logo

فقه البدايات


بتاريخ : السبت ، 14 جمادى الآخر ، 1444 الموافق 07 يناير 2023
بقلم : تيار الاصلاح
فقه البدايات

كثيرًا ما يتمنى الإنسان أن يحصل التغيير في حياتهِ، وأن يبدأ بدايةً جديدةً، تكون هي النقطة الفاصلة في حياتهِ، ومنطلق النّجاح الدائم والمزدهر، إلا أنّه قد يقرن هذه البداية بتغيرٍ على القدر الذي لا يعلمه، فقد يربط التغيير بتحسنٍ في حالتهِ الصحيّةِ، أو تحوّلٍ في مكانتهِ الوظيفيّة، أو الماليّة، وقد يقرنها بمناسبةٍ ما، كعبادة أو ظرف أو زمن معينٍ، وهو بهذا التسويف يُظهر اعتقاده أنّ التغيير لا يكون إلا بقدوم القوة الخارجية، وفي ذلك الوقت الذي ينتظره، ليكون سببًا في نشاطهِ، وتغيّرٍ في حياتهِ إلى الأفضل، فاتهُ أنّ تجديد الحياة الحقيقي، ينبثق من داخل الشخص نفسه، وأنّ العزيمة والإصرار، هي المحرّك الأساسي للنجاح والتغيير، وأنّ صعوبات الحياة، وعقباتها الكثيرة، يمكن التغلب عليها وتطويعها؛ ليستفيد منها الإنسان خبرةً، وتجربةً عاشها، فيحتفظ بقوتهِ، وصلابتهِ أمامها؛ فهو بما لديه من قوةٍ كامنةٍ، وبما يمتلكه من مهاراتٍ، وبالفرص التي قد تُتاح له، يستطيع أن يبدأ حياته من جديد.

البداية:

يتساءل البعض كيف لي أن أبدأ حياتي من جديد، وكيف لي أن أحدث التغيير فيها للأفضل، وما هي الوسائل المعينة للتحول، والانطلاق نحو النجاح، هذه التساؤلات يمكن الإجابة عنها بما يلي:

الدوافع:

هي الشيء الذي يدفع الشخص للتصرف، أو الحركة، وتُعتبر الدوافع المحرك الأساسي للسلوك الإنساني، فالإنسان عندما يكون لديه دوافع، وبواعث نفسية داخلية، يظهر عنده الحماس، والطاقة، وحتى الإدراك؛ فإنّه يكون أفضل لديه بوجود الدوافع، بعكس الشخص الذي يعيش حياته بلا دافع؛ فإنّ العزيمة لديه تكون هابطة، والطاقة معدومة، وينصبُّ تركيزه، واهتمامه على الأمور السلبيّة فقط.

قال زيد بن ثابت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع، قال: فجعلت أطوف بين القتلى، فأتيته وهو بآخر رمق، وبه سبعون ضربة، ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت: يا سعد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ فقال: وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام، قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خُلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف.. وفاضت نفسه من وقته.

ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار، وهو يتشحط في دمه، فقال: يا فلان، أشعرت أن محمدًا قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم.

وقال عبد الله بن عمرو بن حرام: رأيت في النوم، قبل أُحد، مبشر بن عبد المنذر يقول لي: أنت قادم علينا في أيام، فقلت، وأين أنت؟ فقال: في الجنة، نسرح فيها حيث نشاء، قلت له ألم تقتل يوم بدر؟ فقال: بلى، ثم أحييت، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هذه الشهادة يا أبا جابر».

وقال خيثمة- وكان ابنه قد استشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: لقد أخطأتني وقعة بدر، وكنت والله عليها حريصًا، حتى ساهمت إبني في الخروج، فخرج سهمه، فرزق الشهادة.

وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة، يسرح في ثمار الجنة وأنهارها يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقًا، وقد- والله يا رسول الله- أصبحت مشتاقًا إلى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سني، ورق عظمي، وأحببت لقاء ربي، فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة، ومرافقة سعد في الجنة.

فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقتل بأحد شهيدًا.

