موقف الدعاة من النكت والمزاح
في حياة مَلْأَى بالمتاعب ومتخمة بالمصاعب، وفي زمنٍ يسوده التوتر والتعب، والعصبية والغضب، نحتاج إلى قليل من المزاح؛ يضع عن النفس إصرَها، ويجدِّد فيها الطاقة، ويبعث فيها الهِمَّة، ويقوِّي فيها العزيمة، نحتاج إلى ترويح بريء منضبط بضوابط الشرع، مِزاح يؤنِس المصاحبين، ويزيل وحشة المخالطين، فالمزاح المباح ليس هجنة، بل سنة كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله مع شغله الشديد، ومعاناته في تبليغ الدعوة.
ويحتاج الناس عمومًا إلى المُزاح لتناسي همومهم وتخفيف الضغوطات الحياتية حولهم، كما يؤلف المزاح بين القلوب ويشعر الإنسان بالراحة النفسية، ويكسر حواجز الجديّة عند التواصل مع الأصدقاء وزملاء العمل، لكن للمزاح ضوابط شرعية تجب مراعاتها.
يقول بدر الدين أبو البركات محمد الغزي: يندب إلى المزاح بين الإخوان والأصدقاء والخلان؛ لما فيه من ترويح القلوب، والاستئناس المطلوب، بشرط ألا يكون فيه قذف، ولا انهماك فيه يسقط الحشمة، ويقلل الهيبة، ولا فحش يورث الضغينة، ويحرك الأحقاد الكمينة (1).
قال ابن حبان: إذا كان مِن غير معصية: يُسلِّي الهم، ويرقع الخُلة، ويحيي النفوس، ويذهب الحِشْمَة، فالواجب على العاقل أن يستعمل مِن المزاح ما يُنسب بفعله إلى الحلاوة، ولا ينوي به أذى أحد، ولا سرور أحد بمساءة أحد (2).
وقد أبرز ابن الجوزي في مقدمة كتابه أخبار الحمقى والمغفلين دوافع أساسية لتأليف مؤلفه، ومن جملتها: أن يروح الإنسان قلبه بالنظر في سِيَر هؤلاء المبخوسين حظوظًا يوم القسمة؛ فإن النفس قد تمل من الدؤوب في الجد، وترتاح إلى بعض المباح من اللهو (3).
ويطيب المزاح ويستحب إن كان لتحصيل فائدة لا تحصل إلا بسببه مع الأصحاب والإخوان، أو لمصلحة دعوية في بذل نصح وتقريب قلوب، وزيادة محبة وموَّدة، أو إزالة كدر، وإيجاد لأجواء المحبة والتعارف والتآلف.
وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يواجه الأذى من كل جانب، وتشتد عليه سفاهات قومه، ومع هذا يداعب أهله وأصحابه ويمازحهم، فكان ينادي أنسًا خادمَه: «يا ذا الأذنين»، ويقول لأخيه مداعبًا: «يا أبا عُمير، ما فعل النُّغَير»، وينادي أبا هريرة: «أبا هِرٍّ»، وعليًّا: «أبا تراب»، وعائشة زوجه: «عائش»، فيُطيِّب قلوبَ مَن حوله، ويربيهم، ويزيل الهم عنهم ويواسيهم، ويتبسط معهم ويسليهم، فيحفون به كما تحف أفواج النحل بالأزاهير، ترتشف منها الرحيق.
عن أنس بن مالك، أن رجلًا من أهل البادية يقال له زاهر بن حرام، كان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الهدية، فيجهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن زاهرًا بادينا، ونحن حاضروه»، قال: فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه والرجل لا يبصره، فقال: أرسلني من هذا؟ فالتفت إليه، فلما عرف أنه النبي صلى الله عليه وسلم جعل يلزق ظهره بصدره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يشتري هذا العبد»؟ فقال زاهر: تجدني يا رسول الله كاسدًا، قال: «لكنك عند الله لست بكاسد»، أو قال صلى الله عليه وسلم: «بل أنت عند الله غال» (4).
