غرور التدين
الغرور شر كله، غرور الشباب والمال وغرور الصحة والقوة، وغرور العلم والمعرفة، وغرور الجاه والسلطة؛ ولكن أسوأ غرور يدمر نفس الإنسان، وحاضره ومستقبله: غرور التدين، الذي يستعصي في أكثر الأحوال على العلاج، وله آثاره المدمرة للنفس والأمة.
قال تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]، قال أبو بكر الجزائري: أي لا تمنن على ربك ما تقوم به من أعمال لأجله طاعة له (1).
وقال الحسن البصري: لا تمنن بعملك على ربك تستكثره (2).
العلم ثلاثة أشبار، إذا بلغ الإنسان الشبر الأول تكبر واغتر، وإذا بلغ الشبر الثاني تواضع، وإذا بلغ الشبر الثالث علم أنه لم يعلم، هذه القاعدة العلمية الأصيلة يسقيها كل عالم أصيل لطلابه السائرين في بداية درب العلم الشرعي، لذا لا تجد من بين العلماء الحقيقيين متكبرًا مغرورًا، بينما تمتلئ الساحة الدينية بهذا الشبر الواحد المغتر بالقليل من المعلومات التي حصل عليها.
تجده دعيًا للعلم متعاليًا مستغنيًا عن أي نصح، إذا سكت يريد من الجميع سماع سكوته، وإذا تحدث فعلى الجميع تلقف ما يقول بسعادة وسرور، فهو صوت الحق، والحق هو، وهو في حقيقة الأمر أقرب للتشبيه القرآني: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5].
يقول الشيخ محمد الغزالي: أفسد شيء للأديان غرور أصحابها، يحسب أحدهم أن انتماءه المجرد لدين ما قد ملكه مفاتيح السماء، وجعله الوارث الأوحد للجنة، ومن ثم فإن صاحب هذا التدين يتوسل إلى أغراضه بما يتاح له من أسباب، بغض النظر عن قيمتها الأخلاقية (3).
لكن الدين الحقيقي لا يوجد الغرور في نفس الإنسان، وإنما هي حالة دخيلة، ناشئة عن سوء فهم للدين، أو تحريف لتعاليمه، وبالتالي فهي نوع من الافتراء والكذب على الله، يقول تعالى: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 24]، فمنشأ الغرور ما افتروه على الدين، وليس من ذات الدين.
الغرور في غير الدين تكون المصيبة فيه سهلة؛ لكن الغرور في الدين هو المصيبة الكبرى، لأن الغرور في أي أمر يخضع لقانون واضح، وهو أن ميعاد كل حدث موقوت بماهيته، لكن الغرور في أمر الدين مختلف؛ لأن حدث الدين غير موقوت بماهية الزمان، إنه مستمر، لأنه منهج قيم صدر من الحق إلى الخلق، إن الغرور في أي جزئية من جزئيات الدنيا، فإن فشلت فالفشل يقف عند هذه الجزئية وحدها، ولا يتعدى الفشل إلى بقية الزمن، لكن الغرور في الدين يجعل العمر كُله يضيع، لأن الإنسان لم يتبع المنهج الحق؛ بل يمتد الضياع والعذاب إلى العمر الثاني وهو الحياة في الآخرة، يقول الحق: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 24] (4).
لقد حذر العلماء قديمًا وحديثًا الأمة من مثل هذا العالم والداعية والواعظ الشبر، وذكروه بالوصف الدقيق، وأسهبوا في ذكر أضداده من العلماء العاملين الأنقياء المؤمنين، وذلك حتى يهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيّ عن بينة، يقول أبو حامد الغزالي:
هذا المغرور يطلب عز الدين بالثياب الرقيقة من القصب والديبقي -العلم المذهب- والإبريسم المحرم -الحرير الخام- والخيول والمراكب، ويزعم أنه يطلب به عز العلم وشرف الدين، وكذلك مهما أطلق اللسان بالحسد في أقرانه، أو فيمن رد عليه شيئًا من كلامه لم يظن بنفسه أن ذلك حسد، ولكن قال: إنما هذا غضب للحق، ورد على المبطل في عدوانه وظلمه، ولم يظن بنفسه الحسد، حتى يعتقد أنه لو طعن في غيره من أهل العلم، أو منع غيره من رياسة وزوحم فيها هل كان غضبه وعداوته مثل غضبه الآن؛ فيكون غضبه لله؟ أم لا يغضب مهما طعن في عالم آخر ومنع؛ بل ربما يفرح به فيكون غضبه لنفسه وحسده لأقرانه من خبث باطنه.
