logo

إلى حفيدة ذات النطاقين


بتاريخ : الاثنين ، 29 ذو الحجة ، 1444 الموافق 17 يوليو 2023
بقلم : تيار الاصلاح
إلى حفيدة ذات النطاقين

ولدت السيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قبل الهجرة بحوالي ثلاث وعشرين سنة، وهي أخت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، وزوج سيدنا الزبير بن العوام رضي الله عنه، وأم عبد الله بن الزبير وعروة بن الزبير رضي الله عنهما، وكانت من أوائل الذين أسلموا، وآخر المهاجرات وفاةً.

روت رضي الله عنها حوالي (58) حديثًا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، اتفق لها البخاري ومسلم على ثلاثة عشر حديثًا، وانفرد البخاري بخمسة أحاديث، ومسلم بأربعة.

ولقد توفيت أسماء رضي الله عنها بمكة في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين بعد قتل ابنها عبد الله بن الزبير بيسير، وكانت قد ذهب بصرها، وقال هشام بن عروة عن أبيه: كانت أسماء قد بلغت مائة سنة لم يسقط لها سن ولم ينكر لها عقل (1).

مآثر السيدة أسماء رضي الله عنها:

أسماء بنت أبي بكر رمز من رموز الشجاعة النادرة والبطولة الفذة، ومثل رائع من أمثلة التضحية والفداء، وميزان حق للعدل في أسمى صوره وأرقى معانيه.

ورثت عن أبيها الكثير من شمائله المرضية، وملكاته النفسية، وجمعت لنفسها ما لم تجمعه فتاة في مثل سنها، وقامت بأعمال بطولية نادرة سجلها لها التاريخ في أنصع صفحاته، وأفاد منها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، وشهدوا لها بشدة الصبر وقوة الاحتمال ومواجهة الشدائد في عزة وإباء.

شهدت أسماء فجر الدعوة وبداية الانطلاقة، وعاشت مع أبيها أذى المشركين، وحملت لواء الدعوة بيدها وقلبها ومشاعرها.

ومن مواقفها البطولية في حداثة سنها أنها أعانت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيها على النجاة بأنفسهما من مؤامرة دبرها المشركون في دار الندوة لقتله صلى الله عليه وسلم، وبذلت ما في وسعها من أجل أن يهاجرا معًا إلى المدينة دون أن يمسهما سوء.

فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر رضي الله عنه، فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: والله لا أدري أين أبي، قالت: فرفع أبو جهل يده وكان فاحشًا خبيثًا، فلطم خدي لطمة خرم منها قرطي، قالت: ثم انصرفوا (2).

لقد كتمت أسماء أمر هذه الرحلةِ التي غيرت وجه التاريخ، ولقد كانت مشاهد التربية الإيمانيةِ الحقة تتكرر على مرأى ومسمعٍ من أسماء، فقد رأت كيف وقف أبوها وحده في وجه زعماء قريش ومن معهم من عشائر وقبائل ليدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلًا: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله، فيتركون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقبلون على أبي بكر رضي الله عنه (3).

فكيف لا تتربى بعد ذلك على الشجاعة والصمود من أجل الحق، لقد عاشت أسماء رضي الله عنها مع المسلمين الأوائل حياةَ الصبر والجهاد والمحنة العظيمة وتحملت الأذى وصبرت على البأساء، ورأت ما يفعله كفار قريش بالمستضعفينَ من المسلمين يذيقونهم ألوانَ العذاب؛ ولكنها لا تزدادُ إلا يقينًا وثباتًا.

قيامها بمهمة خطيرة أثناء هجرة المصطفي صلى الله عليه وآله وسلم مع أبيها سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه خليفة رسول الله؛ فقد كانت تجهز لهما طعام السفر، فلم تجد ما تربط به الطعام، فشقَّت خمارها نصفين وربطت في أحدهما الطعام وارتدت الآخر، فعن أسماء رضي الله عنها، قالت: صنعت سفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي بكر، حين أراد أن يهاجر إلى المدينة، قالت: فلم نجد لسفرته، ولا لسقائه ما نربطهما به، فقلت لأبي بكر: «والله ما أجد شيئًا أربط به إلا نطاقي»، قال: فشقيه باثنين، فاربطيه: بواحد السقاء، وبالآخر السفرة، «ففعلت، فلذلك سميت ذات النطاقين» (4).

فكم تكبدت من مشقة في رحلة الهجرة النبوية، وهي تحمل الطعام كل يوم للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار، وتعرض نفسها للخطر.  

