هم القوم لا يشقى جليسهم
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة، فُضُلًا يتتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسًا فيه ذِكْر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضًا بأجنحتهم، حتى يملئوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، قال: فيسألهم الله عز وجل، وهو أعلم بهم: من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض، يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك، قال: وماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك، قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا، أي رب، قال: فكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك، قال: ومم يستجيرونني؟ قالوا: من نارك يا رب، قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا، قال: فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا: ويستغفرونك، قال: فيقول: قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا، قال: فيقولون: رب، فيهم فلان عبد خطاء، إنما مر فجلس معهم، قال: فيقول: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم»(1).
يعني: هذا الرجل الذي ليس منهم إنما يحظى ببركة هذا المجلس، وتصيبه النفحات الربانية في هذا المجلس، وهذا ليس فضلًا للرجل؛ وإنما هو فضل مجلس العلم، وفضل الاجتماع على كتاب الله وعلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
هذا الجليس الذي جاء لحاجة لما رآهم جلس معهم، فلم يكن عزمته الأولى لذلك، ولكنه وافقهم في الجلوس، فبورك له في الجلوس حين لم يعرض عنهم، فكان له من مجالستهم أنه لحقته بركتهم، فأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يشقى جليسهم»؛ ليرغب كل مؤمن في مجالسة أهل الذكر، فإن لم يكن من الذاكرين، ولا يعجز أحد في أن يجالس أهل ذكر الله، وإن بلغ به الأمر إلى ألَّا يفهم ما يقولونه، ويؤمل أن يقول الله تعالى فيه: «هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم».
قوله: «فيهم فلان جاء لحاجة»: فإنه يدل على أن الملائكة لا تكتم الله حديثًا، وأنه مما يدل على أمانة الملائكة فيما يخبرون به ربهم سبحانه، فكيف لا يؤدي الأمانة من يعلم أن السائل له يعلم الأمر المسئول عنه قبل وقوعه، وإنما أثار سؤال ذلك منه ليكون مما يجيبه الله به عنه، مبشرًا كل من أوى إلى أهل الذكر، أو مر بهم، أو جاء لحاجة فجلس إليهم، فإن عرض جاه الذاكرين يشمله، وكفتهم تظله.
فأما قوله عز وجل: «هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم»، فإن معناه؛ أن ينعم بهم من جالسهم؛ لأنه لو قد قام ذلك الذي جلس إليهم لحاجة، ولم يغفر له معهم حتى رآهم في القيامة وقد فازوا، انقطع به هو لكان يرى أن مجالستهم لم تفده، فغار الله سبحانه لأهل ذكره من ألا تشمل بركتهم من جالسهم لحظة واحدة في عمره، غير مباين لهم في عقائدهم فيه، فكان ذلك معتقًا رقبته، فكيف بمن تطول مجالسته إياهم(2).
والسر فيه: أن ذكر الله حياة، فلا يبلغ شيئًا إلا يحدث فيه حياة، وحينئذ تتسع دائرة الذكر بقدر اتساع صوت الذاكر، حتى تصير الأشياء كلها حول الذاكر أحياء ذاكرين، وإن كنت قد ذقت حلاوة ما ألقينا عليك، تبينت معنى تسبيح الجبال، والطير، مع داود عليه الصلاة والسلام، كما أخبر به القرآن، وهو أن داود عليه الصلاة والسلام لم يكن يذكر ويسبح ربه، إلا جعل ما حوله من الجبال والطير يسبح معه، لدخوله في حلقة ذكره، وإذا كان نبيًا من الأنبياء عليهم السلام، كان ذكره أيضًا بقدر مرتبته، فكانت الأشياء تتأثر منه ما لا تتأثر بذكر أحد، ولما أراد الله سبحانه أن يسمعهم من ذكرهم أسمعهم إعجازًا، وهو فعال لما يشاء، ويحكم ما يريد(3).
وأقل ثمرات مجالستهم حفظ نفسه في ذلك الزمن عن المخالفة لمولاه عز وجل(4).
«هم القوم لا يشقى بهم جليسهم» وفي هذه العبارة مبالغة في نفي الشقاء عن جليس الذاكرين، فلو قيل: لَسَعِد بهم جليسهم، لكان ذلك في غاية الفضل، لكن التصريح بنفي الشقاء أبلغ في حصول المقصود.
