إنا كفيناك المستهزئين
قال الله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام: 10]، وقال عز وجل: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا، وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34]، وقال تبارك وتعالى: {إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95].
إننا نعيش الآن فترة عصيبة من حياة أمة الإسلام، أصبح فيها سب الدين والانتقاص من شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ديدن كل كافر وملحد وزنديق وعدو حاقد، من شتى الملل والأجناس، من اليهود وعباد الصليب وعباد البقر وممن لا دين لهم، وهكذا أصبحت ذات النبي صلى الله عليه وسلم غرضًا لأنجاس البشر في كل مكان، وآخرهم فرنسا والدنمارك، هكذا جهارًا نهارًا تحت سمع وبصر مليار ونصف مليار مسلم، والذي دفعهم لذلك علمهم بأن المسلمين لن يتحركوا ولن يغضبوا، بل سيكتفون بالألم النفسي وحسرة القلوب، والشجب والإدانة كما هي العادة، مع دعاءٍ بالويل والثبور من على منابر الجمعة، وكيف بنا إذا وقفنا بين يدي ربنا، وعلى حوض نبينا ماذا سنقول لهم؟.
وأمثال هؤلاء المستهزئين قال الله في حقهم: {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)} [البقرة: 15- 18].
ولكن الذي أنزل القرآن هو الله الذي أرسل أنبياءه وهو أعلم بما حدث معهم وما سيحدث إلى يوم القيامة، ولذلك قال تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [الرعد: 32]، إذًا الاستهزاء ثم الإمهال ثم الأخذ ثم العقاب يوم القيامة.
لقد كان النصارى ينشرون دعاتهم بين قبائل المغول طمعًا في تنصيرهم وقد مهد لهم الطاغية هولاكو سبيل الدعوة بسبب زوجته الصليبية ظفر خاتون، وذات مرة توجه جماعة من كبار النصارى لحضور حفل مغولي كبير عقد بسبب تنصر أحد أمراء المغول، فأخذ واحد من دعاة النصارى في شتم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هناك كلب صيد مربوط، فلما بدأ هذا الصليبي الحاقد في سب النبي صلى الله عليه وسلم زمجر الكلب وهاج ثم وثب على الصليبي وخمشه بشدة، فخلصوه منه بعد جهد، فقال بعض الحاضرين: هذا بكلامك في حق محمد عليه الصلاة والسلام.
فقال الصليبي: كلا؛ بل هذا الكلب عزيز النفس، رآني أشير بيدي فظن أني أريد ضربه، ثم عاد لسب النبي وأقذع في السب، عندها قطع الكلب رباطه ووثب على عنق الصليبي وقلع زوره في الحال، فمات الصليبي من فوره، فعندها أسلم نحو أربعين ألفًا من المغول (1).
صدق الله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95]، والتعبير عنهم بوصف المستهزئين إيماء إلى أنه كفاه استهزاءهم وهو أقل أنواع الأذى، فكفايته ما هو أشد من الاستهزاء من الأذى مفهوم بطريق الأحرى.
وتأكيد الخبر ب (إن) لتحقيقه اهتمامًا بشأنه لا للشك في تحققه.
والتعريف في المستهزئين للجنس فيفيد العموم، أي كفيناك كل مستهزء، وفي التعبير عنهم بهذا الوصف إيماء إلى أن قصارى ما يؤذونه به الاستهزاء، كقوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران: 111]، فقد صرفهم الله عن أن يؤذوا النبي صلى الله عليه وسلم بغير الاستهزاء، وذلك لطف من الله برسوله صلى الله عليه وسلم.
ومعنى الكفاية تولي الكافي مهم المكفي، فالكافي هو متولي عمل عن غيره لأنه أقدر عليه، أو لأنه يبتغي راحة المكفي، يقال: كفيت مهمك، فيتعدى الفعل إلى مفعولين ثانيهما هو المهم المكفي منه، فالأصل أن يكون مصدرًا، فإذا كان اسم ذات فالمراد أحواله التي يدل عليها المقام، فإذا قلت: كفيتك عدوك، فالمراد: كفيتك بأسه، وإذا قلت: كفيتك غريمك، فالمراد: كفيتك مطالبته، فلما قال هنا كفيناك المستهزئين فهم أن المراد كفيناك الانتقام منهم وإراحتك من استهزائهم، وكانوا يستهزئون بصنوف من الاستهزاء (2).
