أمراض القلوب
عندما تجد خللًا في الدعوة وبطئًا في السير ففتش عن القلب، فأمراضه أشد من أمراض الأبدان، كما أن اكتشافه أخفى، ويحتاج إلى خبير في ذلك، وليس هناك وصف أدق لمكانة القلب من وصف الرسول صلى الله عليه وسلم حين يقول: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»(1).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يدعو: «يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك» قلت: يا رسول الله، ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء، فقال: «ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه»(2).
إن هذا القلب البشري سريع التقلب، سريع النسيان، وهو يشف ويشرق فيفيض بالنور، ويرف كالشعاع، فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكر تبلد وقسا، وانطمست إشراقته، وأظلم وأعتم! فلا بد من تذكير هذا القلب حتى يذكر ويخشع، ولا بد من الطرق عليه حتى يرق ويشف، ولا بد من اليقظة الدائمة كي لا يصيبه التبلد والقساوة.
ولكن لا يأس من قلب خمد وجمد وقسا وتبلد، فإنه يمكن أن تدب فيه الحياة، وأن يشرق فيه النور، وأن يخشع لذكر الله، فالله يحيي الأرض بعد موتها، فتنبض بالحياة، وتزخر بالنبت والزهر، وتمنح الأكل والثمار، وكذلك القلوب حين يشاء الله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْييِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها} [الحديد:17].
في ما يقع الآن بين الدعاة والعلماء نجد الرجل صاحب العلم والفضل يتكلم في أقرانه أو من أهل بلده ما لا يتكلم فيه الآخرون، وما يقطع هذا المرض القلبي إلا أن يفكر المسلم: ماذا يستفيد من هذا الحسد في الدنيا غير وباله في الآخرة، ويفكر في نفسه أن فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا حرج في المنافسة في الخير والمزيد من العلم، وربما استطاع أن يسد ثغرة في جانب من الجوانب لا يسدها أخوه المحسود! إننا نسمع هذه الأيام من يفرح بأخطاء أخيه ليجمعها ويؤلف فيها كتبًا!!
أهكذا أمر الإسلام أتباعه؟ أو هكذا تُضيّع الأوقات، إنها مصيبة أن تهدر الطاقات ولا يتنبه الذي ينصّب نفسه داعية لأمراض قلبه وإحن صدره، ويعالجها بالدواء الشافي كما يعالج بدنه إن أصابه شيء، فيكون مرضيًا عند الله وعند الناس(3).
أنواع القلوب:
من هنا يتبين أن للقلوب، على وجه الإجمال، ثلاث حالات:
1- القلب السليم: وهو الذي عمر بالعلم النافع والمعتقد الصحيح، والإيمان الخالص، والعواطف السليمة، فهو طاهر بذلك، سالم من ضده، مطمئن للحق راكن إليه، لين، ينتفع بالذكر والمواعظ ويتفاعل معها.
2- قلب ميت: خراب من الإيمان والخير، عقائده باطلة، وظنونه سيئة، وعواطفه مائلة، قد استحكم عليه الران فغطّاه، فهو أعمى عن الهدى، غافل عما فيه سعادته وهداه، مشتغل فيما يهواه، قلب غليظ قاس لا يلين للمواعظ والذكر فينتفع بها.
3- قلب مريض: فيه إيمان وبه داء من جهة الشبهات أو الشهوات أو منهما معًا، ففيه من الشك والريب والزيغ، أو الغفلة والقسوة والران والقلق بقدر تلك الشبهات أو الشهوات الناخرة فيه، فهو قابل للسلامة إن تعاهده صاحبه بالعلاج بإذن الله، وإلا فهو في طريقه إلى الهلاك، أعاذنا الله من ذلك.
علامات صحة القلب ومرضه:
وعلامة مرض القلب عدوله عن الأغذية النافعة الموافقة إلى الأغذية الضارة، وعدوله عن دوائه النافع إلى دوائه الضار، فهاهنا أربعة أشياء: غذاء نافع، ودواء شاف، وغذاء ضار، ودواء مهلك.
فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي، والقلب المريض بضد ذلك.
وعلامة صحة القلب أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة، ويحل فيها حتى يبقى كأنه من أهلها أو أبنائها، جاء إلى هذه الدار غريبًا يأخذ منها حاجته ويعود إلى وطنه، كما قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»(4).
وكلما مرض القلب آثر الدنيا واستوطنها، حتى يصير من أهلها.
ومن علامات صحة القلب أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله، ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه، فيستغني بحبه عن حب ما سواه، وبذكره عن ذكر ما سواه، وبخدمته عن خدمة ما سواه.
