logo

أيها الدعاة، جاءكم شهر رمضان


بتاريخ : الأربعاء ، 8 رمضان ، 1439 الموافق 23 مايو 2018
بقلم : تيار الاصلاح
أيها الدعاة، جاءكم شهر رمضان

شهر رمضان مائدة من موائد الرحمن، وموسم من مواسم أهل الإيمان، وخير وضعه الله بين يدي عباده، ويسّر لهم أسباب نواله واغتنامه، هذا الشهر المبارك الذي يُعد مدرسةً إيمانية للأمة؛ لتقترب من ربها، وتسمو بنفسها، وتراجع أهدافها وخطواتها، وتغتنم هذه الفرصة الثمينة في الدعوة إلى الله.

رمضان فرصة عظيمة لتحقيق تقوى الله وتزكية النفس، ففيه تُصفد مردة الشياطين، فلا يَصِلون إلى ما كانوا يصلون إليه في غير رمضان، وفيه تُفتح أبواب الجنان، وتُغلق أبواب النيران، ولله في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار، وفي رمضان ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فما أعظمها من بشارة، فلنكن مسارعين إلى الخيرات، متنافسين في القربات، هاجرين للموبقات، تاركين للشهوات.

شهر رمضان الكريم شهر مليء بالخيرات والبركات والنفحات، التي ينبغي لنا أن ننهل منها ونستزيد؛ طاعة وقربى إلى الله، واستزادة من الخيرات في هذا الشهر الكريم، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله؛ فإن لله نفحاتٍ من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم، وأن يُؤَمِّن روعاتكم»(1).

وفي طليعة من يجب عليهم الاستزادة من خيرات رمضان وفيوضاته هم الدعاة إلى الله؛ حيث إنهم طليعة الأمة وقادتها ومُثُلها العليا، وهكذا يجب أن يكونوا.

واستزادة الدعاة إنما تكون على عدة مستويات، سواء كانت شخصية أو عامة:

فعلى المستوى الشخصي ينبغي على الدعاة الاستزادة من الخير والثواب والفرص الإلهية والمنح الربانية في رمضان، ومن ثم يدلوا الأمة عليها، ففاقد الشيء لا يعطيه.

وعلى المستوى العام يجب عليهم الحركة والتأثير الفعال في المجتمع، وليكونوا متمثلين بالقرآن وآدابه وتعاليمه وأحكامه؛ ليكونوا قرآنًا يمشي على الأرض، كما كان سيد الدعاة وإمامهم صلى الله عليه وسلم.

وقفات مع الداعية في رمضان:

فرمضان أفضل مدرسة تربوية لكي يتدرب فيها الداعية على تقوية الإرادة في الوقوف عند حدود ربه في كل شيء، والتسليم لحكمه في كل شيء، وتنفيذ أوامره وشريعته في كل شيء، وليضبط جوارحه وأحاسيسه جميعًا عن كل ما لا ينبغي له فعله؛ ليتحصل على تقوى الله في كل وقت وحين؛ لذا كان لنا معه وقفات:

الوقفة الأولى: ابدأ بنفسك:

وليعلم الداعية أن رمضان عنده ليس كما عند عامة الناس، فإنه مكلف أن يغتنم رمضان لنفسه أولًا، ثم يجعله للناس غنيمة ثانيًا؛ إذ ما قيمة داعيةٍ استأثر برمضان لنفسه في مسجده أو معتكفه؟

وما فائدة الداعية إن لم يغنم لدعوته ثلة من الناس في رمضان؟

فكل داعية بهمته؛ فمنهم من يؤجر بأجر عشرة، ومنهم بمائة ومائتين، وغيرهم بألف وألفين، فاشحذ همتك، وشمِّر عن ساعدك، واطمح أن تُؤجر في رمضان بعدة آلاف أو ملايين وما يدريك، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].

لذا كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إذا رأى الهلال قال: «اللهم أهلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام...، هلال خير ورشد»(2).

فبمثل هذا الاستقبال النبوي الكريم يجب أن تهتز نفوس الدعاة، فيهبّوا لاستقبال رمضان كما استقبله النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وكلهم آمال، وألا تتعلق قلوبهم بسواه، أو تحن أرواحهم إلى غيره.

وليستدبروا الدنيا بمتاعها وزينتها، محققين في أنفسهم قول الحق تبارك وتعالى: {وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [القصص:60]، على المستوى الفردي.

