آداب النصيحة
النصيحة والتناصح من أعظم مقومات الأخوة في الله، ولأهمية النصيحة جعلها النبي صلى الله عليه وسلممن الدين، وبايع بعض الصحابة على النصح لكل مسلم، فعن جرير بن عبد الله قال: «بايعتُ النبي صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم»(1).
والنصيحة وردت في القرآن كصفة من صفات الأنبياء والصالحين، ولها الفضل والدلالة على الخير، قال تعالى مخبرًا عن نبيه نوح عليه السلام: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ} [الأعراف:62]، أي: أتحرى ما فيه صلاحكم، وقوله تعالى مخبرًا عن نبيه هود عليه السلام: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:68]؛ أي: ناصح لكم فيما أدعوكم إليه، فهذه النصوص القرآنية تفيد أن النصيحة من أبلغ ما يوجهها الأنبياء عليهم السلام إلى قومهم، وأنها تؤتي ثمارها في حالة السلب والإيجاب بالنسبة للنصاح؛ وذلك لثبوت الأجر عند الله تعالى.
حُكِي أن يحيى بن يزيد النوفلي كتب إلى مالك بن أنس رضي الله عنهما:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على رسوله محمد في الأولين والآخرين، من يحيى بن يزيد إلى مالك بن أنس، أما بعد :فقد بلغني أنك تلبس الدقاق، وتأكل الرقاق، وتجلس على الوطيء، وتجعل على بابك حاجبًا، وقد جلست مجلس العلم، وقد ضربت إليك المطي، وارتحل إليك الناس، واتخذوك إمامًا، ورضوا بقولك، فاتق الله تعالى يا مالك، وعليك بالتواضع، كتبت إليك بالنصيحة مني كتابًا ما اطلع عليه غير الله سبحانه وتعالى، والسلام.
فكتب إليه مالك :
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، من مالك بن أنس إلى يحيى بن يزيد، سلام الله عليك، أما بعد :فقد وصل إليّ كتابك، فوقع مني موقع النصيحة والشفقة والأدب، أمتعك الله بالتقوى، وجزاك بالنصيحة خيرًا، وأسال الله تعالى التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فأما ما ذكرت لي أني آكل الرقاق، وألبس الدقاق، وأحتجب، وأجلس على الوطيء فنحن نفعل ذلك، ونستغفر الله تعالى، فقد قال الله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ التِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ والطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِِ} [الأعراف:32]، وإني لأعلم أن ترك ذلك خير من الدخول فيه، ولا تدعنا من كتابك فلسنا ندعك من كتابنا، والسلام(2).
من وحي هذا المثل الرائع في النصح تتبدى لنا أمور، تنتصب منارات هداية، وعلامات رشد، تضبط السلوك وتوجهه، وتحسن الأداء وترشده، وتسعى إلى تماسك الوشائج، وتمتين العلاقات والروابط، كما ينبغي أن يكون ذلك كله بين الإخوان، وفق المنهج الرباني السديد.
ولِمَا للنصيحة من مكانة عظيمة، يلتئم بها المجتمع المسلم، ويصبح مجتمعًا ربانيًا، كان علينا أن نفقه النصيحة، ونفقه آدابها وضوابطها؛ حتى نتدارك بعض الأخطاء والهفوات، التي يقع فيها بعض الناصحين من الآمرين بالمعروف وغيرهم سهوًا وغفلة؛ بحيث لا تتحول النصيحة من تغيير وإصلاح إلى تنفير، ومن صفاء إلى تعكير.
فللنصيحة آداب وشروط لا بد للناصح أن يتحلى بها؛ حتى تقع نصيحته من المنصوح موقع القبول، قال صلى الله عليه وسلم: «من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل»(3)، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم النصيحة دينًا، فقال صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة»(4)، ومن هذه الآداب:
أن تكون خالصة لوجه الله تعالى وحده:
الناصح لا بد أن يكون مخلصًا لله تعالى في النصح، بحيث لا يكون قصده الرياء ولا السمعة، ولا لتحقيق غرض دنيوي، ولا لإظهار تميز الناصح.
فالنصيحة ثقيلة على القلوب، ولن تتقبلها إلا إذا خرجت من قلب طاهر نقي؛ لأن ما خرج من القلب يدخل مباشرة إلى القلب, والله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا له وحده .
