logo

ضوابط الاستطاعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر


بتاريخ : الأحد ، 19 شعبان ، 1441 الموافق 12 أبريل 2020
بقلم : تيار الاصلاح
ضوابط الاستطاعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

إن من فضل الله تعالى على خلقه أن جعل دين الإسلام دين الواقعية، فهو لا يطالب المسلمين بأمور فوق طاقتهم لا يستطيعون فعلها، أيًا كان هذا المأمور به، فإما أن يسقط كلية، أو يخفف إلى درجة تتناسب مع قدرات هذا الشخص.

ولقد جاءت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة موضحة ذلك أوضح بيان، يقول تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، ويقول تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، ويقول تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»(1).

قال ابن كثير: «لا يكلف أحدًا فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم»(2).

وقال القرطبي: «نص الله تعالى على أنه لا يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلب أو الجوارح إلا وهي في وسع المكلف، وفي مقتضى إدراكه وبنيته»(3).

والوسع غير الطاقة، فالطاقة هي غاية المجهود وأقصاه، وما يفعله الإنسان قادرًا عليه ولكن في تعب وجهد، والوسع ما يكون في الإمكان، ولكن تكون بعد الأداء سعة من قدرة على أداء غيره، ولكن لا يؤدي الزيادة إلا بجهد.

ولا يُفهم من هذا أن تكليف الوسع لا تكون فيه مشقة قط؛ بل إن كل تكليف هو أمر بما فيه كلفة، وهي المشقة؛ وعلى ذلك تكون التكليفات الشرعية لها ثلاث خواص ملازمة: وهي أن فيها مشقة محتملة، وأنها تكون في الوسع والقدرة من غير حرج ولا ضيق، وأنها تكون من غير مجهود شديد يكون أقصى الطاقة(4).

وعلى ذلك فإن النصوص الشرعية تبين بوضوح أن الإنسان لا يكلف فوق طاقته في أي أمر من أمور الشرع، وما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا جزء من أوامر الشرع.

قال السعدي: «فأصل الأوامر والنواهي ليست من الأمور التي تشق على النفوس؛ بل هي غذاء للأرواح، ودواء للأبدان، وحمية عن الضرر، فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحسانًا، ومع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنة المشقة حصل التخفيف والتسهيل، إما بإسقاطه عن المكلف، أو إسقاط بعضه؛ كما في التخفيف عن المريض والمسافر وغيرهم»(5).

وقال أيضًا: «قال تعالى: {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} أي: بمقدار ما تسعه طاقتها، ولا يعسر على قدرتها، فعليها في هذه الحال أن تتقي الله بحسب استطاعتها، وإذا عجزت عن بعض الواجبات التي يقدر عليها غيرها سقطت عنها، كما قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا}، {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا}، {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فلا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة»(6).

وقد أوجب الله تعالى على المسلمين جميعًا تكوين أمة منظمة موحدة، لا ترهب أحدًا، وتقول الحق، وترفع الظلم، ولا تخشى في الله لومة لائم، وعلى هذه الأمة أو الجماعة المنظمة مهمة الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف الذي يقره الشرع والعقل، والنهي عن المنكر الذي يقبّحه الشرع والعقل، وحماية الدين، وحفظ الحقوق، وإقامة العدل، وأداء الأمانات، وأسلوب هذه الجماعة كما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»(7).

وقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} [آل عمران:104]؛ أي: منتصبة للقيام بأمر الله، في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(8).

وعن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم»(9).

وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها [وقال مرة: فأنكرها] كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها»(10).

قال القرطبي: «قال العلماء: الأمر بالمعروف باليد على الأمراء، وباللسان على العلماء، وبالقلب على الضعفاء، يعني عوام الناس، فالمنكر إذا أمكنت إزالته باللسان للناهي فليفعله، وإن لم يمكنه إلا بالعقوبة أو بالقتل فليفعل، فإن زال بدون القتل لم يجز القتل، وهذا تلقٍ من قول الله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ} [الحجرات:9].

