هدي النبي صلى الله عليه وسلم في كسب القلوب
إن الداعية إلى الله عز وجل ينبغي أن يكون ذا قلب كبير يسع الناس جميعًا بمختلف أوضاعهم ونفسياتهم وجنسياتهم، ويتعامل معهم برفق، ويقدم لهم أفضل ما عنده من فنون التعامل، ويتخير لهم أفضل القول وأجمل المنطق مع بذل الندى وكف الأذى.
وتأتي أهمية تعلم مهارات وفنون كسب القلوب؛ لا سيما في زمن كثرت فيه المشكلات والخلافات بسبب فقْد التواصل الجيّد، حتى تقطعت الأواصر والعلاقات، فنسبة الطلاق بين الأزواج تزداد يومًا بعد يوم، وتشرّد وعقوق الكثير من الأبناء مع الآباء أكثر من أن تُحْصَى، وتخسر الأُسر ويخسر المجتمع - يومًا بعد يوم - علاقات تتقطع بعد اتصالها، وتخسر بعد نجاحها، بل حتى في الدعوة إلى الله تعالى، مِن الناس مَن دخل في الدين والتديّن حبًّا لسمت شيخ أو سلوك داعية أو تميّز عالِم، بحسن عرضه لبضاعته، ومهارته في التواصل مع القلوب قبل العقول.
ولقد كسب النبي صلى الله عليه وسلم قلوب من حوله مع مجانبة تقليدهم في انحرافاتهم؛ فكانوا يسمونه: (الصادق الأمين) قبل أن يبعث؛ فقد ملك قلوب الناس بحسن خلقه وسماحته.
قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وقال سبحانه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] المراد به هاهنا غليظ الكلام؛ لقوله بعد ذلك: {غَلِيظَ الْقَلْبِ} أي: لو كنت سيئ الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفًا لقلوبهم، كما قال عبد الله بن عمرو: إنه رأى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة: أنه ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح (1).
ومن هنا الرجل الذي بال في المسجد: جاء أعرابي فبال في المسجد، فثار إليه الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوه، وأهريقوا على بوله ذنوبًا من ماء، أو سجلًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» (2).
ولا نشك لحظة واحدة أنه لو قطع عليه بوله لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يقطع عليه بوله فيضره ضررًا صحيًا، وإما أن يقطع عليه البول فلا يأمن من تنجيس نفسه وملابسه وأجزاء من المسجد.
وانظر إلى رفق الرسول صلى الله عليه وسلم ورحمته بالغير عند التغيير والدعوة والنصح، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: «لقد حجرت واسعًا» يريد رحمة الله (3).
وسائل كسب القلوب:
1 –عطاء من لا يخشى الفقر:
إن من السمات المميزة للدعاة إلى الله تعالى كرمهم وبذلهم كل خير للناس؛ فيبذلون للناس الخلق الحسن والجاه إن احتيج إليه، ويبذلون ما يستطيعون للناس من مرتفقات هذه الدنيا؛ ليبينوا لهم أنهم ليسوا طلاب دنيا، وأن الدنيا آخر اهتماماتهم، فيبذلوا الدنيا للناس ليستجلبوا قلوبهم إلى الدين؛ فمنهج رسولنا صلى الله عليه وسلم هو منهج العطاء والبذل؛ عن موسى بن أنس، عن أبيه، قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدًا يعطي عطاء لا يخشى الفاقة (4).
فانظر وفقك الله كيف أثر هذا السخاء النبوي على قلب هذا الرجل وجعل منه بعد أن كان حربًا على الإسلام أصبح داعية إليه.
وفي قصة إسلام صفوان بن أمية: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في الغنائم ينظر إليها ومعه صفون بن أمية، فجعل صفوان بن أمية ينظر إلى شعب مليء نعمًا وشاء ورعاء، فأدام النظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقه فقال: أبا وهب يعجبك هذا الشعب؟ قال: نعم قال: هو لك وما فيه، فقال صفوان عند ذلك: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وأسلم مكانه (5).