وفي الحديث فضل مجالس الذكر والذاكرين، وفضل الاجتماع على ذلك، وأن جليسهم يندرج معهم في جميع ما يتفضل الله تعالى به عليهم إكرامًا لهم، ولو لم يشاركهم في أصل الذكر.
وفيه محبة الملائكة بني آدم واعتناؤهم بهم، وفيه أن السؤال قد يصدر من السائل وهو أعلم بالمسئول عنه من المسئول لإظهار العناية بالمسئول عنه، والتنويه بقدره، والإعلان بشرف منزلته.
وقيل: إن في خصوص سؤال الله الملائكة عن أهل الذكر الإشارة إلى قولهم: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، فكأنه قيل لهم: انظروا إلى ما حصل منهم من التسبيح والتقديس مع ما سلط عليهم من الشهوات ووساوس الشيطان، وكيف عالجوا ذلك وضاهوكم في التسبيح والتقديس، وقيل: إنه يؤخذ من هذا الحديث أن الذكر الحاصل من بني آدم أعلى وأشرف من الذكر الحاصل من الملائكة؛ لحصول ذكر الآدميين مع كثرة الشواغل ووجود الصوارف، وصدوره في عالم الغيب، بخلاف الملائكة في ذلك كله، وفيه بيان كذب من ادعى من الزنادقة أنه يرى الله تعالى جهرًا في دار الدنيا(5).
للذكر فضل عظيم عند الله تعالى، فإن الله يضاعف به الحسنات ويمحو به السيئات، والاجتماع على الذكر وتلاوة القرآن له أيضًا فضل عظيم وفوائد جمة، فهو سبب لتنزل الرحمات، وحضور الملائكة لتلك الجلسات، ومباهاة الله عز وجل ملائكته بأولئك القوم الذين انقطعوا لذكره، ومن أوى إليهم آواه الله، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده»(6).
قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا} [الكهف:28].
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} لا تمل ولا تستعجل {مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} فالله غايتهم، يتجهون إليه بالغداة والعشي، لا يتحولون عنه، ولا يبتغون إلا رضاه، وما يبتغونه أجل وأعلى من كل ما يبتغيه طلاب الحياة.
اصبر نفسك مع هؤلاء، صاحبهم وجالسهم وعلمهم، ففيهم الخير، وعلى مثلهم تقوم الدعوات، فالدعوات لا تقوم على من يعتنقونها لأنها غالبة، ومن يعتنقونها ليقودوا بها الأتباع، ومن يعتنقونها ليحققوا بها الأطماع، وليتجروا بها في سوق الدعوات تشترى منهم وتباع! إنما تقوم الدعوات بهذه القلوب التي تتجه إلى الله خالصة له، لا تبغي جاهًا ولا متاعًا ولا انتفاعًا، إنما تبتغي وجهه وترجو رضاه.
{وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا} ولا يتحول اهتمامك عنهم إلى مظاهر الحياة التي يستمتع بها أصحاب الزينة، فهذه زينة الحياة الدنيا لا ترتفع إلى ذلك الأفق العالي الذي يتطلع إليه من يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه.
{وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} لا تطعهم فيما يطلبون من تمييز بينهم وبين الفقراء، فلو ذكروا الله لطامنوا من كبريائهم، وخففوا من غلوائهم، وخفضوا من تلك الهامات المتشامخة، واستشعروا جلال الله الذي تتساوى في ظله الرءوس، وأحسوا رابطة العقيدة التي يصبح بها الناس إخوة، ولكنهم إنما يتبعون أهواءهم، أهواء الجاهلية، ويُحَكِّمون مقاييسها في العباد، فهم وأقوالهم سفه ضائع لا يستحق إلا الإغفال جزاء ما غفلوا عن ذكر الله، لقد جاء الإسلام ليسوي بين الرءوس أمام الله، فلا تفاضل بينها بمال ولا نسب ولا جاه، فهذه قيم زائفة، وقيم زائلة، إنما التفاضل بمكانها عند الله، ومكانها عند الله يوزن بقدر اتجاهها إليه وتجردها له، وما عدا هذا فهو الهوى والسفه والبطلان.
{وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا} أغفلنا قلبه حين اتجه إلى ذاته، وإلى ماله، وإلى أبنائه، وإلى متاعه ولذائذه وشهواته، فلم يعد في قلبه متسع لله، والقلب الذي يشتغل بهذه الشواغل، ويجعلها غاية حياته لا جرم يغفل عن ذكر الله، فيزيده الله غفلة، ويملي له فيما هو فيه، حتى تفلت الأيام من بين يديه، ويلقى ما أعده الله لأمثاله الذين يظلمون أنفسهم، ويظلمون غيرهم(7).
