الابتلاء في حياة الدعاة
قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2].
وقال الله سبحانه وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)} [الملك:1-2].
وقال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7].
لقد جرت سنة الله في الحياة الدنيا أن تبنى على الابتلاء، فالإنسان يبتلى في دينه، ويبتلى في ماله، ويبتلى في أهله، وكل هذه الابتلاءات ما هي إلا امتحانات يمتحن الله بها عباده ليميز الخبيث من الطيب، وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين .
والله عز وجل قد اقتضت حكمته أن يبتلي الرسل بأممهم، والأمم برسلهم، والحكام بالمحكومين، والمحكومين بالحكام، والقوي بالضعيف، والضعيف بالقوي، والغني بالفقير، والفقير بالغني، والصحيح بصحته، والمريض بمرضه، والزارع بمزرعته، والتاجر بتجارته، والصانع بصناعته... الخ.
وطريق الدعوة هو طريق الابتلاء؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل الدعوة، وهو في العبادة في غار حراء يتعبد، قالوا عنه الصادق الأمين، لكن لما جهر بالدعوة قالوا: ساحر، مجنون، كذاب، كاهن.
من فقه الابتلاء:
1- الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة:
لا بد من تربية النفوس بالبلاء، ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد، وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات، لا بد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة، كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف.
والعقائد الرخيصة، التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها، لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى.
فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين، وكلما تألموا في سبيلها، وكلما بذلوا من أجلها، كانت أعز عليهم وكانوا أضن بها، كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها، وصبرهم على بلائها، إنهم عندئذ سيقولون في أنفسهم: لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيرًا مما يبتلون به وأكبر ما قبلوا هذا البلاء، ولا صبروا عليه، وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها، مقدرين لها، مندفعين إليها، وعندئذ يجيء نصر الله والفتح، ويدخل الناس في دين الله أفواجًا.
ولا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى، فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة، وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد، والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة، التي تزيل الغبش عن العيون، والران عن القلوب.
وأهم من هذا كله، أو القاعدة لهذا كله الالتجاء إلى الله وحده حين تهتز الأسناد كلها، وتتوارى الأوهام وهي شتى، ويخلو القلب إلى الله وحده، لا يجد سندًا إلا سنده، وفي هذه اللحظة فقط تنجلي الغشاوات، وتتفتح البصيرة، وينجلي الأفق على مد البصر، لا شيء إلا الله، لا قوة إلا قوته، لا حول إلا حوله، لا إرادة إلا إرادته، لا ملجأ إلا إليه، وعندئذ تلتقي الروح بالحقيقة الواحدة التي يقوم عليها تصور صحيح(1).
2- الابتلاء يكفر الخطايا والذنوب:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة»(2).
وعن أبي الأشعث الصنعاني أنه راح إلى مسجد دمشق وهجر بالرواح، فلقي شداد بن أوس والصنابحي معه، فقال: «أين تريدان يرحمكما الله؟»، قالا: «نريد هاهنا إلى أخ لنا مريض نعوده»، فانطلق معهما حتى دخلا على ذلك الرجل، فقالا له: «كيف أصبحت؟»، قال: «أصبحت بنعمة»، فقال له شداد: «أبشر بكفارات السيئات وحط الخطايا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عز وجل يقول: إني إذا ابتليت عبدًا من عبادي مؤمنًا، فحمدني على ما ابتليته، فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول الرب عز وجل: أنا قيدت عبدي، وابتليته، فَأَجْرُوا له كما كنتم تُجْرُون له وهو صحيح»»(3).
3- عملية الفرز:
إن الله تعالى يمحص الناس في الابتلاء ويفرزهم، فيظهر نفاق المنافقين، وينجلي كذب الكاذبين، كما يظهر ثبات الثابتين، ويتضح إيمان المؤمنين، قال تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:141].
إن الله، جلت حكمته، يأخذ البشر بما هو في طوقهم، وما هو من طبيعتهم واستعدادهم، وهم لا يعلمون عن الحقائق المستكنة ما يعلمه، فلا بد لهم من تكشف الحقائق ليدركوها ويعرفوها ويستيقنوها، ثم ينتفعوا بها.
