أطفال غزة بين عدو غاشم وصديق خانع
اغتالت الدولة الصهيونية حلم 17 طفلًا فلسطينيًا منذ بداية عام 2023، ووصل عدد الشهداء الأطفال منذ عام 2000 إلى 2259 طفلًا فلسطينيًا، بحسب الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال فرع فلسطين.
وتداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي حوارًا دار بين طفل ومسعف، حيث كان يحمل الطفل حقيبة مدرسية، والتي كان يعتقد المسعف أن الحقيبة بداخلها كتب الطفل المدرسية مثلما يحملها باقي الأطفال، ليفاجئه الطفل بأنه يحمل أشلاء شقيقه الذي استشهد في مجزرة من المجازر التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي.
وطفل يلقن شقيقه الصغير الشهادة وهو يحتضر، بأحد المستشفيات.
وآخر يرد على سؤال مذيع عن ماذا يتمنى أن يكون في المستقبل؟ ليجيبه الطفل قائلًا: إحنا في فلسطين ما بنكبرش، إحنا في أي لحظة ممكن نموت وإحنا ماشين، هيك إحنا والحياة في فلسطين.
وصورة لوصية لطفلة فلسطينية اسمها "هيا"، والتي أوصت فيها بتوزيع نقودها وألعابها وملابسها وكذلك أحذيتها، الأمر الذي لا يتوافق مع عمرها ما أثار تعاطف الملايين مع وصيتها.
صور ونماذج للطفولة في فلسطين، فرضها الواقع الأليم الذي يعيشونه، في ظل عالم لا يهتم إلا بحقوق الحيوانات، فينتفض لقطة علقت بشجرة أو سقطت في حفرة، ولا يهتم لقتل آلاف الأطفال واعتقالهم وتعذيبهم وترويعهم بطرق يرثى لأجلها حال أمتنا المكلومة
ولا يزال الطفل الفلسطيني يعيش ومنذ اندلاع الانتفاضة حالة قديمة جديدة من العنف الإسرائيلي، والذي تمثل في استخدام جميع الأسلحة والوسائل العسكرية ضد المدنيين الفلسطينيين بمن فيهم الأطفال، وضراوة هذا الواقع جعلت الأطفال أكثر الفئات تأثرًا من الناحية النفسية، وذلك بسبب عدم تطورهم النفسي والإدراكي والاجتماعي، إضافة إلى تعرضهم المباشر للعنف الصهيوني المفرط، ودرجة ظهور الآثار النفسية الناتجة عن الأزمات تختلف من طفل إلى آخر حسب خبرة الطفل وشدة تأثره بالحدث وكيفية تعامل المحيطين به- معه بخصوص الحدث.
وعانى الأطفال الفلسطينيون بشكل مستمر من ممارسات الاحتلال الصهيوني، وحسب مختصين في الصحة النفسية فإن 90% من الأطفال كانت لهم تجربة في حوادث سببت لهم صدمة في حياتهم، وفي الأغلب كان ناتجًا عن التأثير الذي سببته قوات الاحتلال الصهيوني على البناء الاجتماعي للعائلة.
وانعكس العنف المفرط الذي تستخدمه قوات الاحتلال ضد المدنيين على الأطفال الفلسطينيين بدرجة أساسية، وترك آثارًا كبيرة على الجوانب النفسية للطفل، ومن الاضطرابات النفسية والسلوكية التي ظهرت على الأطفال بسبب ممارسة العنف ضدهم بشكل مباشر وغير مباشر، التشتت وعدم التركيز وضعف الذاكرة والنسيان، الحزن والاكتئاب، والحركة الزائدة والعنف تجاه الآخرين.
وملازمة الكبار لعدم الشعور بالأمان، الأرق أو النوم الزائد، والاستيقاظ من النوم بسبب مشاهدة الكوابيس، كما أدت الانتفاضة وما رافقها من العنف الصهيوني إلى التأثير حتى على نوعية الألعاب المعتادة، وحتى رسوماتهم أصبحت تسيطر عليها صور العنف الإسرائيلي بكافة أشكاله.