قصة كسرى وقيصر المشهورة مع النبي صلى الله عليه وسلم جديرة بالتأمل، فقد كتب إليهما النبي صلى الله عليه وسلم، فامتنع كلاهما من الإسلام، لكن قيصر أكرم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأكرم رسوله، فثبَّت الله ملكه، وكسرى مزَّق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتله الله بعد قليل، ومزَّق ملكه كل ممزق، ولم يبق للأكاسرة ملك (3).
وكان من أثر ذلك ما ذكره السهيليُ أنه بلغه: أن هرقل وضع الكتاب في قصبة من ذهب تعظيمًا له، وهم لم يزالوا يتوارثونه، حتى كان عند ملك الفرنج الذي تغلب على طليطلة، ثم كان عند سِبْطه، فحدثني بعض أصحابنا أن عبد الملك بن سعد أحد قُوَّاد المسلمين اجتمع بذلك الملك، فأخرج له الكتاب، فلما رآه استعبر، وسأل أن يمكِّنه من تقبيله، فامتنع.
ثم ذكر ابن حجر: عن سيف الدين فليح المنصوري، أن ملك الفرنج أطلعه على صندوق مُصفَّح بذهب، فأخرج منه مقلمة ذهب، فأخرج منها كتابًا قد زالت أكثر حروفه، وقد التصقت عليه خِرقَة حرير، فقال: هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ، ونعظِّمه ونكتمه عن النصارى؛ ليدوم الملك فينا (4).
قال العلامة السعدي في تفسيره لهذه الآية: وهذا وعْدٌ من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أنْ لا يضره المستهزئون، وأنْ يكفيه الله إياهم بما شاء من أنواع العقوبة، وقد فعل الله تعالى، فإنَّه ما تظاهر أحدٌ بالاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أهلكه الله وقتله شر قتلة (5).
وينبغي أن يُعْلم أن كفاية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ممن استهزأ به أو آذاه ليست مقصورة على إهلاك هذا المعتدي بقارعة أو نازلة، بل صور هذه الكفاية والحماية متنوعة متعددة، قال الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31]، ولعل تتبع هذا الأمر يطول، غير أننا نكتفي بعرض عدة نماذج، كفى الله فيها رسوله صلى الله عليه وسلم ممن آذاه أو استهزأ به في حياته، وهذه بعض أسمائهم مع بيان حالهم ونهاية حياتهم:
قال ابن إسحاق: عن عروة بن الزبير، أو غيره من العلماء، أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت، فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، فمر به الأسود ابن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء، فعمي.
ومر به الأسود بن عبد يغوث، فأشار إلى بطنه، فاستسقى بطنه، فمات منه حبنًا.
ومر به الوليد بن المغيرة، فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله -كان أصابه قبل ذلك بسنتين وهو يجر إزاره، وذلك أنه مر برجل من خزاعة يريش نبلًا له، فتعلق سهم من نبله بإزاره، فخدش رجله ذلك الخدش، وليس بشيء، فانتقض به فقتله.
ومر به العاص بن وائل، فأشار إلى أخمص قدمه، فخرج على حمار له يريد الطائف، فربض على شبرقة فدخلت في أخمص رجله منها شوكة فقتلته.
ومر به الحارث بن الطلاطلة، فأشار إلى رأسه، فامتخط قيحًا، فقتله (6).
هؤلاء من صناديد الكفر بمكة، اعتدوا على مقام النبي صلى الله عليه وسلم بالإيذاء والاستهزاء، فأهلكهم الله بأساليب شديدة شتى وفي مدة وجيزة، نكالًا لهم في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى، وفي ذلك عبرة لمن يعتبر.
