حاجة الدعاة إلى فقه الموازنات
فقه الموازنات يقصد به الفقه الذي يتعلق بالمصالح والمفاسد, وطرق الترجيح بين المصالح عند التعارض والتزاحم, وكذا الترجيح بين المفاسد إذا تعين فعل بعضها.
وقد عَرَّفه كثير من المعاصرين بتعريفات متقاربة, منها ما ذكره الدكتور عبد الله الكمالي بأنه: المفاضلة بين المصالح والمفاسد المتعارضة والمتزاحمة لتقديم أو تأخير الأوْلى بالتقديم أو التأخير(1).
إن فقه الموازنات يعتمد على تقديم المصلحة الكبرى على المصلحة الصغرى, ومصلحة العامة على مصلحة الخاصة, ومصلحة الكثرة على مصلحة القلة, ويعتمد أيضًا تقديم الضروريات على الحاجيات, وتقديم الحاجيات على التحسينيات, وهكذا أبدًا: تقديم الأهم على المهم, والراجح على المرجوح.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: «الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناها، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما هو المشروع»(2).
ويعتمد فقه الموازنات على أساس إصدار الحكم الشرعي في المسألة وفق اعتبارات الموازنة بين المصلحة والمفسدة، المتحققتَيْن في الإقدام أو الامتناع عن إتيان أمر بعينه، أو سياسة بعينها.
والمصلحة هي: المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده، من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم، وفق ترتيب معين فيما بينها، أي بمعنى آخر: مقاصد الشريعة.
وهناك العديد من الأدلة الشرعية على مشروعية فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد، ومن بينها من القرآن الكريم قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219].
ووجه الدلالة في هذه الآية الكريمة، أن علة التحريم هي زيادة المفسدة على المصلحة المتحققة من شرب الخمر، ولعب الميسر، فالإثم الكبير والمفسدة في ذهاب العقل، من شرب الخمر، وما يترتب على ذلك من تصرفات غير سوية، أعظم كثيرًا من مصلحة المتعة والنشوة المتحققة من شربها، وكذلك في لعب الميسر، ولذلك كان الحكم النهائي بتحريمهما بالتدريج الذي تم.
ويقول الدكتور حسين أحمد أبو عجوة، ملخصًا هذه القضية وأهميتها: «إن إحياء فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد، وتجديده، علمًا وعملًا في هذا الزمان ضروري للدعوة وللدعاة، وللقادة وصُنَّاع القرار؛ حيث تختلط الحسنات بالسيئات، وتزدحم المصالح والمفاسد؛ مما يوقع العاملين في حقل الدعوة في اشتباه واختلاف.
ومن ذلك قوله تعالى في قصة موسى والخضر عليهما السلام: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)} [الكهف:79–81]، فالخضر عليه السلام بما علَّمه الله من علم وحكمة أقدَم على مفسدة خرق السفينة؛ ليدفع مفسدة ضياعها بالكلية على يد الملك الظالم الذي يأخذ كل سفينة غصبًا, وأقدم على مفسدة قتل الغلام ليدفع مفسدة إرهاق أبويه طغيانًا وكفرًا, وكانت هذه الصورة الأخيرة جائزة في حقه غير جائزة في شرعنا.
وفي ذلك يقول العز بن عبد السلام: «ولو اطلع موسى على ما في خرق السفينة من المصلحة، وعلى ما في قتل الغلام من المصلحة، وعلى ما في ترك السفينة من مفسدة غصبها، وعلى ما في إبقاء الغلام من كفر أبويه وطغيانهما، لما أنكر عليه، ولساعده في ذلك وصوب رأيه؛ لما في ذلك من القربة إلى الله عز وجل، ولو وقع مثل ذلك في زماننا هذا لكان حكمه كذلك، وله أمثلة كثيرة: منها: أن تكون السفينة ليتيم يخاف عليها الوصي أن تغصب، وعلم الوصي أنه لو خرقها لزهد الغاصب عن غصبها، فإنه يلزمه خرقها حفظًا للأكثر بتفويت الأقل، فإن حفظ الكثير الخطير بتفويت القليل الحقير من أحسن التصرفات، وقد قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152](3).
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال لها: «يا عائشة، لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين؛ بابًا شرقيًّا، وبابًا غربيًّا، فبلغت به أساس إبراهيم»(4).
فهذا دليل على تقديم أولى المصلحتين ودفع أكبر المفسدتين.
وفي ذلك يقول النووي رحمه الله تعالى عند شرحه لهذا الحديث: «فيه دليل لتقديم أهمِ المصالح عند تعذُر جميعها»(5).