وكان صحابته الكرام يلعبون ويَمرحون، ويتضاحكون ويمزحون، وكان صلى الله عليه وسلم معهم يفتر ثَغره عن ابتسامة كضوء الفجر لا يُنكر عليهم، حتى إذا جن الليل كانوا رهبانًا، فإذا دعا داع الجهاد كانوا فرسانًا.
يقول يوسف القرضاوي: -لقد رأيت الناس –بفطرتهم– وعلى قدر ما سمحت به إمكاناتهم، وفي ضوء ما عرفوه من سماحة دينهم – قد ابتكروا ألوانًا من الوسائل والأدوات التي تقوم بوظيفة الترويح والإضحاك لهم؛ من ذلك: «النكت» التي برع فيها المصريون، واشتهروا بها بين الشعوب، وهي أنواع مختلفة، ولها مهمات متعددة، ولا يكاد يجلس الناس بعضهم إلى بعض إلا حكوا من هذه النكت ما يضحكهم ويُسرِّي عنهم بعض ما يعانون، أحيانًا يسندونها إلى أسماء معروفة، مثل جحا، أو أبي نواس، أو غيرهما، وأحيانًا لا ينسبونها إلى معين.
وهناك أناس لا يقتصرون على حكاية النكت عن غيرهم؛ بل هم ينشئون نكتًا على البديهة، وهذا شأن الشخصيات الفكهة، مثل أشعب قديمًا، ومثل الشيخ عبد العزيز البشري حديثًا في مصر.
وكل عصر يضيف أشياء جديدة، ويطور الأشياء القديمة، وقد يستغنى عن بعضها، كما نرى في عصرنا فن «الكاريكاتير» الذي حول النكتة من مجرد كلمة تقال، إلى صورة معبرة، مصحوبة ببعض الكلام، أو غير مصحوبة.
والضحك من خصائص الإنسان، فالحيوانات لا تضحك؛ لأن الضحك يأتي بعد نوع من الفهم والمعرفة لقول يسمعه، أو موقف يراه، فيضحك منه.
والإسلام – بوصفه دين الفطرة – لا يتصور منه أن يصادر نزوع الإنسان الفطري إلى الضحك والانبساط، بل هو على عكس يرحب بكل ما يجعل الحياة باسمة طيبة، ويحب للمسلم أن تكون شخصيته متفائلة باشة، ويكره الشخصية المكتئبة المتطيرة، التي لا تنظر إلى الحياة والناس إلا من خلال منظار قاتم أسود.
وأسوة المسلمين في ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان – برغم همومه الكثيرة والمتنوعة – يمزح ولا يقول إلا حقًا، ويحيا مع أصحابه حياة فطرية عادية، يشاركهم في ضحكهم ولعبهم ومزاحهم، كما يشاركهم آلامهم وأحزانهم ومصائبهم (5).
يقول زيد بن ثابت، وقد طلب إليه أن يحدثهم عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إلي فكتبته له، فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، قال: فكل هذا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ (6).
وقد رأيناه في بيته صلى الله عليه وسلم يمازح زوجاته ويداعبهن، ويستمع إلى أقاصيصهن، كما في حديث أم زرع الشهير.
عن عائشة، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أتته عجوز من الأنصار، فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال نبي الله: «إن الجنة لا يدخلها عجوز»، فذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم فصلى، ثم رجع إلى عائشة، فقالت عائشة: لقد لقيت من كلمتك مشقة وشدة، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «إن ذلك كذلك، إن الله إذا أدخلهن الجنة حولهن أبكارًا» (7).
عن أنس بن مالك، أن رجلًا استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إني حاملك على ولد الناقة» فقال: يا رسول الله، ما أصنع بولد الناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وهل تلد الإبل إلا النوق؟» (8).