لعل القارئ يعود بذاكرته إلى حرب غزة الأخيرة، وقتل الطفل وهو جنين في بطن أمه، وكذلك خطف وتعذيب وحرق الطفل (محمد أبو خضير) وهو حي على يد ثلاثة مستوطنين 2014م، ولا يفوتنا في هذا المقام اعتداء المستوطنين على عائلة الدوابشة وحرقها بالكامل ولم ينج منها سوى الطفل الرضيع (أحمد الدوابشة) الذي فقد الأب والأم والعائلة، وقد تكررت هذه المشاهد وأصبح تشييع الجنازات برنامجًا يوميًا أمام مرئي العالم أجمع، ومن منا لم ير صورة الطفل محمد الدرة وهو في حضن والده وقتله بدم بارد أمام شاشات التلفزيون والعالم أجمع، مما يدل على ظاهرة قتل الطفولة عن عمد وترصد، وهو ما أدى إلى تبادل الأدوار في المواجهة والمسؤولية بين الكبار والصغار .
ولما كانت الطفولة تمثل المرحلة الأولى من مراحل حياة الإنسان العمرية، وتحتاج إلى رعاية مكثفة من قبل المؤسسات الاجتماعية والصحية والتعليمية والدينية للانتقال من طور الضعف والسلبية إلى طور القوة والإيجابية، فهي تعني مستقبل الأمة وأملها، فضلًا عن أنها تعرف بالبراءة، والصفاء والجمال الملائكي، فالأسرة هي التي تغذي الإنسان بالخبرات، وبفكرته عن نفسه وعن الآخرين، ومنها يعرف دوره في الحياة الاجتماعية، ويحدد ما يقوم به في المجتمع وما يتوقعه منه.
وإذا تأملنا هذه المعاني بدقة، سنجد أن مفهوم الطفولة الفلسطينية ينحاز عن هذه المواصفات إلى النقيض، حيث نقف اليوم أمام جموع الأطفال الذين يفتقرون إلى أدنى حد من المواصفات الإنسانية التي تنصهر في بوتقة القتل، والفقر، واليتم، والاعتقال، والتشريد، والبحث عن أهوال الحصول على بيت، أو مدرسة، أو مأوى، أو رغيف خبز، أو أسرة.
إن أكثر ما ينزعج منه الصهاينة هو التوالد الفلسطيني والدليل على ذلك ما قالته رئيسة الحكومة الإسرائيلية الأسبق جولدا مائير: إن أكثر ما يؤرقني هو عندما تلد امرأة فلسطينية مولودًا جديدًا فأشعر أن جزءًا من الحلم الصهيوني ينهار مع ازدياد التوالد الفلسطيني، الشيء الذي أدى إلى تركيز الصهاينة على قتل الأطفال وإجهاض النساء الفلسطينيات.
هؤلاء الأطفال أصابتهم عدوى الغضب والحزن وعدم الشعور بالأمان، وتفجرت لديهم الرغبة في الانتقام، فلم يجد هؤلاء الأطفال غير الحجارة سلاحًا تستطيع أكفهم الصغيرة حمله ومواجهة دبابات العدو الصهيوني وبنادقه وآلياته الحربية، فالطفل الفلسطيني الذي اتخذ من الحجارة سلاحًا له، نذر نفسه بأن يكون مشروع شهيد، فأصبحت قائمة شهداء الانتفاضة من أطفال فلسطين تتطاول وتتزاحم فيها الأسماء.
وأصبح الطفل الفلسطيني محط أنظار العالم بالرغم من آلة القمع اليومي الذي يتعرض لها، حيث أصبح الجميع يتحرك بوعي وثقافة جديدة لمواجهة الاحتلال، وتحولت شخصية الطفل من الضحية إلى المقاوم، يتخذ قراره بنفسه، رافضًا التقيد بأوامر السلطة الأسرية وصمتها، فلأول مرة يتبنى الطفل عملًا اختاره بنفسه، ودون أي تدخل خارجي، ليعلن مشروعه الخاص الذي ينطلق منه، ذلك أن المقاومة في هذه المهمة تصبح مرسلة إلى الصهاينة كرفض لمشروعهم القاتل، وموجهة في الوقت ذاته إلى الفلسطينيين المسالمين لتجاوز الهموم اليومية، والسلوك السلبي إلى النضال المصيري.