وعن الأغر أبي مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل يقرأ سورة الكهف، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم»(8).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله، لا يريدون بذلك إلا وجهه، إلا ناداهم مناد من السماء: أن قوموا مغفورًا لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات»(9).
قال القرطبي: «وخص الغداة والعشي بالذكر؛ لأن الشغل غالب فيهما على الناس، ومن كان في وقت الشغل مقبلًا على العبادة كان في وقت الفراغ من الشغل أعمل(10).
إن الجليس له خطورة كبيرة على جليسه وتأثير بالغ، وبعض الناس قد أعطاهم الله قدرة في الإقناع وقدرة في الجذب، فقد يجذبك معه إلى سوء الضلالة والعياذ بالله.
إن أناسًا يستطيعون أن يجذبوا نفوس الناس، ويسحروا عقولهم ليردوهم في نار جهنم.
إن هناك شياطين من الإنس كما أن هناك شياطين من الجن؛ لذلك قيل: قل لي من تجالس أقل لك من أنت.
الجليس عنوان جليسه:
هذه هي النقطة الأولى، والشيء الثاني الذي يحثنا على أن يكون جلساؤنا من أهل الخير والصلاح حال السلف رحمهم الله تعالى، عندما كانوا يبحثون عن جلساء الخير، وهذه القصة التي رواها الإمام البخاري رحمه الله تبين هذا المقصود.
عن علقمة، وكان من كبار التابعين وأجلائهم، قال: «قدمت الشام فصليت ركعتين في المسجد ثم قلت: اللهم يسر لي جليسًا صالحًا».
هذا كان دعاؤه، يذهب إلى المسجد إلى مظنة وجود الجلساء الصالحين، أين تجد الجلساء الصالحين؟ في الأسواق؟ في الدكاكين؟ في الشوارع وفي الطرقات؟
كلا، إنك تجدهم في المجالس، إنك تجدهم في المساجد أولًا، فلتكن نقطة الابتداء من المسجد.
ثم قلت: «اللهم يسر لي جليسًا صالحًا، فأتيت قومًا من الناس فجلست إليهم، فإذا شيخ قد جاء حتى جلس إلى جنبي، قلت: من هذا؟، قالوا: أبو الدرداء، فقلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليسًا صالحًا، فيسرك لي...» إلى آخر الحديث(11).
فهذا الرجل التابعي رزقه الله بصحابي جليل ليجلس إليه ويستمع منه ماذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ويقول.
الجليس له صفات كثيرة وله حقوق، قال سعيد بن العاص: «لجليسي عليَّ ثلاث خصال: إذا دنا رحبت به، وإذا جلس وسعت له، وإذا حَدَّث أقبلت عليه».
لنـــــــــــــا جلســـــــاء ما نملّ حديثهـم ألبـّاء مأمونون غيـبًا ومشـهدًا
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى وعقلًا وتأديبـــــًا ورأيًا وسـؤددًا
فلا فتنة نخشـى ولا ســـــــــوء عشرة ولا نتقي منهم لســــــــــانًا ولا يدًا
هذه صفات جلساء الصلاح والتقوى.
ثمار مجالسة الصالحين:
ثمار مجالسة الصالحين كثيرة جدًا، فعلى سبيل المثال :
1- تشمله بركة مجالسهم، ويعمه الخير الحاصل لهم، وإن لم يكن عمله بالغًا مبلغهم كما جاء في الحديث: «هم القوم لا يشقى بهم جليسهم».
قال أبو الفضل الجوهري: «إن مَن أحب أهل الخير نال من بركتهم، كلب أحب أهل فضل وصحبهم فذكره الله في محكم تنزيله»، قال تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18].
2- أن المرء مجبول على الاقتداء بجليسه، والتأثر بعلمه وعمله وسلوكه ومنهجه، ومن المقرر عند علماء التربية أن التأثر عن طريق القدوة أبلغ من التأثر بالمقال والنصح، ولذلك جاء في الحديث: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل»(12).
وقال ابن مسعود: «ما من شيء أدل على شيء ولا الدخان على النار من الصاحب على صاحبه»، وقال بعض الحكماء: «اعرف أخاك بأخيه قبلك»(13).
