التنصل من المسئولية
التنصل من المسئولية والتهرب منها يعني التبرؤ من الالتزام بما سبق للإنسان تحمله من مسئولية، والخروج من عهدة ذلك شيئًا فشيئًا، والتنصل مما ألزمت به نفسك، أو ألزمك به واقعك المادي أو الاجتماعي أو الديني.
فالكل مسئول في الدنيا عما حباه الله إياه، وفي الآخرة المسئولية أشد وأعظم، ومحاولات الهروب أو التنصل من المسئولية لا تعفي الإنسان منها، فعن قيس بن أبي حازم قال: «قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} إلى آخر الآية، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقابه)»(1).
ولقد حكى القرآن عن بني إسرائيل تهربهم من مسئولية القتال، وتنصلهم منه بعد فرضه عليهم، رغم مطالبتهم له، قال تعالى: {قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:246].
تمثيل حال الذين عرفوا فائدة القتال في سبيل الله لقولهم: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقاتِلَ...} إلخ؛ فسألوه دون أن يفرض عليهم، فلما عين لهم القتال نكصوا على أعقابهم، وموضع العبرة هو التحذير من الوقوع في مثل حالهم بعد الشروع في القتال أو بعد كتبه عليهم(2).
فقالوا: {وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا}؛ أي: أي شيء يمنعنا من القتال وقد أُلجِئنا إليه، بأن أخرجنا من أوطاننا، وسبيت ذرارينا، فهذا موجب لكوننا نقاتل ولو لم يكتب علينا، فكيف مع أنه فرض علينا وقد حصل ما حصل، ولهذا لما لم تكن نياتهم حسنة، ولم يقو توكلهم على ربهم، {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا} فجبنوا عن قتال الأعداء، وضعفوا عن المصادمة، وزال ما كانوا عزموا عليه، واستولى على أكثرهم الخور والجبن، {إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} فعصمهم الله وثبتهم وقوى قلوبهم، فالتزموا أمر الله، ووطنوا أنفسهم على مقارعة أعدائه؛ فحازوا شرف الدنيا والآخرة، وأما أكثرهم فظلموا أنفسهم وتركوا أمر الله(3).
وقوله: {وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} تذييل؛ لأن فعلهم هذا من الظلم؛ لأنهم لما طلبوا القتال خيلوا أنهم محبون له ثم نكصوا عنه، ومن أحسن التأديب قول الراجز:
من قال لا في حاجة مسئولة فما ظلم وإنما الظالم من يقول لا بعد نعم(4).
ومع أن لبني إسرائيل طابعًا خاصًا في النكول عن العهد، والنكوص عن الوعد، والتفرق في منتصف الطريق، إلا أن هذه الظاهرة هي ظاهرة بشرية على كل حال، في الجماعات التي لم تبلغ تربيتها الإيمانية مبلغًا عاليًا من التدريب، وهي خليقة بأن تصادف قيادة الجماعة المسلمة في أي جيل، فيحسن الانتفاع فيها بتجربة بني إسرائيل.
ومن ذلك أن اختبار الحماسة الظاهرة والاندفاع الفائر في نفوس الجماعات ينبغي ألا يقف عند الابتلاء الأول، فإن كثرة بني إسرائيل هؤلاء قد تولوا بمجرد أن كتب عليهم القتال استجابة لطلبهم، ولم تبق إلا قلة مستمسكة بعهدها مع نبيها، وهم الجنود الذين خرجوا مع طالوت بعد الحِجاج والجدال حول جدارته بالملك والقيادة، ووقوع علامة الله باختياره لهم، ورجعة تابوتهم وفيه مخلفات أنبيائهم تحمله الملائكة، ومع هذا فقط سقطت كثرة هؤلاء الجنود في المرحلة الأولى، وضعفوا أمام الامتحان الأول الذي أقامه لهم قائدهم: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}، وهذا القليل لم يثبت كذلك إلى النهاية، فأمام الهول الحي، أمام كثرة الأعداء وقوتهم، تهاوت العزائم وزلزلت القلوب: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}، وأمام هذا التخاذل ثبتت الفئة القليلة المختارة، اعتصمت بالله ووثقت، وقالت: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]، وهذه هي التي رجحت الكفة، وتلقت النصر، واستحقت العز والتمكين.
وفي ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الصالحة الحازمة المؤمنة، وكلها واضحة في قيادة طالوت، تبرز منها خبرته بالنفوس، وعدم اغتراره بالحماسة الظاهرة، وعدم اكتفائه بالتجربة الأولى، ومحاولته اختبار الطاعة والعزيمة في نفوس جنوده قبل المعركة، وفصله للذين ضعفوا وتركهم وراءه، ثم، وهذا هو الأهم، عدم تخاذله وقد تضاءل جنوده تجربة بعد تجربة، ولم يثبت معه في النهاية إلا تلك الفئة المختارة، فخاض بها المعركة ثقة منه بقوة الإيمان الخالص، ووعد الله الصادق للمؤمنين.
والعبرة الأخيرة التي تكمن في مصير المعركة أن القلب الذي يتصل بالله تتغير موازينه وتصوراته؛ لأنه يرى الواقع الصغير المحدود بعين تمتد وراءه إلى الواقع الكبير الممتد الواصل، وإلى أصل الأمور كلها وراء الواقع الصغير المحدود، فهذه الفئة المؤمنة الصغيرة التي ثبتت وخاضت المعركة وتلقت النصر، كانت ترى، من قلتها وكثرة عدوها، ما يراه الآخرون الذين قالوا: {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}، ولكنها لم تحكم حكمهم على الموقف، إنما حكمت حكمًا آخر، فقالت: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}، ثم اتجهت لربها تدعوه: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250]، وهي تحس أن ميزان القوى ليس في أيدي الكافرين، إنما هو في يد الله وحده، فطلبت منه النصر، ونالته من اليد التي تملكه وتعطيه، وهكذا تتغير التصورات والموازين للأمور عند الاتصال بالله حقًا، وعندما يتحقق في القلب الإيمان الصحيح، وهكذا يثبت أن التعامل مع وعد الله الواقع الظاهر للقلوب أصدق من التعامل مع الواقع الصغير الظاهر للعيون.
ولا نستوعب الإيحاءات التي تتضمنها القصة، فالنصوص القرآنية، كما علمتنا التجربة، تفصح عن إيحاءاتها لكل قلب بحسب ما هو فيه من الشأن؛ وبقدر حاجته الظاهرة فيه، ويبقى لها رصيدها المذخور تتفتح به على القلوب، في شتى المواقف، على قدر مقسوم(5).
ومثال آخر لفئة من البشر مرضى القلوب، ضعاف النفوس، فاسدون مفسدون، في حياتهم متلونون مخادعون، كشف الله زيفهم، وفضح أمرهم، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12)} [الحشر:11-12].
يخبر تعالى عن المنافقين؛ كعبد الله بن أبي وأضرابه، حين بعثوا إلى يهود بني النضير يعدونهم النصر من أنفسهم، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ}، قال الله تعالى: {وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ}؛ أي: لكاذبون فيما وعدوهم به؛ إما لأنهم قالوا لهم قولًا ومن نيتهم ألا يفوا لهم به، وإما لأنهم لا يقع منهم الذي قالوه، ولهذا قال تعالى: {وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ}؛ أي: لا يقاتلون معهم، ولئن نصروهم؛ أي: قاتلوا معهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون، وهذه بشارة مستقلة بنفسها(6).
وأعظم تنصل هو تنصل الغوي المبين لأتباعه وأقرانه، ممن باع آخرته ولم يظفر بدنياه، إلى هذا الماكر المتنصل يقول الله تعالى: {وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22].
وعدهم النجدة والإغاثة ثم تفلت من ذلك في وقت هم أحوج ما يكونون إليه، لكن هيهات، ألم يعهد إليهم ربهم أن الشيطان لهم عدو مبين واضح في عداوته، ومع ذلك لم ينصتوا لعهد الله ولا لتحذيره، فكانت المصيبة في وقت عصيب لا يستطيعون فيه شيئًا.
أسباب التنصل من المسئولية الدعوية:
- ضعف الجانب التربوي عند أفرادها إن لم يكن معدومًا.
- عدم وضع الفرد في المكان المناسب، وهذا يؤدي إلى فشل العمل وخسارة العاملين.
- عدم توظيف كافة الأفراد في العمل، فيركم العمل على شخص أو فئة، ويبقى آخرون بلا عمل، ومع الأيام يشعر الشخص بعدم إنتاجه؛ بل بتهميشه، فيتراجع إن لم ينقلب.
- عدم متابعة الأفراد؛ لأن الدعاة كغيرهم تَمُر بهم مصائب شتى ومشكلات، فإذا أهملوا أصيبوا بخيبة أمل فأحبطوا.
- عدم حسم الأمور بسرعة، فالمشكلة تبدأ صغيرة، ويهمل علاجها؛ مما يسبب تراكم المشكلات والقضايا فيتعطل العمل؛ بل تتوالد المشكلة أحيانًا، وخاصة إذا كانت تتعلق بشخص مسئول عن عمل، وحينها قد تنجح الجهود فيثبت الشخص، وقد لا تنجح فيتراجع إن لم يضل.
- الصراعات الداخلية بين العاملين، فهي تسمم الأجواء وتكهربها، وتفسد علائق الدعاة العاملين، وتورث الجدل والمراء والنقد الهادم للبناء، فيتفرق الدعاة.
- عدم أهلية القيادة، فهي ضعيفة في قيادتها، وعدم قدرتها على الإمساك بالصف، وأحيانًا ضعيفة في إمكاناتها وطاقاتها البشرية والمالية والعلمية والثقافية والفكرية أو بعض منها، فتشبع جانبًا وتهمل جانبًا، فيتراجع الشباب لإشباع المفقود, والطامة أن القيادة تحسن السيطرة على الشاب إذا كان في سن معينة، وثقافة معينة، وظرف معين, فإذا تقدم به السن، ونمت الثقافة، وتغير الظرف أفلت منها, وصار مبدعًا وليس عندها قدرة على احتوائه ولا الاستفادة منه.
- التغيير لما كان عليه الشخص؛ كتبديل السلوك، وتغيير النوايا، وقلب الأوضاع، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11], وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53].
- إهمال تزكية الشخص نفسه، وانقطاعه عن مجالس الذكر.
- تقليد الشخص لمن يكبره في جوانب فيها التساهل، ويرى أن ذلك مبررًا لتساهله.
- عدم التوازن في العمل والتربية.
- ضعف التأسيس لهذا الشخص، فلما ظهر أمره وبرز حطمه الناس، وحصيلته تكاد تكون مفقودة؛ مما أظهرت خللًا كثيرًا ونقصًا كبيرًا، جعلته يرجع إلى الوراء.
- الوقوع في فتنة الزوجة والولد والمال، وعدم التفطن لخطورة مثل هذه المحبوبات، فغالبًا حبه للزوجة والولد والمال قد يجعله يرتكب الحرام من أجلهم، وحينئذ لا تسأل عن دعوته.
- إعجاب بالنفس والغرور وحب الظهور، فلا تراه إلا مزكيًا لنفسه، مادحًا إياها بما فيها وما ليس فيها، مطالبًا غيره بالتوقير والاحترام والطاعة، مستعصيًا على النصيحة، وفي كل حادثة أو أمر ما يفتك ذلك بالشاب حتى يهلكه ويسقط في الاختبار، ويعظم ذلك الداء حينما يكون الشخص مفتيًا أو قاضيًا أو علمًا بارزًا، فيرى نفسه في مكان أفضل من غيره، ويتصدر في كل شيء، وما درى أن ذلك قاتله.
- صحبة ذوي الإرادات الضعيفة والهمم الدنيئة، بحجة الترويح عن النفس أو دعوتهم، وخلال فترة وجيزة يسري ذلك المرض إليه بالعدوى.
- الوقوع في المعاصي والسيئات، وخاصة الصغائر؛ كإطلاق النظر إلى الحرام ونحوه، وكل مرة يقول: (الحمد لله، هي صغيرة تكفرها الصلاة، الصدقة،...), وفجأة إذا هو يغص بالكبيرة، وما درى ذلك الشخص أن الصغيرة مفتاح الكبيرة، إنها سهام مسمومة أثخنت قلبه بالجراح ومزقته تمزيقًا.
- التنصل من المسئولية، وإلقاء اللائمة والتبعية على غيره، حتى يتفرغ للعمل، وحقيقة الأمر أنه مل العمل، وأحبط أكثر من مرة، فكان التنصل حيلة هشمته في رأسه.
- طبيعة الشخص غير انضباطية، فهو لا يجيد إلا التفلت والتخلص من العمل، وعندما يشعر بالكبت في نظره يولي دبره خلف ستار كثيف من المبررات.
- الخوف على نفسه من المساءلة أو السجن أو حرمان الوظيفة، أو الخوف على نفسه من الفقر، فتراه ممسكًا ماله لا ينفق منه شيئًا، ولو كان يسيرًا، لصالح الدعوة؛ مما أحبط نفوسَ كثيرٍ من الشخص، وزرع الوهن فيها.
- الترف والغلو، فبعضهم يُحمِّلون أنفسهم ما لا تطيق، ولا يقبلون التوسط في شيء، وما علم الشخص أن نفسه ضعيفة، فتكون ردة الفعل وخيمة.
- التساهل والترخص، فبعضهم يتساهل في امتثال أمر الكتاب والسنة، فمِن تساهلٍ صغيرٍ إلى تساهل كبير، ومن تساهل في قضية إلى تساهل في كل قضية، إلى أن يستحوذ الشيطان عليه وعلى أعماله، فيركله ركلة تنسيه دعوته ونشاطه.
- الغيرة من الآخرين، فيرى الشخص أقرانه متفاوتين في القدرات والمؤهلات، الشخصية والنفسية والعصبية والفكرية والعلمية والتربوية والدعوية، بعضهم مبدع، وآخر مرموق, وآخر ذكي،... وهكذا، وهو لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فيعمد الشخص إلى التسلق, ويدخل البيوت من غير أبوابها، فإما أن ينتقم، وإما أن يقدح في غيره، وإما أن يتفلت من كل شيء، يظن أن هذا هو الحل.
- ضغط مجتمعه، فلا يسمع الشاب إلا كلمات تروي عزمه، وتوجيهات تثني همه عن العمل، فضلًا عن الأذية من أبويه أو زوجته.
- تركه للأجواء الإيمانية؛ كالذي ينتقل من مدينة إلى أخرى فيفقد إخوته ونشاطه، أو يبتعث للدراسة فيقع في الرذيلة.
- ضغط الحركات والتيارات والتوجهات في الساحة الدعوية، فالشخص يعمل ويجد، ويفاجأ بمن يشكك في منهجه، وينقد عمله، أو يبدع في دعوته، فيترك الشاب العمل وينكفئ.
ولا شك أننا جميعًا مسئولون عن تذكير بعضنا البعض بواجب الدعوة والصبر، والمسئولية الفردية لكل واحد منا تجاه نفسه هي أكبر من سابقتها، وكما هو معلوم الناجحون ينظرون إلى ما يجب عليهم وليس ما يجب على غيرهم، وأولى البشر بهذه النظرة الإيجابية هم حملة الدعوة.
كيفية التدارك:
أولًا: مجاهدة النفس على مواصلة الطريق والتواصي بالحق والصبر.
ثانيًا: التقييم الذاتي المستمر، مع التطوير للتجربة الدعوية، وإشراك من يستفيد منهم في العملية التقييمية.
ثالثًا: تدارك النفس حين الشعور بالضعف والفتور بمجالسة أهل الثبات والصدق، مع التفاؤل والثقة بالنفس؛ حتى لا نؤتى من قبل أنفسنا، فحين نثق بقدراتنا فإننا، ولا شك، سنقدم نموذجًا يقتدى به في المشروع الدعوي والثبات عليه.
رابعًا: الاستفادة من الآخرين، فالحكمة ضالة المؤمن، خصوصًا في جانب تطوير الذات، وصقل الموهبة، واكتساب القدرات والمهارات.
السيرة النبوية نبع لا ينضب:
ولا شك أن السيرة النبوية مليئة بالدروس الدعوية:
1- السيرة النبوية هي منهج للداعية، ليس في قضية الفاعلية فحسب؛ بل يتعدى الأمر إلى منهج الداعية وأسلوبه وغير ذلك.
2- السيرة عبارة عن تجربة معصومة، نقلت لنا عن خير البشر وأحسنهم طريقة، وفيها المواقف المتنوعة، فتارة مفاوضات مع العدو، وأخرى حال الحرب، وأخرى إرشاد، وهكذا، فمدرسة النبوة معين لا ينتهي، فأولى من يستفيد منها هو الداعية؛ لينتهجها واقعًا، ويدعو الناس إلى معانيها وتعاليمها.
والعجب أن الأوائل كانوا يحفظون مبادئ السيرة النبوية وسيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم العشرة وغيرهم كما يحفظون القرآن.
والمقصود أن تكون السيرة أساسًا في دروس العلماء والدعاة، ويوجه الدعاة إلى استنباط الدروس والعبر، وإبرازها والاستفادة منها(7).
والقيام بالدعوة ليس كأمر القيام بالمشاريع والصفقات الدنيوية، التي إن لم يظهر نجاحها تركها الإنسان دون حرج، وإنما القيام بالدعوة مسئولية لا تملك الذات، أفرادًا وجماعات، التنصل منها، شـأنها، أي الذات، في ذلك شأن أنبياء الله، الذين كلفوا بحمل الرسالة؛ فإن منهم من يأتي يوم القيامة ومعه الرجلان، ومنهم من يأتي ومعه الرجل الواحد، ومنهم من يأتي وليس معه أحد، ولو أن الله تعالى أراد من الأنبياء والدعاة القيام بالدعوة لمجرد الحصول على النتيجة ما بعث الله بمثل هؤلاء الأنبياء، ولا كلفهم كل هذا العناء إن كانوا سيأتون وليس معهم أحد، وهو عليم بذلك جل وعلا، ولكنه سبحانه أراد منهم القيام بمسئوليتهم، وحسابهم إنما على إبلاغهم الدين لهذه البشرية، وإقامة الحجة عليها حتى لا يكون للضال حجة على الله {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165].
والذي يتملكه الهم الدعوي ينبغي له أن يستشعر هذا المفهوم؛ لأن هذا يفتح أمامه الباب واسعًا فلا يقلق، وينطلق في دعوته فلا يصيبه اليأس أو الوهن مهما كانت العقبات.
هذا الهم كيف نغرسه في القلوب، وكيف غرسه سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه.
التربية على علو الهمة:
إن غرس علو الهمة أثناء التربية من شأنه أن يكسر القيود والأوتاد التي تجعل الفرد فيما بعد يركن إلى الأرض، فمن أكسبها من المربين تلامذته عند خطواتهم الأولى فقد ضمن لهم الاستمرار بإذن الله.
الاستعلاء بالهمة يجعل القلب ينشغل بالأمور العظام، فالدعوة إلى الله ليست مجرد تزكية نفس وصحبة أخيار، وإنما ما وراء ذلك هو المقصود.
الهم الدعوي فريضة ذاتية:
من نافلة القول أن الدعوة إلى الله فريضة على كل مسلم، ويزداد وجوبها بالنسبة لمن يفترض فيه حمل همها.
والناظر إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يلحظ أن كل واحد منهم توجه عند إسلامه إلى دعوة غيره.
فكما كانت الدعوة فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم، كانت كذلك على كل فرد من أتباعه.
وتزداد الحاجة والضرورة مع معول الهدم الذي يملكه غيرنا وإن لم نفعله؛ أي إن لم تصبح الدعوة همنا؛ بل وهم غيرنا، سيأخذ المنكر طريقة إلى النفوس، فالحساب عليها؛ أي على هذه الفريضة، سيكون فرديًا.
الهم الدعوي ضرورة مجتمعية:
يتجلى في حاجة المجتمع إلى الإصلاح:
أمام طغيان المادة والانحرافات المتوالية لعموم أفراد الأمة، ونظرًا للضغوط الداخلية والخارجية، إعلاميًا وفكريًا واقتصاديًا، وأمام انحصار الإسلام في ذهن المجتمع في الشعائر التعبدية الخاوية من روحها في أفضل الحالات، وأمام مسئوليتنا في إقامة هذا الدين، ولن يقوم إلا بوجود أمة داعية إلى الله، تبدو حاجة المجتمع إلى من يدعوه إلى هذا الدين من جديد ضرورة مؤكدة.
فإذا ما تراخت حبال الدعوة في هذه الأمة وضعف رجالها، وفترت عزائمهم عن القيام بواجبات الدعوة؛ فشا الجهل، واستشرت المعاصي والموبقات، وسيفشو الفساد في المجتمع، وتنفصم عرى المحبة والتلاحم والتآزر بين أفراد المجتمع المسلم.
ففي حديث السفينة، الذي يرويه النعمان بن بشير رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا»(8).
وحاجة المجتمع إلى الدعوة إلى الله مطية للنجاة من الخزي والعذاب في الدنيا والآخرة، ذلك أن انتشال الأفراد من الضلال والانحراف كفيل بحصول عمارة الأرض على منهج الله؛ لذلك إذا أخل الدعاة بواجبهم، واستتب الأمر لأهل الضلال أوشك الله أن يعم الجميع بعقابه، ثم يبعث الله كلًا على نيته.
«أتوشك القرى أن تخرب وهي عامرة؟» يجيب الفاروق عمر رضي الله عنه: «إذا علا فجارها على أبرارها»(9).
استشعار المسئولية:
وذلك بأن يستشعر الإنسان مسئوليته، ويعمل ما في وسعه ومقدوره، ويحذر كل الحذر من التهرب من المسئولية، والإلقاء باللائمة والتبعة على غيره؛ فذو الهمة العالية يخوض معركة الحياة بعزم وإيمان؛ فلا ينتحل الأعذار للتخلص من الواجب، ولا يختلق الأسباب للتنصل من المسئولية؛ بل لقد روض نفسه على تحمل المسئوليات، والنهوض بالواجبات، من غير ما تردد أو إحجام؛ ذلك أن المسئولية في الإسلام عامة، تشمل كل فرد من المسلمين؛ فهم جميعًا داخلون في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «كُلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته»(10)؛ فالمسئولية مشتركة، كل امرئ بحسبه، هذا بعلمه وكلامه، وهذا بوعظه وإرشاده، وهذا بقُوَّته وماله، وهذا بجاهه وتوجيهه إلى السبيل النافع، وهكذا.
فاستشعار المسئولية مما يبعث الهمة، ويقود إلى التنافس في الخير، وبه تستجلب الخيرات، وتنال الهداية والبركات، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)} [النساء:66-68].
مصاحبة الأخيار وأهل الهمم العالية:
فهذا الأمر من أعظم ما يبعث الهمة، ويربي الأخلاق الرفيعة في النفس؛ فالإنسان مولع بمحاكاة من حوله، شديد التأثر بمن يصاحبه، والصداقة الشريفة، لا صداقة المنفعة، تشبه سائر الفضائل من حيث رسوخها في النفس، وإيتاؤها ثمرًا طيبًا في كل حين؛ فهي توجِد من الجبان شجاعة، ومن البخيل سخاءً؛ فالجبان قد تدفعه قوة الصداقة إلى أن يخوض في خطر؛ ليحمي صديقه من نكبة، والبخيل قد تدفعه قوة الصداقة إلى أن يبذل جانبًا من ماله؛ لإنقاذ صديقه من شدة، فالصداقة المتينة لا تحل في نفس إلا هذبت أخلاقها الذميمة؛ فالمتكبر تنزل به الصداقة إلى أن يتواضع لأصدقائه، وسريع الغضب تضع الصداقة في نفسه شيئًا من كظم الغيظ، فيجلس إلى أصدقائه في حلم وأناة، وربما اعتاد التواضع والحلم، فيصير بعد ذلك متواضعًا حليمًا(11).
بل إن كثيرًا من النابغين يعزون نبوغهم إلى أنهم وفقوا لاختيار صاحب أو أصحاب أثروا فيهم أثرًا صالحًا، ونبهوا فيهم قوى كانت خاملة(12)، فإذا ما وُفِّق المرء لصحبة الأجلاء العقلاء من ذوي الدين والمروءة فإن ذلك من علامات توفيقه، ومن مهيئات نبوغه.
فإذا كان الأمر كذلك فما أجدر المرء أن يبحث عن إخوان الثقات؛ حتى يعينوه على كل خير، ويقصروه عن كل شر؛ قال ابن حزم رحمه الله: «من طلب الفضائل لم يساير إلا أهلها، ولم يرافق في تلك الطريق إلا أكرم صديق من أهل المواساة، والبر، والصدق، وكرم العشيرة، والصبر، والوفاء، والأمانة، والحلم، وصفاء الضمائر، وصحة المودة، ومن طلب الجاه، والمال، واللذات، لم يساير إلا أمثال الكلاب الكلبة، والثعالب الخلبة، ولم يرافق في تلك الطريق إلا كل عدو المعتقد، خبيث الطبيعة»(13).
إن اعتزال الناس زمن الفتنة إنما يكون للضعفاء العاجزين عن فعل شيء، وليس كذلك أهل العلم والدعوة والفكر الصحيح، وإذا كان يجب عليهم السعي في شئون الناس عمومًا فذلك أوكد عليهم زمان الفتنة، التي هي أزمة كبيرة تفتقر لجهود ضخمة متكاتفة؛ سعيًا في إزالتها أو التخفيف من وطأتها.
قال الإمام النووي في حديث: «خير الناس في الفتن رجل آخذ بعنان فرسه» أو قال: «برسن فرسه، خلف أعداء الله، يخيفهم ويخيفونه، أو رجل معتزل في بادية يؤدي حق الله تعالى الذي عليه»(14)، قال النووي: فيه بيان فضل العزلة في أيام الفتن، إلا أن يكون له قوة على إزالة الفتن، فيلزمه السعي في إزالتها عينًا وكفاية(15).
وصاحب القوة على إزالتها هم أهل العلم والفكر والدعوة والتربية، وأصحاب القدرات والطاقات والقيادة، وكل من له قدرة على شيء توجب عليه القيام به؛ ولا خيار له في ذلك، ولا يجوز له التهرب من المسئولية المتعلقة به، ولا التعلل بتقاعس الآخرين، ولا الاحتجاج بالقدر؛ إلى آخر قائمة فنون التهرب من المسئولية.
أسهل شيء على الإنسان أن يلقي باللائمة على غيره ليبرئ ساحته، ويتخلص من تأنيب الضمير وحالة الشعور بالخطأ التي تقلقه وتذهب راحته وتؤثر في اتزانه.
وتسمع كثيرًا تساؤلات عن دور العلماء والقادة، وهذه التساؤلات لها ما يسوغها؛ لكن هل تخاذل فئة عن واجبها يجيز للآخرين مزيدًا من التخاذل والانسحاب والتقصير؟
إن رعاية الأمة وإصلاح شأنها وقيادتها زمن فتنتها واجب كبير، لا يكفي فيه دور شريحة دون أخرى، وهل سمعت أن أمة تقوم بفرد أو أفراد ما لم توجد الرغبة والجدية لدى مجموع أفرادها؟!
وإذا كان العمل والإصلاح والسعي في مواجهة الفتنة محفوفًا بالمخاطر، فذلك شأن كل مناحي الحياة وشئون المعاش زمان الفتنة؛ فهل يمتنع المتذرع بهذا عن الخروج والسعي في شأنه الخاص؟!(16).
***
____________
(1) أخرجه أحمد (16).
(2) التحرير والتنوير (2/ 484).
(3) تفسير السعدي، ص107.
(4) التحرير والتنوير (2/ 487).
(5) في ظلال القرآن (1/ 263).
(6) تفسير ابن كثير (8/ 103).
(7) الدعوة في حياة الشباب بين الإقدام والتراجع، موقع: المسلم.
(8) أخرجه البخاري (2493).
(9) الهم الدعوي فريضة ذاتية وضرورة مجتمعية، جريدة المحجة (العدد:300).
(10) أخرجه البخاري (893)، ومسلم (1829).
(11) انظر: رسائل الإصلاح (2/ 8).
(12) الأخلاق، ص65.
(13) رسائل ابن حزم (1/ 346).
(14) أخرجه الحاكم (8380).
(15) فيض القدير (3/ 481).
(16) سبل مواجهة الفتن، مجلة البيان (العدد: 168).