وقال عبد الله بن جحش في ذلك اليوم: اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غدًا، فيقتلوني، ثم يبقروا بطني، ويجدعوا أنفي وأذني، ثم تسألني فيم ذلك؟ فأقول: فيك!

وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج، وكان له أربعة بنين شباب، يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا، فلما توجه إلى أحد أراد أن يتوجه معه، فقال له بنوه: إن الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن نكفيك! وقد وضع الله عنك الجهاد، فأتى عمرو بن الجموح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن بنيّ هؤلاء يمنعونني أن أخرج معك، والله إني لأرجو أن استشهد، فأطأ بعرجتي هذه في الجنة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد»، وقال لبنيه: «وما عليكم أن تدعوه؟ لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة؟».. فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل يوم أحد شهيدًا.

وفي مضطرب المعركة نظر حذيفة بن اليمان إلى أبيه والمسلمون يريدون قتله، لا يعرفونه، وهم يظنونه من المشركين، فقال حذيفة: أي عباد الله، أبي، فلم يفهموا قوله حتى قتلوه، فقال: يغفر الله لكم، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤدي ديته، فقال حذيفة: قد تصدقت بديته على المسلمين، فزاد ذلك حذيفة خيرًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).

إنّ الرغبة الموجودة عند الإنسان هي أول قاعدةٍ في النّجاح والتجديد، والذي ينعكس على أداء الإنسان وحياتهِ، فالدوافع الداخلية عند الإنسان هي السبب في قيامهِ بأعمالٍ أعلى من المستوى العادي، بحيث يصل إلى نتائج عظيمة، فامتلاك الإنسان للقوى الكامنة في داخله، واستغلالها بشكلٍ صحيحٍ، قد تُحدث فرقًا كبيرًا في طريقِ نجاحهِ.

كسب القلوب:

من طبيعة قلوب البشر أن تُحبّ من يُحسن إليها، وتبتعد عمّن أساء إليها وآذاها، وقد حرص الإسلام على تعليم الإنسان هذا المبدأ العظيم من خلال ما غرسهُ من أخلاقٍ عظيمةٍ في شخصية سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ لما لكسب القلوب من أثرٍ على الإنسان، والبعد كلّ البعد عن الجفاء، والتنافر، والتباغض، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].

وقد دعا الإسلام المسلمين إلى الصبر عند الغضب، والاتصاف بالحلم، والعفو عند الإساءة، وعلى الإنسان أن يُشعر بأخيه الإنسان، بأنّه ذو أهميةٍ عاليةٍ، وله دورٌ مهمٌ في الحياة، فهذه قواعد أساسيّة في التعامل مع الآخرين، وكسب قلوبهم، قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: ]، فعلى الإنسان إذا أراد أن يبدأ حياةً جديدةً، ويكون ناجحًا في حياتهِ، أن يكسب قلوب المحيطين بهِ، كما فعل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث ترك الشدّة، والغلظة، وتعامل مع الناس برقّةٍ، ورفقٍ، ورحمةٍ.

الطاقة الكامنة وقود الحياة:

إنّ التّجديد والتّغيير في حياة الإنسان يحتاج منه إلى طاقةٍ عاليةٍ؛ حتى يستطيع أن يجد القوة التي تدفعه للأمام، فالإنسان إن كانت لديه الحماسة العالية، كانت الطاقة أيضًا عاليةً لديه، لأنّ الرغبة الداخلية، والدوافع الكامنة، تمدّه بالطاقة اللازمة للتغيير، إلا أنّ الإنسان يحتاج دائمًا إلى توليد طاقةٍ جديدةٍ بالإضافة إلى الدوافع الداخلية، فالأكل، والشرب، والرياضة، والتنفس جميعها لها تأثيرٌ في حياة الإنسان وتقدّمهِ، فالعقل السليم في الجسم السليم، ولا بدّ من رفع مستوى كليهما؛ حتى تعيش حياةً صحيةً سليمةً.

