logo

أفضل الزاد في شهر العبادات


بتاريخ : الأحد ، 3 رمضان ، 1441 الموافق 26 أبريل 2020
بقلم : تيار الاصلاح
أفضل الزاد في شهر العبادات

أعظم مقام يتشرف به الإنسان، وأعلى منزلة يضع نفسه فيها هي منزلة العبودية لله تعالى؛ فهي الشرف الأسمى، والمقام الأسنى، تشرف بها أفاضل الخلق، وفخر بها خيرة البشر، {لَنْ يَسْتَنْكِفَ المَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا للهِ وَلَا المَلَائِكَةُ المُقَرَّبُونَ} [النساء: 172]، {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19]، ووصف بها النبي صلى الله عليه وسلم في أشرف درجة صعدها، وأعلى منزلة تبوأها، لم ينلها أحد قبله، ولا يصل إليها أحد بعده، فقال الله سبحانه في الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1]، وفي رحلة المعراج قال سبحانه: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النَّجم: 10]، فلم يقل أسرى وأوحى إلى نبيه أو رسوله أو محمد، وإنما قال: أسرى بعبده، وأوحى إلى عبده، مما يدل على أن أشرف المقامات هو مقام العبودية لله تعالى، وكلما كان الإنسان أكثر عبودية لله تعالى كان أعلى منزلة، وأسمى مقامًا، وأكثر شرفًا؛ ولذا كان الملائكة والرسل أفضل الخلق وأشرفهم عند مجموع البشر، وبإجماع العقلاء؛ لأنهم أكثر الخلق عبودية لله تعالى.

ويكفي في العبودية لله تعالى أنها الغاية من خلق الثقلين، وتسخير المخلوقات لهم؛ {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ولأجلها أرسل الله تعالى الرسل، وأنزل الكتب؛ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

وفي شهر رمضان المبارك تتجلى أسرار خوالد، وتترادف حلقات حِكَم بواهِر، يَتَضَوَّأ بعضُها على بعض، بحيث لا يُمَل كثرةُ الحديث عنها، فلا تخْلَق جِدَّتُه، ولا يَبْلى ترجيعُه، ولا تُسْأَمُ سيرتُه، بل قد يحلو إذا أُعيد وتكرر، كما يحلو مذاق الشهد عند تكريره.

ولأجل ذا ما برحت النفوس المسلمة تشرئب لمثل هذه الإطلالة السنوية والتي تعم المدر والوبر ما عم الأجدَّان: الليل والنهار.

فلا غروَ إذًا عباد الله، حين نسلط الضوء ولو قليلًا على ما نصحح به بعض مفاهيمنا أو رتابتنا مع شهر رمضان، وما نحيي به ما تراكم عليه غبار النسيان في النفوس، حين يتخذ كثير من الناس في هذا الشهر صورة تقليدية تحكمها حركة العادة، لا حركة العبادة.

ففي هذا الشهر المبارك تُشَدُّ النفوسُ إلى الدين والتديُّن، يذكرهم هذا الشهر بحق الله تعالى عليهم، تُشَمُّ رائحة التديُّن في أكثر من مجلس يُجلس فيه، يُحَث بإقبال الناس على العبادة والعمل الصالح، حتى إنهم يرفعون بذلك درجة الاستعداد لتغيير ما في النفوس، حتى يغير الله ما بهم: {إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].

يشعر الكثيرون في هذا الشهر المبارك بضرورة هذا الدين لهم، كضرورة الماء والهواء، ثم إن كل أمة تهمل أمر دينها، وتعطل كلمة الله في مجتمعها، فإنما تهمل أعظم طاقاتها، وتعطل أسباب فلاحها في الدنيا والآخرة.

وكل أمة يُفْقَد التدين في مجتمعها، فلا جرم أن أمورها تضطرب، ويموج بعضُها في بعض، فيقلب الله عزها ذلًا، وأمنها خوفًا، وإحكامها فوضى.