وهكذا يرائي بأعماله وعلومه، وإذا خطر له خاطر الرياء قال: هيهات، إنما غرضي من إظهار العلم والعمل اقتداء الخلق بي ليهتدوا إلى دين الله تعالى، فيتخلصوا من عقاب الله تعالى، ولا يتأمل المغرور أنه ليس يفرح باقتداء الخلق بغيره كما يفرح باقتدائه به، فلو كان غرضه صلاح الخلق لفرح بصلاحهم على يد من كان، كمن له عبيد مرضى يريد معالجتهم؛ فإنه لا يفرق بين أن يحصل شفاؤهم على يده أو على يد طبيب آخر، وربما يذكر هذا له فلا يخليه الشيطان أيضًا (5).
إنهم سدنة الجهل والتخلف في هذه الأمة، فلا همّ لهم سوى تغرير الناس وإضاعة جهدهم في قضايا هامشية تافهة، وجذبهم إلى صراعات وفتن لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وما ذلك إلا لسقم وعي في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم.
إن مراجعة الحيثية العلمية والنفسية للدعاة والمتصدرين لتعليم الناس لم تعد ترفًا؛ وإنما سببًا من أسباب التقدم والارتقاء والتجديد المنشود.
أسباب غرور الدعاة:
وأساس الغرور في كل ألوانه واحد، وهو الجهل أو الغفلة وتبرير التقاعس والكسل، للتوقف عن الاجتهاد والسعي، ونتيجته دائمًا التراجع والفشل، والسقوط أمام التحدي والامتحان، وهناك أسباب عديدة أدت إلى وجود هذه الظاهرة لدى بعض الدعاة، منها:
أولًا: عدم فهم الداعية لطبيعة الدعوة ومنهجها؛ إذ لا يكون الداعية موفقًا في دعوته إلا إذا كان عند قول الله سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، والغرور يتنافى مع العمل الصالح، فقوله تعالى: {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فمن للتبعيض أي أنا واحد منهم.
فهي دعوة ربانية خالصة، ذات رسالة إصلاحية عملية صالحة؛ لا ترتبط بأسماء وأوصاف إلا بالإسلام فحسب، وإذا اختار أحدهم الولوج إلى تجمعات دعوية؛ فيكون هدفه نصرة الحق؛ فيكون مرادهم الحق والحق فقط؛ لا نُصرة الحزب أو الجماعة، لأن هذا من عزاء الجاهلية، وكل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية (6).
ويقول عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]، فالسبيل واحد لا اعوجاج عنه ولا التواء أو انثناء؛ القصد فيه وجه الله والدعوة لأجله وإليه وبه؛ ولا تتسق دعوة صحيحة لأجله إلا بكونه صاحب بصيرة ودراية وخبرة، وهذا يُفيدنا كثيرًا في مجال الاستبصار الدعوي في الحاضر والمستقبل بكل ما يمتّ إلى ما يدعو إليه من خير؛ ولا يقابل الدعوة أن تكون دعوة للنفس أو سوء قصد ونيّة في الدعوة؛ لهذا ينفي عن نفسه طبيعة الإشراك مطلقًا، كما جاء في الآية القرآنية الأخرى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} [الجن: 20] (7).
إن الداعية إلى الله تعالى الحريص على نجاح دعوته، يبذل ما في وسعه في التخطيط لهذه الدعوة المباركة، والرقي بشخصه، والرقي بإمكاناته؛ ليكون أهلًا لتلك الوظيفة الشريفة، فالدعوة ليست عملًا عشوائيًا لا خطة لها أو منهج، وإذا كنا نحرص على عنصر الإدارة والتخطيط في أوجه علاقاتنا المتعددة مع الآخرين، فإن حاجتنا إلى تطبيق هذا العنصر في العلاقات الدعوية من باب أولى.