التوجيه الصحيح للقوة:

كلّ إنسانٍ يمتلك في داخلهِ قوةً، تزيد من إيمانهِ وطاعتهِ، وتُعينهُ على مواجهة الأهواء والصعاب، وتدفعهُ للعمل الحسن، وتُبعده عن كلّ الشرور، والقوة المقصودة هنا، ليست القوة الجسدية فقط، وإنما تشمل قوة العقل، والقلب، والإرادة، وهذه القوة يمكن أن يكرّسها الإنسان لأمورٍ كثيرةٍ في حياتهِ، فهي تفيدهُ في طاعة الله، وفي الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وفي تحسين وتطوير حياتهِ، وتجديدها، وهذه القوة هي علامة إيمان العبد، فدرجة المؤمن القوي عند الله تعالى، أفضل من درجة المؤمن الضعيف، فالمؤمن القوي أكثر عطاءً وفائدةً من المؤمن الضعيف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير» (2).

اتخاذ القرار:

إنّ اتخاذ القرار في حياة الإنسان أصبح من الأمور الملحة والضرورية، حيث تكمن حاجة الفرد في التعبير عن مواهبه، وقدراته، التي تميزهُ عن غيره، وتظهر الحاجة لديه في ترك بصمةٍ في العالم، تشهد على وجوده، وأثره، وإنجازاته الناجحة، ولذلك يبدأ بالتصميم، والإبداع، والابتكار، أو أي عمل آخر، يجد فيه التعبير عن ذاته، وقد لا يبدأ الإنسان حياته، بالمقدرة على اتخاذ قراراته بنفسه، فيتخذها الآباء نيابة عنه، كأن يقرروا ماذا يلبس، وماذا يأكل، أو نوعيّة البيئة التي يعيشها، والمدرسة التي يلتحق بها، إلا أنه من الجيد للإنسان أن يصل إلى مرحلة معينةٍ من حياته، يتخذ فيها الإنسان قراراته بنفسه، وأن يحدد ما يريده من حياته، فاتخاذ القرار هو مهارة يتمّ تعلمها، ويمكن ممارستها بسهولة إذا وجدت الثقة بالنفس لدى الفرد (3).

ويتوجب على الشخص أن يفكر في الأمور التي يجيدها في الحياة، والأشياء التي يشعر اتجاهها بالشغف ويستمتع بها كثيرًا بحيث تجعله سعيدًا وراضيًا بشكل ما، حيث قد يساعده ذلك على اكتشاف أهدافه، وبالتالي يمكنه إيجاد فرصة ممتازة لمعرفة وجهة سيره في الحياة حتى يتأكد أنه يسير على الطريق الصحيح، كما أن عليه التوقف عن القيام بأي شيء قد يكون له أثر سلبي ما على حياته حتى يعيشها بشكل ممتع، وحتى ينسى الماضي ويبدأ من جديد (4).

وحين يستقبل المرء جديدًا، ويستشرف أفقًا، ويرود أرضًا بكرًا، يحتاج إلى زاد وعتاد، يقطع به الرحلة، ويستعين به على النقلة، ولا بد له من ثلاثة أمور:

أحدها: نية نقية، لا عفن فيها، صافية، لا كدر فيها، تبارك العمل وتزكيه، وتحيل العادة عبادة، تخلِّص صاحبها من ملاحظة الأقران، ويستوي عند مستصحبها المدح والقدح؛ أولى درجاتها مصحِّحة، وما بعدها مقرِّبة، في سلم صاعد إلى مراقي الكمال، في ذروته الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، ودونهم أطباق ممن خلطوا عملًا صالحًا، وآخر سيئًا، وهم ما بين صاعد وهابط، قد علم كل أناس مشربهم.

والنية نيتان؛ نية تتعلق بالمعمول له، ونية تتعلق بذات العمل، فالأولى يحصل بها التمييز بين الإخلاص والرياء، وعليها مدار شهادة لا إله إلا الله، وفيها كلام الواعظين، والعلماء الربانيين، والثانية يقع بها التمييز بين العبادات والعادات، وبين أنواع العبادات، وكيفياتها، وعليها مدار شهادة أن محمدًا رسول الله، وهي المرادة في كلام الفقهاء غالبًا.

