القرآن لحياتنا
القرآن كتاب الله المبين، ومنهاجه القويم، وحبله المتين، وهو دستور المسلمين، وضياء المتقين، وقرة عين الموحدين، وهو أصدق الحديث، من تركه ضل، ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم.
نزل به جبريل الأمين، على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين؛ بلسان عربي مبين، وهو الذكر الحكيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يملّه الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرّدِّ، ولا تنقضي عجائبه، من عَلِمَ علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجر، ومن استمع إليه استفاد، ومَن اتعظ بمواعظه انتفع، وهو شفاء لما في الصدور، ويهدي للتي هي أقوم، وهو هدى للمتقين، وشفاء ورحمة للمؤمنين، وهو روحٌ وحياةٌ، وموعظة وشفاء لما في الصدور، وتبيان لكل شيء، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، محفوظ من التغيير والتبديل.
يرفع الله به من اتبعوه وتدبروه، ويضع به من أعرضوا عنه فلم يقرءوه ولم يتدبروه ولم يعملوا به.
قال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)} [الزخرف:43-44].
لقد أنقذ الله العرب من ظلمات الجهل والتخلف والشرك والطغيان بهذا القرآن، فكان ضياءً يضيء لهم السبيل، وهاديًا يهديهم إلى الصراط المستقيم، جعله الله دستورًا شاملًا لكل جوانب الحياة.
يقول سيد قطب: «فقد جاءهم هذا القرآن والدنيا لا تحس بهم، وإن أحست اعتبرتهم على هامش الحياة، وهو الذي جعل لهم دورهم الأكبر في تاريخ هذه البشرية، وهو الذي واجهوا به الدنيا فعرفتهم ودانت لهم طوال الفترة التي استمسكوا فيها به، فلما أن تخلوا عنه أنكرتهم الأرض، واستصغرتهم الدنيا، وقذفت بهم في ذيل القافلة هناك، بعد أن كانوا قادة الموكب المرموقين!»(1).
كتاب مبارك:
جمع الله في هذا القرآن من الخير والبركة على البشرية الكثير، في أطهر بقعة نزل، وعلى أكرم قلب، وفيه من الأحكام والشرائع ما لا يجمع في مجلدات عملاقة، وأسفار ضخمة، قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام:155].
وهو كتاب مبارك، مبارك بكل معاني البركة، إنه مبارك في أصله، باركه الله وهو ينزله من عنده، ومبارك في محله الذي علم الله أنه له أهل، قلب محمد الطاهر الكريم الكبير، ومبارك في حجمه ومحتواه، فإن هو إلا صفحات قلائل بالنسبة لضخام الكتب التي يكتبها البشر، ولكنه يحوي من المدلولات والإيحاءات والمؤثرات والتوجيهات في كل فقرة منه ما لا تحتويه عشرات من هذه الكتب الضخام، في أضعاف أضعاف حيزه وحجمه! وإن الذي مارس فن القول عند نفسه وعند غيره من بني البشر، وعالج قضية التعبير بالألفاظ عن المدلولات ليدرك، أكثر مما يدرك الذين لا يزاولون فن القول، ولا يعالجون قضايا التعبير، أن هذا النسق القرآني مبارك من هذه الناحية، وأن هنالك استحالة في أن يعبر البشر في مثل هذا الحيز، ولا في أضعاف أضعافه، عن كل ما يحمله التعبير القرآني من مدلولات ومفهومات وموحيات ومؤثرات!
إن الآية الواحدة تؤدي من المعاني، وتقرر من الحقائق ما يجعل الاستشهاد بها على فنون شتى من أوجه التقرير والتوجيه شيئًا متفردًا لا نظير له في كلام البشر، وإنه لمبارك في أثره، وهو يخاطب الفطرة والكينونة البشرية بجملتها خطابًا مباشرًا عجيبًا، لطيف المدخل، ويواجهها من كل منفذ وكل درب وكل ركن، فيفعل فيها ما لا يفعله قول قائل؛ ذلك أن به من الله سلطانًا، وليس في قول القائلين من سلطان! ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في تصوير بركة هذا الكتاب، وما نحن ببالغين لو مضينا شيئًا أكثر من شهادة الله له بأنه «مبارك»، ففيها فصل الخطاب!(2).
كيف ننتفع بالقرآن:
القرآن الكريم دستور المسلمين، والغاية الأساسية من نزوله العمل بما جاء فيه من الأوامر والنواهي، فهو ليس كتابًا للقراءة فحسب؛ بل جعله الله نورًا وهدى للناس ليعملوا بما فيه، وليلتزموا حدوده، قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3]، فمن ابتغى من القرآن غير ما أنزل لأجله فقد تنكَّب سواء السبيل، وضل عن هدي رب العالمين: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124].
أولًا: العمل به:
لقد غدا القرآن الحاضر الغائب، حاضر بِحُفَّاظه غائب بأثره، حاضر بقُرَّائه غائب بقيادته، حاضر بتغليفاته المبهرة، وبتزيينه للحوائط والمركبات، نقيم به الحفلات، ونعقد له المسابقات، ونبني له المدارس والمعاهد والكليات، لكن أين العمل به؟
عن ابن عمر قال: «كان الفضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها، ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يقرءون القرآن، منهم الصبي والأعمى؛ ولا يرزقون العمل به».
قال معاذ بن جبل: «اعلموا ما شئتم أن تعلموا فلن يأجركم بعلمه حتى تعملوا».