ضوابط المزاح والنكت في الشريعة:
فمشروعية الضحك والمرح والمزاح لا شك فيها في الأصل، ولكنها مقيدة بقيود وشروط لا بُدَّ أن تُراعي:
1- عدم الاستهزاء بالدين: إنّ تعاليم الدين الإسلامي مُنزّهة عن المُزاح والاستهزاء، ولا يجوز الخوض فيها بغير حق بشكل عام، يقول تعالى: {وَلئِن سألْتهُمْ ليقُولُنّ إِنّما كُنّا نخُوضُ ونلْعبُ قُلْ أبِاللّهِ وآياتِهِ ورسُولِهِ كُنتُمْ تسْتهْزِؤُون (65) لَا تعْتذِرُواْ قدْ كفرْتُم بعْد إِيمانِكُمْ} [التّوبة: 65-66]، والمعنى: أن الله تعالى نبأ رسوله صلى الله عليه وسلم بما كان يقوله هؤلاء المنافقون في أثناء السير إلى تبوك، من الاستهزاء بتصديه لقتال الروم الذين ملأ صيتهم بلاد العرب، بما كان تجارهم يرون من عظمة ملكهم في الشام؛ إذ كانوا يرحلون إليها في كل صيف.
نبأه نبأ مؤكدًا بصيغة القسم أنه إن سألهم عن أقوالهم هذه يعتذرون عنها بأنهم لم يكونوا فيها جادين ولا منكرين، بل هازلين لاعبين، كما هو شأن الذين يخوضون في الأحاديث المختلفة للتسلي والتلهي، وكانوا يظنون أن هذا عذر مقبول؛ لجهلهم أن اتخاذ أمور الدين لعبًا ولهوًا، لا يكون إلا ممن اتخذه هزوًا، وهو كفر محض، ويغفل عن هذا كثير من الناس يخوضون في القرآن والوعد والوعيد، كما يفعلون إذ يخوضون في أباطيلهم وأمور دنياهم، وفي الرجال الذين يتفكهون بالتنادر عليهم والاستهزاء بهم (9).
قد يظن البعض أن التنكيت بآيات الله الكونية لا بأس به، وأنه من المرح والتسلية والمزاح، والأمر ليس كذلك؛ بل هو أعظم بكثير مما يتصوره هؤلاء، إن هذا التنكيت هو من السخرية والاستهزاء بآيات الله تعالى.
فجانب الربوبية والرسالة والوحي والدين جانب محترم، لا يجوز لأحد أن يعبث فيه لا باستهزاء ولا بإضحاك ولا بسخرية، فإن فعل فإنه كافر؛ لأنه يدلّ على استهانته بالله عزّ وجلّ ورسله وكتبه وشرعه.
2- عدم اتخاذ المزاح عادة، يضيع المزاح هيبة الشخص ورونقه بين الناس، فلا يصير شيئًا أساسيًا في شخصية الفرد، فإذا ما التقى بصديق أو جار قابله دائمًا بالمُزاح، وليس ببعيد أن يُصبح على إثره مثارًا للسخرية، فمن الأفضل أن يراوح بين الجد والمزاح ويوازن بينهما.
يقول الماوردي: فالعاقل يتوخى بمزاحه إحدى حالتين لا ثالث لهما؛ إحداهما: إيناس المصاحبين، والتودد إلى المخالطين، وهذا يكون بما أنس من جميل القول، وبسط من مستحسن الفعل، وقد قال سعيد بن العاص لابنه: اقتصد في مزاحك، فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرئ عليك السفهاء، وإن التقصير فيه، يفض عنك المؤانسين، ويوحش منك المصاحبين.
والحالة الثانية: أن ينفي بالمزاح ما طرأ عليه وحدث به من هم، فقد قيل: للمصدور -المصاب بمرض في الصدر- أن ينفث (10).
والداعية إلى الله عاقل حصيف يتوخى أن يذهب بهاء وجهه، وتضيع هيبته بين أقرانه، وأن ينفضَّ الناس من حوله بما فيهم الصديق المؤانس، فله في المزاح رخصة في تأليف القلوب، وجمع الكلمة، ومحاربة داء العزلة.