في شهر رمضان المبارك ترتفع معايير القوة لدى المرء المسلم؛ بحيث يصعب اهتزازه، إذا هو أحسن الإعداد فيه، وأدرك سرًا عظيمًا من أسرار هذا الشهر، قد تمثل في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل شهر رمضان فُتِّحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النيران، وصُفِّدت الشياطين» (1).

يقول ابن القيم رحمه الله معلقًا على هذا الحديث: لأن في الصوم تضييق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب (2).

فالخشية إذًا كل الخشية على أنفسٍ مسلمة لم تجعل للشيطان حسابًا في واقعها، وباتت غير آبهة بمكره وألاعيبه، هو وجندُه من الجن والإنس: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] (3).

عن أبي أمامة، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: مرني بأمر آخذه عنك، قال: «عليك بالصوم فإنه لا مثل له» (4).

وفي لَفْظٍ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال: «عليك بالصوم فإنه لا عدل له» (5).

عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله عند كل فطر عتقاء، وذلك في كل ليلة» (6).

وأما من جهة أثر الصيام على العبد، ومدى تحقق العبودية به؛ فإن الصوم عبادة الإخلاص والصبر، فداعي الرياء فيه ضعيف؛ لأنه عبادة ترك لا فعل، والفعل يرى، والترك لا يرى، فيصوم الشخص ولا يعلم عن صيامه أقرب الناس إليه، ففيه تهذيب للنفس ورياضة لها على الإخلاص في الأعمال كلها.. والإخلاص في العبادة هو أساس العبودية وركنها الأهم؛ فكل عبادة بلا إخلاص تخرج صاحبها عن العبودية الحقة لله تعالى إلى عبودية غيره، وأهل العبودية مأمورون في عبادتهم بالإخلاص لله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البيِّنة:5]، {أَلَا للهِ الدِّينُ الخَالِصُ} [الزُّمر:3]، ولذا «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه» (7).

وهو كذلك عبادة الصبر؛ لأن الكف عن المشتهيات يحتاج إلى صبر، والعبودية لا تتحقق إلا بالصبر، والتجربة قد دلت على أن العبد حال صيامه يترك كثيرًا من المحرمات التي يقارفها في غير وقت الصوم، ويصبر عنها أكثر من صبره حال فطره؛ وذلك أنه لما أمسك عن شهوة الطعام والشراب والنكاح وهي أعظم الشهوات وأكبر اللذات، وأقواها تأثيرًا في النفوس؛ كان إمساكه عما دونها من شهوات النظر والكلام والفعل المحرم أهون.

ولأن الصبر من أميز ما في الصوم من معاني العبودية فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمى به شهر رمضان؛ لأن الصيام فيه على وجه الإلزام لا الاختيار فقال صلى الله عليه وسلم: «صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وحر الصدور» (8).

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يذهب كثير من وحر صدره فليصم شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر» (9)، ولا غرابة حينئذ أن يتولى الله تعالى جزاء الصوم لما تحقق فيه من الإخلاص والصبر، وينسبه إليه سبحانه دون سائر الأعمال الصالحة؛ كما في حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «يقول الله عز وجل: الصوم لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي، والصوم جنة، وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» (10)، وهذا الحديث يلتئم مع آية ثواب الصبر {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزُّمر: 10]، والصوم صبر.

إن رمضان سيأتي ويمضي كما مضى في أعوام سابقة، وستكون أعمال العباد فيه متفاوتة، فكن يا عبد الله ممن فهم معنى العبودية في الصيام، وسعى لتحقيقها كما أمر الله تعالى، واستعن به سبحانه على بلوغ الكمال في العبادة، وتحقيق أعلى درجات الطاعة؛ فإن الاستعانة بالله تعالى على تحقيق ما يرضيه أنفع للعبد من أي شيء آخر؛ لأنه لا حول ولا قوة إلا بالله.

والقلب فقير إلى الله تعالى من وجهين: من جهة العبادة وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل وهي العلة الفاعلة؛ فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا ينعم ولا يسر ولا يلتذ ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن؛ إِذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة (11).