وأول من ينبغي له الالتحاق بهذه المدرسة الفريدة هم الدعاة، ليستزيدوا من تربية أنفسهم، وتنقيتها مما علق بها على مدار العام، ويرفلوا في ثوب التقوى الرمضاني الفضفاض: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، فرمضان فرصة عظيمة للتزود من التقوى وتنميتها وترسيخ معانيها في النفس في هذا الشهر الكريم.

فليكن للداعية حال خاص مع الله في رمضان؛ ليحقق مفهوم الصوم الحقيقي على نفسه ابتداءً؛ حتى يحقق التقوى الحقيقية فيما بعد، فليكن له حال مع المواظبة على صلاة الجماعة، وتلاوة ومدارسة القرآن، والإكثار من النوافل والأذكار الراتبة، وملازمة كثرة الذكر والاستغفار في كل الأوقات.

ولا ينسى نصيبه من قيام الليل، ومجالسة الصالحين، والمكث في المساجد، والمدارسة النافعة، وليكن له حال خاص مع القرآن تلاوةً ومدارسةً وفهمًا وتطبيقًا.

فهذه الطاعات وغيرها هي الوقود الدافع للداعية في حركته والتأثير بين الناس، فحسن الصلة بالله، والإخبات له، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى هي من أهم المعينات للداعية على طريق الدعوة إلى الله.

فالداعية لا بد أن يكون قدوة صالحة يُقتدى بها، فلا يُعقل أن يدعو الناس للخير ولا يأتيه؛ بل عليه أن يقود الناس بفعله قبل قوله، فليرَ الناس منَّا أفعالًا لا أقوالًا، وليؤثر الدعاة في الناس بحركتهم وأفعالهم بين الناس، لا بخطبهم الرنانة والمواعظ المنمقة.

الوقفة الثانية: التفاعل مع قضايا الأمة:

إن من أهم معاني ودروس وقيم رمضان، التي يغرسها في نفوسنا ويربينا عليها، الشعور بآلام وهموم الآخرين، وعدم المعيشة كلٌّ في جزيرة منعزلًا عن الآخر، فرمضان يعلمنا الوحدة والترابط والتماسك والتآلف.

فكوننا نصوم في وقت واحد، ونفطر في وقت واحد، ونلتزم بضوابط لازمة وحاكمة لصحة الصوم، ونتعهد بعضنا البعض لسد الاحتياجات والإعانة على مشقات الصوم وتبعاته، وكذلك حرصنا على صلاة الفروض والنوافل جماعة؛ فكل ذلك وغيره من حكم الصيام التي تجعلنا نهتم بغيرنا لإعانته على العبادة والطاعة.

هذا على المستوى الفردي، فما بالنا بالمستوى الجماعي والعام للأمة كلها، وما آلت إليه من هوان لا يخفى على أحد؟! فإذا كان ذلك هو حال الأمة فإن من أوجب واجبات الدعاة أن ينهضوا بما يفرضه عليهم دينهم وعلمهم؛ بأن يهتموا بقضايا الأمة وبكل شئونها، وأن يجعلوا من رمضان فرصةً حقيقيةً لنشر هذه القضايا وزيادة الوعي بها، وبحث كلِّ السبل الممكنة لعلاجها، أو على الأقل محاولة علاجها والإعذار إلى الله، وتقديم جهد المقل بها.

فرمضان فرصة للتلاقي بين الدعاة والناس، وفرصة لرقة القلوب، وصلتها الوثيقة بالله، ورقتها واستعدادها للتقبل؛ لذا فعلى الدعاة اغتنام هذه الفرص وحسن توظيفها لتنبيه الناس وتفعيلهم مع قضايا أمتهم ومجتمعاتهم.

وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»(3).

وعلى المستوى الداخلي نجد أن المرأة المسلمة تحارَب في حجابها، والشباب يفتنون بوسائل الهدم وإغراءات الشيطان وملذات الهوى، وهو ما يتطلب من المسلم الصائم القائم أن يعايش هذه القضايا الكبرى، بمشاعره وبماله وبدعائه وبتوعيته لإخوانه المسلمين، وبالعمل الجاد لجمع كلمة المسلمين؛ ليكونوا صفًّا واحدًا، ولا يتنازعوا فيفشلوا.