وعليه بنى العلماء أنه إذا دَفَع الصائلَ على النفس أو على المال عن نفسه أو عن ماله أو نفس غيره فله ذلك ولا شيء عليه، ولو رأى زيدٌ عمرًا وقد قصد مال بكر فيجب عليه أن يدفعه عنه؛ إذا لم يكن صاحب المال قادرًا عليه ولا راضيًا به، حتى لقد قال العلماء: لو فرضنا قودًا.

وقيل: كل بلدة يكون فيها أربعة فأهلها معصومون من البلاء؛ إمام عادل لا يظلم، وعالم على سبيل الهدى، ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحرضون على طلب العلم والقرآن، ونساؤهم مستورات لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى»(11).

قال القاضي: «والناس في تغيير المنكر والأمر بالمعروف على مراتب، ففرض العلماء فيه تنبيه الحكام والولاة، وحملهم على جادة العلم، وفرض الولاة تغييره بقوتهم وسلطانهم، ولهم هي اليد، وفرض سائر الناس رفعه إلى الحكام والولاة بعد النهي عنه قولًا، وهذا في المنكر الذي له دوام، وأما إن رأى أحد نازلة بديهة من المنكر؛ كالسلب والزنى ونحوه، فيغيرها بنفسه بحسب الحال والقدرة، ويحسن لكل مؤمن أن يحتمل في تغيير المنكر، وإن ناله بعض الأذى»(12).

ومعنى الاستطاعة التمكن من التغيير دون ضرر يلحقه أو يلحق عموم الناس؛ كالفتنة.

فإذا رأيت شخصًا يغش السمن، مثلًا، وجب عليك تغيير ذلك ومنعه منه بالفعل إن استطعت، فالقدرة والاستطاعة هنا مشروطة بالنص، فإن لم تقدر على ذلك وجب عليك التغيير باللسان، وهو غير خاص بنهي الغاش ووعظه؛ بل يدخل فيه رفع أمره إلى الحاكم الذي يمنعه بقدرة فوق قدرتك.

أما التغيير بالقلب فهو عبارة عن مقت الفاعل وعدم الرضا بفعله، وللنهي طرق كثيرة وأساليب متعددة، ولكل مقام مقال(13).

ويقول الجصاص حول قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده» الحديث: «أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن إنكار المنكر على هذه الوجوه الثلاثة على حسب الإمكان، ودل على أنه إن لم يستطع تغييره بيده فعليه تغييره بلسانه، ثم إن لم يكن ذلك فليس عليه أكثر من إنكاره بقلبه»(14).

وقال النووي رحمه الله: «وأما صفة النهي ومراتبه فقد قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: (فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه)، فقوله صلى الله عليه وسلم: (فبقلبه) معناه: فليكرهه بقلبه، وليس ذلك بإزالة وتغيير منه للمنكر ولكنه هو الذي في وسعه».

وإنما تكون هذه الحالة أضعف الإيمان عند عدم استطاعة ما قبلها، فإن استطاع النهي، وسكت عنه لم يكن له عذر مطلقًا؛ ولذلك اختلف في هؤلاء الساكتين، المحتملة حالهم للعذر وعدمه، واليأس قلما ينشأ إلا من ضعف في النفس أو الإيمان، وكأين من مكاس وجلاد ومدمن خمر تاب وأناب، والمحققون لم يجعلوا احتمال الأذى ولا يقينه موجبًا لترك النهي عن المنكر، ولا لتفضيله عن الفعل؛ بل قالوا في هذه الحال بالجواز، واستدلوا على تفضيل النهي بحديث: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»(15).

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يماثل الجهاد والدعوة إلى الله أو هما معًا؛ لذا فإنه كلما تتوفر القدرة العلمية والجسمية فإن عطاءه ونفعه يكون أكثر، وكلما نقص لديه جانب من الجوانب ذات الصلة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن نفعه يكون أقل.

لذا اشترط العلماء لإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القدرة الحسية والمعنوية.