يريدون بعملهم وجه الله، يتكلمون لله، ويعملون لله، ويأمرون وينهون لله الواحد الأحد، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)} [الزمر:65-66]، والأعمال بالنيات، أن تخلص في نصيحتك، أن تريد الخير للمنصوح، وأن تريد أن تصحح مساره، لا تركب على كتفيه؛ لأن من الناس من يريد بالنصيحة الظهور له أو الشهرة.
فلا يبغي الناصح من نصحه إظهار رجاحة عقله، أو فضح المنصوح والتشهير به، وإنما يكون غرضه من النصح الإصلاح، وابتغاء مرضاة الله.
التثبت وحسن الظن:
المسلم يحسن الظن بإخوانه, ولا يأخذهم بالشبهة, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6], ولا يشتغل بعيوبهم عن عيبه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12] .
يقول ابن كثير: «يقول تعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله؛ لأن بعض ذلك يكون إثمًا محضًا، فليُجْتَنب كثيرٌ منه احتياطًا، وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم إلا خيرًا، وأنت تجد لها في الخير محملًا»(5).
قالت بنت عبد الله بن مطيع لزوجها طلحة بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، وكان طلحة أجود قريش في زمانه، قالت: ما رأيت قومًا ألأم من إخوانك، قال لها: مه مه، ولم ذلك؟ قالت: أراهم إذا أيسرت لزموك، وإذا أعسرت تركوك، فقال لها: هذا والله من كرم أخلاقهم، يأتوننا في حال قدرتنا على إكرامهم، ويتركوننا في حال عجزنا عن القيام بحقهم.
فانظر كيف تأول طلحة صنيع إخوانه معه، وهو ظاهر القبح والغدر، بأن اعتبره وفاءً وكرمًا(6).
البعد عن التجريح والتأنيب وإيذاء المشاعر:
النصيحة ليس معناها التجريح أو الفضيحة، ولقد كان الرسول صلي الله عليه وسلم يفضل الأسلوب غير المباشر في النصح فيقول: «ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا»، فعن أنس بن مالك حدثهم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم»، فاشتد قوله في ذلك حتى قال: «لَيَنتَهُن عن ذلك أو لتُخطفن أبصارُهم»(7).
وعن مسروق قال: قالت عائشة: صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فخطب فحمد الله ثم قال: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية»(8) .
فالنصح أن تدلَّ الشخص على الخير، وأن ترشده إلى الحق، كما كان عمر بن الخطاب يطلب إلى الناس أن ينصحوه ويقول: مرحبًا بالناصح غدوًا وعشيًا(9).
فالأولى الإسرار بالنصيحة وعدم التشهير والحرص على الستر، فالنصيحة أمام الناس توبيخ وتقريع لا يقبله الناس، قال مسعر بن كدام رحمه الله: رحم الله مَن أهدى إليَّ عيوبي في سر بيني وبينه؛ فإن النصيحة في الملأ تقريع, وكان عمر رضي الله عنه يقول على المنبر: رحم الله مَن أهدى إليَّ عيوبي(10).
وكان يقول لحذيفة بن اليمان، الخبير بالمنافقين، والذي اختص بسرِّ المنافقين، وعَرَّفه الرسول صلى الله عليه وسلم بهم، كان عمر يقول له: يا حذيفة، بالله عليك, أتجدني منهم؟ فيقول له حذيفة: لا يا عمر، ولا أُزكي أحدًا بعدك(11).
مر أبو الدرداء رضي الله عنه يومًا على رجل قد أصاب ذنبًا، وكانوا يَسُبُّونه، فقال: «أرأيتم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا تستخرجونه؟»، قالوا: بلى، قال: «فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم»، قالوا: أفلا نَبْغَضُه؟ قال: «إنما أَبْغَضُ عملَه، فإذا ترك فهو أخي»(12).
يُحكى أن الحسن والحسين مرَّا على شيخ يتوضأ ولا يحسن الوضوء، فاتفقا على أن ينصحا الرجل، ويعلماه كيف يتوضأ، ووقفا بجواره، وقالا له: يا عم، انظر أَيُّنا أحسن وضوءًا، ثم توضأ كل منهما، فإذا بالرجل يرى أنهما يحسنان الوضوء، فعلم أنه هو الذي لا يحسنه، فشكرهما على ما قدماه له من نُصح دون تجريح.
قال الشافعي: مَن وعظ أخاه سرًا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وخانه(13) .