2- احترام الآخرين والاهتمام بقضاياهم:
النفوس تميل إلى من يحترمها ويرفع من قدرها؛ خاصة إذا كان أولئك أصحاب مكانة في قومهم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يُنَزَّل الناسُ منازلهم.
وإن من أهم أسباب إسلام كثير من الصناديد هو رفع منزلتهم في الإسلام: كالأقرع بن حابس، وأبي سفيان، وعيينة بن حصن، وثمامة بن أثال.
ولقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الاهتمام بقضايا المسلمين حتى لقد كان يهتم بأمور العبيد والموالي.
فها هو يشفع لمغيث عند زوجته بريرة لكي ترجع إليه بعدما عُتِقَت وهو عبد، وغير ذلك كثير من أمثلة اهتمامه صلى الله عليه وسلم بقضايا أمَّته.
ولذلك ينبغي أن نتحبب إلى الجار فنبدأه بالسلام ونعوده في المرض، ونعزيه في المصيبة، ونهنئه في الفرح ونصفح عن زلته، ولا نتطلع إلى عورته، ونستر ما انكشف منها، ونهتم بالإهداء إليه وزيارته، وصنع المعروف معه، وعدم إيذائه، وقد نفى الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان الكامل عن الذي يؤذي جاره فقال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قال قائل من هو يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه»، والبوائق هي الشرور والأذى (6).
فالمسلم فضلًا عن الداعية ينبغي أن يسع الناس كلهم بخلقه وتضحيته ولذلك وصفت خديجة الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: «إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» (7).
3- قوة الصلة بالله والاستعانة به:
إن أهم زاد للداعية في طريقه لتبليغ دعوة الله إلى الناس هو اتصاله بالله تعالى واعتماده عليه وتفويض جميع أموره إليه؛ فقلوب الناس بين أصابعه سبحانه كقلب واحد يقلبها كيف يشاء، ولو شاء لهدى الناس كلهم أجمعين؛ فبالاعتماد عليه وتفويض الأمور إليه تنفتح الأبواب، ويسهل الصعب، ويقرب البعيد.
ولقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب أروع الأمثلة في قوة الاتصال بالله تعالى وخاصة عند الأزمات، وعندما يُعرض الناس عن دعوة الحق.
فها هو الطفيل بن عمرو الدوسي يأتي شاكيًا قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه يستعديه عليهم ليدعو عليهم لما أعرضوا عن دعوته؛ فما كان من نبي الرحمة إلا أن رفع يديه إلى ربه وسأله أن يهدي دوسًا ويأتي بهم؛ فما أن رجع الطفيل رضى الله عنه إلى قومه حتى استجابوا جميعًا.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه، على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، إن دوسًا عصت وأبت، فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس، قال: «اللهم اهد دوسًا وأت بهم» (8).
4- الترفع عن دنياهم:
من أهم ما يزين الداعية ويلبسه ثوب وقار، ويجعله أقرب إلى الاحترام ومن ثم القبول: أن يكون مترفعًا عن ملاحقة كماليات هذه الدنيا؛ فليس يخوض إذا خاض الناس في الشاء والبعير وأنواع السيارات والحديث عن العقارات، والسباحة في بحور الأمنيات الدنيوية؛ فهو لا يجيد السباحة في هذه البحور التي لا ساحل لها؛ بل لا تراه إلا في الدعوة وحولها يدندن.
وليس معنى ذلك أن يهجر الداعية حياته وأصحابه، وأن يكون جاهلًا بواقعه، كلا، ولكننا نريد ارتقاء بالاهتمامات، وتميزًا في الرغبات، وألا يغيب عن همِّ الدعوة، كيلا نكون كالهمج الرعاع الذين يجرون خلف كل ناعق.
فإن أهل العلم دائمًا يستحقرون هذه الدنيا؛ وإن عظمت صورتها وحقيقتها عند العامة والدهماء.
