تصوير النساء عبر الجوال
عن أم حبيبة بنت أبي سفيان، عن زينب بنت جحش، رضي الله عنهن أن النبي صلى الله عليه وسلم، دخل عليها فزعًا يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه» وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش فقلت يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث» (1).
قال القرطبي: وكثرة الخبث ظهور الزنى وأولاد الزنى، كذا فسره العلماء (2).
إهلاك الجميع عند ظهور المنكر والإعلان بالمعاصي، الصالح والفاسد الكل سيهلك، فالأمر جد خطير؛ أن يكثر الخبث ويعم الفساد والفجور، ويزداد البغي والطغيان، وتنتشر الرذائل والفواحش؛ عندئذ حق العذاب، وينزل الهلاك على أهل البلاد.
وفي الأزمان الأخيرة، ظهرت صور كثيرة من الفجور والغي والضلال، خاصة مع ظهور أدوات ساعدت على انتشار الخبث والفواحش، فالهواتف النقالة باتت في يد الجميع، وأضحى التنافس بها ينم عن شر خطير وبلاء مستطير، وتعددت أنواعها وارتفع أثمانها على حسب ما بها من قدرات وخدمات؛ خاصة التصوير منها والكاميرات، فكلما كانت إمكانيات التصوير فيها أعلى كلما كان الثمن أغلى، فالقيمة تحدد من خلال الخدمات المتاحة في الجهاز والتي من أهمها جودة التصوير وتباين الصورة، والله المستعان.
وعندما يكون الهاتف بكل ما فيه من إمكانات وخدمات وسيلة للمنكر والمعاصي، وأداة للبغي والفجور، في أيدٍ غير أمينة، لصوص المجالس، وخونة المجامع، ومستغلي المواقف، فالحياء منهم منزوع، والخطر منهم مشروع، والخيانة بقلوبهم خلف الضلوع، لا يراعون حرمة لغيرهم، ولا خوفًا يمنعهم به دينهم.
الرجال والنساء، الفتيات والصبيان، الكل يحمل من الهواتف ما لا يتفق مع عمره ولا دخله، بل يتجاوز حدود إمكاناته المادية وقدراته العقلية وتعاملاته الأخلاقية، فالترفيه والتسلي أحيانًا، والغدر والخيانة أحيانًا أخرى، كلها دوافع للتلوث بالصور المحرمة، والمقاطع المجرمة.
مع سهولة الاستخدام، وتطور الأنظمة، وبراعة الآلات، وغياب الرقابة والوازع الديني والرادع الأخلاقي؛ جعل هذا الأمر ينتشر انتشار النار في الهشيم، ومع تساهل الناس في اللباس الشرعي والاختلاط المحرم، مما سهل الأمر على أصحاب القلوب المريضة أن يخوضوا في وحل الصور المحرمة، فظهرت فضائح للنساء والرجال كان الستر فيها أولى من النشر، والصمت عنها أولى من الخوض فيها، كما قال صديق الأمة: لو سترته بثوبك لكان خيرًا لك.
ولكنهم تجردوا من الرجولة والغيرة والحمية والشهامة والمروءة، بعد تجردهم من الدين والحياء والعفاف، فسهل عليهم الحرام والتلذذ بالمنكرات ونشر الفواحش والموبقات.
فكم من بيوت تدمرت، وأسر تفككت، وأطفال تشردت، ومشكلات عمت وطغت، كل ذلك بسبب التساهل في هذا الأمر وعدم أخذ الحيطة والحذر، والتعامل بسذاجة وعفوية.
من آثار التصوير والتساهل به:
أولًا: الإخلال بأعراض الآخرين:
وذلك لأن تصوير النساء، حال كونهن عالمات بذلك، أو على غفلةٍ منهن؛ وهذا أعظم، فيه هتك حجاب الحشمة والحياء، الذي أنعم الله به على المؤمنات، فمن صور النساء، من امرأة أو رجل، أو بث تلك الصور، فهو مُحَادٌّ لربه القائل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 59].