والابتلاء بالسراء والضراء، وبالنعماء والبأساء، وبالسعة والضيق، وبالفرج والكرب...، كلها تكشف عما هو مخبوء من معادن النفوس، وما هو مجهول من أمرها حتى لأصحابها.
أما المراد بعلم الله، لما تتكشف عنه النفوس بعد الابتلاء، فهو تعلق علمه بها في حالتها الظاهرة التي يراها الناس عليها.
ورؤية الناس لها في صورتها التي تدركها مداركهم هو الذي يؤثر فيهم ويكيف مشاعرهم، ويوجه حياتهم بوسائلهم الداخلة في طوقهم، وهكذا تتم حكمة الله في الابتلاء.
ومع هذا فإن العبد المؤمن يرجو ألا يتعرض لبلاء الله وامتحانه، ويتطلع إلى عافيته ورحمته، فإذا أصابه بلاء الله بعد هذا صبر له، وهو مدرك لما وراءه من حكمة، واستسلم لمشيئة الله واثقًا من حكمته، متطلعًا إلى رحمته وعافيته بعد الابتلاء(4).
قال ابن القيم رحمه الله: «إن الله سبحانه وتعالى اقتضت حكمته أنه لا بد أن يمتحن النفوس ويبتليها، فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها، ومن يصلح لموالاته وكرامته ومن لا يصلح، وليمحص النفوس التي تصلح له ويخلصها بكير الامتحان؛ كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو من غشه إلا بالامتحان، إذ النفس في الأصل جاهلة ظالمة، وقد حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلى السبك والتصفية، فإن خرج في هذه الدار وإلا ففي كير جهنم، فإذا هذب العبد ونقي أذن له في دخول الجنة(5) .
ليس أحد أغير على الحق وأهله من الله، ولكنها سنة الله الجارية لامتحان القلوب وتمحيص الصفوف، قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين} [العنكبوت:2].
فالابتلاء مادة الاختبار لأهل الإيمان.
4- إظهار آياته:
الحقيقة الرابعة في فقه الابتلاء أن الله تعالى من خلال الابتلاء يظهر للناس آياته، ويبين لعباده عاقبة الظلم والظالمين، ويستخلف عباده الصالحين مهما طالت مدة الابتلاء.
فأين فرعون الذي قال لقومه: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، والذي قال لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24]، والذي قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، فأجراها الله من فوقه.
وأين هامان؟ وأين قارون؟ وأين عاد؟ وأين ثمود؟ {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40].
وصدق من قال:
أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان؟
وأين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان؟
أين الجبابرة الطاغون ويحهم؟ وأين من غرهم لهو وسلطان؟
هل أبقى الموت ذا عز لعزته؟ أو هل نجا منه بالأموال إنسان؟
لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان
5- الشوق لله تعالى:
الابتلاء في الدنيا يجعلك في شوق للقاء الله تعالى، فالدنيا لا تستقر لأحد، ولا تدوم على حال، فإذا ما اشتد الكرب وتعاظم الابتلاء اشتاق المؤمن للقاء مولاه، وخرج حب الدنيا من قلبه، وتعلق بالآخرة وعمل لها وسعى(6).
وللبلاء صور مختلفة:
قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة:155-157]، فالصلوات والرحمة والهداية بعد الابتلاء والصبر.
من صور الابتلاء الخوف:
عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة رضي الله عنه قال: ذكر حذيفة رضي الله عنه مشاهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال جلساؤه: «أما والله، لو كنا شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا»، فقال حذيفة رضي الله عنه: «لا تمنوا ذلك، لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعود، وأبو سفيان ومن معه فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا، نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ولا أشد ريحًا منها في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهى ظلمة ما يرى أحدنا إصبعه، فجعل المنافقون يستأذنون النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ويقولون: إن بيوتنا عورة، وما هي بعورة، فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، ويأذن لهم ويتسللون، ونحن ثلاثمئة ونحو ذلك، إذ استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا رجلًا، حتى أتى عليَّ وما عليَّ جُنَّة من العدو ولا من البرد إلا مرط امرأتي، ما يجاوز ركبتي، قال: فأتاني وأنا جاث على ركبتي فقال: «من هذا؟» فقلت: حذيفة، فقال: «حذيفة»، فتقاصرت للأرض، قلت: بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كراهية أن أقوم، فقمت فقال: وأنا من أشد الناس فزعًا وأشدهم قرًا، قال: فخرجت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته» قال: فوالله، ما خلق الله فزعًا ولا قرًا إلا خرج من جوفي فما أجد فيه شيئًا.