عن المرء لا تسأل وســل عن قرينــــــــه فكـــــــل قـــــــــــــــريـــــــــن بالمقـــــــــــارن يقتــــــــــــدي
إذا كنت في قـوم فصـاحـــــــب خيــارهم ولا تصحب الأردى فتـــــــردى مع الردي
عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»(14).
3- أن الجليس الصالح يبصرك بعيوبك، ويدلك على أوجه الضعف عندك، فتنطلق نحو العلاج؛ ولذا نجد أن النبي عليه الصلاة والسلام شبَّه المؤمن بالمرآة في كونه مُبَصِّرًا لأخيه بعيوبه، فعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه»(15).
4- تتعرف على أخطائك السلوكية والعبادية من خلال مقارنة أعمالك وسلوكك بما عليه جليسك الصالح.
5- يرشدك ويدلك على أمور الخير فينفعك الله بها .
6- أنك إذا نظرت إلى علو مكانته في العلم والعبادة والدعوة ونظرت إلى حالك استفدت فائدتين:
أ- يزول ما عندك من العجب . ب- تنافس وتزداد من الخير .
7- أن في مجالستهم حفظًا للوقت الذي هو الحياة .
8- أن الجليس الصالح يحفظك في حضرتك وغيابك.
9- أن المرء بمجرد رؤيته للصالحين والأخيار يذكر الله عز وجل، كما جاء في الحديث عن أسماء بنت يزيد أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا أنبئكم بخياركم؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «خياركم الذين إذا رُءوا ذُكِر الله عز وجل»(16).
10- أنهم زين وأنس لك في الرخاء وعدة عند البلاء، وهم خير معين لك على تخفف همومك وغمومك.
قال رجل لداود الطائي: «أوصني»، قال: «اصحب أهل التقوى، فإنهم أيسر أهل الدنيا عليك مؤنة، وأكثرهم لك معونة»(17).
11- أن صحبة أهل الخير سبب في الدخول ضمن الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون، قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)} [الزخرف:67-68].
12- أن تنتفع بدعائهم بظهر الغيب «دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل»(18).
13- أن المصادقة لله سبب لمحبة الله «وجبت محبتي للمتاحبين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في»(19).
14- أن المرء بزيارته لإخوانه في الله يطيب ويطيب ممشاه، قال عليه الصلاة والسلام: «من عاد مريضًا أو زار أخًا له في الله ناده مناد أن طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلًا»(20).
وبالجملة فالجليس الصالح منفعة من كل وجه كما في الحديث: «المؤمن إن ماشيته نفعك، وإن شاورته نفعك، وإن شاركته نفعك، وكل شيء من أمره منفعة»(21).
وفي الحديث: «مثل المؤمن كالنخلة؛ ما أخذت منها من شيء نفعك»(22).
وبضدها تتميز الأشياء؛ فأضرار الجليس السوء كثيرة، منها :
1- أنه يشكك في دينك، واسمع إلى قصة وفاة أبي طالب، فقد روى الإمام مسلم عن سعيد بن المسيب عن أبيه أن أبا طالب لما حضرته الوفاة جاءه النبي عليه الصلاة والسلام، فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله»، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله عليه الصلاة والسلام يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر كلمة؛ هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «والله، لاستغفرن لك ما لم أنه عنك»، فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113]، وأنزل الله في أبي طالب، فقال لرسول الله عليه الصلاة والسلام: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56](23).
فانظروا، يا رعاكم الله، كيف كان رفقاء السوء سببًا في وفاة أبي طالب على الشرك، وصده عن الإسلام.
2- أنه يدعو جليسه إلى مماثلته.
3- أن المرء يتأثر بعادات جليسه .
4- أن رؤيته تذكر بالمعصية .
5- يخفي عنك عيوبك .
6- تحرم بسببه مجالسة الصالحين .
7- مجالسهم لا تخلو من محرمات.
8- أن مجالستهم تضييع للوقت الذي سيحاسب عليه المرء .
فالله الله في مجالسة الصالحين، والحذر الحذر من مجالسة رفقاء السوء، فإن الأمر خطير، والعاقبة وخيمة .
ففي هذا الحديث دليل على فضيلة مجالسة الصالحين، وأن الجليس الصالح ربما يعم الله سبحانه وتعالى بجليسه رحمته، وإن لم يكن مثله؛ لأن الله قال قد غفرت لهذا، مع أنه ما جاء من أجل الذكر والدعاء، لكنه جاء لحاجة، وقال: «هم القوم لا يشقى بهم جليسهم»، وعلى هذا فيستحب الاجتماع على الذكر وعلى قراءة القرآن.