وفيه ترك ما هو صواب خوف وقوعِ مفسدة أشد، واستئلاف الناس إلى الإيمان، واجتناب ولي الأمر ما يتسارع الناس إلى إنكاره، وما يخشى منه تولد الضرر عليهم في دينٍ أو دنيا، وتألف قلوبهم بما لا يترك فيه أمر واجب؛ كمساعدتهم على ترك الزكاة وشبه ذلك، وفيه تقديم الأهم فالأهم من دفع المفسدة، وجلب المصلحة، وأنهما إذا تعارضا بدئ برفع المفسدة(6).
ومن ذلك أيضًا أن أعرابيًا بال في المسجد فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى اللهُ عليه وسلم: «دعوه وأريقوا على بوله سجلًا من ماءٍ أو ذنوبًا من ماءٍ، فإنما بعِثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»(7).
قال النووي: «وفيه دفع أعظم الضررين باحتمال أخفهما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «دعوه»، قال العلماء: كان قوله صلى الله عليه وسلم: «دعوه»، لمصلحتين؛ إحداهما: أنه لو قطع عليه بوله تضرر، وأصل التنجيس قد حصل، فكان احتمال زيادته أولى من إيقاع الضرر به، والثانية: أن التنجيس قد حصل في جزء يسير من المسجد، فلو أقاموه في أثناء بوله لتنجست ثيابه وبدنه ومواضع كثيرة من المسجد»(8).
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: «لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة، ولم يقل لهم: لم نهيتم الأعرابي؛ بل أمرهم بالكف عنه للمصلحة الراجحة، وهو دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما»(9).
وقال الإمام بدر الدين العيني: «فيه دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما، فإن البول فيه مفسدة، وقطعه على البائل مفسدة أعظم منها، فدفع أعظمهما بأيسر المفسدتين، وتنزيه المسجد عنه مصلحة وترك البائل إلى الفراغ مصلحة أعظم منها، فحصل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما»(10).
ولم يستخدم الفقهاء الأوائل مصطلح (فقه الموازنات)، وإنما تحدثوا عن مضمونه ومحتواه عند حديثهم عن تعارض المصالح وتزاحمها, وكذا المفاسد.
ومثال ذلك قول العز بن عبد السلام: «ومعظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل، وذلك معظم الشرائع؛ إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة، ودرء المفاسد المحضة، عن نفس الإنسان وعن غيره، محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم المصالح الراجحة على المرجوحة محمود حسن، وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن»(11).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما، فقدم أوكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجبًا, ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة، وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرمًا في الحقيقة, وإن سمي ذلك ترك واجب، وسمي هذا فعل محرم، باعتبار الإطلاق، لم يضر، ويقال في مثل هذا ترك الواجب لعذر، وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة؛ أو لدفع ما هو أحرم»(12).
أهمية فقه الموازنات للدعاة:
من أهم الأمور التي يجب على الدعاة إلى الله التحلي بها البصيرة في دعوتهم، بما تشتمل عليه من معالم وضوابط، وما تتطلبه من حكمة ومعرفة، ومن أهم جوانب البصيرة في الدعوة إلى الله فقه الموازنات الدعوية، فمن خلال قيام الدعاة بدعوتهم إلى الله فإنهم سيواجهون بعض المتغيرات التي تؤثر في مناهج وأساليب ووسائل الدعوة؛ وذلك لاختلاف الظروف وتنوعها باختلاف الأماكن والأزمان، ومن هنا ربما يرى الدعاة في بعض المواقف والأحوال تقديم المهم على الأهم، أو تقديم المفضول على الفاضل، أو تعاطي أخف الضررين، أو اختيار قدر نسبي من المطلوبات الشرعية المتعددة، وذلك لموازناتٍ متأنيةٍ ودراساتٍ متعمقةٍ، تتأثر بالواقع المتنوع، والظروف المختلفة.
-وفقه الموازنات يحمي الدعاة إلى الله من التصرفات الارتجالية البعيدة عن الحكمة والبصيرة، والتي تؤدي إلى آثارٍ سلبيةٍ تنعكس على الدعاة خاصةً، والمسلمين عامةً .
- كما أن فقه الموازنات يساعد الداعية في ترتيبه لسلم الأولويات في الدعوة إلى الله، فيقدم الضروريات على الحاجيات والتحسينات، ويقدم الأصل على التابع، ويقدم ما فيه مصلحةٌ عامةٌ على ما فيه مصلحةٌ خاصةٌ، ويحذر الناس من الضرر الأكثر خطورة قبل تحذيره من الضرر الأقل خطورة، ويخاطب الناس على قدر عقولهم ومستوياتهم من الفهم.