ثانيًا: تسليط بعض وسائل الإعلام الضوء على بعض المتكلمين، وإيجاد مساحات واسعة لهم، فتنتفخ أوداجهم، وتتضخم ذواتهم، ويوهمون أنفسهم أنهم قد أصبحوا دعاة، مع أن فكرهم خواء وأفئدتهم هواء، فحق لكل غيور أن يردد:
تصـدر للتدريس كل مهوس بليد تسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هُـزالها كلاها وحتى سامها كل مفلس
ثالثًا: عدم وجود المجتمع المثقف الواعي الذي يميز بين الغث والسمين، فيهلل من لا دراية لهم من أبناء المجتمع لبعض هؤلاء المتكلمين، فيصابون بداء الغرور، ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فأين الغيرة على الشريعة من تسلط الأغمار والجهلة على جنابها، يسارعون للفتيا كما يتسارع الفراش إلى ضوء النار في قضايا لو عرضت على الفاروق لجمع لها أهل بدر ولو سئل عنها المفتي لجمع لها هيئة كبار العلماء.
رابعًا: التقصير من قبل بعض الجهات القائمة على أمر الدعوة في إعداد الدعاة وتأهيلهم تأهيلًا علميًا ودعويًا، والاكتفاء بإجراء اختبارات قاصرة، ينتج عنها دعاة مغرورون يتزينون بزي الدعاة، لكنهم قد رضوا بالشكل وغفلوا عن المضمون، عنوا بالمظهر ولم يعنوا بالجوهر، اشتغلوا بها وظيفة ومغنم وليست رسالة وأمانة، لا يتحركون إلا وفق مقتضيات الخامس والعشرين من كل شهر.
خامسًا: ادعاء أمور وهمية، وتضخيم بعض القضايا؛ يظنها كبيرة، وليست كذلك، كمن يعتبر نفسه داعية كبيرًا؛ لكونه يحسن التحدث والكلام، أو يرى نفسه عالمًا فقيهًا ويتجرأ غرورًا بما عنده من نتفِ علم، أو يعد نفسه مؤهلًا للقيادة، -لم تُعرَف مكانته- ونحو ذلك، وكثير من هذه الصور وما شاكلها داخل في دائرة التزوير، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيه: «المتشبع بما لم يُعطَ كلابس ثوبَيْ زورٍ» (8).
سادسًا: العجب بأمور باطلة يظنها حقًا، كغرور العلماء والعباد والمتصوفة والأغنياء بأجزاء من الدين، يحسبونها الدين كله، ويبنون عليها الرجاء، فمن العلماء من أحكم العلم وترك العمل، ومنهم من أحكم العلم والعمل وترك الاهتمام بالقلوب، ومنهم من اشتغل بوعظ الناس وتعليمهم وأهمل حاله، ومنهم من اشتغل بعلوم الآلة وأعرض من معاني الشريعة، ومنهم من كان حظه من العلم الحفظ بلا فهم ولا عمل... ومن العبّاد من غلا وتنطع، ومنهم من وسوس، ومنهم من أفرط في مراعاة أعمال الظاهر وأهمل أعمال القلوب، ومنهم من حرص على النوافل على حساب الفرائض... ومن المتصوفة من اغتر بالزي وترك المجاهدة ومراقبة القلوب، ومنهم من ادعى علم المعرفة والقلوب، وازدرى علماء الشريعة، ومنهم من ادّعى حسن الخلق وتصدر لخدمة الزهّاد طلبًا للرئاسة...
ومن الأغنياء من حرص على ما يخلد ذكره من أعمال الخير الظاهرة، كبناء المساجد ونحوها، ورفضوا ما سواها من أعمال البر الأخرى، ومنهم من ينفق على الفقير الذي ينفعه، ويشكر له معروفه، دون غيره، فهو يرجو الجزاء الدنيوي على نفقته، ومنهم من يضيق صدره بالزكاة ويخرجها من سيئ ماله...
وفي كل هذه الأحوال تجد أن نفوس أصحابها تسكن إلى ما يوافق الهوى، ويميل إليه الطبع، عن شبهة أو خدعة من الشيطان، وترجو بذلك الخير، وتظن غرورها رجاءً محمودًا (9).