وأنشد الشافعي رحمه الله:
تعمدني بنصحكَ في انفرادي وجَنِّبْني النصيحةَ في الجماعة
فإن النصـح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
فـإن خالفتني وعصيت قولي فـلا تجزع إذا لم تعط طاعة
قال أحدهم: لتكن نصيحتك لأخيك تلميحًا لا تصريحًا، وتصحيحًا لا تجريحًا .
اختيار الوقت المناسب:
لابد للناصح من اختيار الوقت المناسب الذي يسدي فيه النصيحة للمنصوح؛ لأن المنصوح لا يكون في كل وقت مستعدًا لقبول النصيحة، فقد يكون مكدرًا في نفسه بحزن أو غضب أو فوات مطلوب، أو غير ذلك؛ مما يمنعه من الاستجابة لنصح الناصح.
ومن فقه النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه حكيم بن حزام فسأله مالًا فأعطاه، ثم جاء في وقت آخر فسأله فأعطاه، ثم جاء ثالثة فسأله فأعطاه، ثم قال له: «يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه باستشراف نفس لم يبارك له فيه»(14).
سأله في أول مرة وهو محتاج فأعطاه، لو قال له في ذلك الوقت: السؤال ليس مناسبًا والتسول ليس مطلوبًا لقال: إنما يريد أن يصرفني، ولا يريد أن يعطيني؛ لكنه أعطاه، والمرة الثانية أعطاه، والمرة الثالثة أعطاه، فلما أشار له إشارة أن التطلب لهذا المال قد لا يكون مناسبًا وقعت النصيحة والموعظة في موقعها، وعلم أنه ما قال له ذلك لأنه بخيل، فحاشاه عليه الصلاة والسلام، أو لأنه لا يريد أن يعطيه، وإنما قاله له لمصلحته، فعرف ذلك بعد أن اختار الوقت المناسب، وبعد أن سد له حاجته في مرة واثنتين حتى لا تذهب به الظنون بعيدًا، فأي شيء أثر ذلك في حكيم؟
قال: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا، وفي عهد أبي بكر أرسل له عطاءه المستحق له من بيت المال فرده، وفي عهد عمر كذلك رد عطاءه.
انظروا كيف تغلغل أثر هذا في نفسه، حتى إنه لم يعد يأخذ شيئًا ولو كان له فيه حق؛ لأن نفسه سَمَت وارتفعت عن أن يأخذ بعد أن فقه هذه النصيحة فقهًا له أثره العظيم في حياته.
فاختيار الوقت المناسب والظرف المناسب من أكبر الأسباب لقبول النصيحة وإزالة المنكر، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: «إن للقلوب شهوة وإقبالًا، وفترة وإدبارًا، فخذوها عند شهوتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها»(15)، فهنيئًا لذلك الداعية الذي يعرف متى تدبر القلوب، ومتى تقبل، فيحسن الإنكار، ويجيد مخاطبة القلوب(16).
اللين في النصح:
أمرنا الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة والنصح فقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، وقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وقال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].
روى البخاري في صحيحه عن عائشة قالت: استأذن رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا (أي للنبي): السام عليك، فقلت: بل عليكم السام واللعنة، فقال: «يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله»، قلت: أو لم تسمع ما قالوا؟ قال: قلت: «وعليكم»(17).
فهؤلاء اليهود من سوء أدبهم وسوء طويتهم لووا ألسنتهم، وحرفوا الكلم، فبدل أن يقولوا: السلام عليك، قالوا: السام، أي الموت والهلاك، ولكن الرسول الكريم من حسن أدبه، وعظمة خُلُقه، لم يرد أن يجعل من ذلك معركة؛ بل رد بهذه الكلمة النبيلة قائلًا: «وعليكم»، أي أن الموت مكتوب على كل البشر، علينا وعليكم، ثم علَّم عائشة هذا الأدب الرفيع، أدب الرفق في التعامل، حين قال لها: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه»(18).
وعنها أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه»(19) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بال أعرابي في المسجد، فقام الناس إليه ليقعوا فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوه، وهريقوا على بوله سجلًا من ماء، أو ذنوبًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين»(20).
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا»(21) .
روى معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أُمِّيَاه، ما شأنكم تنظرون إلي؟، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله، ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»(22) .