ولا بد للمؤمن من تعاهد نيته، وتقويتها، وإذكائها، وتصفيتها من الشوائب والعوالق، وتنقيتها من الأخلاط الرديئة، وأن يختار لذلك الأوقات الملائمة التي يستجمع فيها همته، وعقله، وصفاءه، ليفتش، ويفحص، ويدقق.

الثانية: تخطيط صائب، مبني على مقدمات صحيحة، ومعرفة تامة بالقدرات، والإمكانات، الذاتية والاجتماعية، لا إفراط فيه ولا تفريط، فلا يحمل المؤمن نفسه ما لا يطيق، فينوء بالحمل ويقف، لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، كما لا يضيع الفرص، ويهدر الأوقات دون طائل، فيطوى بساط العمر، والقلب غافل.

 وينبغي للموفق أن يستشير من يظن به خيرًا، أو يعلم له تجربةً وسبقًا، ليستنير برأيه، ويستفيد من تجربته، ثم يتناول قلمًا وورقةً، ويرسم خطةً زمنية لتوزيع الأعمال على الأوقات، بعدل وإنصاف.

الثالثة: عزيمة ماضية، وهمة عالية، لا يعتريها تردد أو فتور، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إذا كنز الناس الذهب والفضة، فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد ...» الحديث (5)، وقال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، استعن بالله، ولا تعجز ...» الحديث (6)، فعليه أن يحذر من انحلال العزم بكثرة الالتفات، وليكن أخا ثبات، لا صاحب هبات.

وقد قيل:

إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة      فإن فساد الرأي أن تترددا

هذا، وإن من أسباب الثبات: الدعاء، ودوام الذكرى، وصحبة الخير التي تعين على البر والتقوى، وإدمان النظر في سير النبلاء، وما يجنونه في الآخرة والأولى (7).

ترتيب المعاني:

ترتيب المعاني، في قلوب الخلق، أمر عظيم من مهام الأنبياء، ومن وظائف الدعاة إلى الله عز وجل، ومن أولي اهتمامات المربين.

وكان من أول المعاني التي دخلت في قلوب الأنبياء الخوف والرهبة، والتي يتبعها الذل والخضوع للملك العظيم الله، فكان أول مشهد تحوُّل في حياة النبي صلي الله عليه وسلم، أنه رأي جِبْرِيل علي هيئته، له ستمائة جناح يسد الأفق، ينزل من السماء، يدخل عليه في كهف في الجبل.

فكان أول ما دخل قلبه من معاني الايمان الخوف والرهبة، كذلك نبي الله موسي عليه السلام، كان أول مشهد ومعلم من معالم الايمان، أنه رأي النار في الصحراء في سفح الجبل في الليل نار لا مُشعل لها، ثم سمع صوتًا، ثم تحولت العصا حية فولي مدبرًا ولم يعقب.

إن الخوف والأمن يتعاقبان سريعًا على هذه النفس، ويتعاورانها في مراحل حياتها جميعًا، إنه جو هذه الحياة من بدئها إلى نهايتها وإن هذا الانفعال الدائم لمقصود في تلك النفس، مقدر في هذه الحياة، وهو تدبير القدرة وتقديرها العميق الدقيق (8).

فكان الخوف والرهبة من أول المعاني التي دخلت في قلب نبي الله موسي، فما بالنا نستحي أن نعظ الناس ونخوفهم من عذاب ربهم، أول ما بُعث النبي صلي الله عليه وسلم في الدعوة العامة كان أول معني تكلم فيه بعد الصعود علي جبل الصفا إني {نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46]، لمسة تصور العذاب الشديد وشيكًا أن يقع، وقد سبقه النذير بخطوة لينقذ من يستمع، كالهاتف المحذر من حريق في دار يوشك أن يلتهم من لا يفر من الحريق (9).

فكان من أسلم يستحضر دائمًا الخوف من الله عز وجل ثم قيمة البلاء والصراع، تلقي النبي صلي الله عليه وسلم، هذه القيمة في بداية الدعوة، بداية الايمان، عندما ذهب إلى ورقة بن نوفل، ومواجهة الفتن باللجوء والضراعة، التربية على الامتحانات الإيمانية المنكرة المتدرجة الصاعدة إنك ستبتلي، يخرجك قومك، «بعثتك لأبتليك وأبتلي بك» (10)، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت: 2- 3]، فليس الإيمان كلمة تقال باللسان، إنما هو الصبر على المكاره والتكاليف في طريق هذه الكلمة المحفوفة بالمكاره والتكاليف.