كان أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم، كان من أشد الناس تكذيبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثرهم أذى له، وهو القائل للنبي صلى الله عليه وسلم: تبًا لك! ألهذا جمعتنا؟
وكذلك كانت امرأته من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تضع الشوك في طريقه، والقذر على بابه، فلا عجب أن نزل فيهم قول الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)} [المسد: 1- 5]، وقد أخذ الله أبا لهب بمكة، إذ أصابه بمرض خبيث يقال له: مرض العدسة، وكان ذلك يوم هزيمة المشركين ببدر، فجمع الله عليه البلاء والعذاب النفسي والبدني، فمات شر ميتة.
ذكر الطبري في تاريخه: أن العدسة قرحة كانت العرب تتشاءم بها، ويرون أنها تعدي أشد العدوى، فلما أصابت أبا لهب تباعد عنه بنوه، وبقي بعد موته ثلاثًا، لا تقرب جنازته، ولا يحاول دفنه، فلما خافوا السُّبَّةَ في تركه، حفروا له، ثم دفعوه بعود في حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه (7).
وكان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزا إلى الشام، فقال ابنه عتبة: والله لأنطلقَنَّ إلى محمد ولأوذينَّه في ربه، فانطلق حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، كفرت بالذي دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: «اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك».
ثم انصرف عنه، فرجع إلى أبيه فقال: يا بُنَيّ، ما قلت له؟ فذكر له ما قاله، فقال: فما قال لك؟ قال: قال: «اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك»، قال: يا بني، والله ما آمن عليك دعاءه.
فساروا حتى نزلوا بالشراة؛ وهي أرضٌ كثيرة الأسد، فقال أبو لهب: إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي، وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوة، والله ما آمنها عليه، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة، وافرشوا لابني عليها ثم افرشوا حولها، ففعلنا، فجاء الأسد فشمَّ وجوهنا، فلما لم يجد ما يريد تقبض فوثب وثبة، فإذا هو فوق المتاع، فشمَّ وجهه ثم هزمه هزمة ففسخ رأسه، فقال أبو لهب: قد عرفت أنه لا يتفلت من دعوة محمد (8).
روى أنس رضي الله عنه قال: كان رجل نصرانيًا فأسلم، وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فعاد نصرانياً، فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله، فدفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم، نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له، فأعمقوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم، فألقوه، فحفروا له وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبح قد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه (9).
يقول ابن تيمية: وهذا أمر خارج عن العادة، يدل كل أحد على أن هذه عقوبة لما قاله، وأنه كان كاذبًا؛ إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا، وأن هذا الجُرم أعظم من مجرد الارتداد؛ إذ كان عامة المرتدين لا يصيبهم مثل هذا، وأن الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبَّه، ومُظْهِرٌ لدينه، وكذب الكاذب (10).
وذكر الكتاني: أنه ظهر في زمن الحاكم رجلٌ سَمَّى نفسه هادي المستجيبين، وكان يدعو إلى عبادة الحاكم، وحُكيَ عنه أنه سبَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وبصق على المصحف، فلما ورد مكة شكاه أهلها إلى أميرها، فدافع عنه، واعتذر بتوبته، فقالوا: مثل هذا لا توبة له، فأَبَى، فاجتمع الناس عند الكعبة وضجُّوا إلى الله، فأرسل الله ريحًا سوداء حتى أظلمت الدنيا، ثم تجلت الظلمة وصار على الكعبة فوق أستارها كهيئة الترس الأبيض له نور كنور الشمس، فلم يزل كذلك ترى ليلًا ونهارًا، فلما رأى أميرُ مكة ذلك أمر بـ"هادي المستجيبين"، فضربَ عنقَهُ وصلبَه (11).
وذكر القاضي عياض قصة عجيبة لساخرٍ بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن فقهاء القيروان وأصحابَ سحنون أفتوا بقتل إبراهيم الفزاري، وكان شاعرًا متفننًا في كثير من العلوم، وكان يستهزئ بالله وأنبيائه ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فأمر القاضي يحيى بن عمر بقتله وصلبه، فطُعن بالسكين وصُلب مُنكسًا (12).