أولًا: العجز الحسي: فيشترط في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر سلامة جسمه وقوته وكمال حواسه، فلا يلزم الأخرس والأصم والأعمى بما لا يعلمون أنه منكر، أو لا يستطيعون إنكاره لفقد تلك الحواس أو بعضها.

كذلك ضعيف الجسم وهزيله الذي لا يستطيع الدفاع عن نفسه أو لا يتحمل الأذى.

وكذلك لا يلزم من يخشى على ماله وعرضه من النهب أو الانتهاك إذا أمر أو نهى أو نحو ذلك.

وقد أفاض الغزالي القول في ذلك ومما قال: «الشرط الخامس: كونه قادرًا، ولا يخفى أن العاجز ليس عليه حسبة إلا بقلبه؛ إذ كل من أحب الله يكره معاصيه وينكرها»، ثم قسم الاستطاعة إلى أحوال، منها قوله:

«أحدها: أن يعلم أنه لا ينفع كلامه، وأنه يضرب إن تكلم، فلا تجب عليه الحسبة؛ بل ربما تحرم في بعض المواضع، نعم يلزمه ألا يحضر مواضع المنكر، ويعتزل في بيته حتى لا يشاهد ولا يخرج إلا لحاجة مهمة أو واجب.

الحالة الثانية: أن يعلم أن المنكر يزول بقوله وفعله ولا يقدر له على مكروه؛ فيجب عليه الإنكار، وهذه هي القدرة المطلقة.

الحالة الثالثة: أن يعلم أنه لا يفيد إنكاره، ولكنه لا يخاف مكروهًا فلا تجب عليه الحسبة لعدم فائدتها، ولكن تستحب لإظهار شعائر الإسلام، وتذكير الناس بأمر الدين.

الحالة الرابعة: أن يعلم أنه يصاب بمكروه ولكن يبطل المنكر بفعله كما يقدر على أن يرمي زجاجة الفاسق بحجر فيكسرها ويريق الخمر، ولكن يعلم أنه يرجع إليه فيضرب رأسه، فهذا ليس بواجب وليس بحرام؛ بل هو مستحب»(16).

ثانيًا: العجز المعنوي:

فيشترط في المحتسب أن يكون عالمًا عارفًا بأحكام الشرع وعالمًا بالمنكرات، فيعلم مواقع الحسبة وحدودها ومجاريها وموانعها؛ حيث إن الحسبة أمر بمعروف ونهي عن منكر، فلا بد أن يعرف حدود المعروف وحدود المنكر، فإذا كان عالمًا فإنه يعرف مراتب كل منهما.

يقول الشيرازي: «لما أن كانت الحسبة أمرًا بمعروف ونهيًا عن منكر وإصلاحًا بين الناس وجب أن يكون المحتسب فقيهًا عارفًا بأحكام الشريعة؛ ليعلم ما يأمر به وينهى عنه، فإن الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، ولا مدخل للعقول في معرفة المعروف والمنكر إلا بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ورُبَّ جاهل يستحسن بعقله ما قبحه الشرع، ويرتكب المحظور وهو غير عالم به»(17).

وقال الإمام النووي رحمه الله: «إنما يأمر وينهى من كان عالمًا بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء؛ فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة؛ كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ولا لهم إنكاره؛ بل ذلك للعلماء»(18).

إذًا فليس على العامي إنكارٌ فيما يحتاج إلى علم أو اجتهاد؛ بل يسقط عنه الأمر والنهي في هذه الحالة، ولكن يلزمه أن ينكر الأمور التي لا يعذر أحد بجهلها؛ كترك الصلاة، وفعل الزنا، وشرب الخمر ونحو ذلك.

يقول الغزالي: «العامي ينبغي له ألا يحتسب إلا في الجليات المعلومة؛ كشرب الخمر، والزنا، وترك الصلاة، فأما ما يعلم كونه معصية بالإضافة إلى ما يطيف به من الأفعال ويفتقر فيه إلى الاجتهاد فالعامي إن خاض فيه كان ما يفسده أكثر مما يصلحه»(19).