اقرأ إن شئت قصة قارون: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)} [القصص: 79- 80].
وفي رحلة الهجرة: قال أبو بكر: فخذ -بأبي أنت يا رسول الله- إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بالثمن»، قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز (9).
وكان رضي الله عنه مستعدًّا استعدادًا ماديًّا يُناسب المهمَّة؛ فقد أعدَّ راحلتين مناسبتين؛ حتى دون أن يُطلب منه، وعلفهما بشكل جيِّد ليتمكَّنا من قطع الرحلة الطويلة بأمان، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يأبى إلا أن يدفع ثمنها.
قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
ومن الأمور المهمة أيضًا استغناء الداعية عن الناس قدر إمكانه، وعدم إراقة ماء وجهه ما استطاع، بل هو الذي يبذل الخير للناس.
5- الرفق:
فعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله» (10)، بل الرفق مفضل على كثير من الأخلاق؛ لذا كان ما يعطيه الله لصاحبه من الثناء الحسن في الدنيا والأجر الجزيل في الآخرة أكثر مما يعطيه على غيره.
ومن المواطن التي يتأكد فيها الرفق عند تقويم خطأ الجاهل، وانظر إلى هذه الصورة المعبرة في تقويم الأشخاص عند خطئهم والتي يملؤها الرفق والرحمة.
فعن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: بينما أنا أُصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فما رأيتهم يصمتونني لكني سكت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه فوا الله ما نهرني ولا ضربني ولا شتمني قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» (11)، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية وقد جاء الله بالإسلام وإن منا رجالًا يأتون الكهان قال: «فلا تأتهم»، قلت ومنا رجال يتطيرون قال: ذلك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم (12).
6- تحت الرغوة اللبن الصافي:
نعم! فلا يغرنك المظهر، وكذا في واقع الدعوة؛ فإن الناس وإن وقعوا في مآثم ومنكرات بل حتى موبقات فإنهم لا يزال فيهم خير ما داموا موحدين.
ومن هنا ينبغي لنا ألا نترفع عليهم ونكشر أنيابنا في وجوههم، بل ينبغي أن نجلِّي لهم أبواب التوبة المفتوحة، ونرغبهم برحمة الله ولا نقنطهم منها، وأن نحاول تنمية جوانب الخير عندهم.
ولقد ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في ذلك؛ فها هو صلى الله عليه وسلم يسمع أبا محذورة يقلد الأذان؛ فما كان منه إلا أن أثنى على جمال صوته، ومن ثم علَّمه الأذان فصار بعدُ مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم.
وها هو يمنع أي أحد أن يتعرض لمن جلده في الخمر بعد جلده ويقول: «لا تعينوا الشيطان على أخيكم» (13).
إن بُعدنا عن صاحب المعصية والنظر إليه شزرًا على أنه عاصٍ لَهُوَ من أسباب عون الشيطان عليه ونفرته من أهل الصلاح؛ ولكن عندما نفتح له قلوبنا ونتعامل مع أخطائه برفق وحنان فسينتج ما لم نره من قبل.
وهنالك نقطتان منهجيتان في الدعوة ينبغي ألا يغفلهما الدعاة، وإن كانتا ليستا من طرق كسب الناس والتأثير فيهم:
الأولى: الصبر على ما يصيب الداعية في ذات الله؛ فإنه مأجور فيه، وله العاقبة بإذن الله إن صبر وثبت على منهجه الحق، وأظن أن عندك أخي القارئ من الآيات والأحاديث في ذلك ما يربو على ما عندي.
الثانية: أن على الداعية أن يؤدي ما عليه وهو واجب البلاغ، وأن النتائج ليست إليه ولا يؤخذ بها إذا أدى ما عليه، قال تعالى: {إن عليك إلا البلاغ} [الشورى: 48] (14).
7- التواضع ولين الجانب:
لقد كسب رسول الله صلى الله عليه وسلم بتواضعه ولين جانبه قلوب الناس من حوله، ذكر البخاري: إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت (15)، حتى يقضي حاجتها، ودخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هون عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد في هذه البطحاء» (16)، وبهذا الأسلوب والتواضع ولين الجانب دخل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى شغاف قلوب الناس من حوله.
أما الظهور بمظهر الأستاذية والنظر إلى المسلمين نظرة دونية؛ فهي صفة شيطانية لا تورث إلا البغض والقطيعة، {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12].
8- السؤال عن أحوالهم:
بأن تقول له عندما تقابله: كيف حالك، وأحوال أولادك، وهذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وحسن تعامله مع أصحابه، فلقد قابل يومًا عبد الرحمن بن عوف، وعليه أثر من طِيْب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «مَهْيَمْ» يعني: ما أمرك، أو ما شأنك، فقال: يا رسول الله تزوجت امرأة من الأنصار، قال: «ما سقت إليها؟» قال: نواة من ذهب - أو وزن نواة من ذهب - قال: «أولم ولو بشاة» (17).
9- إكرامهم في مجلسه:
بأن تفرش لمن يقدم عليك بساطًا أنيقًا يجلس عليه، أو تجلسه على الكرسي الذي كنت تجلس عليه، عن جرير، قال: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم أتيته لأبايعه، فقال: «لأي شيء جئت يا جرير؟» قلت: جئت لأسلم على يديك، قال: «فدعاني إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتؤمن بالقدر خيره وشره» قال: فألقى إليَّ كساءه، ثم أقبل على أصحابه فقال: «إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه» (18).
وعنه قال: ما حجبني النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي (19).
فقد يكون المجلس ممتلئًا بالناس، غاصًّا بهم، وهنا من حسن الأدب، وكمال الخلق أن تفسح لهم لكي يجلسوا؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ} [المجادلة: 11].
قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث يصفين لك من ود أخيك: أن تسلم عليه إذا لقيته، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه، وثلاث من الغي: تجد على الناس فيما تأتي، وترى من الناس ما يخفى عليك من نفسك، وأن تؤذي جليسك فيما لا يعنيك (20).
10- الانصات لكلامهم:
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خير مستمع لمن يحاوره، فلا يقاطعه في حديث، ولا يلفت وجهه عنه وهو يكلِّمه، وقد كان يفعل ذلك مع المشرك فما بالك بأخيك المسلم، ففي حواره مع عتبة بن ربيعة حينما جاء يعرض عليه مطالب قومه، لم يزد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن قال له: «قل يا أبا الوليد، أسمع»، ثم استمع إليه حتى انتهى، فقال له: «أوَقَد فرغت يا أبا الوليد؟»، قال: نعم، قال: فاسمع مني، قال: أفعل، فقال بسم الله الرحمن الرحيم {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 1 - 5]، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة، أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها، فسجد ثم قال: «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك» (21).
وعن أنس رضي الله عنه قال مُحدِّثًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم: كان إذا لقيه أحدٌ من أصحابه فقام معه، قام معَه، فلم ينصرف حتى يكون الرجلُ هو الذي يَنصرف عنه، وإذا لقيه أحدٌ مِن أصحابه فتناول يدَه ناوله إيَّاها، فلم ينزع يده منه حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده منه، وإذا لقي أحدًا من أصحابه، فتناول أذنَه ناوله إياها، ثم لم ينزعها حتى يكون الرجلُ هو الذي ينزعها عنه (22).
11- يمازحهم:
فالمزاح مع أخيك المسلم يوحي بتمام الأخوة بينكما، وقوة الصلة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يمازح أصحابه كدليل على محبته لهم، ولكن ينبغي أن يكون المزاح قليلًا؛ لأن كثرة المزاح تميت القلب وتسقط الهيبة، كما يجب أن يكون خاليًا من الكذب والسخرية واحتقار الآخرين، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يا ذا الأذنين»، يعني يمازحه (23).