إن الواجب على الدعاة هو ضرورة تبصير الناس بقضايا الأمة، وبيان ضرورة التفاعل معها، والتأكيد على المعاني الشرعية والإيمانية في أهمية هذه القضايا، وحث الناس على البذل والتضحية من أجل هذه القضايا، والاستفادة من شهر رمضان وتضاعف الأجر فيه لزيادة العطاء، وإعانة المحتاجين والملهوفين من إخواننا المسلمين في شتى البقاع.

وكذلك التأكيد على ألا يحقّر المسلم نفسه وعطاءه، ففي كل مسلم خير، وأن نرسّخ مبدأ أن مساندة إخواني المسلمين، ولو بالقليل، هو لنصرة الإسلام وإفراغ للوسع والجهد.

وضرورة التأكيد على مراعاة فقه الأولويات، فإنه توفير للجهد والوقت، وألا ننفق الأموال على النوافل ونقدمها على دعم المحتاجين في عالمنا الإسلامي.

مع ملاحظة أن البذل والعطاء والتضحية لا تقتصر على الماديات فقط، وبيان أن في الجوانب الروحية والإيمانية عطاءً وخيرًا أيضًا، لمن لا يملك العطاء المادي، ومن يملك أيضًا، ومن ذلك كثرة الدعاء عند الفطر، وفي أدبار الصلوات، وفي السحر وساعات القبول.

وضرورة التأكيد على أننا إذا نصرنا الله في إخواننا فسينصرنا الله على أعدائنا، فلنعمل جادين في هذا الشهر الفضيل على أن نحقق في ذوات نفوسنا قوله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].

التركيز على الشباب:

الشباب في كل أمة عماد نهضتها، وسر قوتها، وحامل رايتها: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13].

فبالتركيز على الشباب وتنشيطهم، وإفهامهم حقيقة قضايا الأمة وضرورة انشغالهم بها لا عنها، وضرورة أن يكونوا إيجابيين معها، وإحياء الحمية في نفوسهم ببعض الأسئلة؛ مثل: ماذا قدمت لأمتك ودينك ووطنك؟، وضرورة بيان عظم الدور الذي ينتظرهم، وضرب بعض الأمثال الإيجابية في الاهتمام بقضايا الأمة القديمة والحديثة، والتركيز معهم على ضرورة تحديد الهدف والتركيز عليه، وعدم الالتفات إلى الملهيات عن تحقيق الأهداف، ومعرفة أنه كلما سَمَا الهدف سما الجهد المبذول لتحقيقه.

ومن هنا تبرز أهمية العمل الجاد والحثيث لدين الله، وبيان أن العمل لدين الله ونشر الدعوة أنبل المهام وأسمى المطالب، وهو وظيفة العمر كله {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، وإن الدعوة ونشر الخير بين الناس ليس وقفًا على العلماء والدعاة وطلبة العلم، فكل مسلم، بانتمائه للإسلام، عامل للدين، مهما كان خطؤه وتقصيره.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا؛ ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان»(4).

الوقفة الثالثة: رمضان فرصة حقيقية للتغيير:

إننا بحاجة ماسَّة إلى أن نستثمر هذه النفحات الربانية في هذا الشهر الفضيل لتوجيه أنفسنا نحو الأفضل، وعلاج ما بها من أسقام وعلل؛ فتزكو بروح الإيمان، وتسمو بفيض القرآن؛ وليكن رمضان محطة روحية تبعث فينا روح الجدية، لنعد عدتنا، ونأخذ أهبتنا.

ومن الثابت أن باعث التغيير داخليٌّ في الأساس؛ لذا فهو يكسب النفس ثقافةً وسلوكًا، يهيمن عليها وعلى سلوكها، ضابطًا لتصرفاتها، حاكمًا لكل تصوراتها، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس:9-10]؛ وذلك لكون المعركة الحقيقية إنما هي مع النفس قبل أن تكون مع الأعداء.

ولقد يسَّر الله سبحانه وتعالى لنا سبل تغيير النفس في رمضان؛ فأبواب الخير مفتحة، ونوافذ الشر موصدة، «إذا جاء رمضان فُتِّحَتْ أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين»(5)، فماذا بعد بفتح أبواب الجنان وغلق أبواب النار وتصفيد الشياطين؟

ومن أهم شروط التغيير الرغبة الحقيقية في التغيير، ومعرفة كيفية التغيير، وأن يكون التغيير عملًا لا قولًا، وإدراك أن التغيير لا يأتي من الخارج؛ بل يأتي من الداخل {إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]، ثم العزيمة الصادقة على القيام بهذا التغيير، والتحلي بإرادة صلبة، وعزيمة قوية، ولنكن مفعمين بالتفاؤل، ومجاهدين لأنفسنا، فرمضان فرصة عظيمة لتربية ذواتنا، وبناء علاقات إيجابية مع الآخرين.