طفل وما أنا للطفولة إنني فقت الرجال بهمتي وصمودي
وفي سياق هذا التحول، استطاع الطفل الفلسطيني أن يقلب موازين الصراع، ويشق طريقًا جديدًا ينسج مع مستجدات المرحلة التاريخية الراهنة، وكأنه ينهض في ذلك ليتولى مهمة تاريخية فات الكبار القيام بها، وكأنه لتقصيرهم هذا يعطي لمقتلهم هذا الشكل المهين، ولمقاومته البسيطة هذا المغزى البطولي الرفيع، إن الطفل الذي أخرج من طفولته، يخرجه الإرهاب الصهيوني الغاشم من البراءة إلى المقاومة ليعلن أفقًا يقف النص عند معالمه الأولى التي ترسمها خطوات الطفل الثابتة (1).
وهنا لا بد من طرح السؤال التالي: كيف انعكست هذه الممارسات على نفسية الأطفال؟ إن الانعكاسات النفسية والكوابيس التي خلفتها المذابح الصهيونية لدى الأطفال تفوق في خطورتها القتل، حيث انعكس هذا الواقع في كوابيس وأحلام مزعجة تثير الفزع والهلع لدى الأطفال، وتغرس الحسرة والألم في قلوب الكبار وهم يشيعون فلذات أكبادهم الواحد تلو الآخر.
وفق هذا السياق يمكننا القول: إذا كان للطفولة لدى الشعوب ظلال مشبعة بالبراءة والحلم والجمال والصفاء، وأنشودة الأمل، ومنية النفس، يفرح بهم الآباء ويضنون بهم عن الشدائد، ويحمونهم بأجفان العيون، غير أن أطفال فلسطين لم يكونوا كذلك، وقد رأينا على الشاشات – رأي العين- كيف تكسر عظامهم بالصخر وهم أحياء، ويمنع عنهم الحليب والحلوى وكسرة الخبز، وكيف يحرمهم العدو بسمة الطفولة، ولهو الأطفال، وجنوده المدججون بالسلاح يجوبون الطرقات، ويقتحمون المنازل، ويطاردون الصغار في الحواري والأزقة، والقناصة، والألغام وشظايا القنابل وصواريخ الدبابات (2).
وهكذا، وجد الطفل الفلسطيني نفسه في مواجهة مباشرة مع جنود الاحتلال مما جعله يفقد عالمه الطفولي الخاص، ويقلب موازين الوضع الفلسطيني رأسًا على عقب، حيث أصبح الطفل هو الشاهد/ والشهيد، وهو الرجل/ والقائد، يتحملون مسؤولية حماية الوطن ولا يجدون من يؤمن لهم الأمن والحماية، وبذلك فقد تحول مفهوم الطفولة إلى التحدي والمواجهة بدلًا من الكبار، وأصيبت السلطة الأبوية بالضعف، ويشعر الأطفال الفلسطينيون الآن أنهم متروكون لأنفسهم وهم يواجهون الجنود المسلحين بمفردهم، وأحيانًا دون موافقة أهلهم، ولم يعد المنزل أو المدرسة على هشاشتها يشكلان خلية الحماية التي قد يلجأ إليها (3).
بهذا المعنى تولى الأطفال زمام المقاومة وفات الكبار القيام بها، ولعل هذا القول يفسر التفاف الأجيال الفلسطينية اليوم حول المقاومة بروح قتالية عالية لا تهاب الموت ولا تخشى مواجهة العدو الشرس واستخدامه القوة المفرطة، والتي أجهضتها معاهدات السلام المعروفة باتفاقية أوسلو عام 1993.
وتقول مؤسسات حقوقية إن الغارات الإسرائيلية تقتل في المعدل طفلًا فلسطينيًا كل 7 دقائق، في رقم غير مسبوق في التاريخ المعاصر.