فالله جل شأنه يأمر بالستر ويرغب فيه، ويمنع من هتكه، لكن هذا المصور للنساء يمانع أمر الله، بل ويتبع سبيل الشيطان الذي يسعى لكشف العورات وإظهار السوءات، كما أخبر الله عنه في كتابه الكريم، وحذر من متابعة سبيله، فقال عز من قائل: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطانُ كَمَا أَخَرَجَ أَبَوَيْكُم مَّنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُما لِيُرِيَهُما سَوءَاتِهِمَا إنَّه يَرَاكُم هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حيثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إنَّا جَعَلْنَا الشَيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27]، وقال سبحانه قبل هذا مخبرًا عمَّا ناله إبليسُ من الأبوين الكريمين عليهما السلام: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَيطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوءَاتِهِمَا} [الأعراف: 20].
وقد وجد أن البدايات الأولى للفواحش هي إبداء ما أمر الله بستره، وما يتعامل به من في قلوبهم مرض من ابتزاز النساء بصورهن، ومطالبتهن بما فيه انتهاك أعراضهن، وهذا حاصل عبر الصور التي يحتالون في الحصول عليها.
وغير خافٍ هنا أن التصوير برمَّته مما أفتى أئمة من العلماء بتحريمه، أيًا كان نوعه، لعموم ما جاء من النهي عن التصوير والوعيد فيه، إلا ما كان لضرورة، فمن العلماء من قال بتحريمه لدخوله في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون» (3)، دليل على عظم المعصية، قال العلماء: تصوير الحيوان حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر؛ لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد، وسواء صنعه لما يمتهن أم لغيره، وسواء كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها، وأما تصوير ما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام (4).
عن سعيد بن أبي الحسن، قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: إني رجل أصور هذه الصور، فأفتني فيها، فقال له: ادن مني، فدنا منه، ثم قال: ادن مني، فدنا حتى وضع يده على رأسه، قال: أنبئك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل مصور في النار، يجعل له، بكل صورة صورها، نفسًا فتعذبه في جهنم» وقال: «إن كنت لا بد فاعلًا، فاصنع الشجر وما لا نفس له» (5).
وثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه لعن المصورين، ومن العلماء من أجاز هذا النوع من التصوير بشروط، وهؤلاء لا يجيزون بحال تصوير النساء لما فيه من كشف عوراتهن وما يفضي إليه من الفساد.
ولم يخالف أحد من علماء المسلمين في تحريم الاطلاع على عورات الغير، سواء بالنظر المباشر أو من ثقب الباب أو النوافذ أو نحو ذلك، فالحكم في مسألة تصوير النساء بواسطة كاميرا الجوال أو أي كاميرا أخرى خلسة سواء كُنَّ في الشارع أو في السوق أو في صالة الأفراح، أو كن في سيارة أو على شاطئ أو منتزه أو غيره، كحكم من نظر من خلال الباب أو الكوَّة في الدار، بل إن المصيبة في التصوير بواسطة كاميرا الجوال أعظم وأشد ضررًا، لأن هذا المصور أو هذه المصورة تأخذ الصورة أو يأخذها أحد فيدخلها إلى جهاز الحاسوب، ثم ينشرها عن طريق الشبكة العنكبوتية، فبدلًا من أن يراها واحد سوف يراها الملايين من الناس، فأصبح هذا أو هذه ممن يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ولا شك أن هذا منكر عظيم وكبيرة من الكبائر، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].
وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو اطلع في بيتك أحد ولم تأذن له، حذفته –أي رميته- بحصاة ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح» (6)، للإنسان حرمة عظيمة ومقام كبير، وقد حظر الله تعالى ماله وعرضه ودمه، ولكنه إذا اعتدى على غيره، زالت حرمته، وصَغُر مقامه، إذ أهان نفسه وقلل خطره، فإذا اطلع على أحد بغير إذنه من وراء بابه أو من فوق جداره أو غيِر ذلك ففقأ عينه، فليس على هذا الفاقئ إثم ولا قصاص، لأنه أسقط حرمته، وأرخص عضوه، بجنايتها بالاطلاع على بيوت الناس وعوراتهم.
فهذا من باب القصاص، لا من باب المدافعة، فتكون بالأسهل فالأسهل (7).