إن تغيير النفوس للأفضل ليس أمنيةً مجردةً؛ بل هو حركة دءوبة على أرض الواقع، لتخلية النفس عن النقائص، وتحليتها بكل ما يطهِّرها؛ ليُرَى أثره في أقوالنا وأخلاقنا ومعاملاتنا، ومع أهلينا وجيراننا والناس من حولنا.

قد تفتر همتك، أخي الداعية، وقد تضعف غيرتك على محرمات الإسلام، وقد تتوانى عزيمتك، فيأتي رمضان ليشد من أزرك، ويوقظك من رقادك، وينبهك من غفلتك، فتتحرك بدعوتك، وتنشط بها، وتتفاعل مع أحداث مجتمعك، وتبتكر من الوسائل والأساليب التي تعينك على تحقيق ما تريد وما تصبو إليه، ولتتذكر، أخي الحبيب، سيرة حبيبك المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكيف تتغلب على الصعاب، وواجهها لتحقيق ما يريد؛ نصرة لدين الله، وليكن شعارك قوله صلى الله عليه وسلم: «لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم»(6).

إن أولى خطوات التغيير الحقيقي في هذا الشهر الكريم ينبغي أن ترتكز على الإخلاص التام لله، والحياء منه، وخشيته، ومحاسبة النفس؛ ليكون ذلك دافعًا لنا طوال حياتنا بعد ذلك بإذن الله، كما علينا أن نتوب توبةً صادقةً نصوحًا؛ فإنها واجبة في كل وقت وحين، وهي في هذه الأيام الفضيلة أوجب، ولنحرص على الإكثار من العبادة في هذا الشهر، وخاصةً قيام الليل والتهجد وقراءة القرآن وتدبره ومعايشته وتطبيقه في ذات النفس وواقع الحياة، وذكر الله واستغفاره والدعاء والابتهال إليه، ولنحذر من الملهيات من حولنا حتى لا يضيع وقتنا، ولا نَنْس الإكثار من التصدق والعطف على اليتامى والمساكين وإفطار الصائمين.

ورمضان موسم التزاور والتقرب والاختلاط المحمود بين الناس؛ فلنجعله كذلك وزيادة بتحويل العادات إلى عبادات، وجعل نيتنا الدعوة إلى الله والتقرب إليه بتلك الزيارات، ووضع أهداف محددة لها وبذل الجهد لتحقيقها.

ولنحاول جاهدين أن نصبح من المتقين المتأثرين بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183](7).

لماذا رمضان فرصة؟

لو تفكر كل واحد منا في طبيعة حياته ومسيرة أوقاته فسيدرك أننا نعيش كل ثانية وكل دقيقة بفرصٍ وأنفاسٍ لن تعود، وأن هذه الأيام التي نقطعها ونفرح بها لبلوغ غاية أو لنيل مقصدٍ محببٍ للنفس، ستئول في النهاية إلى النقصان من العمر، سواء شعرنا أم لم نشعر، وحينها لا مناص ولا فرار من الله إلا إليه، لاغتنام هذه الأوقات بالنافع المفيد، وترك اللهو واللعب والأوقات الفارغة، التي لا تسمن ولا تغني من جوع؛ بل قد تجلب الحسرة والمرارة التي تعتصر قلب المرء، يوم أن يقول لربه: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99-100].

إن من أعظم الفرص؛ بل هي الجامعة لكل الفرص، التي نجتنيها ونكتسبها في شهر رمضان، فرصة العبودية لله، والقيام بحقه، والتوجه إليه، والانطراح بين يديه، فهي الحقيقة الكبرى في الكون والحياة، وجميع الفرص الأخرى متفرعة عن هذا الأصل العظيم، الذي تندرج وتصب فيه كل أعمالنا وعباداتنا ومعاملاتنا.