وقال محمد بن زكريا الغلابي: شهدت عبد الله بن محمد بن عائشة ليلة، وقد خرج من المسجد بعد المغرب يريد منزله، وإذا في طريقه غلام من قريش سكران، وقد قبض على امرأة فجذبها فاستغاثت، فاجتمع الناس عليه يضربونه، فنظر إليه ابن عائشة فعرفه، فقال للناس: تنحوا عن ابن أخي، ثم قال: إلي يا ابن أخي، فاستحى الغلام، فجاء إليه فضمه إلى نفسه، ثم قال له: امض معي، فمضى معه حتى صار إلى منزله، فأدخله الدار وقال لبعض غلمانه: بَيِّتْه عندك، فإذا أفاق من سكره فأعلمه بما كان منه، ولا تدعه ينصرف حتى تأتيني به، فلما أفاق ذكر له ما جرى فاستحيا منه، وبكى وهَمَّ بالانصراف، فقال الغلام: قد أمر أن تأتيه، فأدخله عليه فقال له: أما استحييت لنفسك، أما استحييت لشرفك، أما ترى من ولدك، فاتق الله وانزع عما أنت فيه، فبكى الغلام منكسًا رأسه، ثم رفع رأسه وقال: عاهدت الله تعالى، عهدًا يسألني عنه يوم القيامة، أني لا أعود لشرب النبيذ، ولا لشيء مما كنت فيه، وأنا تائب، فقال: ادن مني، فقبل رأسه، وقال: أحسنت يا بني، فكان الغلام بعد ذلك يلزمه ويكتب عنه الحديث، وكان ذلك ببركة رفقه، ثم قال: إن الناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويكون معروفهم منكرًا، فعليكم بالرفق في جميع أموركم تنالون به ما تطلبون(23) .
وعن الفتح بن شُخْرُف قال: تعلق رجل بامرأة وتعرض لها وبيده سكين، لا يدنو منه أحد إلا عقره، وكان الرجل شديد البدن، فبينا الناس كذلك والمرأة تصيح في يده؛ إذ مر بشر بن الحارث فدنا منه، وحك كتفه بكتف الرجل فوقع الرجل على الأرض، ومشى بشر، فدنوا من الرجل وهو يترشح عرقًا كثيرًا، ومضت المرأة لحالها، فسألوه: ما حالك؟ فقال: ما أدري، ولكن حاكني شيخ وقال لي: إن الله عز وجل ناظر إليك وإلى ما تعمل، فضعفت لقوله قدماي، وهبته هيبة شديدة، ولا أدري مَن ذلك الرجل، فقالوا له: هو بشر بن الحارث، فقال: واسوأتاه، كيف ينظر إلى بعد اليوم، وحم الرجل من يومه، ومات يوم السابع، فكذا كانت عادة أهل الدين في الحسبة(24) .
ويروى أن الخليفة المأمون وعظه واعظ فأغلظ له في القول، فقال: يا رجل، ارفق فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني وأمره بالرفق، فقال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [طه:43-44](25).
خفف أعرابي صلاته، فقام إليه علي رضي الله عنه بالدرة وقال: أَعِدْها، فلما فرغ قال: أهذه خير أم الأولى؟ قال: بل الأولى، قال: لِمَ؟ قال: لأن الأولى صليتها لله عز وجل، وهذه فَرَقًا من الدرة، فضحك علي(26).
معرفة أحوال الناس، ومراعاة منازلهم ومقاماتهم:
بأن يعرف الداعية من يدعو معرفة يطمئن إليها، ومعرفة تسمح له أن يقدر تقديرًا مبدئيًا حالة من يدعوه وطاقته ومقامه، وأن يكون المنهج سليمًا، فإذا اطمأن من تدعوه إلى سلامة منهج الدعوة الإسلامية، وتكاليفها، ووعاها، وآمن بها، واستعد لحملها، والدفاع عنها، والمضي بها، فإنه يكون قد أصبح قادرًا على أن يدخل مرحلة البناء والإعداد والتربية، ومن ثم يلتزم بالمنهج والخطة السليمة.