وإن مما يؤسف له أن شبكة الإنترنت قد استغلت في هذا المجال أيما استغلال، واتخذت وكرًا خصبًا للتعاملات الساقطة، إذ لم تقتصر على تداول صور ومناظر الفحش والعهر من منتحلي الفواحش من الكفار والكافرات، ولكن يتم بث صور المسلمات العفيفات الغافلات، وربما أدخلت عليها عمليات الدبلجة بتركيب الصور على أجساد عارية، وهذا من أعظم البغي وأكبر العدوان وأشد البهتان، ولسوف يدرك الفاعل لذلك شناعة جرمه يوم يجازيه الله على هذا الاعتداء والبغي.
ونشر صور الفتيات وتداولها عبر التقنيات الحديثة يدخل في باب التجسس على الناس، وقد قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات: ١٢]، وورد في الحديث عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا» ويشير إلى صدره ثلاث مرات، «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه» (8)، وهذه النصوص تدل دلالة واضحة على تحريم التجسس بكافة أشكاله وأنواعه، ولا شك أنه يدخل فيه التقاط الصور للفتيات وتداولها عبر التقنيات الحديثة.
ثانيًا: خلق مشكلات تهدد البيوت: ومن أسباب تحريم تصوير النساء بالطريقة السالفة الذكر، أنه يؤدي إلى إيجاد المشكلات الأسرية، وذلك أن ذوي المرأة التي تنتشر صورتها لا بد أن تأخذهم الغيرة وتحركهم الحمية بسبب هذا التصوير، فإن كانت متزوجة؛ فالغالب أنها تصبح محل تهمة وشك لدى زوجها، وربما أدى إلى طلاقها، وإن كانت غير متزوجة فربما أدت تلك الصور بأهل المرأة إلى الاعتداء على موليّتهم، وقد يؤدي بها ذلك لأن يعزف عنها الخطاب لسوء سمعتها، فتتعطل عن الزواج وينشأ عن ذلك غيره من المشكلات، وهذا كله منشؤه التساهل بهذا المنكر.
وكم فعلت هذه الصور من الأفاعيل في الأسر، وكم افتري بها على المظلومين والمظلومات، وحصلت بها أنواع الفتن والويلات، حتى الداعيات إلى الله لم يسلمن من ذلك، فتلتقط صورهن في محاضرات النساء لتركب في الشبكة، وتؤخذ هذه الصور أيضًا من قبل الذين يصطادون البنات في هذه الصور للفتيات في الأعراس ليبتزوهن بها بعد ذلك، وهذه أخت تتألم من أنها فوجئت بقيام من صورها أثناء قيامها بالوضوء في المدرسة، وأخرى فوجئت بطلاق زوجها، فإذا هي مكيدة مدبرة نتيجة صورة التقطت بكاميرا الهاتف المحمول، خمسة وخمسون كاميرا جوال تم ضبطها في ليلة زفاف واحدة.
إننا نجد اليوم أن من النساء من فتنت بالنظر إلى صور الرجال؛ ولذلك فإنها إذا كانت تنظر نظرًا يفتن فلا يجوز لها ذلك، وأما الرجل فأمره واضح في هذه القضية.
إن التوسع في التصوير قد أدى بنا إلى مآس أليمة، وكذلك فإن على المؤمن أن يطهر نفسه، وأن يحصن فرجه.
وإن قضية نشر صور النساء التي تحدث الآن، وتبادلها في الجوالات واضح التحريم، ولعلك -يا عبد الله- تتمعن في هذا الحديث، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: «لا تباشر المرأة المرأة، فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها» (9)، ومعنى: «فتنعتها لزوجها» أي: تصفها لزوجها في بدنها ونعومته، وجسدها أو ليونته، وما فيها من أنواع الجمال كصفة الوجه والكفين، ونحو ذلك، كأنه ينظر إليها الوصف الدقيق، فما بالكم إذا كانت صورة تنقله بدقته، وتأخذه بتمامه، فأيهما أولى بالتحريم؟ إذا كان قال: لا تباشر المرأة المرأة، فتنعتها لزوجها، وهو متزوج؛ عنده امرأة؛ لا تنعتها كأنه ينظر إليها، فما بالكم بالصورة التي تغني عن الوصف تمامًا، وتزيد عليه، أيهما أولى بالتحريم؟!