والطفل الفلسطيني يتعرض لضغوط نفسية شديدة، ناجمة عن الإجراءات الاحتلالية القمعية، إذ يستخدم الجيش أقسى أشكال العنف بحق الشعب الفلسطيني والذي تزايدت وتيرته مع بداية الانتفاضة الأولى، وتجسد ذلك في أعمال القصف الهمجي والوحشي للبيوت والمنشآت واقتحام المجمعات وبناء جدار الفصل العنصري، فالاحتلال الصهيوني، لم يترك سلاحًا إلا واستخدمه كالطائرات والدبابات والقذائف والصواريخ والغازات المختلفة وتفريغ الهواء من طائرات إف 16 والتي تدخل الرعب والذعر في قلوب الأطفال وتهز أركانهم والمكان الذي يتواجدون فيه.
ويتعرض أطفال فلسطين –على أيدي جنود الاحتلال– لأصناف من التعذيب الجسدي والإرهاب النفسي والإهانة المتكررة خلال فترة اعتقالهم منذ لحظة إلقاء القبض عليهم واقتيادهم من منازلهم في ساعات متأخرة إلى مراكز التحقيق حيث الإذلال والوحشية والامتهان باستخدام أساليب متنوعة.
الأطفال الفلسطينيون يتميزون بنضجهم السياسي المبكر، فالجد والجدة، والأب والأم يروون لأطفالهم ما ترتب على حرب الثمانية والأربعين، وكيف أجبروا على مغادرة بيوتهم وأراضيهم والعيش في مخيمات للاجئين، ظلت تعاني من أشكال المأساة اليومية منذ نكبة الثمانية والأربعين، الطفل هنا بعيد عن الحياة الطبيعية التي تكفل له أبسط قواعد حقوق الطفل والإنسان التي تنادي بها الدول المتقدمة، بالإضافة إلى أنه محروم من كل ما يمكن أن يؤدي إلى تنمية خبراته وذكائه، فما هو التحليل النفسي الذي يدفع بالطفل بالرغم من حجم المعاناة أن يتحدى القوة العسكرية الإسرائيلية ويتقدم إلى أرض المعركة لكي يقتل وينال من عدوه الغاصب النازي الذي قتل أبيه واخيه وابن عمه، لا يهاب الموت في سبيل الله ونيل الشهادة في سبيل الله؟
هنا الطفل يتكون ويعيش لهدف واحد هو الانتقام من القتلة ومرتكبي الجرائم البشعة في حق الطفولة البريئة، الطفولة الضائعة بين الصواريخ المدمرة للمنازل للبيوت للأحياء للمساجد للشوارع، لا يسلم شيء من قوات الاحتلال الصهيوني، الحلم ضاع ولا يبقي للطفولة إلا الانتقام من المغتصبين الأعداء.
من هذه النقطة يبدأ الطفل يفقد طفولته ويبدأ يخرج إلى الشارع، ويتحدى لأنه يريد أن يقول: أنا موجود، وأنا أستطيع أن أفعل شيء معين وأحمي أسرتي وأحمي مجتمعي وأحمي وطني.
لقد أبانت لنا غزة صور من العزة، وأوضحت مقدار خذلاننا وخورنا، وكثير منا يرى ما يقع فلا نحير جوابًا، ولا يحرك بعضنا ساكنًا، تقع أمامهم الحوادث وتدْلهمّ الخطوب فلا يألمون لمتألم، ولا يتوجعون لمستصرخ، ولا يحنون لبائس، بل أعظم من كل ذلك أنه في الوقت الذي يذبح فيه المسلمون ترى كثيرًا منا لاهين عن مصابهم بإقامة المهرجانات، والحفلات الغنائية، وبرامج الشعراء.
وقلّب نظرك في كثيرٍ قنوات الإعلام العربي ترَ الرقص والتعرّي في الوقت الذي يتضاغى فيه أطفال غزة ونساؤها من الخصاصة، ويتألمون من قرس البرد ولذعاته، فإلى الله المشتكى، وبه وحده المرتجى لإغاثة هؤلاء المنكوبين..
أطفال غزة هم الأوفر حظًا من المعاناة، فهم يجدون الحياة صعبة كل يوم حياة قاسية تُبدد ببطيء أحلامهم وأرواحهم، هم عالقون في سجن كبير، بدلًا من أن يزودوا بالأساسيات التي يجب أن يحصل عليها كل طفل، تُنتزع هذه من الأطفال هناك: حقهم في اللعب.. الحق في الذهاب إلى المدرسة.. الحق في الحصول على تغذية سليمة.. الحق في الحصول على كهرباء للدراسة مساءًا.. حقهم في الشعور بالأمان في منازلهم، حقهم في الرعاية الصحية لكن الواقع يختلف فهم الأكثر تأثرًا بأزمة القطاع الصحي حيث نفذت التطعيمات والأدوية والمستلزمات الطبية للأطفال الأمر الذي أدى إلى وفاة بعضهم وتفاقم مرض البعض الآخر وبلوغهم مرحلة الوفاة.