ما الذي يجعلها وهي مجهدة بالحمل لمشقة لم تقل أنا امرأة ضعيفة وما يبلغ جهدي؛ بل هي في أضعف حالات المرأة عندما تكون حامل، ونحن نرى النساء إذا تلقين خبر الحمل تصلي جالسة، وتتخلى عن كثير من السنن حتى لا يؤثر ذلك على جنينها، وأسماء ما فعلت ذلك إلا لأنها كانت مؤمنة بهذه الرسالة، وأنها الحق، وأنه لا بد لهذا الدين أن يظهر يومًا، فلم تدخر وسعًا من أجل ذلك، ولذلك استحقت أسماء البشرى بذات النطاقين في الجنة خير من ثوبها، ولما لا والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.  

ولها موقف مع جدها أبي قحافة يدُلُّ على سمو نفسي وأخلاقي وسرعة بديهة وقوة تحمل قلما توجد؛ عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، ومعه أبو بكر، حمل أبو بكر معه جميع ماله خمسة ألف أو ستة ألف درهم، فأتاني جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: إن هذا والله قد فجعكم بماله مع نفسه، فقلت: كلا يا أبت، قد ترك لنا خيرًا كثيرًا، فعمدت إلى أحجار فجعلتهن في كوة البيت، وكان أبو بكر يجعل أمواله فيها، وغطيت على الأحجار بثوب، ثم جئت فأخذت بيده فوضعتها على الثوب، فقال: أما إذا ترك هذا فنعم، قالت: «ووالله ما ترك قليلًا ولا كثيرًا» (5).

ليس غريبًا أن يكون لأسماء الشابة الفتية هذه المواقف الثابتة والذكية، فأبوها أبو بكر الصديق وهي من السابقات إلى الإسلام، فقد كان عمرها حين أسلمت عشر سنوات، أما زوجها فهو الزبير ابن العوّام ابن صفيّة عمّة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «لكلّ نبيٍّ حواري وحواريِّ الزبير ابن العوّام» (6).

تزوجت أسماء من الزبير قبل الهجرة بفترةٍ بسيطة، وكانت حاملًا بابنها البكر عبد الله ابن الزبير.

عندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم بصحبة أبي بكر ظلّت أسماء في بيت والدها أبي بكر في مكة تنتظر من يصطحبها إلى يثرب، وقد كان زوجها الزبير مسافرًا في تجارةٍ له إلى الشام، وما هي إلا مدّةٌ يسيرة حتى جاء زيد بن حارثة إلى مكة ليصطحب إلى دار الهجرة أهل النبي صلى الله عليه وسلم؛ زوجته سودة وابنتيه فاطمة وأم كلثوم، ويصطحب أيضًا أهل أبي بكر زوجته أم رومان وابنتيه أسماء وعائشة، ولكن حمل أسماء وصل لتمامه، ويهود المدينة كانوا يشيعون أنهم سحروا المسلمين فلن يولد لهم مولودٌ في دار الهجرة، فماذا فعلت أسماء؟

هاجرت إلى المدينة وغامرت بنفسها وجنينها في سبيل الله، كابدت مشقّة المسير ليالَ وأيام حتى وصلت إلى قباء ووضعت ولدها عبد الله، هناك كبّر المسلمون فرحًا وطربًا بولادة عبد الله بن الزبير، فهو أول مولود يولد لهم في دار الهجرة، وبذلك بطل ادّعاء اليهود بأنهم سحروا المسلمين فلن يولد لهم ولدٌ بعد هجرتهم؛ ولكن لله الأمر من قبل ومن بعد.

كانت أسماء تتمنى أن يؤذن النبي صلى الله عليه وسلم في أذن عبد الله، وتمّ لها ما تمنته وحنّكه النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة، ودعا له وبارك عليه، في المدينة ولدت أسماء للزبير ثمانية أولاد، وعاشت مع زوجها مكافحةً مجاهدة.

ولكن هل اكتفت أسماء بأعمالها المنزلية تلك، أسماء كانت تعلم أن عليها مسؤولية أخرى غير إنجاب الأولاد وتربيتهم والقيام بأعمال المنزل، فقد فهمت أن الحياة الزوجية هي حياة تشاركية تقوم فيها الزوجة بكل ما يمكنها لمساعدة زوجها داخل المنزل وخارجه، فكانت تعمل في أرضٍ للزبير أقطعه إياها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي على بعد ما يقارب ثلاثة كيلو مترات عن المدينة، ماذا كانت أسماء تعمل في تلك الأرض؟

عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: تزوجني الزبير، وما له في الأرض من مال، ولا مملوك، ولا شيء، غير فرسه وناضح، فكنت أخدم الزبير خدمة البيت؛ فأستقي الماء، وأخرز غربه وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صدق، ولم يكن من الخدمة شيء أشد علي من سياسة الفرس أعلفه، وأكفيه مئونته، وأسوسه، وأدق النوى لناضحه، وأعلفه، وكنت أنقل النوى على رأسي من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال بني النضير، وهي مني على ثلثي فرسخ فجئت يومًا والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، فدعاني ثم قال: إخ إخ ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته -وكان أغير الناس- فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت، فمضى.

فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب، فاستحييت منه، وعرفت غيرتك، فقال: والله لحملك النوى على رأسك أشد علي من ركوبك معه، قالت: حتى أرسل إلي أبو بكر رضي الله عنه بعد ذلك بخادم فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني، فجاءني رجل فقال: يا أم عبد الله، إني رجل فقير، أردت أن أبيع في ظل دارك، فقلت له: إني إن رخصت لك، أبى ذاك الزبير، فتعال فاطلب إلي والزبير شاهد، فجاء فقال: يا أم عبد الله، إني رجل فقير، أردت أن أبيع في ظل دارك، فقلت له: ما لك بالمدينة إلا داري؟، فقال لي الزبير: ليس لك أن تمنعي رجلًا فقيرًا يبيع، فكان يبيع إلى أن كسب فبعته الجارية، فدخل علي الزبير وثمنها في حجري، فقال: هبيها لي، فقلت له: إني قد تصدقت بها (7).

كانت تنقل النوى؛ لم تكن تلك مهمّةً سهلة، ولم يكن هناك وسائل مواصلات تسهّل الأمر كما هو اليوم، بل كان عليها أن تحمل النوى على رأسها مشيًا على الأقدام، كل تلك المسافة تحت حرّ الشمس في المدينة ولهيبها.

تلك المرأة التي تريد أن تشارك زوجها اهتماماته، وتخفف عنه متاعب الحياة، ضربت مثلًا للمرأة التي علمت حين دخلت بيت زوجها؛ أن الحياة الزوجية مشاركة ومسئولية، برغم من أنها أنجبت عددًا من الأبناء عليها أن تهتم بهم؛ ولكنها لم تغفل عن إرضاء زوجها ومشاركته اهتماماته.

انظروا إلى المرأة المسلمة العفيفة الكادحة الصابرة تقول: فاستحييت أن أسير مع الرجال، حياء، وعفاف، ومجانبة للرجال، وتأملوا عباد الله تعاون الجارات المؤمنات لم تكن تحسن الخبر قالت: فكان يخبز لي جارات من الأنصار، وكن نسوة صدق، وتأملوا رعاكم الله مراعاتها لحق زوجها ومراعاتها خاطرة عندما قالت: وذكرت الزبير وغيرته وكان من أغير الناس، وهذه صفة المؤمن الحق، قال عليه الصلاة والسلام: «المؤمن يغار والله أشد غيرًا» (8)، وقبح الله من لا يغار على نسائه ومن تحت يده.

ظلّت أسماء تجاهد وتناضل مع زوجها حتى أرسل إليها والدها أبو بكر خادمة تعينها على شؤون الحياة، تقول أسماء عن فعل أبيها هذا: فكأنّما أعتقني أبي، وشاء الله تعالى أن يهب الزبير مالًا كثيرًا بعد أن كان فقيرًا، فعمل في التجارة حتى فتح الله عليه وبات من أثرياء المسلمين، وإذا ما كانت أسماء عضدًا لزوجها في أيام فقره فإننا نجدها عونًا له في أيام غناه، قد تقولون نفهم أن تكون المرأة عضدًا لزوجها في الضرّاء حين تصبر على شظف العيش وتعمل ما تستطيع لمساعدته، لكن كيف يمكن أن تكون عضدًا له وقت الغنى والبحبوحة؟

فإذا كان الصبر في الضراء خير حال المؤمن فإن الشطر في السراء لا يقل أهميةً عن ذلك أبدًا، ودور المرأة في ذلك يتمثّل في تذكير زوجها بأهميّة الرزق الحلال والابتعاد عن موارد الحرام، وفي إعانته أيضًا على شكر النعمة.

فعن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، أن أسماء كانت تمرض المرضة، فتعتق كل مملوك لها (9).

ورغم فقر الزبير فقد كانت أسماء امرأةً سخية النفس ذات جودٍ وكرمٍ، باذلة اليد، فكانت تقول لبناتها وأهلها: أنفقن وتصدقن ولا تنظرن الفضل، فإنكن إذا انتظرتن الفضل لم تفضلن شيئًا، وإن تصدقتن لم تجدن فقده.