قال أبو الحسن بن القابسي: هذا من أبين ما تحمى به الذرائع، فإن وصفتها لزوجها بحسن خيف عليه الفتنة، فيكون ذلك سببًا لطلاق زوجته، ونكاحها إن كانت ثيبًا، وإن كانت ذات بعل كان ذلك سببًا لبغضه زوجته ونقصان منزلتها عنده، وإن وصفتها بقبح، كان ذلك غيبة، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه نهى الرجل عن مباشرة الرجل مثل نهيه للمرأة سواء (10).
ثالثًا: إيذاء المؤمنين والمؤمنات:
ومن أسباب تحريم هذا التصوير أيضًا أنه يشتمل على أذية المؤمنين والمؤمنات، فإن من تم تصويرها بما يظهر عورتها أو يهتك عرضها، لا ريب أنه من أشد الأذية لها، وقد قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58]، وهذا عام في كل ما كان من أذية المؤمنين والمؤمنات.
هناك من يتولى الكيد للمؤمنين والمؤمنات، بنشر قالة السوء عنهم، وتدبير المؤامرات لهم، وإشاعة التهم ضدهم، وهو عام في كل زمان وفي كل مكان، والمؤمنون والمؤمنات عرضة لمثل هذا الكيد في كل بيئة من الأشرار المنحرفين، والمنافقين، والذين في قلوبهم مرض (11).
عن ابن عمر قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فنادى بصوت رفيع، فقال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيِّروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله» (12).
والأذى عام بكل نوع من أنواع الأذى، سواء كان في عرضه أو ماله أو في بدنه أو في أي شيء يوصل إليه الأذى.
إنه موقف حاسم، ووعيد زاجر يملأ النفس الحية خوفًا وهيبة وحذرًا، ويقرر مبدأ صيانة العرض، وأن الجزاء من جنس العمل، وجرح اللسان كجرح السنان، والجروح قصاص: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِه} [النساء: 123].
قال نافع: ونظر ابن عمر يومًا إلى البيت أو إلى الكعبة، فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك (13).
فهذه النصوص -في الحقيقة- كلها تدل دلالة واضحة على أنه ينبغي عليك أن تحرص على أن تراقب الله عز وجل في أقوالك وأفعالك، خاصة في التي لها تعلق بغيرك من بني البشر.
ولا ريب أنه لا أشد على النفوس الكريمة من أن تؤذى في أعراضها، فالأذية حاصلة للمسلمات وحاصلة أيضًا لأهليهن، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» (14).
هذا؛ وإن التصوير بكاميرا الجوال بالطريقة السالفة الذكر فيها من الاستطالة على أعراض المسلمين والبغي ما الله به عليم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أحرى أن يعجل الله تبارك وتعالى العقوبة لصاحبه في الدنيا، مع ما يدخر له في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم» (15).
والمسلم الحق لا يرضى للناس من الأذية والفضيحة ما يأباه لنفسه، فقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه» (16).
إن هذه المخاطر العظيمة التي صارت اليوم في هذا الجوال ذي الكاميرا وغيره عندما تلتقط الصور، وتخزن الصور، وترسل الصور، وتعرض الصور، بوسائط عجيبة وتقنية رهيبة، إنه تخزين بكميات هائلة، وسرعة في النشر والإرسال، وأساليب جذابة في العرض لكي يجملها في الأعين، ثم يتلقف هذه التقنية من الفسقة والفاسقات ما يريدون به إشاعة الفاحشة بيننا، وتبتز النساء، تصور النساء في الأعراس والحفلات، والمدارس والكليات، وتركب على صور خليعة من الشبكة، ثم يحدث الابتزاز، وإرادة هدم البيوت، وهذه انتحرت، وهذه أصيبت بمرض مستمر، وتلك اعتزلت في بيتها ستة أشهر، وأخرى طلقها زوجها، وبعضهن بريئات، وبعضهن ظالمات مفتريات، فالبريئة من الذي يصدق براءتها، وأن هذه مركبة، وأنها التقطت بغير علمها، ونحو ذلك، تخرب البيوت وتعطل النساء عن الزواج، وتحصل الفضائح في المجتمع (17).