العزم والتخطيط المسبق للاستفادة من رمضان:

فالكثيرون من الناس، وللأسف الشديد، حتى الملتزمين بهذا الدين، يخططون تخطيطًا دقيقًا لأمور الدنيا، ولكن قليلون هم الذين يخططون لأمور الآخرة، وهذا ناتج عن عدم الإدراك لمهمة المؤمن في هذه الحياة، ونسيان أو تناسي أن للمسلم فرصًا كثيرة مع الله، ومواعيد مهمة لتربية نفسه حتى تثبت على هذا الأمر، ومن أمثلة هذا التخطيط للآخرة التخطيط لاستغلال رمضان في الطاعات والعبادات، فيضع المسلم له برنامجًا عمليًا لاغتنام أيام وليالي رمضان في طاعة الله تعالى.

مقترحات عملية لاغتنام الفرص الرمضانية:

وبما أن الفرص كثيرة، والمغانم في هذا الشهر غزيرة، فحري بالعبد المؤمن أن يسعى لاكتسابها ويحاول تطبيقها؛ ليخرج من العيش في ظلاله بنتيجة ترضيه حين يراها في صحائف أعماله، {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]، وإن من هذه الفرص الجليلة:

العطاء: فهذا الشهر يعطينا فرصًا كثيرة للعطاء وتقديم الخير للناس، وإكرامهم وإسبال الجود عليهم، من قبيل: تفطير الصوَّام، والتصدق بالمال، وتعليم الناس العلم، والسعي في خدمة المحتاجين والمكروبين، وهو فرصة لكي يحرص رواد وقواد العمل الخيري في شهر رمضان على مزيد من العطاء، وبذل الإيجابية الفعالة في أوساط الناس.

العمل: فشهر رمضان يعطيك دفعة حركية، ووقودًا حيويًا، وطاقة مستمرة في العمل، فأنت في هذا الشهر تصلي لله تعالى القيام وصلاة التراويح، وأنت في هذا الشهر تتصدق، وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاهدون فيه لإعلاء كلمة الله، فهو كذلك فرصة للمجاهدين في جميع بلاد المسلمين المحتلة ليستثمروا طاقاتهم للمقاومة والجهاد للكفار، ونصرة الإسلام والمسلمين.

الإنجاز: فمن صام شهر رمضان كاملًا فقد أنجز إقامة هذا المشروع الكبير على أتم ما يرام، وهو بهذا يعطيك دفعة روحية لإنجاز أعمالك والتمرن عليها، وترك التسويف والتسويغ غير اللائق، الذي لن يجني المرء منه سوى الهم والغم.

التنظيم: من يتأمل هذا الشهر الكريم يجد دقة التنظيم، فلا يدخل وقت في وقت، فللصيام وقت، وللإمساك وقت، وللإفطار وقت، وهو بهذا يكسبك دفعة إلى الأمام لكي تُحسِن استغلال وقتك بالنافع المفيد، وتحاول تنظيم وقتك وساعاتك لكي تقوم بالعمل وتنجزه على قدم وساق.

الدعوة: فالناس يكونون في هذا الشهر راغبين في كل خير، كما أنه في هذا الشهر تصفد الشياطين، وتكون فيه القلوب إلى الخير أقرب، فهي فرصتك لكي تدعو أقاربك وأرحامك وجيرانك، فهذا الشهر فرصة دعوية، يستغل الداعية فيه جميع إمكاناته لنشر دعوة الإسلام؛ لدعوة من يستطيع دعوته من الأمة المسلمة.

التكافل الاجتماعي: هذا الشهر الكريم فرصة ذهبية لبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الإخوان، وحمل هموم الأمة المسلمة بالقيام بأداء حقوقها؛ فيتفقد المحتاجين والمعوزين والفقراء والمساكين، ويقوم بخدمتهم وأداء حقوقهم، ويتعاون مع الجمعيات الخيرية، ويدلها على الفقراء والمساكين والذين لا يسألون الناس إلحافًا، وكذلك يقوم بإخراج الزكاة إن حان موعدها في هذا الشهر الكريم، ويصرفها في أهلها الذين يستحقونها، ويشعر بشعور الضعفاء والفقراء، ويحاول قدر الإمكان أن يقدم لهم خدماته، والله عز وجل سيجزيه خير الجزاء.

تقوية الإرادة: فهي فرصة عظيمة لمن يبتغي الخير في هذا الشهر الفضيل، يستطيع من خلالها أن يستثمر روح الإرادة، التي جعلته يصوم نهار رمضان كاملًا، ومن كان كذلك فهو يستطيع أن يقلع عن التدخين، وعن شرب المخدرات والمسكرات المحرمة، في هذا الشهر وغيره من الشهور، ويسيطر على شهواته ونزواته وأهوائه ورغباته التي تحول بينه وبين إرادته وعزيمته، وصدق الشيخ مصطفى السباعي إذ قال: «الصيام رجولة مستعلنة، وإرادة مستعلية»(8).