شهر رمضان أيام قلبية في الزمن؛ متى أشرفت على الدنيا فكأن الزمان يقول لأهله: هذه أيام من أنفسكم لا من أيامي، ومن طبيعتكم لا من طبيعتي، فيقبل العالم كله على حالة نفسية بالغة السمو، ويتعهد فيها النفس برياضتها على معالي الأمور ومكارم الأخلاق، ويفهم الحياة على وجه آخر غير وجهها الكالح، ويراها كأنما أجيعت من طعامها اليومي كما جاع هو، فيزهد فيها، وكأنما أفرغت من خسائسها وشهواتها كما أفرغ هو فتسمو أخلاقه، وكأنما ألزمت معاني التقوى كما ألزمها هو، وما أجمل وأبدع أن تظهر الحياة في العالم كله -ولو يومًا واحدًا- صائمة نهارها، قائمة ليلها، فكيف بها على ذلك شهرًا من كل سنة؟

ولذلك فإن الصيام تغيير كامل للحياة لا مجرد الامتناع عن الطعام والشهوة مدة من الزمن؛ ولهذا لا بد أن يكون للصائم مشاهد في هذه العبادة يجد آثارها في قلبه، فإن هذه العبادة تُطْلِعُه على رياض مونقة من أنواع العبودية المختلفة ومن مشاهد العبودية في الصيام:

فأول مشهد يشهده الصائم مشهد التوحيد، فيشهد قلبه عظمة الله جل جلاله وعلوه على خلقه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فهو الغني لا يحتاج إلى شيء، ولا يحتاج إلى أحد، ويشهد العبد من نفسه ذله وفقره وفاقته وحاجته، فامتناعه عن الطعام والشراب سويعات قليلة يرخي جسمه، ويفتر عقله، ويثقل لسانه، ويمنع عقله عن التفكير إلا فيما هو محتاج إليه من الأكل والشرب.

وشهود العبد مشهد التوحيد هذا نافع له في صيامه وإفطاره، فإنه يشهد عظمة ربه وغناه وقدرته سبحانه: {يَسْأَلُهُ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ} [الرحمن: 29]، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3]، وشعور القلب بهذه العظمة يملؤه غنى، ويمنح القلب قوة في السير إليه سبحانه، وهذا الشعور بالغنى يستغني به العبد عن رؤية المخلوقين والتوكل عليهم والارتباط بهيم والتعلق بهم، وتطهير القلب من آفات لا تعد ولا تحصى.

وعظمة رمضان أنه في كل يوم منه يأتي العبد بكل هذه الأنواع من العبودية، فإن الإنسان يصوم النهار، فيحتاج إلى الصبر؛ الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية في ذات الوقت، وهو أيضًا صائم ويرى الطعام والشراب يلمعان بين عينيه ولا يقدر عليهما، فيتذكر ألم المحرومين الذين يرون ما يشتهون ولا يقدرون عليه لفقر أو مرض أو غير ذلك فينشغل بالشكر.

فيظل العبد المؤمن يعيش أيام رمضان ولياليه متلبسًا بتلك العبودية المترادفة بين الشكر والصبر، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]، وقال سبحانه: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ} [النحل: 126- 127]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له» (12).

وشهر رمضان له علاقة حميمة بالأخلاق السامية، والمعاني الرفيعة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصوم جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ولا يصخب ولا يجهل، وإن سابه أحدٌ أو قاتله، فليقل: إني صائم» (13).

وكأن هذا الحديث وضع أصولًا لأخلاق الصائمين:

أولها: أن الصائم هادئ النفس، ليِّن الطبع، في غاية الاحترام، فإنه يستشعر المراقبة حال الصيام، فلا يرفث أي لا يتكلم في الجماع ومقدماته.

ثانيها: لا يفسق: أي إنه لا يخرج عن حدود الأدب، لا في القول ولا في العمل، بل هو منضبطٌ إلى أقصى حد.