العنف الذي يتعرض له الطفل الفلسطيني:
تعرض الأطفال الفلسطينيون خلال الانتفاضة إلى عدد من المواقف الصعبة المتعلقة بالانتفاضة، وقد كان هذا التعرض شخصيًا ومباشرًا، وأحيانًا أخرى يأخذ طابع غير مباشر وذلك من خلال تعرض الآخرين المحيطين بالطفل للمواقف الصعبة.
ويتوقف تأثير الصدمة أو المواقف العنيفة بالنسبة للطفل على نوع الصدمة ومعناها بالنسبة له، فمثلًا يمثل الوالدان بالنسبة للطفل الأمان والأمن والمحبة، ويشعر الطفل بذلك في ظل وجودهما، ولكن تعرض الأب للضرب على أيدي الجيش حين اقتحام المنزل ليلًا يفقد الطفل الأمن ويزرع المخاوف والتوتر داخله، إذ أن صورة الأمن المتمثلة في ذات الطفل والمستمدة من صورة الأب قد اهتزت بسبب تعرض الأب لموقف صادم وعنيف أمام الطفل، وتزداد الأمور سوءًا إذا تعرض الأب للسجن حيث تظل الحاجة للأمان من الحاجات غير المشبعة وغير الموجودة طالما أن مصدر العطاء لها لا زال بعيدًا عن الطفل.
وفيما يلي نستعرض بعض المواقف التي مرت على الأطفال خلال الفترة الماضية وتأثيراتها على الأطفال، وذلك حسب ما أشار إليها الدكتور فضل أبو هين في دراسة له بعنوان: دليل الآباء والمدرسين للتعامل مع الطفل في الظروف الصعبة، الصادر عن وزارة التربية والتعليم – مفوضية التوجيه الوطني في أيار– 1995.
1- منع التجول: إن الحرية والحركة والتعبير عن الانفعالات من الأمور المميزة لشخصية الطفل والتي يشعر الطفل بالحرمان منها في ظل منع التجول فهو من الإجراءات التي تعتبر عقابًا جماعيًا، والذي أتبعته السلطات العسكرية منذ بداية الانتفاضة، ولا تكاد منطقة في الأراضي المحتلة لم تتعرض لمنع التجول وتختلف عدد الأيام التي تخضع لها منطقة عن أخرى بسبب طبيعة الأحداث التي تدور فيها، وعلى الرغم من أن منع التجول يعتبر عقابًا جماعيًا إلا أنه يعتبر تقييدًا لحرية الأطفال من الحركة واللعب والتعبير، وتزداد تأثيراته السلبية على الأطفال وخصوصًا أطفال المخيمات الذين يعيشون في مساكن ضيقة لا تتسع لألعاب الأطفال، من هنا يكون الشارع هو المكان البديل والواسع والذي يستطيع الطفل اللعب فيه، وأن منع التجول يحرم الطفل من ذلك، بالإضافة إلى المواقف العنيفة التي قد تحدث ويتعرض لها السكان مثل اقتحام المنازل – الضرب– الإهانات –الاحتجاز – الخ.
فقد تبين مدى النتائج السلبية لمنع التجول على الأطفال، ومدى ظهور بعض المشاكل السلوكية والانفعالية لديهم، بسبب تعرضهم لنظام منع التجول الطويل، حيث زادت مشاكل الحركة والعنف بين الأخوة، وعدم الطاعة، والخوف من المواقف الجديدة، والخوف من الجيش، وتبين أن نسبة كبيرة من الأطفال ظهرت لديهم أعراض عصابية (نفسية) تحتاج إلى تدخل ومساعدة.