كما أن للدعاة دورًا مهمًا في بيان ما للشريعة من قابليةٍ لمواجهة معضلات الحياة ومستجداتها؛ وفي ذلك الرد المفحم على شبه المغرضين، وتفنيد آراء المنحرفين، الذين يتهمون الشريعة بالقصور وعدم الوفاء بحاجات الناس ومتطلباتهم في هذا العصر، ومن ثمَّ يطالبون باستبدالها وإبعادها، فإذا عرضت مقاصدها وما اشتملت عليه من حكمٍ باهرةٍ، ومصالحَ ظاهرةٍ، وموازناتٍ دقيقةٍ بين المصالح والمفاسد، علم على الحقيقة كذبهم فيما يقولـون وزيف مـا يدعون.
فالحاجة إليه في كل زمان ومكان وحال، ولا سيما في هذا العصر حيث زيادة المستجدات، وكثرة الوقائع المحدثات، وتداخل المصالح والمفاسد وتجاذبها في أكثر الأمور والوقائع، وحياة الناس، فنادرًا جدًا أن تتمحض مصلحة خالصة أو مفسدة خالصة؛ ولأن مدار الشرع والواقع على المصالح والمفاسد، فما من مسألة صغيرة أو كبيرة إلا وهي مبنية على المصالح والمفاسد(13).
- يحقق كمال الشريعة وشمولها لحياة الناس، ورعايتها لمصالحهم، وحفظها لحقوقهم، ومسايرتها لمستجداتهم، وتغطيتها لحاجتهم.
- رعاية العلماء له، وعنايتهم الفائقة به، فقد وضعوا له الضوابط، ورسموا المنهج وأسسوا القواعد، وبنوا عليه فتاواهم وأقضيتهم وأحكامهم وسائر تصرفاتهم، غير أن ذلك في نصوص متفرقات، وجزئيات متشتتات، وليس في كتب وأبواب مجتمعات تضم جزئياته المتفرقات.
- تجدده على مر الأوقات لارتباطه الوثيق بالمستجدات، والوقائع المحدثات، وتطوره بتطور حياة الناس، ولذلك فهو يحتاج إلى دراسات متتابعة في جوانبه التطبيقية.
صعوبته في الجانب التطبيقي، ولذلك فهو يحتاج إلى علم راسخ، وملكة فقهية، ونظرة فاحصة وشاملة، تتصف بالعمق والدقة؛ إذ هو موازنة بين أمور متعارضة، ونظر في جوانب متنوعة، وتعامل مع أحوال متداخلة، وتمييز بين أشياء متشابهة مجتمعة.
إن الأخطاء جميعها، سواءً كانت في الأقوال أم في الأفعال أم في الأحكام أم في غير ذلك من سائر التصرفات، عائدة إلى الخطأ في الجانب التطبيقي له، سواء كان الخطأ في تقدير المصلحة، أم في تقدير المفسدة، وذلك عند انفراد كل منهما، أم في تقدير الراجح عند التزاحم والتعارض، وهو أكثر وغالب، وسواء كان الخطأ ناتجًا عن جهل أم عن هوى، أم عن قصور في التقدير والنظر.
تقدير المصالح والمفاسد وفقه الموازنات مما تتفاوت فيه الاجتهادات وتتباين فيه التقديرات، وهذا الباب مزلة أقدام ومضلة أفهام، وقد تقارن الأهواء الآراء، والمعصوم من عصمه الله عز وجل وجعل له فرقانًا، وهو لا بد له من دراية بالشرع وفقه للواقع، مع قوة في العقل والفراسة، والإخلاص التام والتجرد من الهوى، علمًا أن هذا الأمر لا يُتوصَل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد؛ يكون سببه تجريد متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله وأحبها إليه وأرضاها له.
إذا غاب عنا فقه الموازنات سددنا على أنفسنا كثيرًا من أبواب السعة والرحمة، واتخذنا فلسفة الرفض أساسًا لكل تعامل، والانغلاق على الذات تكأة للفرار من مواجهة المشكلات، والاقتحام على الخصم في عقر داره، سيكون أسهل شيء علينا أن نقول: «لا» أو «حرام» في كل أمر يحتاج إلى إعمال فكر وإجهاد.
أما في ضوء فقه الموازنات فسنجد هناك سبيلًا للمقارنة بين وضع ووضع، والمقابلة بين حال وحال، والموازنة بين المكاسب والخسائر، على المدى القصير، وعلى المدى الطويل، وعلى المستوى الفردي، وعلى المستوى الجماعي، ونختار بعد ذلك ما نراه أدنى لجلب المصلحة ودرء المفسدة.