قال: فلما وليت قال: «يا حذيفة، لا تحدثن في القوم شيئًا حتى تأتيني»، قال: فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيديه على النار ويمسح بخاصرته ويقول: الرحيل الرحيل، ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فانتزعت سهمًا من كنانتي أبيض الريش فأضعه في كبد قوس لأرميه به في ضوء النار، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحدثن فيهم شيئًا حتى تأتيني»، فأمسكت ورددت سهمي إلى كنانتي، ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت العسكر، فإذا أدنى الناس منى بنو عامر يقولون: يا آل عامر، الرحيل الرحيل لا مقام لكم، وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبرًا، فوالله، إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم تضرب بها.
ثم إني خرجت نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتصفت بي الطريق أو نحو من ذلك إذا أنا بنحو من عشرين فارسًا، أو نحو ذلك، معتمين، فقالوا أخبر صاحبك أن الله قد كفاه، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشتمل في شملة يصلي، فوالله، ما عدا أن رجعت راجعني البرد، وجعلت أقرقف، فأومأ إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى فدنوت منه، فأسبل على شملته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى، فأخبرته خبر القوم، وأخبرته أنى تركتهم وهم يرحلون.
قال: وأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} إلى قوله تعالى: {وَكَفى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:9-25](7).
ومن صور الابتلاء الجوع:
أخرج أبو نعيم في الحلية عن سعد رضي الله عنه قال: كنا قومًا يصيبنا ظلف العيش بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدته، فلما أصابنا البلاء اعترفنا لذلك وَمَرَنَّا عليه وصبرنا له، ولقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خرجت من الليل أبول، وإذا أنا أسمع بقعقعة شيء تحت بولي، فإذا قطعة جلد بعير، فأخذتها فغسلتها ثم أحرقتها فوضعتها بين حجرين، ثم استففتها وشربت عليها من الماء، فقويت عليها ثلاثًا(8).
ومن صور البلاء نقص الأموال:
أخرج البيهقي عن أبي عمران رضي الله عنه قال: «غزونا المدينة، يريد القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم ملصقوا ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه لا إله إلا الله، يلقي بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب رضي الله عنه: إنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما نصر الله نبيه، وأظهر الإسلام قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]، فالإلقاء بأيدينا إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد»، قال أبو عمران: «فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دُفن بالقسطنطينية(9).
وهذا دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم بسبب انشغالهم بالدين جاءهم النقص في الأموال والأنفس فصبروا، وابتلوا بالجوع والخوف فصبروا.
ومن صور البلاء الابتلاء في الجسد بالمرض وفقد الأولاد:
مثلما حدث لسيدنا أيوب عليه السلام، فقد كان سيدنا أيوب عليه السلام كثير المال، من سائـر صنوفه وأنـواعه؛ مـن الأنعام والعبيد والمواشي والأراضي المتسعة، وكان له أولاد كثير، فسلب منه ذلك جميعه، وابتُلِي في جسده بأنواع من البلاء، ولم يبق منه عضو سليم إلا قلبه ولسانه يذكر الله عز وجل بهما، وهو في ذلك صابر محتسب، ذاكر الله عز وجل ليله ونهاره وصباحه ومساءه(10).
فنادى ربه {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)} [ص:41-44].
وعن نافع بن ذؤيب قال: «لما قدم عروة بن الزبير على الوليد بن عبد الملك فخرج برجله الأكلة، فبعث إليه [يعنى الوليد] بالأطباء، فأجمع رأيهم إن لم ينشروها قتلته، فقال: شأنكم بها، قالوا: نسقيك شيئًا لئلا تحس بما نصنع، قال: لا شأن لكم بها، فنشروها بالمنشار، فما حرك عضوًا عن عضو وصبر، فلما رأى القدم بأيديهم دعا بها فقلبها في يده ثم قال: أما والذى حملني عليك إنه ليعلم أني ما مشيت بك إلى حرام، [أو قال معصية]»(11) .