قال الغزالي: فاعلم أن المنهي عنه الإفراط فيه، أو المداومة عليه، أما المداومة فلأنه اشتغال باللعب والهزل فيه، واللعب مباح؛ ولكن المواظبة عليه مذمومة، وأما الإفراط فإنه يورث كثرة الضحك، وكثرة الضحك تميت القلب، وتورث الضغينة في بعض الأحوال، وتسقط المهابة والوقار، فما يخلو عن هذه الأمور فلا يذم (11).
3- المزاح مع الشخص المناسب، يكون المزاح مع شخص مقرّب أو صديق، لا مع شخص غريب أو كبير في السن، أو مريض، أو صغير في السن، ناهيك عن تجنب المزاح مع أصحاب المسؤولية في المُجتمع، لأنّه من الممكن أن يُعرّضك للإحراج وقد يُعرّضك للمحاسبة أيضًا.
فيجب التفريق بين ما يمكن أن يمازحه من الأصدقاء، وبين ما لا يُمكن أن يمازحه من أصحاب الشأن، والهيبة والوقار.
فإذا أراد المسلم المزاح وجب عليه أن يعرف للكبير حقه، وللعالم منزلته، فلهما من المهابة والوقار منزلة عالية، والمزاح قد يفضي إلى سوء أدب معهما، فينبغي أن يبتعد المازح عن المزاح معهما خشية الإخلال بتوقيرهما وتقديرهما، فمن السَّنة أن يوقر العالم لعلمه، وأن يحترم الكبير لمكانته وكبر ِسِنه، ويجب على المازح أن يراعي عدم المزح مع الغريب الذي لا يعرف طبيعة نفس المازح، لأن المزح حينئذ قد يؤدي إلى استحقار المازح، والاستخفاف به، والمسلم إذا لم يلتزم بآداب المزاح، ويعرف ضوابطه تذهب مروءته، وتضيع هيبته.
4- عدم المعصية يكون ذلك بالابتعاد عن الغيبة والنميمة والسخرية والاستهزاء بالآخرين، فليس لمسلم أنْ يغتاب أخيه المُسلم، أو أن يتجرأ على السخرية والاستهزاء به، أو يقلل من شأنه مُستهينًا بكرامته الإنسانية، أو بوضعه الصحي، أو يكون عيبًا من عيوب شخصيته، يقول عز وجل: {يَا أيُّها الّذِين آمنُوا لا يسْخرْ قومٌ مِّن قوْمٍ عسى أن يكُونُوا خيْرًا مِّنْهُمْ ولا نِساء مِّن نِّساء عسى أن يكُنّ خيْرًا مِّنْهُنّ ولا تلْمِزُوا أنفُسكُمْ ولا تنابزُوا بِالألْقابِ بِئْس الاِسْمُ الْفُسُوقُ بعْد الإِيمانِ ومن لّمْ يتُبْ فأُوْلئِك هُمُ الظّالِمُونَ} [الحجرات: 11].
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» (12)، أي: وذلك لعظمه في الشر، كاف له عن اكتساب آخر، ولا يخفى ما فيه من فظاعة هذا الذنب، والنداء عليه بأنه غريق في الشر حتى إنه لشدته فيه، يكفي من تلبس به عن غيره (13).
فإن ذلك قاطع للأخوة، باعث للعداوة، ويكفي المسلم شرًا ذلك الاحتقار الذي يقطع العلاقات، ويثير العداوات.
وألا يكون فيه غيبةٌ، أو إيذاء: سواء كان إيذاءً بدنيًا أو شعوريًا؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12]، فهذه الأمور فيها إيذاء شعوري للمؤمنين والمؤمنات، وقد يصل إلى الإيذاء البدني، فحرَّمها الله تعالى منعًا لذلك.
واليوم تكثر التجاوزات في هذا الجانب بحجة المزاح، فتجد البعض ما أنْ يعلم أنَّ أخاه يغضب من شيء معين حتى يُكثِر المزاح معه فيما يُغضبه؛ قاصدًا إغضابه، وهذا أمر محرم.