إن الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف وأمانة ذات أعباء وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال، فلا يكفي أن يقول الناس: آمنا، وهم لا يتركون لهذه الدعوى، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها، ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم، كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به- وهذا هو أصل الكلمة اللغوي وله دلالته وظله وإيحاؤه- وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب.

والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله، مغيب عن علم البشر فيحاسب الناس إذن على ما يقع من عملهم لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم، وهو فضل من الله من جانب، وعدل من جانب، وتربية للناس من جانب، فلا يأخذوا أحدًا إلا بما استعلن من أمره، وبما حققه فعله، فليسوا بأعلم من الله بحقيقة قلبه (11).

ولأنه لكل بداية نهاية، فإن نهاية هؤلاء كانت معارك القتال، والبيان، أمناء رسالة، قوامون بالقسط، شهداء على الدين.

وأما من بدأ بأن كل شيء على ما يرام، وأنك ضمنت الجنة، وأنه عليك أن تحقق كل طموحاتك وشهواتك في الدنيا وستسعد جدًا بذلك، فقط بإضافة كلمة اسلامي، والاستدلال ببعض آيات القرآن وأحاديث النبي صلي الله عليه وسلم دون البعض، فإن نهايته تكون الوقوف على حرف، إن أصابه خير اطمأن به وإن إصابته فتنة انقلب.

إن العقيدة هي الركيزة الثابتة في حياة المؤمن، تضطرب الدنيا من حوله فيثبت هو على هذه الركيزة، وتتجاذبه الأحداث والدوافع فيتشبث هو بالصخرة التي لا تتزعزع، وتتهاوى من حوله الأسناد فيستند هو إلى القاعدة التي لا تحول ولا تزول.

هذه قيمة العقيدة في حياة المؤمن، ومن ثم يجب أن يستوي عليها، متمكنًا منها، واثقًا بها، لا يتلجلج فيها، ولا ينتظر عليها جزاء، فهي في ذاتها جزاء، ذلك أنها الحمى الذي يلجأ إليه، والسند الذي يستند عليه، أجل هي في ذاتها جزاء على تفتح القلب للنور، وطلبه للهدى، ومن ثم يهبه الله العقيدة ليأوي إليها، ويطمئن بها.

هي في ذاتها جزاء يدرك المؤمن قيمته حين يرى الحيارى الشاردين من حوله، تتجاذبهم الرياح، وتتقاذفهم الزوابع، ويستبد بهم القلق، بينما هو بعقيدته مطمئن القلب، ثابت القدم، هادئ البال، موصول بالله، مطمئن بهذا الاتصال أما ذلك الصنف من الناس الذي يتحدث عنه السياق فيجعل العقيدة صفقة في سوق التجارة: {فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ}، وقال: إن الإيمان خير.

فها هو ذا يجلب النفع، ويدر الضرع، وينمي الزرع، ويربح التجارة، ويكفل الرواج {وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ} [الحج: 11]، خسر الدنيا بالبلاء الذي أصابه فلم يصبر عليه، ولم يتماسك له، ولم يرجع إلى الله فيه، وخسر الآخرة بانقلابه على وجهه، وانكفائه عن عقيدته، وانتكاسه عن الهدى الذي كان ميسرًا له (12).

-----------

(1) في ظلال القرآن (1/ 465).

(2) أخرجه مسلم (2664).

(3) ابدأ من جديد/ موضوع.

(4) كيف أبدأ حياتي من الصفر/ موضوع.

(5) أخرجه أحمد (17114).

(6) سبق تخريجه.

(7) فقه البدايات/ العقيدة والحياة.

(8) في ظلال القرآن (5/ 2692).

(9) في ظلال القرآن (5/ 2914).

(10) أخرجه مسلم (2865).

(11) في ظلال القرآن (5/ 2720).

(12) في ظلال القرآن (4/ 2412).