ثالثها: لا يصخب: لا يرتفع صوته؛ لأن الصيام نوعٌ من السكون، يقال صامتِ الدابة أي سكنت عن الحركة، وصامت الخيل أي سكتت عن الصهيل، فأصل الصيام نوع سكون، وقد فهم الصائم هذا النوع من التعبد فلا يصخب، إنه يكره الضجيج ويحب السكون والسكوت؛ لأنه أجمع لشمل قلبه على ربه.

رابعها: ولا يجهل: والجهل أنواع، وأبو جهل لا يبالي، وآباء الجهل كثيرون، الصائم لا يجهل، وكل معصية جهالة، وكل ما عصي الله به فهو جهل، وكل عاص جاهل، والذي يعامل الناس بما يكرهون يجهل عليهم لأنه يجهل حقهم وهو معاملتهم بالحسنى؛ لذلك أمر الصائم أن يتذكر دومًا ليعلم أنه صائم فيقول: إني صائم.

خامسها: وهو الأهم أنه إذا أوذي أو اعتدى عليه أو أضر به أحد، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن سابه أحد أو قاتله»؛ فإن المبدأ الإِسلامي العظيم يبرز هنا جليًّا وهو: رد السيئة بالحسنة.

هذا الخلق المفقود في حياة المسلمين اليوم، وإني أعتقد أن كثيرًا من منظومة الأخلاق في الإِسلام مفقودة، والأخطر من ذلك أن تستبدل هذه الأخلاق وتتحول أخلاقيات أهل الغرب هي الأصل، وتصبح الأمثلة الشعبية والمقولات العامية أصولًا لأخلاق المسلمين في عصرنا، فصارت الدعوة إلى ظلم الناس لئلا تظلم هي الأصل عند الكثير (14).

بعض الناس يظن أن الصيام كبت وحرمان، ولكني أقول لهم: إن الهدف من الصيام ليس الكبت والحرمان، وإنما الصيام وسيلة إلى غاية نبيلة، إنه التدريب على السيادة والقيادة، قيادة النفس وضبط زمامها، وكلها عن أهوائها ونزواتها، بل إنه التسامي بتلك القيادة إلى أعلى مراتبها، فلقد كنت في بحبوحة الإفطار إنما تحمي جوفك عن تناول السحت والخبيث، فأصبحت في حظيرة الصيام تفطمه حتى عن الحلال الطيب.

الصيام فرصة للتزود بالتقوى:

قال رب العزة جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

أي أننا بالصيام نتقِي المعاصي والذنوب؛ لأن امتلاء البطن بالطعام والشراب رأس البواعث على الفحشاء والمنكر، ومعلوم أن الجائع العطشان لا يجد في نفسه من أثر الشهوات ما يجد المُمتَلِئ؛ ولذا قال إبراهيم بن أدهم: الجوع يرق القلب.

وقد اختار صاحب الشريعة له هذا الشهر من العام أيامًا معدودات، وامتحن الناس في الصوم في ألصق الشهوات بنفوسهم، وألزم الضروريات لحياتهم، وأعنف الغرائز والعادات سلطانًا عليهم، فكَفَّهم عن الطعام والشراب وما إليهما أكثر يومهم، ولم يجعل عليهم في ذلك رقيبًا إلا أنفسهم، ومن إيمانهم باطلاع الله عليهم، وأية رقابة أدق وأوفى من هذه الرقابة؟ ولأمر ما أشارت الآية الكريمة إلى ذلك في قول الله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] (15).

ويقول العلامة ابن عاشور عن سبب ختام آية الصيام الأولى بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: بيانٌ لحكمة الصيام وما لأجله شرع، فهو في قوة المفعول لأجله، والتقوى الشرعية هي اتقاء المعاصي، وإنما كان الصيام موجبًا لاتقاء المعاصي؛ لأنه يعدل القوى الطبيعية التي هي داعية تلك المعاصي؛ ليرتقي المسلم به عن حضيض الانغماس في المادة إلى أوْج العالم الروحاني، فهو وسيلة للارتِياض بالصفات الملكية، والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصيام جُنَّة» (16)؛ أي: وقاية... ففي الصوم وقاية من الوقوع في المآثم ووقاية من الوقوع في عذاب الآخرة، ووقاية من العلل والأدواء الناشئة عن الإفراط في تناول اللذات (17).