5- ألا يضرَّ بشخصه بين الناس: فعلى المرء ألا يجعل من نفسه أُضحوكةً، أو مُهرِّجًا للمجتمع، حتى إذا أراد أحد أنْ يضحك يأتي إلى هذا المُهرِّج، ويقول: ما هو آخر شيء عندك؟ أعطنا موقفًا، وللأسف صار هذا مشتهرًا بين الناس؛ بل هناك أناس يُسمِّيهم الناس مشاهير في مواقع التواصل الاجتماعي؛ تقوم بضاعتهم على السخرية بالناس، والاستهزاء بهم؛ بقصد الشهرة، وإضحاك الناس، وزيادة أعداد المتابعين؛ وقد اشتهرت مقولة: اذكر لنا موقفًا طريفًا مر بك؟ في المجالس أو المقابلات الإعلامية، ونحوها.
وقال ابن الجوزي: وإذا رأى العوامُّ أحد العلماء مُتَرخِّصًا في أمرٍ، هان عندهم، فالواجب عليه صيانةُ علمِه، وإقامَة قَدْر العلم عندهم، فقد قال بعض السلَف: كنَّا نَمْزح ونَضْحك، فإذا صرنا يُقتدَى بنا، فما أُرَاه يسعنا ذلك (14).
6- أن يُراعي شعور الآخرين: فيجب على الإنسان أن يُراعي مشاعر الناس، ولا يجرح مشاعر الذي أمامه، وليس المقصود إضحاك أكبر عدد في المجلس، ولو كان فيه إيذاء للآخرين، ثم تقع الضغينة بين الناس بسبب هذا المزاح الثقيل، وربما انصرف من المجلس، وقد خاصمهم وهَجَرَهم؛ بسبب أنه جُعِل أضحوكةً لِمَنْ في المجلس.
7- أن يتجنب الفُحْشٌ: بعض النكت -التي تُسمَّى عند عامة الناس نُكَتًا- هي عبارة عن قلة حياء وبذاءة، وغالِبُ هذا الطُّرَف متعلقة بالعورات المغلظة، وفيما يتعلق بجماع الرجل بزوجته، واللهُ تعالى لا يُحب الجهر بالسوء من القول، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا، ولا مُتفحِّشًا.
وقد نهى عن الفحش في القول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء» (15).
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كان الفحش في شيء إلا شانه، وما كان الحياء في شيء إلا زانه» (16).
قال الطيبي: فيه مبالغة أي لو قدر أن يكون الفحش أو الحياء في جماد لشانه أو زانه فكيف بالإنسان؟ وأشار بهذين إلى أن الأخلاق الرذلة مفتاح كل شر؛ بل هي الشر كله، والأخلاق الحسنة السنية مفتاح كل خير؛ بل هي الخير كله (17).
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: قوله: ليس المؤمن، أي: الكامل، بالطعان، أي: عيابًا الناس: ولا اللعان، ولعل اختيار صيغة المبالغة فيها لأن الكامل قل أن يخلو عن المنقصة بالكلية: ولا الفاحش، أي: فاعل الفحش أو قائله، وفي النهاية: أي: من له الفحش في كلامه وفعاله، قيل: أي: الشاتم، والظاهر أن المراد به الشتم القبيح الذي يقبح ذكره ولا البذيء، قال القاري: هو الذي لا حياء له (18).
8- ألا يكون الكذب والاختلاق أداة لإضحاك الناس، كما يفعل بعض الناس في أول إبريل –نيسان– فيما يسمونه (كذبة إبريل)، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «ويل للذي يحدث فيكذب، ليُضحك القوم، ويل له، ويل له، ويل له» (19)، قال المناوي: كرره إيذانًا بشدة هلكته، وذلك لأن الكذب وحده رأس كل مذموم وجماع كل فضيحة، فإذا انضم إليه استجلاب الضحك الذي يميت القلب ويجلب النسيان ويورث الرعونة كان أقبح القبائح، ومن ثم قال الحكماء: إيراد المضحكات على سبيل السخف نهاية القباحة (20).