إن الدعوة الإسلامية حين تتوجه إلى كافة الناس لإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله سبحانه وتعالى، وحين تتوجه الدعوة الإسلامية إلى كافة الشعوب الواسعة، وتتحرر من الإقليمية الضيقة إلى الأفق الواسع، إلى أرض الله الواسعة، حينئذ تؤتي ثمارها، وتحقق الأهداف المناطة بها، أضف إلى ذلك إذا عرف الداعية مقامات الناس، وأنزلهم منازلهم فإن دعوته يكون لها قبول عند الناس، فالأمي يختلف عمن يحمل شهادات عالية، ونصيحة الرجل العادي تختلف عن نصيحة السلطان.
آداب المنصوح:
إذا كان ما سبق آدابًا وضعها الإسلام للناصح؛ أي لمن يقوم بالنصيحة، فإن هنالك آدابًا خاصة بالمنصوح، منها:
عدم التكبر في قبول النصيحة:
قيل: تقبل النصيحة بأي وجه، وأدِّها على أحسن وجه، قال رجل مرة لعمر بن الخطاب: اتق الله يا ابن الخطاب، فضاق بعض الحاضرين بهذا، فقال عمر: دعوه، والله لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها.
فعلى المنصوح أن يتقبل النصح بنفس راضية، وقد صدق القائل: من اصفر وجهه عند النصيحة اسود لونه من الفضيحة.
روي أن معاوية رضي الله عنه حبس العطاء يومًا، فقام إليه أبو مسلم الخولاني رضي الله عنه فقال له: يا معاوية، إنه ليس من كدك، ولا من كد أبيك، ولا من كد أمك، فغضب معاوية غضبًا شديدًا، ونزل عن المنبر، وقال للناس: مكانكم، وغاب عن أعينهم ساعة ثم خرج إليهم وقد اغتسل فقال: إن أبا مسلم كلَّمني بكلام أغضبني، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الغضب من الشيطان، والشيطان خلق من نار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليغتسل، وإني دخلت فاغتسلت، وصدق أبو مسلم، إنه ليس من كدِّي، ولا من كد أبي، فهلموا إلى عطائكم(27) .
عدم الإصرار على الباطل:
فالرجوع إلى الحق فضيلة، والتمسك بالباطل رذيلة، والمسلم يحذر أن يكون ممن قال الله تعالى فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206]، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل .
ولقد وصف الله عباده المؤمنين حينما يقعون في الخطأ أنهم يستغفرون الله، فأثابهم الله جزاء ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار؛ فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} [آل عمران:135–136] .
عن سلمة بن عمرو بن الأكوع رضي الله عنه أن رجلًا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال: «كل بيمينك»، قال: لا أستطيع، قال: «لا استطعت»، ما منعه إلا الكبر، فما رفعها إلى فيه(28).
شكر الناصح:
حثنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقدم كلمة الشكر لمن صنع إلينا معروفًا؛ فنقول له: جزاك الله خيرًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صُنِع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرًا، فقد أَبْلَغَ في الثناء»(29).
فيجب على المنصوح أن يقدم الشكر لمن نصحه، فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يشكر اللهَ من لا يشكر الناس»(30).
______________
(1) رواه مسلم (56).
(2)إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي (1/67).
(3) رواه مسلم (2199).
(4) أخرجه البخاري (57)، ومسلم (56).
(5) تفسير ابن كثير (7/377).
(6) أدب الدنيا والدين، للماوردي، ص222.
(7) رواه البخاري (750).
(8) رواه البخاري (6101).
(9) رواه الطبري في التاريخ (2/579).
(10) سنن الدارمي (1/166).
(11) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (7/481).
(12) شعب الإيمان، للبيهقي (6264).
(13) رواه أبو نعيم في الحلية (9/140).
(14) رواه البخاري (1472).
(15) الآداب الشرعية والمنح المرعية، لابن مفلح (2/100).
(16) فقه النصيحة، محمد أبو صعيليك، ص9.
(17) رواه البخاري (6927).
(18) رواه مسلم (2593).
(19) رواه مسلم (2594).
(20) رواه البخاري (220).
(21) اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، محمد فؤاد عبد الباقي (1131).
(22) رواه مسلم (537).
(23) إحياء علوم الدين (2/335).
(24) المصدر السابق.
(25) مفهوم الحكمة في الدعوة، د. صالح بن عبد الله بن حميد، ص35.
(26) التذكرة الحمدونية، لأبي المعالي محمد بن الحسن بن حمدون (3/209).
(27) إحياء علوم الدين (2/344).
(28) رواه مسلم (2021).
(29) رواه الترمذي (2035).
(30) أخرجه أحمد (8019).