2- الإغلاق الأمني: وقد استخدم على نطاق واسع منذ بداية الانتفاضة، حيث يمنع دخول فلسطين المحتلة عام 1948 ويتحتم على السكان البقاء داخل المناطق المحتلة مع عدم السماح لهم بالمغادرة، وأحيانًا يستخدم بصورة جزئية ومؤقتة بسبب وجود بعض الأحداث المتعلقة بمنطقة جغرافية معينة وفرضت السلطات العسكرية طوقًا أمنيًا شاملًا على الأراضي المحتلة وعلى إثر ذلك منع سكان المناطق المحتلة جراء هذا الإغلاق من العمل أو دخول إسرائيل، فقد تبين مدى خطورة تأثير الإغلاق الأمني على الصحة النفسية للأطفال والراشدين وأن 49,3% من أطفال العاطلين عن العمل يشعرون بالـ"نرفزة" والعصبية في مقابل 38,9% من أطفال العمال وحوالي 22,7% من أطفال الموظفين، وأن 11,1% من أطفال الآباء العاطلين عن العمل يعانون من ظاهرة مص الأصابع في حين ظهرت هذه المشكلة لدى 8% من أطفال العمال ولم تظهر هذه المشكلة لدى أطفال الموظفين.
3- المداهمات الليلية: وهي من إجراءات العقاب الجماعي التي اتبعتها السلطات العسكرية ضد السكان، حيث تتعرض منازل الفلسطينيين للمداهمة خلال الليل بهدف الإزعاج أو الضرب والعقاب للسكان، وقد درجت السلطات على استخدام هذا الأسلوب وما يواكبه من عنف سواء ضد الشخص المطلوب وذلك أمام أبنائه أو أفراد أسرته، أو تعرض أفراد الأسرة نفسها للعنف، أو مشاهدة مظاهر العنف بصورة أخرى كأن يعيث الجنود إتلافًا وإفسادًا لمقتنيات البيت؛ وذلك أمام أعين الأطفال، إضافة للأسلوب الذي يتبع لأداء مهمة المداهمة من محاصرة المنزل والقفز عن سور البيت أو الطرق الشديد والمرعب على الأبواب والانتشار الكثيف والعنيف في المنزل، فقد تبين أن 85% من منازل الأطفال قد تعرضت للمداهمات الليلية، وأن 40% من الأطفال تعرضوا شخصيًا للعنف خلال هذه المداهمات.
4- التعرض لاستنشاق الغاز: وترتبط هذه الظاهرة بالانتفاضة وبفعالياتها، حيث استخدمت السلطات العسكرية هذا الإجراء على نطاق واسع وهو استخدام الغازات المسيلة للدموع ضد التجمعات السكانية لتفريق هذه التجمعات أو التصدي للمظاهر العنيفة التي كانت تحدث خلال الانتفاضة، فقد تبين أن 92,5% من الأطفال قد تعرضوا لاستنشاق الغاز داخل منازلهم، وأن هناك بعض الحالات التي تسببت في حدوث موت للأطفال بسبب الغاز كما أوردت ذلك إحصائيات المؤسسة السويدية لإنقاذ الطفل، أو تعرض بعض النساء للإجهاض بسبب قذف الغاز داخل الغرف المغلقة في منازلهم.
5- التعرض للضرب الشخصي: وهو من الأساليب المستخدمة ضد السكان سواءٌ كانوا أطفالًا أم راشدين، وذلك لقمع أي بادرة للتمرد والعنف ضد الجيش الإسرائيلي، ولزرع المخاوف في حياة الأطفال، فقد تبين أن حوالي 45 % من الأطفال تعرضوا للضرب الشخصي من قبل جيش الاحتلال والذي أدى إلى تكسير عظام 4,5 % من أطفال العينة وأن 45 % من أطفال عينة دراسة (الدكتور أبو هين) قد تعرضوا للضرب على أيدي الجيش، نتج لدى 5% منهم إلى تكسير العظام.