وقد كان صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقًا (21).
يا مَن تريد أن تمزحَ وتضحك، عليك بالصِّدقِ وأبشِر ببيتٍ في وسط الجَنَّة إذا تركتَ الكذبَ في المزاح؛ عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه» (22).
ومن ترك الكذب في كل الأحوال، ومنها حالات المزاح؛ بنى الله له بيتًا في وسط الجنة؛ لأن من يحفظ لسانه من كل الكذب ابتغاء مرضاة الله، وذو مرتبة عالية في الأخلاق الحميدة، وفي تقوى الله، وأعمال البر؛ إذ ترك الكذب، والتزام الصدق مجمع لجملة كبيرة من الفضائل الخلقية، والمصالح الاجتماعية العلمية والعملية، أما جماع الفضائل كلها فهو حسن الخلق بوجهٍ عامٍّ (23).
9- ألا يترتب عليه تفزيع وترويع لمسلم: فقد روى أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي ليلي قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه، ففزع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لرجل أن يروع مسلمًا»، وعن النعمان بن بشير قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير، فخفق رجل على راحلته –أي نعس– فأخذ رجل سهمًا من كنانته فانتبه الرجل، ففزع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لرجل أن يروع مسلمًا» (24).
عبد الله بن السائب بن يزيد، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يأخذ أحدكم عصا أخيه لاعبًا أو جادًا، فمن أخذ عصا أخيه فليردها إليه» (25).
10- ألا يهزل في موضع الجد، ولا يضحك في مجال يستوجب البكاء، فلكل شيء أوانه، ولكل أمر مكانه، ولكل مقام مقال، والحكمة وضع الشيء في موضعه المناسب، روى الأصمعي أنه رأى امرأة بالبادية تصلي على سجادتها خاشعة ضارعة فلما فرغت، وقفت أمام المرآة تتجمل وتتزين، فقال لها: أين هذه من تلك؟ فأنشدت تقول:
ولله مني جانب لا أضيعه وللهو مني والبطالة جانب
قال: فعرفت أنها امرأة عابدة لها زوج تتجمل له (26).
وقد عاب الله تعالى على المشركين أنهم كانوا يضحكون عند سماع القرآن وكان أولى بهم أن يبكوا، فقال تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)} [النجم: 59 - 62].
11- الاعتدال والتوازن، الذي تقبله الفطرة السليمة، ويرضاه العقل الرشيد، ويلائم المجتمع الإيجابي العامل، والإسلام يكره الغلو والإسراف في كل شيء، ولو في العبادة، فكيف باللهو والمرح؟! ولهذا كان التوجيه النبوي: «ولا تكثر من الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب» (27)، فالمنهي عنه هو الإكثار والمبالغة، وقد ورد عن عليّ رضي الله عنه قوله: أعط الكلام من المزح، بمقدار ما تعطي الطعام من الملح، وهو قول حكيم، يدل على عدم الاستغناء عن المزح، كما يدل على ضرر الإفراط فيه، وخير الأمور هو الوسط دائمًا، وهو نهج الإسلام وخصيصته الكبرى ومناط فضل أمته على غيرها (28).
فعلى الإنسان أن يقتصدَ في المزاح؛ فلا يتركه بالكليَّة، ولا يفرِط فيه ويداوم عليه.
ويقول الخطيب البغدادي: يجب على طالب الحديث أن يتجنَّب اللَّعبَ والعبث والتبذُّل في المجالس بالسخف، والضحك والقهقهة، وكثرة التنادر، وإدمان المزاح والإكثار منه؛ فإنما يُستجاز من المزاح يسيرُه ونادره وطريفُه الذي لا يَخرج عن حدِّ الأدب وطريقة العلم، فأمَّا متَّصِلُه وفاحِشه وسخيفه وما أوغر منه الصُّدور وجَلب الشرَّ، فإنَّه مَذموم، وكثرة المزاح والضحك يضَع من القَدْر، ويزيل المروءة (29).