وقال ابنها عبد الله رضي الله عنه: ما رأيت امرأة أجود من عائشة وأسماء، وجودهما مختلف، أما عائشة رضي الله عنها فكانت تجمع الشيء إلى الشيء حتى إذا اجتمع عندها وضعته مواضعه، وأما أسماء فكانت لا تدخر شيئًا لغد، وعن أسماء رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله: مالي مال إلا ما أدخل علي الزبير أفأتصدق؟!، قال: «تصدقي ولا توعي فيوعى عليك» (10).

والإيعاء: جعل الشيء في الوعاء، وأصله الحفظ والإيعاء؛ أي: لا تمنعي ما في يدك، فتنقطعَ مادة بركة الرزق عنك، فإن مادة الرزق متصلة باتصال النفقة، ومنقطعة بانقطاعها.

قال النووي رحمه الله: معناه الحث على النفقة في الطاعة، والنهي عن الإمساك والبخل (11).

وانشغال المرأة بأسرتها لا يغني أن يكون لها علاقة مع الله من ركعتين بخشوع أو صدقات بإخلاص لله، فعن عروة قالت: دخلت على أسماء وهي تصلي فسمعتها وهي تقرأ هذه الآية: {فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27]، فاستعاذت وقمت وهي تستعيذ فلما طال على أتيت السوق ثم رجعت وهي في بكائها (12).

تُرى كم زوجة عندها أولاد وبيت وتعمل لتساعد زوجها تراها تقف بين يدى ربها ساعة وتتأثر بآيات ربها؛ إلا من عرفت أن كما أن لزوجها عليها حقًا لربها عليها حقًا، أما عن صدقاتها فقد ضربت المثل في البذل في سبيل الله فعن القاسم بن محمد قال: سمعت ابن الزبير يقول: ما رأيت امرأة قط أجود من عائشة وأسماء; أما أسماء، فكانت لا تدخر شيئًا لغد، وكانت توصى بناتها بالتصدق، وتقول لهن: يا بناتى تصدقن ولا تنتظرن الفضل.

وكل ذلك نتاج بيت ينطق بصلاح أهله تفوح فيه عطر الطاعة، ذلك البيت الذى تربت فيه أسماء رضى الله عنها، فأين فتياتنا ونساؤنا من العمل للإسلام، وتحمّل المصاعب من أجله، أم أننا نجد أمهات لا تحسن حتى ما تقوم به من دور طبيعى؛ وهى أن تكون أمًا، وأنت ماذا تحسنين وما هدفك في الحياة.  

لما لا تكونين أنت أسماء هذا العصر؟

وقد كانت أسماء بحق عند حسن الظن بها، فرفضت أن تفعل شيئًا حتى تستأذنَ النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلمَ رأيهُ وحكمَه، وآثرتْ حكمَ الله عز وجل وحكمَ رسوله صلى الله عليه وسلم على حكم البشر، وأبت أن تخضعَ لعلاقةِ رحمٍ أو صلةِ قربى تخالفُ حكمَ الله عز وجل وحكمَ رسوله صلى الله عليه وسلم.

إن أحسن معاملة من لهم حق عليك؛ وإن كانوا على الباطل طاعة لله ولرسوله وليس انتقامًا لنفسي، فعن أسماء بنت أبي بكر قالت: قدمت عليّ أمي وهي مشركة، في عهد قريش ومدتهم إذ عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم، مع ابنها، فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أمي قدمت وهي راغبة؟ أفأصلها؟ قال: «نعم، صلي أمك» (13).  

تخيلي هذه المرأة وقد ملأ قلبها الإيمان فأصبحت لا تحب إلا في الله، ولا تبغض إلا في الله، تراها تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في صلة أمها المشركة، حتى لا تفعل شيئًا لا يرضاه الله ورسوله إلى هذا الحد هي حريصة على تنفيذ أوامر الله حتى في علاقتها مع أمها، ونحن نرى في هذه الأيام من لا يبرون بوالديهم، أو لا يصلون رحمهم، وهم على الإسلام، وقد يكونون من أهل الصلاح لاختلاف في الرأي أو لأن الأب يفضل أخي عني في العطاء أو أو، من الأسباب التي تفرق وتشتت الشمل أكثر ما توحد الكلمة وتصل الود.

وعن ابنِ الزبير قال: نزلت هذه الآية في أسماءَ، وكانت أمها يقال لها قتيلة، جاءتها بهدايا فلم تقبلها حتى سألت النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] (14).

يقول جل وعلا: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15].

كما علمتني أسماء الأم درسًا لا ينسى وهي تقول لابنها عبد الله بن الزبير وهو خارج لملاقاة عدوه الحجاج بن يوسف الثقفي؛ وكان يريد قتله وكان يخاف أن يمثلوا بجثته، فقالت له: ليس بعد القتل ما يخافه المرء فالشاة المذبوحة لا يؤلمها السلخ، فإن كنت تعتقد أنك على حق، وتدعو إلى حق؛ فاصبر كما صبر أصحابك الذين قتلوا تحت رايتك، وإن كنت إنما أردت الدنيا فلبئس العبد أنت... أهلكت نفسك، وأهلكت رجالك.

وذكر أنها قالت لابنها: يا بني عِش كريمًا، ومُت كريمًا، لا يأخذكَ القوم أسيرًا (15).

ولما أراد أن يودعها نادته إليها وقبَّلتُه وضمَّته فأحست بدرعٍ على صدره فقالت: ما هذا؟ ليس هذا لمن يريد الشهادة؟ قال: والله ما لي به من حاجة إلا مخافةً عليكِ، قالت: انزعه، قال: يا أُمّه إني أخاف أن يُمثِّلوا بي قالت: يا بني إن الشاةَ لا يضرها سلخُها بعد ذبحها.

ودّعت أسماء ابنَها، ثم أسلمتْ نفسَها لله، ورفعت يديها إلى الحي القيوم، وهي تقول: اللهم ارحم ذلك القيام وذلك النحيب والظمأ في الهواجر وبِرُّه بأبيه وبي، اللهم إني قد سلَّمته لأمرك فيه، ورضيتُ بما قضيتَ فقابلني في عبد الله بثواب الصابرين الشاكرين (16).

وعن يحيى بن يعلى التميمي عن أبيه قال: دخلت مكة بعد قتل ابن الزبير بثلاث وهو مصلوب، فجاءته أُمُّه عجوزٌ طويلةٌ عمياء، فقالت للحجاج: أما آن للراكب أن ينزل؟ فقال: المنافق؟ قالت: والله ما كان منافقًا كان صوَّامًا قوَّامًا برًا قال: انصرفي يا عجوز فقد خَرِفتِ قالت: لا والله ما خرفت منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «في ثقيف كذابٌ ومُبير» (17).

وعن ابن أبي مليكة قال: دخلت على أسماءَ بعد ما أُصيب ابن الزبير فقالت: بلغني أن هذا صَلبَ عبدَ الله اللهم لا تمتني حتى أوتي به فأُحنِّطه وأُكفِّنه، فأتيت به بعد فجعلت تُحنّطته بيدها وتُكفّنه بعد ما ذهب بصرها وصلّت عليه وما أتت عليه جمعة إلا ماتت(18).

وهكذا انتهت حياةُ أسماء بنت أبي بكر الصديق، أمُ عبد الله بن الزبير وزوجُ حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات النطاقين وآخرُ المهاجرات وفاةً.

انتهت حياتها وانتقلت إلى جوار ربها؛ لتترك للمؤمنات دروسًا خالدةً ومواعظ غالية، لقد رحلت أسماء رضي الله عنها بعد أن تركت ميراثًا هائلًا من الثبات على المبدأ يتعلَّم منه الناس جيلًا بعد جيل.

وسيظل اسم أسماءُ مهما تعاقب الزمان؛ يُذكِّرُ بالجهاد والصبر والتقوى، وسيظلُ لها لقب «ذات النطاقين» في سجل التاريخ وأسفار الخالدين (19).

_________________

(1) تهذيب الكمال (22/ 291).

(2) عيون الأثر (1/ 218).

(3) أخرجه الحاكم (4424).

(4) أخرجه البخاري (2979).

(5) أخرجه الحاكم (4267).

(6) أخرجه ابن حبان (6985).

(7) الجامع الصحيح للسنن والمسانيد (16/ 239).

(8) أخرجه مسلم (2761).

(9) سير أعلام النبلاء (2/ 292).

(10) أخرجه البخاري (2590).

(11) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (6/ 284).

(12) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 55).

(13) أخرجه البخاري (5979).

(14) سير أعلام النبلاء (2/ 291).

(15) سير أعلام النبلاء (2/ 293).

(16) البداية والنهاية (8/ 364).

(17) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 260).

(18) سير أعلام النبلاء (2/ 295).

(19) ذات النطاقين/ طريق الإسلام.