يقول عبد الله بن مسعود: «إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن وسهل علينا العمل به، وإن مَنْ بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به»(3).
إن قراءة المريض للدواء بإخراج كل حرف من مخرجه مع إجادته لفهم هذه القراءة، ومعرفة طريقة تعاطيه وأثاره وفوائده، كل ذلك لن يغني المريض عن أهم شيء وهو تناول هذا الدواء، إن المعرفة بلا عمل لا تغني عن صاحبها شيئًا، وإجادة القراءة مع ترك العمل لا فائدة فيه، فالفرق كبير جدًا بين أن تعمل بالقرآن وبين أن تقرأه، مع أن قراءة القرآن عبادة، والاعتناء به عبادة، وتلاوته وفق قواعد اللغة عبادة، وتلاوته وفق قواعد التجويد عبادة، وفهمه عبادة، لكن المصيبة في ألا تطبقه.
قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة:121]، عن عطاء قال: «يتبعونه حق اتباعه، يعملون به حق عمله»، وعن الحسن قال: «يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه».
وعن قتادة قال: «أحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وعملوا بما فيه، ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول: إن حق تلاوته أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، وأن يقرأه كما أنزله الله عز وجل، ولا يحرفه عن مواضعه».
وعن عكرمة قال: يتبعونه حق اتباعه، أما سمعت قول الله عز وجل: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس:2]، قال: إذا تبعها(4).
قال الفضيل: «إنما نزل القرآن ليُعمل به، فاتخذ الناس تلاوته عملًا».
وترك العمل بالقرآن والإعراض عنه نوع من أنواع هجره الذي حذرنا الله منه، وذم فاعله، قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، ففي هذه الآية أعظم تخويف لمن هجر القرآن العظيم، فلم يعمل بما فيه من الحلال والحرام، والآداب والمكارم، ولم يعتقد ما فيه من العقائد، ويعتبر بما فيه من الزواجر والقصص والأمثال.
ولأهمية العمل بالقرآن نجد كثيرًا من الآيات تربط بين الإيمان والعمل، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس:9]، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [العنكبوت:7].
وقد كان صلى الله عليه وسلم حريصًا كل الحرص على أن يتعلم أصحابه القرآن، ويتعلموا العمل معه، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات من القرآن لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن».
والمؤسف من حال بعض المسلمين اليوم أنهم اتخذوا تلاوة القرآن عملًا ومهنة يتكسبون بها، وبعضهم الآخر اتخذه بقصد الاستماع والترنم بأصوات قارئيه فحسب، وأسوأ من هذا وذاك أن يتخذه البعض لمجرد التبرك في بداية أعمالهم، كما تفعل كثير من وسائل الإعلام عند افتتاح برامجها وعند ختامها.
تَعَلَّم عُمَرُ البقرةَ في اثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزورًا.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بِلَيلِه إذا الناس ينامون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي أن يكون مستكينًا لينًا، ولا ينبغي أن يكون جافيًا، ولا حماريًا ولا صياحًا ولا صخابًا ولا عنيدًا»(5).
ثانيًا: الاهتداء بهداه:
القرآن جعله الله نورًا يضيء للسالكين، وهداية للحائرين، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9].
يقول سيد رحمه الله: «هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم، فيشمل الهدى أقوامًا وأجيالًا بلا حدود من زمان أو مكان، ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق، وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان.
يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور، بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق.
ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم، متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض، وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله، ولو كان هذا العمل متاعًا واستمتاعًا بالحياة.
ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة، بالموازنة بين التكاليف والطاقة؛ فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء، ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار، ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال.
ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض؛ أفرادًا وأزواجًا، وحكومات وشعوبًا، ودولًا وأجناسًا، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى، ولا تميل مع المودة والشنآن، ولا تصرفها المصالح والأغراض، الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه، وهو أعلم بمن خلق، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم، ونظام المال، ونظام الاجتماع، ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان.
ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها، وتعظيم مقدساتها، وصيانة حرماتها، فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام»(6).
بل بين الله تعالى أن هداية القرآن لا ينتفع بها أي أحد، إن هداية القرآن لا ينتفع بها إلا من سلم قلبه، وخاف ربه، يقول المولى سبحانه وتعالى: {ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2 ].
يقول سيد رحمه الله: «الهدى حقيقته، والهدى طبيعته، والهدى كيانه، والهدى ماهيته.. ولكن لمن؟ لمن يكون ذلك الكتاب هدى ونورًا ودليلًا ناصحًا مبينًا؟ للمتقين، فالتقوى في القلب هي التي تؤهله للانتفاع بهذا الكتاب، هي التي تفتح مغاليق القلب له فيدخل ويؤدي دوره هناك، هي التي تهيئ لهذا القلب أن يلتقط وأن يتلقى وأن يستجيب.
لا بد لمن يريد أن يجد الهدى في القرآن أن يجيء إليه بقلب سليم، بقلب خالص، ثم أن يجيء إليه بقلب يخشى ويتوقى، ويحذر أن يكون على ضلالة، أو أن تستهويه ضلالة، وعندئذ يتفتح القرآن عن أسراره وأنواره، ويسكبها في هذا القلب الذي جاء إليه متقيًا، خائفًا، حساسًا، مهيأً للتلقي»(7).
وقال عثمان رضي الله عنه: »لو طَهُرت قلوبكم ما شبعتم من كلام الله عز وجل»(8).
ثالثًا: تدبر آياته:
قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَل