الموصل وأمريكا وخرائط المنطقة
هدف أمريكا من غزو العراق ووسيلة تحقيقه:
إن غزو أمريكا للعراق هدفه تقسيم العراق، طبقًا لمخطط قديم؛ وهو يتطلب إعداد البيئة لذلك؛ ليكون مقدمة لتقسيم باقي الأقطار العربية.
ولكي تنجح الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك لابد من اشعال فتن وحروب داخلية طائفية وعرقية، تدمر أسس اللُحمة الوطنية، وتحقق انهيارات اقتصادية، ضمن ما أسمته بالفوضى الخلاقة.
ولذلك فإن تدمير المدن وقتل أكبر عدد ممكن من البشر من بين أهم أهداف أمريكا وإيران؛ لأن المطلوب هو تهجير الملايين وإحداث تغييرات سكانية كبيرة؛ فلم يكن ممكنًا تهجير حوالي عشرة ملايين سوري، وستة ملايين عراقي من وطنهم، من دون تدمير المدن والخدمات، وجعل القتل ظاهرة تحصل كل دقيقة، وتحصد أرواح الاطفال والنساء والشيوخ بلا رحمة، مقترنة بعمليات اغتصاب جماعي، للنساء والرجال والاطفال، وتحقيق هذا الهدف يوفر الحالات النفسية المطلوبة لتقبل الحل الأقل سوءًا؛ وهو التقسيم والفدرالية والكونفدرالية.
إضافة لذلك، فإن الشركات الأمريكية وغيرها، ترى في تدمير المدن فرصة فريدة لتحقيق أرباح، بتوليها عمليات الإعمار بعد الخراب، وكلما زاد الخراب زادت الأرباح.
وإن حجة مقاومة تنظيم «الدولة الإسلامية» ليست سوى غطاء لإطالة المعركة وتحقيق تلك الأهداف.
مأساة الموصل:
تُعد مدينة الموصل ثاني أكبر مدن العراق من حيث السكان، وتمتع بأهمية كبيرة بالنسبة لمختلف الأطراف، كونها ذات أغلبية سنية؛ فهي الخزان السني الثاني بعد بغداد، وجغرافيًّا بجوارها لإقليم كردستان العراق، وقربها من الحدود التركية، ومحاذاتها للحدود السورية؛ ما يجعلها محط أنظار اهتمام كافة القوى الدولية والإقليمية، والكل يسعى لتحقيق أهدافه ومصالحه.
ومنذ غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003، تراجع الدور السياسي للمكون السني (الذي فضل خيار مقاومة الاحتلال) لحساب الشيعة؛ الذين سارعوا إلى تشكيل أحزاب والانخراط في العملية السياسية، التي تمت هندستها في واشنطن.
وعمت حالة المقاومة مدنًا عراقية عديدة، أعقبها انسحاب واشنطن أواخر عام 2011، تاركة سنّة العراق تحت مطرقة الحكومة العراقية وقواتها والميليشيات التي تتبعها، التي تتهم جميعًا بارتكاب عمليات إبادة وتهجير بحق السنة، بذريعة بمحاربة الإرهاب؛ فكانت معارك الفلوجة والرمادي وغيرها، وها هي تصل الموصل لإخراج السنة من المعادلة؛ ولإضفاء الشرعية الوطنية على تلك المعركة الطائفية يتم إشراك بعض السنة الطيعين فيها.
وقد بدأت العمليات العسكرية الخاصة بالموصل في 17 أكتوبر 2016م، وتحدثت تقارير روسية عن مشاركة 29 ألف عسكري من الجيش العراقي، و4 آلاف مقاتل كردي، و10 آلاف من الفصائل والحشد الشعبي، في تلك العمليات، إضافة إلى عناصر الوحدات الخاصة الأمريكية والفرنسية التي قد يصل عددها إلى 10 آلاف عنصر، وذلك كله لتحرير الموصل كما يزعمون من حوالي 8 آلاف عنصر من تنظيم «الدولة الإسلامية».
إن الأوضاع الإنسانية في الموصل في غاية التدهور والخطورة؛ حيث تجري عمليات نزوح وإجلاء جرحى، بشكل عفوي يشكل تهديدًا لحياتهم، بينما لا تسمح قوات التحالف بدخول منظمات الإغاثة الدولية، ومع كل ذلك، فالقوات العراقية لا تتقدم بالشكل الذي كان يُتوقع.
إن مأساة أهل الموصل تشبه مأساة أهل حلب من حيث المعاناة الانسانية القاسية؛ فقد قتل الآلاف من الموصليين، وهذه الأعمال تخدم أمريكا أيضًا؛ لأنها تزرع نزعات الثأر بين أهل الموصل ذاتهم، كما تزرع ثارات بينهم وبين المناطق التي جاء منها الحشد، وتبقى الثارات لعقود من الزمن، وهذا يفسر سبب بطء الصراع وبرمجته ليبقى بطيئًا، ومدمرًا بأكبر قدر ممكن للبشر والعمران.
أهداف القوى الإقليمية:
تهدف إيران لإيجاد مناطق نفوذ لها في شمال العراق، لكسب المزيد من أوراق التأثير السياسية في الساحة العراقية من جهة، والتأثير على الأطراف الكردية وعدم السماح بإقامة دولة كردية في العراق من جهة ثانية، ومن جهة ثالثة تسعى إيران لتأمين طريقها إلى سوريا عبر مدينة الموصل.
أما تركيا فتهدف من مشاركتها في معركة الموصل إلى إيجاد موطئ قدم لها في شمال العراق، وتدعيم حلفائها من أحزاب سياسية عربية وكردية، ورفع شعار حماية التركمان في الموصل، ومحاربة حزب العمال الكردستاني الذي أصبح له تواجد واضح في شمال العراق، فضلًا عن محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية».
تلاعب أمريكا بخرائط المنطقة:
تكشف المواقف الأمريكية من حزب الاتحاد الديمقراطي المعادي لتركيا، وميلشيات الحشد الشعبي؛ عن تعمد أمريكي تحييد تركيا وعزلها عن معركة الموصل والرقة، والحد من تدخلها في حلب، ودعم قوات سورية الديمقراطية وحزب الاتحاد الديمقراطي يكشف عن محاولة تمكين المشروع الكردي الانفصالي، وزعزعة استقرار العراق وسوريا وتركيا معًا، وبخاصة أنقرة، بوجود كيانات انفصالية على حدودها.
والورقة الكردية تعتبرها واشنطن أداة من أدوات إدارة الصراع وتقسيم المنطقة، وكما دعمت واشنطن الأكراد دعمت أيضًا ميلشيات الحشد الشعبي التابعة لإيران، والتي تنوي الآن التدخل في سوريا بعد العراق، وهي أداة لإضعاف تركيا واستكمال الهلال الشيعي.
الدور الأمريكي في التحضير لمعركة الموصل:
إن الإدارة الأمريكية هي التي ضبطت توقيتات معركة الموصل وخطواتها؛ فهي التي دربت قوات خاصة للقيام بهذه العملية، على اعتبار أن ما يسمى بـ (الجيش، والشرطة الاتحادية، وقوات مكافحة الارهاب) غير مدربة بطريقة صحيحة؛ فقامت بتدريبات طويلة جدًا، وبأشراف ضباط امريكيين، وعندما انتهت التدريبات أعلنت الادارة الامريكية أن القوات العراقية أصبحت جاهزة لخوض معركة الموصل.
ولم تكتف أمريكا بإعداد القوات؛ بل ارسلت نخبة من قواتها إلى العراق للمشاركة في المعارك على الأرض، ولم تكتف بالدعم الجوي، وظهرت صور تلك القوات في شمال العراق وهي تقود مركباتها، وأحيانا تشارك في العمليات العسكرية.
أسباب التلكؤ الأمريكي في معركة الموصل:
تريد أمريكا تدمير المدينة بصورة كاملة وقتل أكبر عدد ممكن من المدنيين تحت غطاء تصفية تنظيم «الدولة الإسلامية»، في الوقت الذي تريد فيه طهران (مثل أمريكا) إبادة السكان السنة بأكبر قدر ممكن مع تهجير البقية، ولكن تختلف عن أمريكا برغبتها بوجود قدر معين ومحدود من تدمير المدن وليس كلها؛ لأنها تريد جعلها مسكنًا لآخرين موالين من خارج الموصل، بعد إصلاح ما خربه الهجوم؛ ولهذا كانت طهران تريد حسم المعركة بسرعة، وبقسوة متطرفة على أهل الموصل، وهو ما حدث في معارك ما سمي بالحشد الشعبي في أطرافها.
إن الإصرار الأمريكي على استخدام النهج العسكري ليس من أجل القضاء، في الوقت الحالي، على تنظيم «الدولة الإسلامية»، بقدر ما هو السعي إلى وضع خطوط فاصلة بين المدن والقرى والمناطق؛ التي يتم الإعلان عن تحريرها، تمهيدًا لعمليات تقسيم نوعية، قد تتطور فيما بعد إلى تقسيمات جغرافية طائفيًا ومذهبيًا وعرقيًا.
كما أن من أسباب تريث واشنطن وجود خلافات بين دول التحالف الأمريكي، تتعلق بطموحات وأهداف كل دولة ورؤيتها لمصالحها؛ إذ تسعى السياسة الأمريكية للموازنة بين حلفائها في العراق وسوريا؛ فمرة تدعم التدخل التركي في سوريا، وأخرى تدعم المطالب العراقية بعدم مشاركة تركيا في معركة تحرير الموصل، ومرة ثالثة بمحاولة جمع الأطراف المتضادة والتنسيق بينهم لإنجاح تحرير الموصل بالشكل الذي يناسب المصالح الأمريكية، وكل ذلك من شأنه التأثير على مجريات الأمور في كل من العراق وسوريا.
إضافة إلى حرص الولايات المتحدة على التحكم الكامل في مسار العمليات العسكرية وتوجيهها، والاستفادة منها سياسيًا وإعلاميًا.
وأخيرًا بعد كل ما سيق، هل سيتم وضع أهل السنة قسرًا أمام القبول بإقليم مصغَّر ومدمَّر وضعيف اقتصاديًا وسياسيًا، كطوق نجاة لهم؟، نرجو ألا يكون ذلك.