والمسائل التي تحتاج إلى فقه موازنات وترجيح شرعي تتفاوت تفاوتًا عظيمًا باعتبار أهميتها وخطورتها وتأثيرها وما تتعلق به، وكل مسلم قلَّت بضاعته في العلم أو كثرت لا بد أن يكون عنده فقه للموازنات، فمستقل أو مستكثر؛ لأنه لا يُعقل البحث عن مجتهد ليُقدر المصلحة الشرعية في كل مسألة عابرة، وهذا بخلاف المسائل الكبار العظيمة من حيث أهميتها وخطورتها وتأثيرها وما تتعلق به، فإنها بلا شك تحتاج إلى مشورة أهل العلم والاجتهاد, وضابط المصالح والمفاسد في كثير من المسائل مما تختلف فيه أنظار العلماء والمجتهدين وأهل الخبرة.
المصالح من حيث اعتبارها في الشرع وعدمه قسمان:
1- مصلحة معتبرة، وهي قسمان:
- مصلحة اعتبرها الشارع بعينها وراعاها في أصل معين، فيقاس عليه ما يماثله، وهذه هي المصلحة التي تضمنته العلة في القياس.
- ومصلحة اعتبر الشارع جنسها، ولا يشهد لها بعينها أصل معين، وهذه هي التي تسمى (المصلحة المرسلة).
2- مصلحة ملغاة؛ وذلك لاشتمالها على مفسدة أعظم منها، أو لأنها تفوت مصلحة أعظم منها(14).
من مظاهـر فقه الموازنات الدعويةموقف قريش من بيعة العقبة الثانية:
يقول كعب بن مالك رضي الله عنه: لما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأبعد صوت سمعته قط، قال: يا أهل الجباجب [يعني: المنازل]، ينادي أهل مكة، هل لكم في مذمم [يقصد محمدًا صلى الله عليه وسلم] والصباة معه؛ قد أجمعوا على حربكم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا أزب العقبة [أي: شيطان العقبة]، اسمع أي عدو الله، أما والله، لأفرغن لك»، وبعد ذلك شعر الرسول صلى الله عليه وسلم أن المشركين سيحضرون فقال للأنصار: «ارفعوا إلى رحالكم».
كان على الأنصار أن يركضوا مسرعين إلى رحالهم؛ لأنهم عرفوا أن قريشًا قد تأتي في أي لحظة، لكن لم يحصل هذا، وإنما قام العباس بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه وقال: والله الذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلن على أهل منى غدًا بأسيافنا؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم»، قال: فرجعنا إلى مضاجعنا، فنمنا عليها حتى أصبحنا(15).
والقتال في منى لم يكن من الأمور التي بايع عليها الأنصار، فهم كانوا قد بايعوا على أن يدافعوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وليس في منى ولا في مكة، لكن العباس بن عبادة يعطي ما هو فوق البيعة، فهو يبحث عن الجنة.
فكان رد الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لم نؤمر بذلك»؛ أي: لم نؤمر بالقتال بعد، نعم بايع الأنصار على الجهاد، لكن ليس الآن وقت التطبيق، وهذا من فقه الموازنات؛ لو تقاتل الأنصار الآن مع المشركين فلا شك أن الأنصار سيبادون عن آخرهم، نعم سقطوا شهداء، ولكن أين الدولة؟ أين الدعوة؟ أين التخطيط لنصر وتمكين وسيادة هذا الدين؟ أين بناء الأمة الإسلامية؟ فعلًا كان لا بد للمسلمين أن يتجنبوا القتال تمامًا في هذا الوقت؛ من أجل ذلك رجع الأنصار إلى خيامهم، وناموا مع الوفد المشرك الذين أتوا معه، ولم يشعر بهم أحد حتى من وفدهم.
في اليوم الثاني علمت قريش بموضوع اللقاء، فذهبت قريش لمقابلة زعيم يثرب عبد الله بن أبي ابن سلول، وبدأت تتكلم معه في خطاب يجمع بين الترغيب والترهيب، قالوا: يا معشر الخزرج [يكلمون عبد الله بن أبي ابن سلول]، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه، والله، ما من حي من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم [يعني: نحن نحبكم، لكن لو استمريتم على هذا الأمر سنحاربكم، وأنت تعرفون جيدًا من هي قريش]، فلما سمع عبد الله بن أبي ابن سلول هذه الكلمات قام يقول بمنتهى ال