أما عن وضع الفتاة لصورتها على صفحات التواصل أو المنتديات والمواقع الإلكترونية محرم، وذلك لأمور عدة:
أولًا: أن ذلك مناف للستر الذي أمرت به المرأة في الكتاب والسنة، فإذا كان الله عز وجل قال في حق أشرف النساء وأبعدهن عن الريبة وهن نساؤه صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53]، أي: هذا الذي أمرتكم به وشرعته لكم من الحجاب أطهر وأطيب.
يقول هذا عن نساء النبي الطاهرات، أمهات المؤمنين. وعن رجال الصدر الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن لا تتطاول إليهن وإليهم الأعناق! وحين يقول الله قولًا، ويقول خلق من خلقه قولًا، فالقول لله سبحانه وكل قول آخر هراء، لا يردده إلا من يجرؤ على القول بأن العبيد الفانين أعلم بالنفس البشرية من الخالق الباقي الذي خلق هؤلاء العبيد؛ والواقع العملي الملموس يهتف بصدق الله، وكذب المدعين غير ما يقول الله.
والتجارب المعروضة اليوم في العالم مصدقة لما نقول، وهي في البلاد التي بلغ الاختلاط الحر فيها أقصاه أظهر في هذا وأقطع من كل دليل، وأمريكا أول هذه البلاد التي آتى الاختلاط فيها أبشع الثمار (18).
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 59]، قال السعدي: دل على وجود أذية، إن لم يحتجبن، وذلك، لأنهن إذا لم يحتجبن، ربما ظن أنهن غير عفيفات، فيتعرض لهن من في قلبه مرض، فيؤذيهن، وربما استهين بهن، وظن أنهن إماء، فتهاون بهن من يريد الشر، فالاحتجاب حاسم لمطامع الطامعين فيهن (19).
وذلك التستر أقرب لمعرفتهن بالعفة فلا يتعرض لهن، ولا يلقين مكروهًا من أهل الريبة، احترامًا لهن منهم، فإن المتبرجة مطموع فيها، منظور إليها نظرة سخرية واستهزاء، كما هو مشاهد في كل عصر ومصر، ولا سيما في هذا العصر الذي انتشرت فيه الخلاعة، وكثر الفسق والفجور (20).
ونهى عز وجل المرأة أن تخضع في القول، فقال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقّيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 32].
الله الذي خلق الرجال والنساء يعلم أن في صوت المرأة حين تخضع بالقول، وتترقق في اللفظ، ما يثير الطمع في قلوب، ويهيج الفتنة في قلوب، وأن القلوب المريضة التي تثار وتطمع موجودة في كل عهد، وفي كل بيئة، وتجاه كل امرأة، ولو كانت هي زوج النبي الكريم، وأم المؤمنين، وأنه لا طهارة من الدنس، ولا تخلص من الرجس، حتى تمتنع الأسباب المثيرة من الأساس.
فكيف بهذا المجتمع الذي نعيش اليوم فيه، في عصرنا المريض الدنس الهابط، الذي تهيج فيه الفتن وتثور فيه الشهوات، وترف فيه الأطماع؟ كيف بنا في هذا الجو الذي كل شيء فيه يثير الفتنة، ويهيج الشهوة وينبه الغريزة، ويوقظ السعار الجنسي المحموم؟ كيف بنا في هذا المجتمع، في هذا العصر، في هذا الجو، ونساء يتخنثن في نبراتهن، ويتميعن في أصواتهن، ويجمعن كل فتنة الأنثى، وكل هتاف الجنس، وكل سعار الشهوة ثم يطلقنه في نبرات ونغمات؟! وأين هن من الطهارة؟ وكيف يمكن أن يرف الطهر في هذا الجو الملوث، وهن بذواتهن وحركاتهن وأصواتهن ذلك الرجس الذي يريد الله أن يذهبه عن عباده المختارين؟! {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا}.