وحكى بعضُ المؤرخين أنه لما رُفعت خشبته، وزالت عنها الأيدي استدارت وحوَّلته عن القبلة، فكان آيةً للجميع، وكبَّر الناسُ، وجاء كلبٌ فولغ في دمه.
وحكى الشيخ العلامة أحمد شاكر أن خطيبًا فصيحًا مفوهًا أراد أن يثني على أحد كبار المسئولين؛ لأنه احتفى بطه حسين، فلم يجد إلا التعريض برسول الله صلى الله عليه وسلم.. فقال في خطبته: جاءه الأعمى، فما عبس وما تولى.
قال الشيخ أحمدُ: ولكن الله لم يَدَعْ لهذا المجرم جرمه في الدنيا، قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى، فأقسم بالله لقد رأيته بعيني رأسي بعد بضع سنين -وبعد أن كان عاليًا منتفخًا، مستعزًّا بمن لاذ بهم من العظماء والكبراء- رأيته مهينًا ذليلًا، خادمًا على باب مسجد من مساجد القاهرة، يتلقى نعال المصلين يحفظها في ذلة وصغار.
وذكروا أن رجلًا ذهب لنيل الشهادة العليا من جامعة غربية، وكانت رسالتُهُ متعلقة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكان مشرفُهُ شانئًا حانقًا، فأبى أن يمنحه الدرجة حتى يضمِّن رسالته انتقاصًا للمصطفى صلى الله عليه وسلم، فضعفت نفسه، وآثر الأولى على الآخرة. فلما حاز شهادته ورجع إلى دياره، فوجئ بهلاك جميع أولاده وأهله في حادث مفاجئ.
لا إله إلا الله، صدق الله {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95].
وليُعلمْ أن كفاية الله لنبيه ممن استهزأ به أو آذاه ليست مقصورة على إهلاك هذا المعتدي بقارعة أو نازلة، بل صور هذه الكفاية والحماية متنوعة متعددة..
فقد يكفيه الله عز وجل بأن يسلط على هذا المستهزئ المعتدي رجلًا من المؤمنين يثأر لنبيه صلى الله عليه وسلم، كما حصل في قصة كعب بن الأشرف اليهودي الذي كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، واليهودية التي كانت تشتمُ النبي صلى الله عليه وسلم، فخنقها رجل حتى ماتت، وأم الولد التي قتلها سيِّدها الأعمى لما شتمت النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي جهل إذ قتله معاذٌ ومعوّذٌ لأنه كان يسبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخُطْميةِ التي هجت النبي صلى الله عليه وسلم فانتدب لها رجل من قومها، وأبي عَفَكٍ اليهودي الذي هجا النبي صلى الله عليه وسلم فاقتصّه سالم بن عمير، وأنسِ بن زُنَيم الذي هجا النبي صلى الله عليه وسلم فشجَّه غلام من خزاعة، وسلامِ بن أبي الحقيق إذ ثأر للنبي صلى الله عليه وسلم منه عبدُ الله بن عتيك وصحبه (13).
ولعل أغرب وأعجب وأطرف ما وقفت عليه في هذا الباب ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في مؤلفه المشهور الصارم المسلول على شاتم الرسول، قال رحمه الله: وقد ذكروا أن الجن الذين آمنوا به، كانت تقصد من سبَّه من الجن الكفار فتقتله، فيقرها على ذلك، ويشكر لها ذلك (14).