سابعًا: الغفلة عن حقيقة النفس، والجهل بطبيعتها وعيوبها، وإهمال محاسبتها، فكم سكنت في النفس عند غفلتها عن نفسها صفات ذميمة أصبحت أساس الشقاء، وحين يصبح الإنسان عبدًا لنفسه الجاهلة يميت في نفسه روح الفضيلة، فإنه يصبح ضحية لميوله وشهواته المختلفة فيبعد عن حريم السعادة ويحرم من نعيمها، ولا ينفع -والحال هكذا- أي نوع من الإرشاد والهداية الأخلاقية.
ثامنًا: من الأمور الخطيرة التي قد تسبب الغرور المدح غير التربوي، فعن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ويلك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك» مرارا، ثم قال: «من كان منكم مادحًا أخاه لا محالة، فليقل أحسب فلانًا، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدًا أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه» (10).
قال ابن بطال: حاصل النهي أن من أفرط في مدح آخر بما ليس فيه لم يأمن على الممدوح العجب؛ لظنه أنه بتلك المنزلة، فربما ضيع العمل والازدياد من الخير اتكالًا على ما وصف به (11).
تاسعًا: المبالغة في التوقير والاحترام من الأفراد المحيطين بالشخص، فيرى جموع المصفقين له والمهرولين وراءه، بالإضافة للمبالغة في الانقياد والطاعة؛ فلا ترد له كلمة ولا يناقش ولا ينقد ولا ينكر عليه شيء.
عن أبي مجلز، قال: خرج معاوية، فقام عبد الله بن الزبير وابن صفوان حين رأوه. فقال: اجلسا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سره أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار» (12).
رجل بلغ هشام بن عبد الملك عنه كلام فأتى به فتكلم بحجته فقال هشام: أو تتكلم أيضًا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله عز وجل يقول: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111]، أفنجادل الله جدالًا ولا تكلم أنت كلامًا؟! قال: تكلم بما أحببت (13).
عاشرًا: الطبيعة النفسية للداعية، فقد يكون الغرور مرضًا متأصلًا في شخصية الداعية، ولم يشعر بذلك، أو شعر لكن لا يعده مرضًا وبالتالي لا يبحث له عن علاج، وقد يكون أصيب بهذا بسبب سوء التربية، أو توارث هذا المرض من أسرته أو أقرانه.
آثار الغرور على الداعية:
أما آثار الغرور على الداعية، فيكفي أنه يقف به عند حدود ما علِم، ظنًا منه أن له اسمًا قد أصبح ملء السمع والبصر، ومن هنا فإنه قد لا يعد نفسه حين يريد أن يتحدث إلى الناس إعدادًا جيدًا، ولذا فقد يهرف بما لا يعرف، وربما يزل، لكن زلة أمثاله خطيرة؛ لأنها تنعكس على المجتمع الذي ينشر دعوته فيه، ولذا فإنه يكون وبالًا على الدعوة، وعبئًا ثقيلًا عليها، يأخذ منها ولا يعطيها، يسيء إليها من حيث يظن أنه محسن، ومن آثار ذلك:
1- الحرمان من التوفيق والهداية؛ لأن الهداية إنما ينالها من أصلح قلبه وجاهد نفسه، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، ومن صور هذا الحرمان: نسيان الذنوب واستصغارها، والعمى عن التقصير في الطاعات، والاستبداد بالرأي، والتعصب للباطل، وجحود الحق، وهذه الآثار في الجملة منها ما يقع سببًا للعجب، ثم يزداد ويستمر، ليبقى أثرًا ثابتًا له.
2- بطلان العمل، قال عز وجل: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة: 264].
3- العجز والكسل عن العمل؛ لأن المعجب يظن أنه بلغ المنتهى.
4- الانهيار في أوقات المحن والشدائد؛ لأن المعجب يهمل نفسه من التزكية، فتخونه حينما يكون أحوج إليها، ويفقد عون الله ومعيته؛ لأنه ما عرف الله حال الرخاء.
وتأمل ما أصاب الصحابة رضوان الله عليهم مع إيمانهم وصلاحهم، حين أعجب نفر منهم بكثرة العدد: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25]، واليهود عليهم لعائن الله: {ظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر: 2].
5- نفور الناس وكراهيتهم؛ لأن الله يبغض المعجب.