نهاهن من قبل عن النبرة اللينة واللهجة الخاضعة، وأمرهن في هذه أن يكون حديثهن في أمور معروفة غير منكرة، فإن موضوع الحديث قد يطمع مثل لهجة الحديث، فلا ينبغي أن يكون بين المرأة والرجل الغريب لحن ولا إيماء، ولا هذر ولا هزل، ولا دعابة ولا مزاح، كي لا يكون مدخلًا إلى شيء آخر وراءه من قريب أو من بعيد.
والله سبحانه الخالق العليم بخلقه وطبيعة تكوينهم هو الذي يقول هذا الكلام لأمهات المؤمنين الطاهرات، كي يراعينه في خطاب أهل زمانهن خير الأزمنة على الإطلاق (21).
ثانيًا: أن ذلك باب فتنة وشر للمرأة ولمن يشاهدها، فكم سمعنا وقرأنا عن قصص مؤلمة بسبب ذلك، فكم من طاهرة عفيفة وقعت في حبائل من لا يخافون الله من الفجرة الذين يغرونها بلفظ منمق وكلام معسول ووعود تطول، حتى إذا قضوا منها حاجتهم قلبوا لها ظهر المجن، فلم يبق لها من ذلك إلا الخيبة والحسرة والخسران، وربما فضيحة الدارين، والعياذ بالله.
وكم من فاجر تلاعب بتلك الصور ودبلجها بوسائل حديثة، فإذا وجه الشريفة يوضع على جسد فاجرة وبائعة هوى رخيصة، فحينئذ تعض أصابع الندم بما جنت على نفسها وأهلها، ولات ساعة مندم.
ثالثًا: بعض الأخوات المحجبات تعتقد أن وضع صور لهن بالحجاب غير ممنوع شرعًا، إن كان مرادك بالحجاب الحجاب الشرعي الساتر للوجه الذي لا يبدو معه وجه المرأة، فمثل هذا غير ممنوع شرعًا، خاصة عند الحاجة إليه؛ لكن هذا –قطعًا- غير مراد، لأنه غير نافع لصاحبه، فما قيمة وضع صورة لسواد لا يبدو منه شيء؟!
وأما إن كان المراد بذلك وضع صورة المرأة وقد كشفت وجهها، ولو سترت بدنها كله؛ فقد بينا لك ما فيه من المفاسد التي تكفي للمنع منه، حتى ولو لم نقل بوجوب ستر المرأة لوجهها؛ فكيف إذا كان ذلك واجبًا؟! إن الإثم هنا يكون مضاعفًا، والخطر أشد؛ وهي بهذا تخرق ما اعتاده نساء المؤمنات في عصورهن.
وقال الحافظ ابن حجر: ولم تزل عادة النساء قديمًا وحديثًا يسترن وجوههن عن الأجانب (22).
ثم إن كل ذي لب يعلم أن مجمع الحسن والفتنة في المرأة هو وجهها، وهو الذي يستشرف الرجال لمعرفته، وبه يقاس جمال المرأة من عدمه، فنشر الصورة فتح لباب فتنتها والفتنة بها، وابتذالها وابتذال صورتها، حين تكون مباحة لكل طالب وراغب.
أما الشباب: وخاصةً الذين باتت منتديات الإنترنت ومواقعه ميدانًا لمهاراتهم وبراعتهم، والذين يمضون الساعات الطوال في محادثات هامشية، أو محرمة، أو متابعة للمواقع التي نُصبت فخَّاً لاصطيادهم والعبث بعقولهم وأخلاقهم، فكم تمنيت من هؤلاء، وقد أدخلوا أنفسهم في لُجج المواقع المتنوعة على الإنترنت أن يَعُوا دورهم في هذا المجال، وأن يكون لهم أثر في نصرة عقيدتهم التي يحملونها بين جوانحهم، وأن يعلموا أنهم إن لم يكونوا مؤثِّرين على غيرهم فإنه يوشك أن يعبث بعقولهم وبثقافاتهم ثم يكون التشكيك في عقيدتهم، وانهيار حياتهم كلها.