إنَّ الصيام فرصةٌ لتحقيق التقوى، وللتوبة إلى الله عز وجل وللإقلاع عن سائر الذنوب والمعاصي، ومَن لم يفلح في تغيير عاداته السيئة في رمضان فهو في غير رمضان أولى بالبعد.

قال الرازي: الصوم يورث التقوى لما فيه من انكسار الشهوة وانقماع الهوى؛ فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويهون لذات الدنيا ورياستها، وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج، وإنما يسعى الناس لهذين، كما قيل في المثل السائر: المرء يسعى لعارية بطنه وفرجه؛ فمن أكثر الصوم هان عليه أمر هذين وخفت عليه مؤنتهما، فكان ذلك رادعًا له عن ارتكاب المحارم والفواحش، ومهونًا عليه أمر الرياسة في الدنيا، وذلك جامع لأسباب التقوى، فيكون معنى الآية: فرضت عليكم الصيام لتكونوا به من المتقين الذين أثنيت عليهم في كتابي، وأعلمت أن هذا الكتاب هدى لهم (18).

هذا على نطاق الفرد، خاصة وأنه يجد المجتمعَ كله يساعده؛ فأنت إذا ذهبت للمدرسة ووجدت الناس صائمين، وفي السوق صائمين، وفي الشارع أيضًا تجدهم صائمين، فالمجتمع كله يقوي عزيمتك، ويشد أزرك؛ ولهذا لا يجد الصائم في رمضان ألم الصيام، ولكنه حين يصوم النفل يجد تعبًا ومشقة في ذلك الصيام؛ لأنه يصوم والناس مُفطِرون، وكذلك لو أفطر الإنسان في رمضان لعُذْرٍ أو لمعصية، لم يجد للطعام في حلقه طعمًا، ولم يجد للماء مساغًا -هذا إنْ كان مؤمنًا- لأنَّ نفسه وروحه تَكره ذلك، وتمقته وتبغضه، فيتحول الحلو إلى مر علقمٍ.

وهكذا تَبرُز الغاية الكبيرة من الصوم، إنها التقوى، فالتقوى هي التي تستَيقِظ في القلوب وهي تُؤدِّي هذه الفريضة؛ طاعةً لله، وإيثارًا لرضاه، والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والمُخاطَبون بهذا القرآن يَعلَمون مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه، فهي غايةٌ تتطلَّع إليها أرواحُهم، وهذا الصوم أداةٌ من أدواتها، وطريقٌ مُوصل إليها، ومن ثَمَّ يرفَعُها السِّياق أمامَ عيونهم هدفًا وضيئًا يتَّجِهون إليه عن طريق الصيام: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (19).

فالصوم يتَّقِي المرء على نفسه أنْ يكون كالحيوان الذي شريعته معدته، وألا يعامل الدنيا إلا بمواد هذه الشريعة، وبالصوم يتقي هذا وهذا ما بين يديه وما خلفه، فإن ما بين يديه هو الحاضر من طِباعه وأخلاقه، وما خلفَه هو الجيل الذي سيَرِثُ من هذه الطِّباع والأخلاق، فيَعمَل بنفسه في الحاضر، ويَعمَل بالحاضر في الآتي.

ويقول الرازي: أمَّا قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ففيه وجوه:

أحدها: أنَّه سبحانه بيَّن بهذا الكلام أنَّ الصوم يُورِث التقوى؛ لما فيه من انكِسار الشهوة وانقِماع الهوى، فإنه يردع عن الأَشَرِ والبَطَرِ والفَواحِش، ويهون لذات الدنيا ورِياستها؛ وذلك لأنَّ الصوم يَكسِر شهوةَ البطن والفرج، وإنما يسعى الناس لهذين، كما قيل في المثل السائر: المرء يسعى لعارية بطنه وفرجه؛ فمَن أكثر من الصوم هانَ عليه أمر هذين، وخفَّت عليه مؤنتهما، فكان ذلك رادعًا له عن ارتكاب المحارم والفواحش، ومهونًا عليه أمر الرِّياسة في الدنيا، وذلك جامع لأسباب التقوى؛ فيكون معنى الآية: فرضت عليكم الصيام لتكونوا به من المتقين الذين أثنَيْتُ عليهم في كتابي، وأعلمت أن هذا الكتاب هدى لهم، ولما اختص الصوم بهذه الخاصية حسن منه تعالى أن يقول عند إيجابها {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} منبهًا بذلك على وجه وجوبه؛ لأنَّ ما يمنع النفسَ عن المعاصي لا بد وأن يكون واجبًا.

وثانيها: المعنى: ينبغي لكم بالصوم أنْ يَقوَى رجاؤكم في التقوى، وهذا معنى {لَعَلَّ}.

وثالثها: المعنى: لعلكم تتقون الله بصومكم وترككم للشهوات، فإن الشيء كلما كانت الرغبة فيه أكثَرَ كان الاتِّقاء عنه أشق، والرغبة في المطعوم والمنكوح أشد من الرغبة في سائر الأشياء، فإذا سَهُلَ عليكم اتِّقاء الله بترْك المطعوم والمنكوح، كانَ اتِّقاء الله بترْك سائر الأشياء أسهل وأخف.

ورابعها: المراد {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، إهمالها وترْك المحافظة عليها؛ بسبب عظم درجاتها وأصالتها.

وخامسها: لعلكم تنتَظِمون بسبب هذه العبادة في زُمرَة المتَّقين؛ لأنَّ الصوم شِعارهم والله أعلم (20).

وقد ربط الله الفلاح بالتقوى فقال: {وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189]، فالذي يرجى فلاحه هو المتقي، وكانت من أعظم المنة على المتصفين بصفة التقوى أن الله تعالى لم يجعل له أولياء غيرهم فقال تعالى: {إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34]، وحصر قبول الأعمال فيهم فقال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].

وقد خصهم الله تعالى بمعيته التي لا يضام من كان معه فقال: {وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}، وجعل لهم محبته فقال: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76]، ومن كرمهم على ربهم أنهم يحشرون إليه وفدًا: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85].

وجعل للمتقين بصيرة نافذة تورثهم فرقانًا يفرقون به بين الحق والباطل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29]، وبالتقوى يحفظ المسلم ذريته بعد موته فمن أهمه أمر ذريته بعد الموت فليتق الله ربه قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9]، وكانت تقوى الله تعالى هي المخرج للمسلم من المضايق الدنيوية والأخروية، وهي السبيل إلى سعة الرزق حيث يأتيه الرزق من حيث لا يتوقع، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2- 3]، وفي تقواه تعالى تكفير السيئات وتكثير الأجر وتعظيم الثواب قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 5]، وكانت تقوى الله مما تيسر للعبد أمور دينه ودنياه كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4].

__________________

(1) أخرجه مسلم (1079).

(2) زاد المعاد في هدي خير العباد (2/ 27).

(3) مفاهيم رمضانية/ سعود الشريم/ صوتيات إسلام ويب.

(4) أخرجه النسائي (2220).

(5) أخرجه النسائي (2222).

(6) أخرجه ابن ماجه (1643).

(7) أخرجه مسلم (2985).

(8) أخرجه ابن حبان (6557).

(9) أخرجه أحمد (20737).

(10) أخرجه البخاري (7492).

(11) مقام الصيام في مدارج العبودية/ موقع الألوكة.

(12) أخرجه مسلم (2999).

(13) أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151).

(14) أسرار المحبين في رمضان (ص: 140- 144) باختصار.

(15) خواطر رمضانية (ص: 27).

(16) أخرجه مسلم (1151).

(17) التحرير والتنوير (2/ 158).

(18) تفسير الرازي (5/ 240).

(19) في ظلال القرآن (1/ 168).

(20) مفاتيح الغيب (3/ 84).