فائدة:
متى يُعرف أنه ابتلاء لترقية العبد، ومتى يعرف أنه ابتلاء عذاب ونقمة؟
إذا كان الابتلاء بعد الطاعة وامتثال الأوامر فهو نعمة لترقية العبد أولًا، تأتي المشقة ثم تأتي الراحة.
أما إذا جاء الابتلاء بعد المعصية؛ مثل فرعون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51]، وقارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78]، كانا أولًا في الراحة ثم أتى عليهما المشقة.
وقيل: وكل البلاء بالولاء حتى لا يدعى .
لذلك يأتي الاختبار من الله عز وجل: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت:1-6] .
وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)} [العنكبوت:10-11].
ولذلك جعل الله عز وجل الميزان هو الجهد، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15].
وفي حكمة هذا الابتلاء وجوه:
1- تحقيق العبودية لله رب العالمين:
فإن كثيرًا من الناس عبد لهواه وليس عبدًا لله، يعلن أنه عبد لله، ولكن إذا ابتلي نكص على عقبيه، خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين, قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11] .
2- الابتلاء إعداد للمؤمنين للتمكين في الأرض:
قيل للإمام الشافعي رحمه الله: «أيهما أفضل: الصبر أو المحنة أو التمكين؟»، فقال: «التمكين درجة الأنبياء، ولا يكون التمكين إلا بعد المحنة، فإذا امتحن صبر، وإذا صبر مُكِّن» .
3- كفارة للذنوب:
روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه، وولده، وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة».
وروى الترمذي أيضًا عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يُوَافِيَ به يوم القيامة».
4- حصول الأجر ورفعة الدرجات:
روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المؤمن من شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجةً، أو حط عنه بها خطيئةً»
5- الابتلاء فرصة للتفكير في العيوب؛ عيوب النفس وأخطاء المرحلة الماضية:
لأنه إن كان عقوبة فأين الخطأ؟
6- البلاء درس من دروس التوحيد والإيمان والتوكل:
يطلعك عمليًا على حقيقة نفسك لتعلم أنك عبد ضعيف، لا حول لك ولا قوة إلا بربك، فتتوكل عليه حق التوكل، وتلجأ إليه حق اللجوء، حينها يسقط الجاه والتيه والخيلاء، والعجب والغرور والغفلة، وتفهم أنك مسكين يلوذ بمولاه، وضعيف يلجأ إلى القوي العزيز سبحانه.
قال ابن القيم في (زاد المعاد، 4/195): «فلولا أنه سبحانه يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا، والله سبحانه إذا أراد بعبد خيرًا سقاه دواءً من الابتلاء والامتحان على قدر حاله، يستفرغ به من الأدواء المهلكة، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه أهَّله لأشرف مراتب الدنيا؛ وهي عبوديته، وأرفع ثواب الآخرة؛ وهو رؤيته وقربه» انتهى .
7- الابتلاء يخرج العجب من النفوس ويجعلها أقرب إلى الله:
قال ابن حجر: «قوله: {وَيَوْم حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتكُمْ} روى يونس بن بكير في (زيادات المغازي) عن الربيع بن أنس قال: قال رجل يوم حنين: لن نغلب اليوم من قلة, فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فكانت الهزيمة».
قال ابن القيم في (زاد المعاد، 3/477): «واقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولًا مرارة الهزيمة والكسرة، مع كثرة عَدَدِهم وعُدَدِهم وقوة شوكتهم؛ ليضع رءوسًا رفعت بالفتح، ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله واضعًا رأسه، منحنيًا على فرسه، حتى إن ذقنه تكاد تمس سرجه تواضعًا لربه وخضوعًا لعظمته واستكانة لعزته» انتهى .
وقال الله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:141] .
قال القاسمي (4/239): «أي لينقيهم ويخلصهم من الذنوب، ومن آفات النفوس، وأيضًا فإنه خلصهم ومحصهم من المنافقين، فتميزوا منهم...، ثم ذكر حكمة أخرى وهي {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}؛ أي يهلكهم، فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم، إذ جرت سنة الله تعالى إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسليط عليهم...، وقد محق الله الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأصروا على الكفر جميعًا» انتهى.