ضابط الاستطاعة:

لا شك أن ضابط الاستطاعة ليس له ميزان دقيق، فالأشخاص يختلفون، فهذا يقدر على أمور لا يستطيعها شخص آخر، وهذا قد أعطاه الله قوة في العلم والجسم، وآخر قد فقدها أو أحدهما، فالضابط الحقيقي متروك لضمير الشخص نفسه، ولكن مع ذلك ينبغي أن يكون هناك حد أدنى يقف عنده الناس حتى لا يكون مبدأ عدم القدرة وسيلة لترك الأمر والنهي، فهناك أمور يجب ألا تصد الناس عن الأمر والنهي؛ فمثلًا الخوف من اللوم أو السب والشتم ونحو ذلك، فلا يعذر أحد من الناس بسبب ذلك؛ لأنه بسيط وهو في ذات الله تعالى، ولقد أثنى الله سبحانه وتعالى على الذين يجاهدون في سبيله ولا يخافون فيه لومة لائم، يقول تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائمِ}ٍ [المائدة:54].

يقول ابن كثير: «أي لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله تعالى وإقامة الحدود وقتال أعدائه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يردهم عن ذلك راد، ولا يصدهم عنه صاد، ولا يحيك فيهم لوم لائم ولا عذل عاذل»(20).

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن نقول الحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم»(21).

وقال القرطبي: «أجمع المسلمون، فيما ذكر ابن عبد البر، أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم، الذي لا يتعدى إلى الأذى، فإن ذلك لا ينبغي أن يمنعه من تغييره»(22) .

ويقول الغزالي: «ولو تركت الحسبة بلوم لائم أو باغتياب فاسق أو شتمه أو تعنيفه أو سقوط المنزلة عن قلب أمثاله لم يكن للحسبة وجوب أصلًا؛ إذ لا تنفك الحسبة عنه»(23).

فينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ألا يلتفت لهذه الأمور الصغيرة؛ فإنها تعد قشورًا بسيطة تصيبه في ذات الله، وهو مع ذلك لا يعتبر قدم شيئًا يذكر، وكان الأولى له والأفضل أن يقدم نفسه رخيصة في سبيل الله.

ويجب أن يعرف المسلم أن عذر الشارع في عدم النهي عن المنكر إذا خاف الإنسان على نفسه رخصة، وأما طريقة العزيمة والفضل فهو أن يقدم الإنسان نفسه وما يملك من أجل إعلاء كلمة الله تعالى، دون أن يتراجع عن كلمة الحق مهما كلفته؛ لأن الشارع رغب في ذلك.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر»، أو «أمير جائر»(24) .

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في حديثه الطويل عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «ألا لا يمنعن رجلًا مهابة الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه، ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»(25).

فهذه الأحاديث وغيرها تفيد أن الإنسان مأجور عندما يصدع بكلمة الحق ويأمر وينهى، ولو أدى ذلك إلى هلاكه وتعذيبه؛ لأن نتيجة الكلمة الصادقة عند السلطان الجائر معروفة.

يقول العمري: «لا شك أن التضحية بالنفس والنفيس في سبيل الجهر بكلمة الحق ليست بأمر سهل ترغب فيه النفوس؛ فهي تطلب حُبًا قويًا وإخلاصًا عميقًا، وعزيمة صادقة وهمة بعيدة، ولكن مما لا شك فيه أيضًا أن أصحاب العزيمة وأهل الإخلاص هم أرفعهم عند الله درجة وأعلاهم مكانة».