وعن أنس رضي الله عنه أيضًا أن رجلًا من أهل البادية كان اسمه زاهر بن حرام، وكان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان دميمًا، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يومًا وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال: أرسلني من هذا؟ فالتفت، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألو ما ألزق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: مَن يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله، إذًا والله تجدني كاسدًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لكنك عند الله لست بكاسد»، «أنت غالٍ»، وفي رواية: «أنت عند الله رابح» (24).
12- تلبية دعوتهم:
فتلبية الدعوة تعتبر حقًّا من حقوق المسلم على أخيه المسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس» (25)، وينبغي للمسلم ألا يفرق بين دعوة الغني والفقير، فيذهب لدعوة الغني، أما الفقير فيتجاهله، فهذا ليس من محاسن الأخلاق وكرم الأصل، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيب دعوة العبد، فيذهب إليه جبرًا لخاطره وتطييبًا لنفسه، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان رسول الله يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعتقل الشاة، ويجيب دعوة المملوك على خبز الشعير (26).
وقال أيضًا: «لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إليَّ كراع لقبلت»، (الكراع) كراع الشاة وهو ما دون الكعب ومستدق الساق، وهو شيء مستحقر، فأشار صلى الله عليه وسلم بالكراع إلى إجابة الدعوة ولو على شيء قليل (27).
13- الصبر على فظاظتهم وغلظتهم:
فقد يتكلم معك صاحبك بغلظة ما، أو يقول لك كلمة تجرحك في وقت غضب، فعندئذ من حسن الخلق أن تتغاضى عن هذا، وتلتمس له العذر، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحمل جفوة بعض الأعراب وغلظتهم، فقد جذبه أحد الأعراب من حاشية قميصه حتى أثَّر في رقبته، ومع ذلك ضحك وأمر له بالعطاء (28)، وآخر يقول له: اعدل وهو يقسم الغنائم، فيتغاضى عنه ولم يعاقبه (29).
14- تفقد أحوالهم إذا غابوا:
إن من يتفقد أحوال أصحابه، ويسأل عنهم إذا غابوا، فإنه يزداد بذلك محبةً منهم، وإعظامًا لمكانته لديهم، وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم تفقد أصحابه إذا غابوا، وهو كثير جدًّا في سيرته صلى الله عليه وسلم، فعن أنس بن مالك رضِي الله عنه أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلم افتَقَد ثابت بن قيس، فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك عِلمَه، فأتاه فوجَدَه جالسًا في بيته مُنكِّسًا رأسه، فقال: ما شأنك؟ فقال ثابت: شرٌّ؛ كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلَّى الله عليه وسلم، فقد حبط عمله، وهو من أهل النار، فأتى الرجل فأخبَرَه أنه قال كذا وكذا، فقال صلى الله عليه وسلم: «اذهب إليه فقل له: إنَّك لستَ من أهل النار، ولكن من أهل الجنة» (30).
وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعهد الأنصار ويعودهم ويسأل عنهم، فبلغه عن امرأةٍ من الأنصار مات ابنُها وليس لها غيره، وأنها جزعتْ عليه جزعًا شديدًا، فأتاها النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها بتقوى الله وبالصبر؛ الحديث (31).
وعن أبى هريرة رضِي الله عنه أن امرأة سوداء كانت تَقُمُّ المسجد، ففقَدَها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فسأل عنها، فقالوا: ماتت، قال: «أفلا كنتم آذنتموني؟»، قال: فكأنهم صَغَّروا أمرها، فقال: «دُلُّوني على قبرها»، فدلُّوه فصلى عليها (32) (33).