ويقول الفيض الزبيدي: وقد قال الأئمَّة: الإكثار منه والخروج عن الحدِّ مُخِلٌّ بالمروءة والوقار، والتَّنزُّه عنه بالمَرَّةِ والتَّقبُّض مخِلٌّ بالسُّنَّة والسيرة النبوية المأمور باتِّباعها والاقتداء بها، وخير الأمور أوسطها (30).
يقول ابن الغزي: ولا بأس به بين الإخوان بما لا أَذى فيه، ولا ضرر، ولا غِيبة، ولا شين في عِرْضٍ أو دين، قاصدًا به حُسن العِشرة والتواضع للإخوان، والانبساط معهم، ودَفْع الحشمة بينهم من غير استهتارٍ أو إخلال بمروءة أو نحوه استنقاصًا بأحدٍ منهم، فقد قيل للخليل بن أحمد: إنَّك تمازِح النَّاسَ، فقال: النَّاس في سجن ما لم يتمازَحوا، وفي الاقتداء بمَن ذُكر والاقتفاء بآثارهم أعظم بركة، وفي الخروج عن ذلك الحدِّ أشد عناءً وأبلغ هلكة، وخير الأمور أوساطها (31).
وكان صلى الله عليه وسلم يحب إشاعة السرور والبهجة في حياة الناس، وخصوصًا في المناسبات السائدة مثل: الأعياد والأعراس.
على أني أقول: اللهو مروح للقلب، ومخفف عنه أعباء الفكر، والقلوب إذا أكرهت عميت، وترويحها إعانة لها على الجد، فالمواظب على التفكر مثلًا ينبغي أن يتعطل يوم الجمعة: لأن عطلة يوم تساعد على النشاط في سائر الأيام، والمواظب على نوافل الصلوات في سائر الأوقات ينبغي أن يتعطل في بعض الأوقات، ولأجله كرهت الصلاة في بعض الأوقات، فالعطلة معونة على العمل، اللهو معين على الجد ولا يصبر على الجد المحض، والحق المر، إلا نفوس الأنبياء عليهم السلام، فاللهو دواء القلب من داء الإعياء، فينبغي أن يكون مباحًا، ولكن لا ينبغي أن يستكثر منه، كما لا يستكثر من الدواء.
فإذًا اللهو على هذه النية يصير قربة، هذا في حق من لا يحرك السماع من قلبه صفة محمودة يطلب تحريكها، بل ليس له إلا اللذة والاستراحة المحضة، فينبغي أن يستحب له ذلك، ليتوصل به إلى المقصود الذي ذكرناه. نعم هذا يدل على نقصان عن ذروة الكمال، فإن الكامل هو الذي لا يحتاج أن يروح نفسه بغير الحق، ولكن حسنات الأبرار سيئات المقربين، ومن أحاط بعلم علاج القلوب، ووجوه التلطف بها، وسياقتها إلى الحق، علم قطعًا أن ترويحها بأمثال هذه الأمور دواء نافع لا غنى عنه (32).
كونوا مثلهم في لهوهم وجدهم:
أعني صحابة النبي صلى الله عليه وسلم والصالحون والقدادة العظماء من هذه الأمة، لقد بنوا أُمة وصنَعوا نهضة، فلم يكن المزاحُ دَيدنَهم، بل كان عارضًا لمصلحة، لا يؤثِّر على جِديَّة عملٍ، أو تطبيق سنةٍ، أو تجاوز مقاصدِ الشريعة ومراتب المُروءة.
ثم خلَف مِن بعدهم خلفٌ هَمُّهم المزاح والترف، معتذرين بفعله صلى الله عليه وسلم له، وما دَروا بالخطأ أو بسوء القصد أن المزاح ليس في كل الأحوال والأوقات، فالمبالغة فيه دليلٌ على خِفة العقل لا خفة الظلِّ، وسببٌ في الإهانة وزوال الهيبة، ونقص المكانة.