ثم يقول: «هذه الأمة، التي ألقى الله على كواهلها مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي عليها أن تصلح أمرها بنفسها، لها تاريخ مشرق مجيد في الصدق والجرأة والشهامة والصدع بالحق، ولئن وجدت فيه من سكت عن المنكر وما قوي على إظهار المعروف لضعف إيمانه، فلا تستقل عدد أولي العزم وأصحاب الهمم الذين تصدوا للباطل وشهدوا بالحق في ظلال السيوف، وذلك هو الذي ما زال يضمن للأمة حياتها وبقاءها، وإن فقدت كافة الأمة يومًا هذه الروح، روح التضحية والفداء والتفاني، كان أشأم يوم في تاريخها، وانقطعت عنها رحمة الله، ولم يحل بينها وبين هلاكها شيء، وسقطت في الدرك الأسفل إلى هاوية الانحطاط»(26).

وجوب الأمر والنهي ولو خاف على نفسه:

قد يكون الأمر والنهي واجبًا ولو خاف على نفسه الهلاك، وذلك إذا كان يترتب على ذلك هداية طائفة من الناس إذا قال كلمة الحق، أو ضلالهم إذا سكت، فهنا يجب عليه أن يقول كلمة الحق ولو أدى ذلك إلى قتله.

والدليل على ذلك قصة الغلام مع الملك، التي رواها صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الطويل، وقد ذكرها أهل التفاسير عند تفسير سورة البروج(27) .

ورواها الترمذي في سننه، وفيها: «فقال الغلام للملك: إنك لا تقتلني حتى تصلبني وترميني، وتقول إذا رميتني: (بسم الله رب هذا الغلام)، فأمر به فصلب ثم رماه، فقال: (بسم الله رب هذا الغلام)، قال فوضع الغلام يده على صدغه حين رمي ثم مات، فقال أناس: (لقد علم هذا الغلام علمًا ما علمه أحد، فإنا نؤمن برب هذا الغلام)»(28).

فهذا الغلام ضحى بنفسه لعلمه أنه سيهتدي بعده آلاف الناس، وقصة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله مشهورة، حيث ثبت على قوله الحق في أن القرآن منزل غير مخلوق؛ لعلمه أن الناس سيقتدون به، ولو قال إنه مخلوق تورية لضل بذلك خلق كثير(29).

فضابط الاستطاعة أن يستطيع أن يغير المنكر من غير أن يلحقه ضرر، فإن كان يلحقه الضرر، إما في بدنه أو في ماله أو في أهله ونحو ذلك، فهنا ينتقل للمرتبة التي بعدها، فمثلًا الإنكار باليد يستطيعه الأب في بيته والأم في بيتها، وكذلك ولي الأمر أيضًا هو مستطيع لهذا، ومَن أيضًا جعل لهم ولي الأمر الصلاحية، أما بقية الناس لا يستطيعون التغيير باليد.

أما التغيير باللسان أكثر الناس يستطيعونه، لكن قد لا يستطيع بعض الناس لأنه يخشى الضرر؛ كأن يفصل من وظيفته أو نحو ذلك، هذا يعتبر ضررًا، هنا ينتقل إلى الإنكار بالقلب.

الإنكار بالقلب الجميع يستطيعونه، لا أحد معذور في الإنكار بالقلب، ولهذا قال: «وذلك أضعف الإيمان»، وكما قال أحد السلف: «من أراد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فليوطن نفسه على تحمل الأذى قبل الأمر وقبل النهي».

ولهذا قال الله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17]، انظر؛ قرن الصبر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المقامات العظيمة، وينبغي لطالب العلم على وجه الخصوص أن يكون له عناية بجانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لهذا لما ذكر الله تعالى قصة أصحاب السبت، الذين تحايلوا على صيد الحيتان يوم السبت فوقعوا في منكر، ذكر الله تعالى موقف الصالحين في تلك القرية، وأنهم انقسموا إلى قسمين؛ قسم من الصالحين أنكروا، والقسم الثاني لم ينكروا ولم يكتفوا بترك الإنكار؛ بل حاولوا تثبيط المنُكرين: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ} يعني من الصالحين {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف:164]، يعني هؤلاء ما فيهم فائدة فاتركوهم، الله تعالى سيعذبهم وسيوقع بهم العقوبة، فلا فائدة من الإنكار عليهم {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف:164]، ماذا قال الصالحون المنكرون {قَالُوا مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164]، فذكروا أن لإنكار المنكر فائدتين عظيمتين:

الفائدة الأولى: الإعذار إلى الله، وهذا هو المقصود الأساس من إنكار المنكر؛ الإعذار إلى الله تعالى.