6- مشاهدة الضرب: تبين وفقًا لدراسة أجريت عام 1992 حول العنف والأطفال الفلسطينيين في غزة أن مشاهدة العنف للآخرين أشد تأثيرًا على حياة الطفل النفسية من التعرض الشخصي للعنف، فقد تبين أن 55% من الأطفال الفلسطينيين قد شاهدوا العنف لأحد أفراد أسرهم، وبدراسة التأثيرات النفسية الناتجة عن التعرض الشخصي للعنف تبين أن مستوى القلق انخفض لدى الأطفال الذين تعرضوا شخصيًا للعنف مقارنة بالأطفال الذين شاهدوا أحد أفراد أسرهم يتعرض أمامهم للعنف، وتبين كذلك أن تقدير الذات ارتفع أيضًا لدى الأطفال الذين تعرضوا للعنف الشخصي أكثر من الأطفال الذين شاهدوا أحد أفراد الأسرة يتعرض أمامهم للعنف.
وتبين أن تقدير الذات كان مرتفعًا لدى 45% من الأطفال الذين تعرضوا شخصيًا للعنف في مقابل ارتفاع تقدير الذات لدى 16% من الأطفال الذين شاهدوا أفراد الأسرة يتعرض أمامهم للعنف، فمشاهدة العنف أكثر وقعًا وتدميرًا للحياة النفسية من التعرض الشخصي للعنف، وسواء تعرض الطفل للعنف أو شاهده فإن لذلك تأثيرات سيئة على بنائه النفسي.
7- التعرض الشخصي للإصابة: حيث استخدم فيها أنواع مختلفة من الوسائل والتي كانت السلطات العسكرية تلجأ إليها ضد المواطنين والأطفال؛ منها التعرض للإصابة الناتج عن الضرب، أو إطلاق الرصاص بأنواعه المختلفة: الحي– المطاطي– البلاستيكي– المعدني... الخ، فتبين بأن 3,5% من الأطفال تعرضوا للإصابة من جراء الرصاص الحي، وأن 2,2% تعرضوا للإصابة من الرصاص البلاستيكي، وأن 24,7% تعرضوا للإصابة بالرصاص المطاطي.
وقد نتج عن بعض الإصابات الموت في بعض الحالات، ولدى حالات أخرى إلى الإعاقات الجسدية والعصبية والعقلية الدائمة أحيانًا والجزئية أحيانًا أخرى؛ مثل اقتلاع العين أو بتر الساق أو اليد أو حرق الجلد... الخ.
8- الاحتجاز: تبين أن 19% من الأطفال تعرضوا للاحتجاز الشخصي، والذي يتراوح بين ساعات إلى أيام، حيث يتم إلقاء القبض على الطفل وإيداعه في إحدى مراكز الاعتقال، أو مخيمات الجيش، حيث يتعرض الطفل فيها للضرب والإصابة، وأحيانًا يمنع الطفل من الخروج وعدم تركه إلا بعد دفع غرامة مالية تفرضها السلطات المحتلة على عائلة الطفل.
9- السجن: ليس من السهل تحديد سن قانوني معين تلتزم فيه سلطات الجيش الإسرائيلي بمعاقبة الطفل حين ارتكابه حدثًا معينًا، فقد تعرض الأطفال خلال الانتفاضة للسجن والانفصال عن أسرهم إلى مدة تتراوح بين 18 يومًا إلى ثلاثة أو ستة أشهر مع دفع غرامات مالية، خصوصًا لصغيري السن، وذاك بتهمة إلقاء الحجارة والمساعدة في فعاليات الانتفاضة، ففي دراسة أجريت عام 1992 حول العنف والأطفال الفلسطينيين.
10- هدم المنازل: لقد اتبعت هذه السياسة وهي تهديم المنازل ضد الفلسطينيين النشطاء منذ بداية الاحتلال، وهو من أحد- إجراءات العقاب الجماعي، وقد زاد استخدامه بصورة أكبر خلال الانتفاضة الأخيرة (انتفاضة الأقصى)، حيث يهدم منزل أي شخص توجه إليه تهمة أمنية وخصوصًا العمل المسلح، وقد أخذت هذه الظاهرة منحىً خطيرًا خصوصًا بعد قرار السلطات المحتلة بإبعاد 415 فلسطينيًا إلى لبنان وتزايد أعمال المقاومة ضد الاحتلال.
وتبين أن أكثر المواقف المؤثرة على الطفل بعد فقدانه أحد أفراد أسرته، هو فقدانه لمنزله، إذ أن المنزل مرتبط في حياة الطفل بالأمن، وهو يعني مجموعة العادات والتقاليد وشبكة العلاقات التي تكونت لدى الطفل والتي ترتبط بالمنزل، وأن فقدانه يعني فقدان ما يمثله المنزل لدى الطفل.