8- إظهار حقائق الناس ومعادنهم:
فهناك ناس لا يعرف فضلهم إلا في المحن.
قال الفضيل بن عياض: «الناس ما داموا في عافية مستورون، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم؛ فصار المؤمن إلى إيمانه، وصار المنافق إلى نفاقه».
وروى البيهقي في (الدلائل) عن أبي سلمة قال: «افتتن ناس كثير [يعني عقب الإسراء]، فجاء ناس إلى أبي بكر فذكروا له، فقال: أشهد أنه صادق، فقالوا: وتصدقه بأنه أتى الشام في ليلة واحدة ثم رجع إلى مكة؟ قال: نعم, إني أصدقه بأبعد من ذلك, أصدقه بخبر السماء, قال: فسمي بذلك الصديق».
9- الابتلاء يربي الرجال ويعدهم:
لقد اختار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم العيش الشديد، الذي تتخلله الشدائد، منذ صغره؛ ليعده للمهمة العظمى التي تنتظره، والتي لا يمكن أن يصبر عليها إلا أشداء الرجال، الذين عركتهم الشدائد فصمدوا لها، وابتلوا بالمصائب فصبروا عليها .
نشأ النبي صلى الله عليه وسلم يتيمًا، ثم لم يلبث إلا يسيرًا حتى ماتت أمه أيضًا .
والله سبحانه وتعالى يذكر النبي صلى الله عليه وآله بهذا فيقول: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى}،
فكأن الله تعالى أرد إعداد النبي صلى الله عليه وسلم على تحمل المسئولية ومعاناة الشدائد من صغره.
10- أن الإنسان يميز بين الأصدقاء الحقيقيين وأصدقاء المصلحة:
كما قال الشاعر:
جزى الله الشدائد كل خير وإن كانت تغصصني بريقـي
وما شكــــري لــــها إلا لأني عرفت بها عدوي من صديقي
11- الابتلاء يذكرك بذنوبك لتتوب منها:
والله عز وجل يقول: {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، ويقول سبحانه: {وَمَا أَصابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30].
فالبلاء فرصة للتوبة قبل أن يحل العذاب الأكبر يوم القيامة؛ فإن الله تعالى يقول: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأَدْنَى دُونَ العَذَابِ الأَكبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرجِعُونَ} [السجدة:21]، والعذاب الأدنى هو نكد الدنيا ونغصها، وما يصيب الإنسان من سوء وشر .
وإذا استمرت الحياة هانئة فسوف يصل الإنسان إلى مرحلة الغرور والكبر، ويظن نفسه مستغنيًا عن الله، فمن رحمته سبحانه أن يبتلي الإنسان حتى يعود إليه.
12- الابتلاء يكشف لك حقيقة الدنيا وزيفها وأنها متاع الغرور:
وأن الحياة الصحيحة الكاملة وراء هذه الدنيا، في حياة لا مرض فيها ولا تعب {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِىَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعلَمُونَ} [العنكبوت:64]، أما هذه الدنيا فنكد وتعب وهم: {لَقَدْ خَلَقنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] .
13- الابتلاء يذكرك بفضل نعمة الله عليك بالصحة والعافية:
فإن هذه المصيبة تشرح لك، بأبلغ بيان، معنى الصحة والعافية التي كنت تمتعت بهما سنين طويلة، ولم تتذوق حلاوتهما، ولم تقدرهما حق قدرهما.
المصائب تذكرك بالمنعم والنعم، فتكون سببًا في شكر الله سبحانه على نعمته وحمده .
14- الشوق إلى الجنة:
لن تشتاق إلى الجنة إلا إذا ذقت مرارة الدنيا, فكيف تشتاق للجنة وأنت هانئ في الدنيا؟
فهذه بعض الحكم والمصالح المترتبة على حصول الابتلاء، وحكمة الله تعالى أعظم وأجل(12).
الابتلاء داء والصبر دواء:
إن الذين شرفهم ربهم بشرف القيام بالدعوة إليه عليهم أن يصبروا على إيذاء الناس لهم، وعلى مقارعة الناس لهم، ولا يكون ذلك إلا بالنظر في سيرة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، والاقتداء بهم في مواجهة أقوامهم.