عن أبي واقد الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل نفر ثلاثة، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد، قال: فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبًا، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه»(24).
التصوير الفني في بلاغة قوله: «وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه»؛ في صور فنية تعبر عن قيم تشريعية، تحذر فيها المسلم من الجهل والإعراض عن العلم، والنفور من الجماعة، وتفرقها؛ لترغيبه في العلم والإقبال عليه، والوحدة والترابط والحرص على الطاعة أمرًا ونهيًا، وذلك في تصويره الفني الرائع «فأعرض فأعرض الله عنه» بمعنى فأدبر عن المجلس وترك العلم والرحمة والرضوان، وآثر الجهل والسخط والعقاب، فاستحق ذلك؛ لأنه منافق أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عن الله تعالى، لحديث أنس رضي الله عنه: «فاستغنى فاستغنى الله عنه»، وفي ذلك جواز الإخبار عن أهل المعاصي زجرًا لغيرهم، وليس هذا من باب الغيبة المحرمة(25).
وإن المرء تتعدد أهدافه في دنياه، على حسب مراحل حياته ومسئولياته التي تتراكم عليه كلما تقدَّم في العمر، فهل تبقى الجنة في سلم الأولويات، أم تتراجع في ظل الضغوط والمغريات؟! هذا هو السؤال الذي يحتاج من كل منا إلى إجابة، وبسبب نسيان الإنسان وغفلته وجد عبد القادر الجيلاني نفسه مضطرًا إلى أن يقول: «اجعل آخرتك رأس مالك ودنياك ربحه، واصرف زمانك أولًا في تحصيل آخرتك، ثم إن فضل من زمانك شيء اصرفه في دنياك وفى طلب معاشك، ولا تجعل دنياك رأس مالك وآخرتك ربحه، ثم إن فضل من الزمان فضلة صرفتها في آخرتك»(26).
وطمأن الحسن البصري جموع الخائفين وعموم الحريصين على دنياهم، والباذلين في سبيلها كل ما يملكون، فقال موجِّها خطابه إلى الشباب خاصة: «يا معشر الشباب، عليكم بالآخرة فاطلبوها، فكثيرًا رأينا من طلب الآخرة فأدركها مع الدنيا، وما رأينا أحدًا طلب الدنيا فأدرك الآخرة مع الدنيا»(27).
إن الأيام تبسط ساعات، والساعات تبسط أنفاسًا، وكل نفس خزانة، فاحذر أن يذهب نفس بغير شيء فترى في القيامة خزانة فارغة فتندم، وحاسب نفسك عند كل نظرة وكلمة.
وأد إلى كل ذي حق حقه، وانظر لساعة من ساعاتك بماذا تذهب، فلا تودعها إلا أشرف ما يمكن، ولا تهمل نفسك، وعودها أشرف ما يكون من العمل وأحسنه، وابعث إلى صندوق القبر ما يسرك يوم الوصول إليه، كما قيل:
يا من بدنياه انشــغل وغره طـــــــــــول الأمــــــــل
المــــــوت يأتـــي بغـــتة والقبر صندوق العمـل
***
____________
(1) أخرجه مسلم (2689).
(2) الإفصاح عن معاني الصحاح (7/ 268).
(3) فيض الباري (6/ 245).
(4) دليل الفالحين شرح رياض الصالحين (2/ 219).
(5) فتح الباري (11/ 213).
(6) أخرجه أبو داود (1455).
(7) في ظلال القرآن (4/ 2268-2269).
(8) أخرجه البزار (18/ 89).
(9) أخرجه أحمد (12453).
(10) تفسير القرطبي (6/ 432).
(11) عمدة القاري (16/ 236).
(12) أخرجه أحمد (8015).
(13) فيض القدير (3/ 118).
(14) أخرجه البخاري (3336)، ومسلم (2638).
(15) أخرجه أبو داود (4918).
(16) أخرجه ابن ماجه (4119).
(17) حلية الأولياء (3/ 182).
(18) أخرجه مسلم (2733).
(19) أخرجه مالك في الموطأ (2/ 953).
(20) أخرجه الترمذي (2008).
(21) أخرجه الطبراني في الكبير (13541).
(22) المصدر السابق (13514).
(23) أخرجه البخاري (3884).
(24) أخرجه البخاري (66).
(25) التصوير النبوي للقيم الخلقية، ص185.
(26) فتوح الغيب، ص124.
(27) الزهد، للبيهقي، ص9.