ومنها: أنه إذا فاته وِرْده أو طاعة من الطاعات وجَدَ لذلك ألمًا أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده.
ومنها: أنه يشتاق إلى الخدمة كما يشتاق الجائع إلى الطعام والشراب، قال يحيى بن معاذ: «من سر بخدمة الله سُرت الأشياء كلها بخدمته، ومن قرت عينه بالله قرت عيون كل أحد بالنظر إليه».
ومنها: أن يكون همه واحدًا، وأن يكون في الله؛ يعني: في طاعة الله .
ومنها: أن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعًا كأشد الناس شحًا بماله.
ومنها: أن يكون إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا، ووجد فيها راحته ونعيمه وقرةَ عينه وسرور قلبه.
ومنها: ألَّا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره إلا بمن يدله عليه ويذكره به.
ومنها: أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل، فيحرص على الإخلاص فيه، والنصيحة، والمتابعة، والإحسان، ويشهد مع ذلك منةَ الله عليه فيه، وتقصيره في حق الله(5).
أمراض القلوب نوعان:
1- مرض شهوة، قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، فهذا مرض الشهوة.
والقلب المريض هو الذي تمكن حب الشهوة المنحرفة في عواطفه، فينبعث عند ورود دوافعها، فهو مرض يصيب العواطف، كما أنّ مرض الشك والريب يكون في العقائد.
2- مرض شبهة، قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا} [البقرة:10]، وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة:125]، فهذا مرض الشبهة، وهو أردأ من مرض الشهوة، إذ مرض الشهوة يرجى له الشفاء بقضاء الشهوة، ومرض الشبهة لا شفاء له إن لم يتداركه الله برحمته.
ويشتد خطر هذه الأمراض عندما يتمكن حب شيء من ذلك في القلب، حتى يصبح عاطفة سائدة ولا يكون متوجهًا إلى الله، فإنه والحالة هذه يكون شركًا، وذلك أن القلب لا ينبعث لشيء إلا وفق هذه العاطفة المستحكمة، وبذلك يكون هوى القلب وميله موافقًا لها، فيسري أثرها على كافة وظائف القلب، وهذا داء خطير يميت القلب.
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية:23].
والقلب المريض بشبهة أو شهوة محرمة فيه من صفات القلب الميت بحسب ما فيه من المرض، ففيه من الران والقلق والقسوة والغفلة واللهو ما يتناسب مع قوة المرض، إلا أنه لم يصل إلى درجة الختم والقفل والطبع، فهو قلب مريض ينفع فيه العلاج بإذن الله، كما أنه في طريقه إلى الموت إن أهمل علاجه، واستمر به داؤه(6).
أنواع الأمراض القلبية:
وأما مرض الشبهة فهو أشد، وهو الذي يصد القلب عن الحق، ومتى صد القلب عنه ابتلي بالباطل، وقد ذكر الله للقلوب أنواعًا من الأمراض، فمنها:
1- الطبع، قال تعالى حكاية عن اليهود: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا} [النساء:155]، فالطبع عليها معناه: أنه ختم عليها بحيث لا يصل إليها الخير ولا تعرفه ولا تطمئن إليه، وهذا الطبع هو أشد الأمراض.
فهي ليست مغلفة بطبعها، إنما هم كفرهم جر عليهم أن يطبع الله على قلوبهم، فإذا هي صلدة جامدة مغطاة، لا تستشعر نداوة الإيمان ولا تتذوق حلاوته، فلا يقع منهم الإيمان، إلا قليلًا، ممن لم يستحق بفعله، أن يطبع الله على قلبه(7).
2- الختم، وهو بمعنى الطبع، قال تعالى: {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7]، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية:23]، ومعلوم أن الختم هو تغطية الشيء بحيث لا يصل إليه شيء، كما في الظروف المختومة التي لا تصل إليها الأيدي، فالقلب الذي قد ختم عليه لا يصل إليه الخير، ولا ينتبه للمواعظ ولا يتذكر، وسبب ذلك هو الشبهات.
3- الزيغ، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، والزيغ معناه: الانحراف والميل، ولا شك أن سببه الشبهات والتشكيكات التي تجعل الحق عنده باطلًا والباطل حقًا، فيميل عن الحق إلى الباطل، وذلك هو الزيغ، وقد ذكر الله أيضًا أسبابه: فذكر من أسبابه أنهم زاغوا بأنفسهم فزادهم الله من ذلك: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5].
وذكر أيضًا من أسبابه تتبع المتشابهات، فقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران:7]، إلى قوله عن الراسخين: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8]، فالزيغ: معناه الانحراف والميل عن الا