ونُقل عن أصحاب المغازي أن هاتفًا هتف على جبل أبي قبيس بشِعْرٍ فيه تعريض بالنبي صلى الله عليه وسلم، فما مرت ثلاثة أيام حتى هتف هاتف على الجبل يقول:
نحن قتلنا في ثلاثٍ مِسعرا إذ سفه الحق وسنَّ المنكرا
قنَّعتُــهُ سيفًا حسامًا مبتـرا بشتمـــه نبينــــا المطهــــرا
ومسعرٌ -كما في الخبر- اسم الجني الذي هجا النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن صور كلاءة الله لنبيه ممن تعرض له بالأذى أن يحولَ بين المعتدي وبين ما أراد بخوفٍ يقذفه في قلبه، أو ملكٍ يمنعه مما أراد.. وقد روي أن غورث بن الحرث قال: لأقتلَنَّ محمدًا، فقال له أصحابه: كيف تقتله؟ قال: أقول له: أعطني سيفك، فإذا أعطانيه قتلته به، فأتاه فقال: يا محمد، أعطني سيفك أشمُّه، فأعطاه إياه، فرعدت يده، فسقط السيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حال الله بينك وبين ما تريد» (15).
ومثل ذلك ما ذكره ابن كثير في تفسيره من أن أبا جهل قال لقومه: واللات والعزى لئن رأيت محمدًا يصلي، لأطأَنَّ على رقبته ولأعفرن وجهه في التراب، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته، فما فجأهم منه إلا وهو ينكصُ على عقبيه، ويتقي بيديه! فقيل: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه خندقًا من نار وهولًا وأجنحةً! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا» (16).
وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رجالًا من قريش اجتمعوا في الحجر، ثم تعاقدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ونائلة وإساف؛ أن لو قد رأوا محمدًا لقد قمنا إليه مقام رجل واحد فقتلناه قبل أن نفارقه، فأقبلت ابنته فاطمة تبكي حتى دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: هؤلاء الملأ من قومك لقد تعاهدوا لو قد رأوك قاموا إليك فقتلوك، فليس منهم رجل واحد إلا قد عرف نصيبه من دمك، فقال: «يا بنية أتيني بوضوء»، فتوضأ، ثم دخل عليهم المسجد..
فلما رأوه قالوا: ها هو ذا، وخفضوا أبصارهم، وسقطت أذقانهم في صدورهم، فلم يرفعوا إليه بصرًا، ولم يقم منهم إليه رجل، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم حتى قام على رءوسهم، وأخذ قبضةً من التراب ثم قال: «شاهت الوجوه»، ثم حصبهم بها، فما أصاب رجلًا منهم من ذلك الحصا حصاةٌ إلا قُتل يوم بدر كافرًا (17).
ومن صور حماية الله لنبيه، وكفايته إياه استهزاء المستهزئين؛ أن يصرف الشتيمة والذم والاستهزاء إلى غيره، فإذا بالشاتم يريد أن يشتمه فيشتم غيره من حيث لا يشعر!!
قال صلى الله عليه وسلم: «ألا ترون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذمَّمًا، ويلعنون مذممًا، وأنا محمد» (18).
قال ابن حجر: كان الكفار من قريش من شدة كراهتهم في النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمونه باسم الدال على المدح، فيعدلون إلى ضده فيقولون: مذمّم، وإذا ذكروه بسوء قالوا: فعل الله بمذمم، ومذمم ليس اسمه، ولا يعرف به، فكان الذي يقع منهم مصروفًا إلى غيره (19).
ومن صور الحماية الربانية أن يغيِّر الله السنن الكونية؛ صيانةً لنبيه صلى الله عليه وسلم، ورعاية له.
وشاهد ذلك قصةُ الشاةِ المسمومة، فهذه زينب بنت الحارث جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم بشاة مشوية دسَّتْ فيها سمًّا كثيرًا، فلما لاك النبي صلى الله عليه وسلم منها مضغةً لم يسغها، وقال: «إن هذا العظم يخبرني أنه مسموم»! ثم دعا باليهودية، فاعترفت.
فانظر كيف خرم الله السنن الكونية من جهتين:
أولاهما: أنه لم يتأثر صلى الله عليه وسلم بالسم الذي لاكه.
وثانيتهما: أن الله أنطقَ العظم، فأخبره عليه الصلاة والسلام بما فيه.
