصي مدخل للشيطان، يجعل الإنسان متشائمًا من كل شيء، حتى يوصله في النهاية إلى اليأس من رحمة الله؛ قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

ولقد ظهر الإسراف واضحًا في قصة أصحاب القرية، حيث أرجع المرسلون سبب تشاؤمهم إلى إسرافهم في المعاصي، قال تعالى على لسان المرسلين: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس: 19]؛ قال الإمام الطبري رحمه الله قوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس: 19]: قالوا لهم: ما بكم التطير بنا؛ ولكنكم قوم أهل معاصي لله وآثام، قد غلبت عليكم الذنوب والآثام (6).

3- الجهل بدين الله تعالى:

الجهل بدين الله تعالى آفة عظيمة تجلب الضلال، فمن جهل معنى التوكُّل على الله، وجهل أن مقاليد الأمور بيد الله وحده، يصرفها كما يشاء، يكون أكثر الناس عرضةً للتفكير السلبي، والذي يجره إلى التشاؤم من كل شيء في الحياة.

فقوم فرعون خلطوا بين الأمور خيرها وشرها، فإن جاءهم الخير فرحوا واستبشروا، وقالوا: لنا هذه؛ ولكنهم إذا أصابهم الشر تشاءموا من موسى عليه السلام ومن معه، ونسوا أن أمرهم كله وما أصابهم وما سيصيبهم إنما هو من عند الله تعالى.

4- وساوس الشيطان:

الشيطان هو عدوُّ الإنسان، ومهمته الأساسية، هي غواية الإنسان وجره إلى النار وبئس المصير، وقد جرت سنة الله تعالى في خلقه أن يبتليهم ويختبرهم، وذلك بعد أن بيَّن لهم الطريق القويم، وحذرهم من وسوسة الشياطين؛ ومن أهم الطرق التي يسلكها الشيطان لتحقيق مآربه هي إدخال الحزن والشؤم على قلب الإنسان؛ قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة: 10].

5- تقليد المتشائمين:

من أسباب التشاؤم تقليد الناس لغيرهم من المتشائمين دون تفكير، فالتقليد الأعمى بغير حجة صحيحة هو الذي أدَّى إلى عدم إيمان بعض الأمم السابقة بأنبياء الله تعالى؛ قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]، وقال عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان: 21]؛ (7).

6- مصاحبة المتشائمين:

الصاحب له تأثير كبير في صاحبه، فالذي يصاحب أهل الفضل يتأثَّر بهم، والذي يصاحب الأشرار يتأثَّر بهم؛ ولذلك فإن الإنسان الذي يصاحب المتشائمين، سوف يتأثَّر بهم في حياته.

قال عدي بن زيد رحمه الله:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه       فكل قرين بالمقارن يقتدي

إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم       ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي (8)

صور للتشاؤم:

قال مزاحم: لما خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة، نظرت فإذا القمر في الدَّبَران؛ فكرهت أن أقول ذلك له، فقلت: ألا تنظر إلى القمر، ما أحسن استواءه في هذه الليلة! فنظر عمر فإذا هو بالدَّبَران، فقال: كأنك أردت أن تعلمني أن القمر بالدَّبَران يا مزاحم، إنا لا نخرج بشمس ولا بقمر؛ ولكنا نخرج بالله الواحد القهار (9)، الدَّبَران: منزل من منازل القمر، كان العرب يتشاءمون به.

التشاؤم برؤية بعض الطيور:

بعض الناس إذا خرج من منزله ورأى بومةً أو غرابًا، رجع ولم يمض فيما عزم؛ لأنه يتشاءم من هذين الطائرين.

قال الأصمعي: خرج النابغة الذبياني مع زيان بن سيار يريدان الغزو، وعند الرحيل نظر النابغة إلى جرادة قد سقطت على ثوبه، فقال: جرادة تجرد وذات ألوان، فتطير (أي: تشاءم) ورجع وقال: لا أذهب في هذا الوجه، وذهب زيدان إلى المعركة، فلما رجع من تلك الغزوة سالِمًا غانمًا، أنشأ يذكر شأن النابغة، فقال:

تخير طيرةً فيها زياد       لتخبره وما فيها خبير

أقام كأن لقمان بن عاد       أشار له بحكمته مشير

تعلم إنه لا طير إلا         على متطير وهو الثبور

بلى شيء يوافق بعض شيء         أحايينًا وباطله كثير (10).

قال أبو الحسن الماوردي رحمه الله: ليس شيء أضر بالرأي، ولا أفسد للتدبير من اعتقاد الطيرة، ومن ظن أن خوار بقرة أو نعيب غراب يرد قضاءً أو يدفع مقدورًا فقد جهل؛ (11).

قال محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله: الإنسان إذا فتح على نفسه باب التشاؤم، ضاقت عليه الدنيا، وصار يتخيَّل كل شيء أنه شؤم، حتى إنه يوجد أناس إذا أصبح وخرج من بيته ثم قابله رجل ليس له إلا عين واحدة تشاءم، وقال: اليوم يوم سوء، وأغلق دكانه، ولم يبع ولم يشتر، والعياذ بالله، وكان بعضهم يتشاءم من يوم الأربعاء، ويقول: إنه يوم نحس وشؤم، ومنهم من يتشاءم من شهر شوال، ولا سيما في النكاح، وقد نقضت عائشة رضي الله عنها هذا التشاؤم بأنه صلى الله عليه وسلم عقد عليها في شوال، وبنى بها في شوال، فكانت تقول: فأي نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحظى عنده مني؟ (12).

والتفاؤل نور في الظلمات، ومخرج من الأزمات والكربات، وهو سلوك نفسي حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله، وهو مقرون بالإيمان بالله عز وجل، ومعرفته بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، لأن المؤمن يستشعر معية الله {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، كما يعرف ربه بأسمائه الحسنى وأنه أرحم الراحمين {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64]، لطيف بالعباد {اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى: 19]، وسعت رحمته كل شيء {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، يدافع عن المؤمنين {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38]، واسع المغفرة قابل التوب وغافر الذنب {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر: 3]، ناصر لعباده المؤمنين {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]، وغيرها من صفات الله الحسنى التي تجعل المؤمن في تطلع للأمل، وتوقع للخير، وانتظار دائم للفرج، وهذه كلها تصب في معنى التفاؤل الذي أمر به وحث عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله، وربَّى عليه أصحابه رضوان الله عليهم.

_______________

(1) أخرجه أحمد (24982).

(2) أخرجه مسلم (2623).

(3) أخرجه البخاري (7470).

(4) عندما يكون التفاؤل منهج حياة/ شبكة الألوكة.

(5) أخرجه مسلم (2999).

(6) تفسير الطبري (19/ 419).

(7) التشاؤم في القرآن الكريم؛ مجلة جامعة الأقصى (العدد الثاني، ص: 83:78).

(8) أدب الدنيا والدين (ص: 205).

(9) سيرة عمر بن عبد العزيز (ص: 32).

(10) التمهيد (9/ 286).

(11) أدب الدنيا والدين (ص: 314).

(12) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (9/ 515).