6- العقوبة العاجلة أو الآجلة، كما خسف الله بالمتبختر المعجب الأرض.
أثر الغرور على الدعوة والمجتمع:
أما آثار غرور التدين لدى بعض الدعاة على الدعوة، فإنه يعد مخالفًا لطبيعة منهجها؛ لأن منهج الدعوة الإسلامية ينبثق من قول الله سبحانه مخاطبًا حبيبه صلى الله عليه وسلم: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125].
ومن آثاره على الدعوة: توقفها أو ضعفها وبطؤها بسبب قلة الأنصار؛ نظرًا لنفور الناس، وكراهيتهم للمعجبين، وسهولة اختراق صفوف الدعاة وضربها؛ نظرًا لانهيار الدعاة المعجبين حال الشدائد.
والمغرور لا حكمة عنده ولا موعظة حسنة، فكيف يدعو الناس إلى ما سُلب منه؟ أما عن أثر غرور التدين لدى بعض الدعاة على المجتمع، فإنه أثر جد خطير؛ لأنه يؤدي إلى الفصل بين القول والفعل، بين الواقع والسلوك، فينتج مجتمعًا مفكك العُرَى، مهلهل النسيج، ضعيف البنيان، لديه خور في العقيدة، ووهن في الدين.
كيف نعالج غرور الدعاة؟
ولكي نعالج هذه الظاهرة لا بد أن نقرر عدة أمور اتفق عليها أئمة الدعاة، ومن أبرزها ما يلي:
أولًا: إن من أهم الصفات التي يجب أن يتصف بها الداعية “التواضع”، ومعنى التواضع: ألا يستنكف الإنسان من قبول الحق ولو جاءه ممن هو دونه علمًا أو سنًا أو قدرًا، ومن الرجوع إلى الحق بعد أن يتبين له.
أما الكبر والغرور بالنفس والإعجاب بها، فيصد عن الحق وإن كان أوضح من فلق الصبح، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكبر بطر الحق وغمط الناس» (14).
ولقد كانت أول معصية في هذا العالم دافعها الكبر والغرور، وهي معصية إبليس عليه لعنة الله، فلقد أُمِر بالسجود تكريمًا لآدم عليه السلام ولكنه أبى واستكبر وكان من الكافرين، وقال معجبًا متكبرًا متعاليًا: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12].
وبهذا عُلم أن معاصي القلوب أشد خطرًا من معاصي الجوارح، وهو الفرق بين معصية إبليس لعنه الله ومعصية آدم عليه السلام.
ثانيًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو سيد الدعاة وإمام المرسلين، قد جعل هذا الداء الخطير -أعني الكبر والغرور- من المهلكات، فقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه» (15).
فإذا اجتمع الهوى المتبع والإعجاب بالنفس ازداد الطين بلة، كما يقولون.
ثالثًا: إن المتكبر المغرور إنسان مطموس البصيرة أعياه الغرور عن رؤية الحق؛ لأنه لا يبصر إلا من زاوية واحدة، وهي الزاوية التي يرى فيها ذاته، ولا يرى غيرها، وصدق الله العظيم حيث قال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35]، ومن هنا بات واجبًا على الداعية أن ينزع عنه رداء الكبر؛ لأن الكبرياء لله وحده، وأن يجعل التواضع شعاره، وخاصة التواضع للدين، وهذا ما فصل فيه ابن القيم رحمه الله تفصيلًا جميلًا، حين قال ابن القيم: التواضع للدين هو الانقياد لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والاستسلام له والإذعان (16).
رابعًا: إن الداعية وحده -في غالب الأمر- هو الإدارة والتوجيه والمنهج والكتاب والمعلم، وعليه وحده يقع عبء الدعوة إلى الله مع إخوانه من الدعاة، وهذا يجعل العناية بتكوين الدعاة وإعدادهم الإعداد الكامل أمرًا بالغ الأهمية، وإلا أصيبت الدعوة بالخيبة والإخفاق في الداخل والخارج؛ لأن شرطها الأول لم يتحقق، وهو “الداعية المهيأ لحمل الرسالة”.