11- الإبعاد: وهو من إجراءات العقاب الجماعي ضد سكان البلد الأصليين، حيث يتم طرد المواطنين إلى بلاد أخرى بالقوة، فقد تعرض 70 فلسطينيًا منذ بداية الانتفاضة الأولى في ديسمبر 1987 وحتى أواخر ديسمبر 1992 إلى الإبعاد عن أرض الوطن، وفي ديسمبر 1992 أقدمت السلطات العسكرية الإسرائيلية على إبعاد 415 فلسطينيًا إلى جنوب لبنان (مرج الزهور).
إن موت أحد الوالدين بالنسبة للطفل أو إبعاده عن أرض الوطن يؤدي إلى حالة من الحرمان لدى الطفل، وبالتالي شعور الطفل بفقدان الأمن والقلق الناتج عن انفصاله وفقدانه لأحد والديه.
12- الحرمان من التعليم: فبسبب ادعاء السلطات الصهيونية بمشاركة الأطفال في مقاومة الاحتلال واستغلال التجمعات المدرسية لهذا الغرض، ولحرمان الأطفال من التعليم وتجهيل الأطفال، فقد أقدمت سلطات الاحتلال على الإغلاق الجزئي للمؤسسات التعليمية، وبعد ذلك الإغلاق الكلي والتام، وحرمان الأطفال من فرص التعلم واكتساب المعرفة، وبالتالي تدني مستوى الطلاب وأصبح مستوى الطفل ذو العشر سنوات خلال الانتفاضة يساوي مستوى طفل ستة سنوات قبل الانتفاضة، وأصبح الشارع ومواجهة الجيش والمخاطر التي تواجه الطفل في الشارع هي السلوك اليومي ومجال الاكتساب والتعلم للطفل، فتعلم الكثير من الأطفال عادات وسلوك المقاومة.
وهكذا إذًا تبدو معاناة الطفل الفلسطيني مضاعفة، فمن ناحية الواقع الذي تعيشه الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام الفلسطينية وما ينتاب هذه المؤسسات من ظروف صعبة وتقاليد لا تستند إلى ثقافتنا الإسلامية، ومن جهة ثانية ما يتعرض له هؤلاء الأطفال من إرهاب يمارسه الاحتلال الصهيوني بأبشع صوره، فيحرم الطفل الفلسطيني من أبسط الحقوق في حقه بالتعبير عن رأيه إلى حقه في الحياة والحرية والحماية والتعليم، وغيرها من الحقوق التي دعت إليها مختلف القوانين والشرائع الدينية والوضعية (4).
يا تلاميذ غزه علمونا بعض ما عندكم فنحن نسينا
علمونا بأن نكون رجالًا فلدينا الرجال صاروا عجينًا
علمونا كيف الحجارة تغدو بين أيدي الأطفال ماسًا ثمينًا
كيف تغدو دراجة الطفل لغمًا وشريط الحرير يغدو كمينًا
كيف مصاصة الحليب إذا ما اعتقلوها تحولت سكينًا
قد صغرنا أمامكم ألف قرن وكبرتم خلال شهر قرونًا
يا تلاميذ غزه لا تعودوا لكتاباتنا ولا تقرأونا
إنَّ ما يميز اليهود على مرّ التاريخ هو جبنهم في القتال، ورعبهم وخوفهم من أهل الدين والإيمان، رغم ما لديهم من قوّة وأسلحة حديثة، وهذا واقعهم في فلسطين أمام أشبال الإسلام، بل إنَّ أعظم ما يرعب اليهود ويرهبهم جيل المساجد من أطفال فلسطين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
------------
(1) في دلالية القصص وشعرية السرد (ص: 148).
(2) صورة الحجر الفلسطيني (ص: 92).
(3) صورة الطفل الفلسطيني في شعر الانتفاضة، مؤتمر الطفل العربي على عتبات القرن الواحد والعشرين، بنغازي 2002م.
(4) واقع الطفل الفلسطيني تحت الاحتلال/ المركز الفلسطيني للإرشاد.