فقد قال الله عز وجل لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل:10]، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم:60]، {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:34]، {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48]، ولقد أوصى لقمان عليه السلام ابنه وهو يعظه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17].
فالصبر من الصفات الأساسية التي لا غنى عنها للداعي، ولا سيما إذا قورن الصبر باليقين، فلا تنال الإمامة في الدين إلا بهما، قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
فبالصبر يبلغ الإنسان حاجته، وباليقين يأتي الثبات على الأمر .
واعلم أنه ما وصل من وصل إلى المقامات المحمودة والنهايات الفاضلة إلا على جسر المحنة والابتلاء.
كذا المعالى إذا ما رمت تدركها فاعبر إليها على جسر من التعب
وقال المتنبي:
تريدين إدراك المعالي رخيصة ولا بد دون الشهد من إبر النحل(13).
أنواع الابتلاء:
يقول ابن القيم رحمه الله: «فإن الناس إذا أُرْسِل إليهم الرسل بين أمرين، إما أن يقول أحدهم: آمنا، وإما ألا يقول ذلك؛ بل يستمر على السيئات والكفر، فمن قال: آمنا امتحنه ربه، وابتلاه وفتنه، والفتنة: الابتلاء والاختبار؛ ليتبين الصادق من الكاذب، ومن لم يقل: آمنا، فلا يحسب أنه يُعجز الله ويفوته ويسبقه، فإنه إنما يطوي المراحل في يديه»(14).
وعلى ضوء ما تقدم فإنه يمكن تقسيم أنواع الابتلاء إلى ثلاثة:
1- ابتلاء عام، يشمل جميع البشر، مؤمنهم وكافرهم، قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:2]، وقال عز من قائل: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ} [الفجر:15]، {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] .
2- ابتلاء خاص بالمؤمن، {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت:2-3]، {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} [الأنفال:17].
3- ابتلاء أشد خصوصية، وهو يتعلق بالذين يدعون الناس إلى اتباع الوحي الذي أنزله لهداية البشر، وهو ما وضحه النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل: أي الناس أشد بلاءً؟، فقال: «الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبْتلى الرجل على حَسَبِ دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض ما عليه خطيئة»(15).
وعندما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم مع خديجة رضي الله عنها إلى ورقة بن نوفل، بعد أن جاءه الوحي، قال له ورقة: «هذا الناموس الذي نزَّل الله على موسى، يا ليتني كنت فيها جَذَعًا، ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك».
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو مخرجي هم؟»، قال: «نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي»(16) .
إذن فلا مفر ولا محيص من الابتلاء لصاحب كل دعوة إصلاح؛ بل ولكل صاحب دعوة جادة تحاول تبيان العورات التي عليها القوم، وخاصة المتنفذون، حتى وإن كان الداعية لم يشهر السلاح، ولم يدع إلى قلب نظام الحكم، أو عدم السمع والطاعة؛ بل بمجرد أن يشعر من بيده مقاليد الأمور أو حتى من اعتاد على أعراف وعادات معينة أن الرجل جاد في دعوته ومخلص لها، وأن الناس بدأت تتأثر بما يقول.
يقول ابن القيم رحمه الله: «ولما صدع رسول الله بأمر الله، وصرح لقومه بالدعوة، وناداهم بسب آلهتهم، وعيب دينهم؛ اشتد أذاهم له، ولمن استجاب له من أصحابه، ونالوه ونالوهم بأنواع الأذى، وهذه سنة الله عز وجل في خلقه، كما قال تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:43](17).
ولهذا عندما سئل الشافعي: «أيما أفضل للرجل، أن يُمَكَّن أو يبتلى؟»، فقال: «لا يمكن حتى يبتلى، فإن الله ابتلى نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا صلوات الله عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم ألبتة»(18).
فلا تمكين بدون ابتلاء، ولا إصلاح بدون أذى، ولا جنة بدون صعاب {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] .
ومن يطلب الحسناء لم يغلها المهر.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله، معلقًا على الحكم من إيراد قصص المتقدمين: «وفي قصص هذه الأمور عبرة للمؤمنين بـهم؛ فإنـهم لا بد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك، ولا ييأسوا إذا ابتلوا بذلك، ويعلمون أنه قد ابتلي به من هو خير منهم، وكانت العاقبة إلى خير، فيتيقن المرتاب، ويتوب المذنب، ويقوى إيمان المؤمنين، فبها يصح الاقتداء بالأنبياء»(19) .