خامسًا: إذا كنا نريد داعية ينتصر في معركته على الجهل والهوى والتسلط والفساد، فلا بد أن يتسلح بأسلحة عديدة لازمة له في الدفاع والهجوم، ومن أبرز أسلحة الداعية ما يلي:
أ- سلاح الإيمان، وبدون هذا السلاح يبطل كل سلاح، وتفشل كل ذخيرة، ونحن نعلم أن الإيمان ليس بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ب- سلاح الأخلاق، والأخلاق من لوازم الإيمان الحق وثماره، وقد وصف الله عز وجل سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وخاطبه بقوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
ج- العلم والثقافة، وهذه هي العدة الفكرية للداعية بجانب العدة الروحية والأخلاقية، فالدعوة عطاء وإنفاق، ومن لم يكن عنده علم أو ثقافة كيف يعطي غيره؟
والداعية المتصف بالغرور كيف يأمر غيره بالتواضع وهو فاقد له؟ إن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن لم يملك النصاب كيف يزكي؟
وهذا يؤكد لنا أن الداعية في حاجة إلى ثقافة شرعية وتاريخية وأدبية ولغوية، وإنسانية، وعلمية وواقعية، إنها ثقافة بمعناها العام الشامل.
ومنتفخ الأوداج من الدعاة لا يمكن أن يحصل أي لون من ألوان الثقافة؛ لأن الغرور أعمى بصره وطمس على بصيرته. الفرق بين الثقة بالنفس والغرور وإذا كان من مقومات الداعية الثقة بالنفس، فكيف نفرق بينها وبين الغرور؟
إن الثقة بالنفس تعني اعتزاز الداعية بمواهبه وبنفسه، من ناحية المظهر ومن ناحية المخبر، وهذا يعينه على نجاح دعوته، أما من يفقد الثقة بنفسه فإنه يتلعثم ويضطرب، وتتبخر منه المعلومات، وتضيع منه التعبيرات؛ لأن مخاطبة الجماهير تحتاج إلى جرأة بالغة تسعفه عند المفاجآت، وتتيح له حل المشكلات.
أما الغرور، فيدل على نفس غير سوية، وإيمان ضعيف، وقلب غير سليم، وحين نفتش في القرآن الكريم نجد أن القلب السليم الخالي من أمراض القلوب– وأهمها:
الغل والحقد والحسد والكبر والغرور وحب الذات- هو المقوم الأول من مقومات الداعية، وبه تؤتي الدعوة ثمارها المرجوة ونتائجها المرتقبة.
ولا شك أن على المؤسسات الدينية دورًا مهمًا في معالجة المنحرفين المغرورين من الذين يتصدون للدعوة إلى الله، وذلك من خلال إعادة النظر في البرامج التدريبية والمناهج الدعوية، لتكون أكثر وضوحًا، وأتم فائدة، وأبلغ تأثيرًا (17).
إن غرور التدين آفة تتجاوز مخاطرها السلوك الفردي لتغدو حالة منهجية إن تم إهمالها والتغاضي عنها، وهذا يستدعي من الدعاة والعلماء والمربين من أبناء هذه الجماعات والكيانات استنفار جهودهم لمواجهة هذا الداء بجرعات معرفية وتربوية مركزة ومتتابعة وإلا فإن القادم لن يكون أحسن حالًا ولا مآلًا.
------------
(1) أيسر التفاسير للجزائري (5/ 463).
(2) تفسير ابن كثير (8/ 264).
(3) قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة (ص: 26).
(4) تفسير الشعراوي (3/ 1391).
(5) إحياء علوم الدين (3/ 396).
(6) فتاوى ابن تيمية: (28/ 328).
(7) لوازم دعويّة حول طبيعة الداعية وهُويّته وعُدّته/ المسلم.
(8) أخرجه البخاري (5219)، ومسلم (2129).
(9) العجب وخطره على الداعية/ صيد الفوائد.
(10) أخرجه البخاري (2662)، ومسلم (3000).
(11) فتح الباري لابن حجر (10/ 477).
(12) أخرجه الترمذي (2755).
(13) مختصر تاريخ دمشق (29/ 293).
(14) أخرجه مسلم (91).
(15) أخرجه الطبراني (5452).
(16) مدارج السالكين (2/ 318).
(17) غرور التدين آفة تصيب الدعاة/ إسلام أون لاين.