ومن صور الكفاية الربانية لنبي الهدى صلى الله عليه وسلم ممن آذاه أن يقذف الله في قلب هذا المؤذي المعتدي الإسلامَ، فيئوب ويتوب، حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ماله وولده ووالده والناس أجمعين.
ومن أعجب الأمثلة في ذلك قصة أبي سفيان بن الحارث أخي النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاع، وكان يألف النبي صلى الله عليه وسلم أيام الصبا وكان له تِرْبًا، فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم عاداه أبو سفيان عداوةً لم يعادها أحدًا قط، وهجا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجا أصحابه، ثم شاء الله أن يكفي رسوله صلى الله عليه وسلم لسان أبي سفيان وهجاءه، لا بإهلاكه وإنما بهدايته.
قال أبو سفيان عن نفسه: ثم إن الله ألقى في قلبي الإسلام، فسرت وزوجي وولدي حتى نزلنا بالأبواء، فتنكرتُ وخرجتُ حتى صرت تلقاء وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ملأ عينيه مني أعرض عني بوجهه إلى الناحية الأخرى، فتحولت إلى ناحية وجهِهِ الأخرى.
قالوا: فما زال أبو سفيان يتبعُهُ، لا ينزلُ منزلًا إلا وهو على بابه ومعه ابني جعفر وهو لا يكلمه، حتى قال أبو سفيان: والله ليأذنن لي رسول له أو لآخذن بيد ابني هذا حتى نموت عطشًا أو جوعًا، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رقَّ لهما فدخلا عليه (20)، فسبحان من حوَّل العداوة الماحقة إلى حب وتذلُّل، وملازمة للباب طلبًا للرضا.
إن من سنة الله فيمن يؤذي رسوله صلى الله عليه وسلم، أن الله سبحانه ينتقم منه، ويكفيه إياه، وهذا ماض إلى قيام الساعة؛ لقول الله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} [الحجر: 95]، ثم إن المجرم الذي يسيء للنبي صلى الله عليه وسلم إذا لم تدركه عقوبة في الدنيا فإن وراءه
يوم عبوس قمطرير شره في الخلق منتشر عظيم الشان
والواجب علينا التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وطاعة أوامره، والدفاع عنه، ونصرته وتوقيره، قال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)} [الفتح: 8- 9] (21).
ومن عقيدة أهل السنة أن من آذى الصحابة ولا سيما من تواتر فضله فإسلامه على شفا جرف هار، يجب ردعه وتأديبه، فكيف بمن آذى نبيا من الأنبياء، فكيف بمن آذى محمدًا صلى الله عليه وسلم؟ {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57].
إن هذه السخرية والاستخفاف قد يكون من أسباب النصر، إذ جعلت أمة الإسلام تستيقظ وتتلاحم وتتآزر، وتعرف حقيقة العدو المتربص بها وبدينها، والمسلم الحق سيجد نفسه مضطرًا للدفاع عن نبيه ورسوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيلتحم مع إخوانه المسلمين في كل مكان، لتغيير هذا المنكر، واتخاذ الأساليب لردع فاعله.
______________
(1) الدرر الكامنة (3/ 202).
(2) التحرير والتنوير (14/ 89).
(3) الصارم المسلول (ص: 144).
(4) فتح الباري لابن حجر (1/ 44).
(5) تفسير السعدي (ص: 435).
(6) تفسير ابن كثير (4/ 552).
(7) عيون الأثر (1/ 312).
(8) تفسير ابن كثير (7/ 446).
(9) أخرجه البخاري (3617).
(10) الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 117).
(11) ذيل تاريخ مولد العلماء (1/ 139).
(12) الشفا (2/ 218).
(13) الصارم المسلول (ص: 95، 102، 135).
(14) الصارم المسلول (ص: 134).
(15) الدر المنثور (3/ 119).
(16) تفسير ابن كثير (4/ 530).
(17) دلائل النبوة (1/ 65).
(18) أخرجه البخاري (3533).
(19) فتح الباري (6/ 558).
(20) سيرة ابن هشام (4/ 41).
(21) صور من عاقبة المستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم/ إسلام ويب.