أصناف الناس في مواجهة الشدائد:
فمنهم من يضعف، وربما تنكب طريق الحق، حرصًا على الحياة والرزق، وخوفًا من عذاب الناس، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الصنف في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ} [العنكبوت:10]، وموقفهم هذا ناشئ عن الجهل، أو ضعف الإيمان، أو الهزيمة النفسية التي يعيشونها.
ولقد قرر القرآن الكريم بوضوح أن الحياة والرزق بيد الله وحده، وأن العباد لا يملكون منهما شيئًا: {اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم:40].
وربما زاد بعضهم على هذا الخوف نقيصةً أخرى، فراح يهاجم العاملين للإسلام، متهمًا إياهم بالجهل، ومفتشًا عن أخطائهم، لعل ذلك، في تقديره، يطمس الحقيقة، ويستر خوفه وجبنه وضعف إيمانه، فيظهر أمام الناس حكيمًا كيسًا، لا جبانًا منهزمًا.
نعم قد يكون الابتلاء نتيجة مخالفة وأخطاء، كما حدث في غزوة أحد عندما خالف الرماة الأوامر، وقد ينزل من دون تلك المقدمات والأخطاء، كما حدث للذين آمنوا بالله عز وجل، فأمر الملك الظالم بحفر الأخدود، وإضرام النار فيه، ثم ألقي المؤمنون في النار: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].
ومنهم صنف يقابل ذلك الصنف الضعيف، لا تهزه العواصف، ولا تزحزحه المحن؛ يشق طريقه غير عابئ بما يلاقيه في سبيل الله عز وجل، يستعذب العذاب، ويستسهل الصعب.
ولقد كان هذا الصنف هو الغالب في جيل الصحابة، وكانت مواقفه وتضحياته سببًا في انتصار الحق وبقائه.
وقد تمثلت حقيقة هذا الصنف في مواقف كثيرة؛ كموقف أنس بن النضر رضي الله عنه في أُحد، عندما أشيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتِل، فقال أنس: «فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه»، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قُتل.
وموقف زيد بن الدَّثِنة رضي الله عنه حين قدَّمه المشركون للقتل فسأله أحدهم: «أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمدًا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنت في أهلك؟»، قال: «والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وأني جالس في أهلي».
وموقف خبيب بن عدي رضي الله عنه حين قدموه ليصلبوه فقال شعرًا، منه:
ولست أبالي حين أقتل مسلمًا على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع(20).
وقد نوه القرآن الكريم بهذا الصنف، وذلك في قول الله تبارك وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146].
وفي قوله سبحانه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].
وثمة صنف ثالث يشتد تارةً ويقوى، ويضعف تارةً أخرى، وهذا الصنف وإن كان فيه بقية خير، فإنه لا يُعَوَّل عليه، فقد يخذل الدعوة في أصعب الظروف(21).
فمن أي هذه الأصناف تريد أن تكون؟!
***
_____________
(1) في ظلال القرآن (1/ 145).
(2) أخرجه الترمذي (2399).
(3) أخرجه أحمد (17118).
(4) في ظلال القرآن (6/ 3299).
(5) زاد المعاد (3/ 17).
(6) خمس حقائق من فقه الابتلاء، موسوعة النابلسي للعلوم الإسلامية.
(7) البداية والنهاية (4/ 114).
(8) سيرة ابن هشام، ص194.
(9) تفسير القرطبي (2/ 361).
(10) قصص الأنبياء (1/ 362).
(11) صفة الصفوة (3/ 164).
(12) الحكمة من الابتلاءات، موقع: الإسلام سؤال وجواب، فتوى رقم:35914.
(13) كلمات مضيئة في الدعوة إلي الله، ص303، وما قبلها.
(14) إغاثة اللهفان (2/ 192).
(15) أخرجه الترمذي (2398).
(16) أخرجه البخاري (3).
(17) زاد المعاد (3/ 12).
(18) الفوائد، ص269.
(19) مجموع الفتاوى (15/ 178).
(20) جامع الأصول (8/ 255).
(21) المحنة في طريق الدعاة، رابطة أدباء الشام.