ويحدثنا بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه فيقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَتَعَهَّد الأنصار، ويَعُودهم، ويسأل عنهم، فبلغه عن امرأة من الأنصار مات ابنُها وليس لها غيره، وأنها جَزَعَتْ عليه جَزَعًا شديدًا، فأتاها النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، فلما بَلَغَ بابَ المرأة، قيل للمرأة: إن نبي الله يريد أن يدخل: يعزيها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أما إنه بلغني أنك جزعت على ابنك»، فأمرها بتقوى الله وبالصبر، فقالت: يا رسول الله ما لي لا أجزع وإني امرأة رَقُوبٌ لا أَلِد، ولم يكن لي غيره؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرَّقُوب: الذي يَبْقَى وَلَدُها، ثم قال: «ما مِنِ أمرئ أو امرأةٍ مسلمةٍ يموت لها ثلاثة أولاد يَحْتَسِبُهُم إلا أَدْخله الله بهم الجنة»، فقال عُمَر وهو عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي واثْنَيْن؟ قال: «واثْنَيْن» (34).
المرأة الرقوب: هي التي لا يولد لها، أو لا يعيش ولدها -هذا بحسب اللغة- لكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن ينقل معنى ومفهوم كلمة الرقوب إلى شيء آخر غير الذي في الأذهان واللغة، ألا وهو: أن الذي ابْتُلِيَ بموت ولده فصبر ورضي بقضاء الله عز وجل هو الفائز الرابح، والمقصود الحث على الصبر على البلاء بعد وقوعه، لا الترغيب في طلبه، فقد نهينا عن ذلك وعن تمني البلاء عامة، وأمرنا بالدعاء بالعافية.
لم يكن نبينا صلى الله عليه وسلم يعيش بعيدًا عن أصحابه، بل كان يتفقدهم تفقُّد الأب الشفيق، والصاحب المحب، فما أن يفتقد أحدهم إلا ويسأل عنه، للاطمئنان عليه، في غزوة تبوك التي جمعت أكبر عدد من المسلمين تجمع في غزوة من الغزوات حيث بلغ عددهم ثلاثين ألفًا، كان صلى الله عليه وسلم كعادته يتفقد أصحابه، فإذا به في الطريق يقول: «ما فعل كعب بن مالك؟» (35)، أي: يسأل عنه، من بين تلك الألوف الكثيرة، ويلحظ غيابه بين هذا العدد الكبير (36).
____________
(1) تفسير ابن كثير (2/ 148).
(2) أخرجه البخاري (6128).
(3) أخرجه البخاري (6010).
(4) أخرجه مسلم (2312).
(5) مغازي الواقدي (2/ 854- 855).
(6) أخرجه الحاكم (21).
(7) أخرجه البخاري (3).
(8) أخرجه البخاري (2937).
(9) أخرجه البخاري (3905).
(10) أخرجه البخاري (6927).
(11) أخرجه أحمد (23762).
(12) أخرجه مسلم (537).
(13) أخرجه البخاري (6781).
(14) كيف تملك قلوب الآخرين/ منارات.
(15) أخرجه البخاري (6072).
(16) أخرجه الحاكم (3733).
(17) أخرجه البخاري (2048).
(18) أخرجه الطبراني (2266).
(19) أخرجه البخاري (3035).
(20) شعب الإيمان (8398).
(21) سيرة ابن هشام (1/ 294).
(22) صحيح الجامع (4780).
(23) أخرجه أحمد (12164).
(24) أخرجه أحمد (12648).
(25) أخرجه البخاري (1240).
(26) سلسلة الأحاديث الصحيحة (2125).
(27) فتح الباري (5/ 200).
(28) أخرجه البخاري (5809).
(29) أخرجه البخاري (3138).
(30) أخرجه البخاري (3613).
(31) أخرجه الحاكم في المستدرك (1416).
(32) أخرجه مسلم (956).
(33) كيف تكسب محبة الآخرين؟/ المجلس العلمي.
(34) السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة (1/ 334).
(35) أخرجه مسلم (2769).
(36) السؤال عن الغائِبِ سُنَّة نبوية/ إسلام ويب