الفائدة الثانية: قد يستجيبون، ما تدري أنت، هذا في علم الغيب، ولعلهم يتقون، فهذا الذي تنكر عليه قد يستجيب وقد لا يستجيب، فربما أنه يستجيب ويتحقق الغرض من إنكار المنكر، أو لا يستجيب ويتحقق الغرض الأساس وهو الإعذار إلى الله تعالى، لكن لما ذكر الله تعالى عقوبة أصحاب القرية قال: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأخذنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165]، فالذين وقعوا في المنكر عاقبهم الله تعالى بالعذاب البئيس، لكن الصالحون ما شأنهم؟ ذكر الله تعالى قسمًا منهم وهم المنكرون، ذكر الله تعالى نجاتهم تنويهًا بشأنهم {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف:165].

أما الصالح غير المنكر هذا لا يستحق أن يذكر أصلًا، فهذا يبين لنا مكانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع، وأنه مهم جدًا، وأنه كلما قوي جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع كلما أمن المجتمع من العقوبات، وأمن من حلول العقوبات، أمن من العقوبات التي تحل بالمجتمع من انتشار الأوبئة والأمراض، ومن العقوبات الكثيرة التي قد يسلطها الله تعالى على المجتمعات بسبب عدم قيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو صمام الأمان للمجتمع، وكلما قوي كلما كان المجتمع على خير، وكان سببًا لحلول البركات على المجتمع {وَلَوْ أَنَّ أهل الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96](30).

وهناك شرط ساء فهم بعض الناس فيه، وهو قول بعض الفقهاء: يشترط ألا يجر النهي إلى منكر أعظم، وهذا شرط قد خرم مزية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واتخذه المسلمون ذريعة لترك هذا الواجب، ولقد ساء فهمهم فيه؛ إذ مراد مشترطه أن يتيقن الأمر؛ أي أن أمره يجر إلى منكر أعظم فعلًا، لا أن يخاف أو يتوهم؛ إذ الوجوب القطعي لا يعارضه إلا ظن أقوى(31).

***

______________

(1) أخرجه البخاري (7288).

(2) تفسير ابن كثير (1/ 737).

(3) تفسير القرطبي (3/ 429).

(4) زهرة التفاسير (2/ 1091).

(5) تفسير السعدي، ص120.

(6) المصدر السابق، ص289.

(7) أخرجه مسلم (49).

(8) تفسير ابن كثير (2/ 91).

(9) أخرجه الترمذي (2169).

(10) أخرجه أبو داود (4345).

(11) تفسير القرطبي (4/ 49).

(12) تفسير ابن عطية (1/ 486).

(13) تفسير المنار (4/ 29).

(14) أحكام القرآن، للجصاص (2/ 36).

(15) أخرجه أحمد (11143)، تفسير المنار (9/ 319).

(16) إحياء علوم الدين (7/ 26) باختصار.

(17) نهاية الرتبة في طلب الحسبة، ص6.

(18) شرح صحيح مسلم، للنووي (1/ 51).

(19) إحياء علوم الدين (7/ 28).

(20) تفسير القرآن العظيم (2/ 70).

(21) أخرجه البخاري (7199)، ومسلم (1840).

(22) الجامع لأحكام القرآن (4/ 48).

(23) إحياء علوم الدين (7/ 33) باختصار.

(24) أخرجه أبو داود (4344).

(25) أخرجه أحمد (11159).

(26) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص262-263.

(27) تفسير الطبري (24/ 339).

(28) أخرجه الترمذي (3340).

(29) الموسوعة العقدية، موقع: الدرر السنية.

(30) ما هو ضابط الاستطاعة، موقع الدكتور سعد بن تركي الخثلان.

(31) التحرير والتنوير (4/ 42).