كسب التائبين: من المعلوم أن الشياطين في شهر رمضان تصفد، فيا حبذا استغلال إقبال القلوب على الخير والعبادة، فهناك كثير من التائبين يعلنون توبتهم، ويقلعون عن ذنوبهم ومعاصيهم، فهو فرصة للمربين لكي يبذلوا طاقاتهم في تربية هذه النفوس المقبلة على العبادة، وإفادتها ببرنامج تربوي لتقوية الإيمان وأواصر الخير في القلوب الكسيرة التائبة.

التحفيز: فهذا الشهر يحفز النفوس المؤمنة، ويفجر الطاقات الكامنة في النفوس للعمل لما يرضي الله تبارك وتعالى، ففيه تحفيز لمجاهدة النفس، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: «يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي»(9)، كما أن في كل ليلة فيه عتقاء، وذلك بسبب صيامهم وتقواهم لله عز وجل، فهذا التحفيز الكبير للقلوب سبب رئيس في الاستمرار بالصيام والقيام، فإن: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»(10)، فأي أجر وأي تحفيز أعظم من هذا؟

استغفار الأسحار: فرمضان فرصة للاستغفار في وقت فضيل، يكون أكثر المسلمين عنه غافلين، وهو وقت السحر، وخصوصًا أن هذا الوقت هو وقت سحوره وطعامه قبل أن يبدأ الصيام مع طلوع الفجر، فهذه الفرصة غنيمة باردة، ينبغي للعبد المؤمن أن يقتنصها للاستغفار في هذا الوقت الفضيل، الذي يتنزل فيه رب العالمين، ليغتنم العبد فرصته، ويكتسب غنائم الأجر في هذا الوقت، ولقد ذكر الله من صفات المؤمنين في محكم التنزيل حيث قال: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:17]، وقال: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18].

مراجعة القرآن: شهر رمضان فرصة لمن تفلَّت عليه حفظ القرآن، ليقوم بمراجعته آناء الليل وأطراف النهار، وليقوم به الليل، ويقرأه متدبرًا لما فيه من أحكام ومعانٍ، وقد كان حال سلفنا الصالح عجبًا في تأمل القرآن وختمه في هذا الشهر العظيم.

تنقية القلوب: في هذا الشهر العظيم أيضًا فرصة لتجديد العلاقات الأخوية، وإعادة صلة ما قطعه القريب مع أقاربه؛ بسبب خلاف أو شجار، فيستعيذ بالله من الشيطان، ويجعل قلبه سليمًا، لا غلَّ فيه ولا حقد ولا حسد، ويجدد علاقاته مع أقاربه وأرحامه وخلَّانه على ميزان الشريعة، مع القيام بالحقوق التي افترضها الله من حقوق المسلم على المسلم، كما أن من المهم استغلال هذا الشهر الكريم للإصلاح بين القلوب المتشاحنة، والأفئدة المتباغضة، ففي هذا أجر عظيم وفضل كبير كما هو معلوم.

التجديد والتغيير: فهذا الشهر الكريم فرصة مباركة ويانعة، لمن يريد تجديد الإيمان، والتغيير إلى الأفضل، وهو نقطة انطلاقة عملية لإزالة الران عن القلوب بسبب تراكم الذنوب، وهو فرصة لتطوير النفس والرقي بها بما يرضي ربها سبحانه وتعالى؛ لتدرك يقينًا أنها قد غيرت فعليًا من مجرى حياتها إلى ما كانت تتوق إليه وتتمنى تطبيقه.

الصبر: يستطيع المرء من خلال هذا الشهر أن يتعلم، في دورة مكثفة، معاني الصبر الثلاثة، من الصبر على طاعة الله في صيام رمضان، ومن الصبر عن معاصي الله بالإقلاع عن قبيح القول والكلام وكل ما لا يرضي الله في هذا الشهر الكريم، ومن الصبر على ما قدَّر الله وقضاه من فرض صيام هذا الشهر الكريم بالكمال والتمام، ورضي الله عن الأحنف بن قيس الذي قيل له: «إنك شيخ كبير، وإن الصيام يضعفك»، فقال: «إني أعده لسفر طويل، والصبر على طاعة الله سبحانه أهون من الصبر على عذابه».