كما أُذكِّر من لاحت بين ناظريه صور المسلمات الغافلات أن يعتبر تلك المسلمة بنتًا له أو أختًا، وهي كذلك: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]، وليَسعَ لتغيير ذلك المنكر ما استطاع، ومحاولة اجتثاث تلك الصورة وقطع الطريق على من أراد ترويجها.
أما أولئك الذكور والإناث الذين سوَّلت لهم أنفسهم تصوير محارم المسلمين، على حين غفلةٍ منهم، متناسين نظر الله إليهم وإحاطته بهم، فأذكرهم الوقوف بين يدي الله، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30].
وأما الفتيات وعموم النساء: فينبغي لهن الحذر من أن يكن متساهلات بمن أرادت العبث بعرضها من جليساتها، وأن تعلم أن تلك الصور قد تأتي على مستقبلها، وعلى علاقاتها بأهلها وبالناس كافة، فتقلب حياتها جحيمًا لا يطاق.
وخاصة أولئك الفتيات اللاتي قد يغرر بهن لصوص القلوب وذئاب الأعراض، حين يطلب تصويرها بدعوى حبه لها وعزمه على الزواج بها، فتغتر حينئذ وتسلم قيادها له، مع أنه لو لم يبق بين الناس من النساء إلا هي لرفض الاقتران بها.
وهكذا ما يكون من تساهل بعض النساء بخلع ثيابهن لدى دخول غرف قياس الملابس بالأسواق، أو لدى تساهلهن بالذهاب إلى حمامات السباحة وحمامات البخار على اختلاف مسمياتها وصالات الرياضة، وكذلك خلعهن ثيابهن في المشاغل النسائية ولدى تجهيز العرائس، أو في عيادات التجميل، ففي كل تلك الأحوال مخالفات شرعية قد تقود المتساهلة بها إلى حتفها.
وهذا يبين لنا شيئًا من حرص نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم ورأفته ورحمته بأمته، وبالنساء على وجه الخصوص، حين نبههنَّ إلى خطورة إلقاء ثيابهن على وجه مريب، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما مِنْ امرأةٍ تَخْلَعُ ثيابَها في غير بيتِها إلا هَتَكَتْ ما بينها وبين الله تعالى» (23)، وذلك لأنها مأمورة بالتستر والتحفظ من أن يراها أجنبي، حتى لا ينبغي لهنَّ أن يكشفن عورتهن إلا عند أزواجهن، فإذا كشفت أعضاءها في تلك المواضع من غير ضرورة فقد هتكت الستر الذي أمرها الله تعالى به.
فحريٌّ بأخواتنا المسلمات أن يلزمنَ الآداب الشرعية، وما تقتضيه من الحشمة والحصانة، وأن يحذرن من أراد المساس بسمعتهن، مهما كانت المبررات، وأن يَكُنَّ متنبهات حاضرات البديهة، وأن يُحسِنَّ اختيار جليساتهن، حتى يَكُنَّ ممن يُؤمَنُ جانبهن على أقل الأحوال (24).
------------
(1) أخرجه البخاري (3346)، ومسلم (2880).
(2) تفسير القرطبي (18/ 235).
(3) أخرجه مسلم (2109).
(4) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (8/ 481).
(5) أخرجه مسلم (2110).
(6) أخرجه البخاري (6888)، ومسلم (2158).
(7) تيسير العلام شرح عمدة الأحكام (ص: 664).
(8) أخرجه مسلم (2564).
(9) أخرجه البخاري (5240).
(10) شرح صحيح البخاري لابن بطال (7/ 366).
(11) في ظلال القرآن (5/ 2880).
(12) أخرجه الترمذي (2032).
(13) أخرجه الترمذي (2032).
(14) أخرجه ابن ماجه (2341).
(15) أخرجه الترمذي (2511).
(16) أخرجه أحمد (6807).
(17) صدمة كاميرا الجوال/ محمد صالح المنجد.
(18) في ظلال القرآن (5/ 2878).
(19) تفسير السعدي (ص: 672).
(20) تفسير المراغي (22/ 38).
(21) في ظلال القرآن (5/ 2859).
(22) فتح الباري (9/ 324).
(23) أخرجه أبو داود (4010).
(24) حول مآسي تصوير النساء بأجهزة الجوال/ صيد الفوائد.