يَسلُب البهاءَ ويُجرِّئ السُّفهاء، ويقطَع حبلَ الإخاء، ويَجرُّ للكذب والاستهزاء، والنميمة والافتراء.
كم ضيَّع المزاح من وقتٍ، وكم قلَّل من قدرٍ، وكم ألهى عن ذكرٍ!
إننا لا ندعو بهذا لمُصادرة المزاح، فهذا لا يدعو إليه عاقلٌ يؤمن بحاجة النفس البشرية إلى الاستئناس والترويح، نحن لا نُحاربه، بل نُهذِّب شرودَه، ونُقيِّد أنفسنا بقيود الشرع، نلتزم حدوده ولا نعتسف الطريق، إننا نجد أنفسنا مُرغمين على إعادة النظر في واقعنا ومبادئنا وأهدافنا، وتعديلها على ضوء الوضع العلمي والحضاري الحديث.
إن أيَّ مشروع نهضوي عرَفته البشرية، لم يقُمْ على المزاح والهزل، بل على الجد والعمل، والسعي والبذل، وإن حضارتنا الإسلامية المتألقة لم تُسلِّم نفسها للانطفاء بعد أن بلَغت أَوْجَ مجدها وعطائها، إلا بعد أن استبدلنا بالجد الهزلَ، فانحطَّت الهِمم، وانعدم الطموحُ، ورضِي الضعيف بفُتات الحضور الحضاري.
إن الإسلام ليس بحاجة للمُضحكين اللاهين، بل للجادين الصادقين والعاملين المخلصين، فلا تجعل همَّك اللهو والمزاح؛ حمايةً لنفسك، ووقايةً لقلبك، وخشيةً لربك.
فإذا فعلتَ فتخيَّر الأوقات والأشخاص، فلا تمازِح الأحمقَ السفيه، أو العالم الجليلَ، أو الشيخ الوقور، وراعِ دومًا مقتضى الحال، ولا تَخلِطْ جدًّا بهزلٍ، ولا تتَّخذ آيات الله هُزوًا، فكل ما يتعلق بشرع الله لا بد أن يُصان، لا يُتَنَدَّر به ويُهان، وتَحَرَّ فيه الحقَّ، والزَمِ الصدق، دون إسراف أو جنوحٍ، أو تكلفٍ أو تصنُّع: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] (33).
________________
(1) المراح في المزاح (ص: 35).
(2) روضة العقلاء (ص: 80).
(3) أخبار الحمقى والمغفلين (ص: 16).
(4) أخرجه ابن حبان (5790).
(5) فن الفكاهة والمرح/ موقع مقالات إسلام ويب.
(6) أخرجه الطبراني (4882).
(7) أخرجه الطبراني في الأوسط (5545).
(8) أخرجه الترمذي (1991).
(9) تفسير المنار (10/ 456).
(10) المراح في المزاح (ص: 40).
(11) إحياء علوم الدين (3/ 201).
(12) أخرجه مسلم (2564).
(13) دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (8/ 417).
(14) صيد الخاطر (ص: 183).
(15) أخرجه الترمذي (1977).
(16) أخرجه الترمذي (1974).
(17) فيض القدير (5/ 461).
(18) تحفة الأحوذي (6/ 95).
(19) أخرجه أبو داود (4990).
(20) أخرجه أبو داود (4990).
(21) فتح الباري لابن رجب (1/ 131).
(22) أخرجه أبو داود (4800).
(23) الحديث الموضوعي - جامعة المدينة (ص: 260).
(24) أخرجه الطبراني في الكبير (135).
(25) أخرجه الترمذي (2160).
(26) إحياء علوم الدين (2/ 59).
(27) أخرجه الترمذي (2305).
(28) هدى الإسلام في النكت والمزاح/ إسلام أون لاين.
(29) الجامع لأخلاق الراوي (1/ 156).
(30) تحفة الأحوذي (5/ 232).
(31) المراح في المزاح (ص: 37).
(32) إحياء علوم الدين (2/ 287).
(33) المزاح المباح/ شبكة الألوكة.