تربية الأولاد: فالأب المربي والأم المربية يستطيعان من خلال هذا الشهر بث الفضائل في قلوب أولادهم، وهجر الرذائل، وتحبيب الصيام والقيام والقرآن لهم، بشتَّى الأشكال وأنواع التشويقات، وما أحلاها من جلسة يجمع فيها الأب أولاده قبل الإفطار بنصف ساعة، ويلقي عليهم درسًا مما يعلمه أو حتى من كتاب ميسَّر، ويشرح لهم ما لا يعلمونه، ثم قبيل الأذان يرفع يديه هو وأولاده بالدعاء والتضرع، وقرع أبواب السماء بجميع الأدعية المأثورة والطيبة.

الدعاء: من أفضل الأوقات التي يشعر فيها قلب المؤمن بالطمأنينة والسعادة ساعات المناجاة لله رب العالمين، وخصوصًا في شهر رمضان، الذي جاءت آية الدعاء من بين الآيات الحاثة على صيام هذا الشهر العظيم، تذكيرًا بأهميته في هذا الشهر، فيتوجب على المسلم ألَّا ينسى نفسه وإخوانه المسلمين من دعوة صالحة صادقة، يقوم بها داعيًا رب العباد، لعل الله تعالى أن يفرج عنه وعن جميع المسلمين همومهم وكروبهم(11).

عليك، أيها الداعية الصائم، أن تحسن إعداد خطتك الدعوية الرمضانية مع أهل مسجدك وحيِّك، ومع أهل صنعتك ومهنتك، ومع أهل بيتك وأولادك وقرابتك، ومع أصحابك وأقرانك وإخوتك، واعزم على أن تضرب من كل عمل صالح بسهم، واجتهد في إيصال الخير إلى الغير {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} [محمد:21]، وأعد عدتك وأرِ الله خيرًا من قلبك، وصفِّ نيتك وإرادتك، وقل: إياك أريد بما تريد، قال الفضيل بن عياض: «إنما يريد الله عز وجل منك نيتك وإرادتك، فلا تقعد بك همتك فتكون ممن قد يقال لهم: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46]».

أيها الداعية الرمضاني، هلم مع أهل المسجد إلى مدارسة يومية لكتاب الله بعد الفجر، وأقبل على درس تربوي عام بعد صلاة العصر، وشارك في إقامة التراويح بصوتٍ ندي، ونبه إلى أحكام رمضان في الصيام والقيام، وذكر بفضائل ليلة القدر واغتنام سائر العشر، وأكثر من توزيع المطويات والنشرات التي توعي الخلق بأصول دينهم، وتنبههم إلى ما لا يتفطنون له من المخالفات والآثام، وظِّف طاقات الشباب من حولك، فقد أهلَّ علينا الهلال في وقت العطلة الصيفية، وهو توقيت ملائم للاجتهاد في العبادة والدعوة معًا.

ثم إن للمرأة الداعية نصيبًا أي نصيب؛ فهي تعمل بالخير، وتسعى بالنصيحة بين بنات جنسها، وهي أنجح في هذا العمل من دعوة الرجال لها، فعلى المرأة الداعية أن تجتهد في طاعة ربها، ونفع صديقاتها وقريباتها؛ بإيصال الكتيب النافع، بإهداء الشريط المسجل والقرص الالكتروني، وبجمع الصدقات وإيصالها إلى الأخوات المحتاجات، وهكذا تتنوع سبل الدعوة في رمضان، فإذا شارف الشهر على الانتهاء فدعوة متأكدة لصلاة العيد، والتذكير بصدقة الفطر، والتنبيه على ما تمس الحاجة إلى بيانه من آداب العيد، وما ينبغي أن يكون عليه المسلم من العهد بعد رمضان(12).

***

__________________

(1) السلسلة الصحيحة (1890).

(2) أخرجه ابن حبان (888).

(3) أخرجه مسلم (2586).

(4) أخرجه مسلم (2664).

(5) أخرجه مسلم (1079).

(6) أخرجه البخاري (3009).

(7) وقفات مع الدعاة في رمضان، وليد شلبي.

(8) أحكام الصيام وفلسفته، ص89.

(9) أخرجه البخاري (1894).

(10) أخرجه البخاري (38).

(11) اغتنم فرصتك في رمضان، موقع: المسلم.

(12) الدعوة إلى الله في رمضان، محمد يسرى إبراهيم.