logo

مهارات الاستدلال


بتاريخ : الخميس ، 3 ربيع الأول ، 1441 الموافق 31 أكتوبر 2019
بقلم : د. موسى نجيب موسى معوض
مهارات الاستدلال

مفهوم الاستدلال:

الاستدلال لغةً معناه: تقديم دليل أو طلبه لإثبات أمر معين أو قضية معينة.

وأما اصطلاحًا فهو: عملية تفكيرية، تتضمن وضع الحقائق أو المعلومات بطريقة منظمة، بحيث تؤدي إلى استنتاج أو قرار أو حل لمشكلة، وتشير عدة موسوعات علمية ومراجع في علم النفس المعرفي إلى أن لفظ (الاستدلال) يُستخدَم للدلالة على معان مختلفة، من بينها:

- التعقل أو التفكير المستند إلى قواعد معينة، مقابل العاطفة والإحساس والشعور.

- الدليل أو الحجة، أو السبب الداعم لرأي أو قرار أو اعتقاد.

- العملية العقلية أو المَلَكة التي يتم بموجبها التوصل إلى قرار أو استنتاج.

- الإقناع مقابل الإيمان الفطري أو الأعمى في اللاهوت.

- القدرة على الاستنباط والاستقراء في المنطق والفلسفة.

- أحد مكونات السلوك الذكي أو القدرة على حل المشكلات.

- توليد معرفة جديدة باستخدام قواعد واستراتيجيات معيَّنة في التنظيم المنطقي لمعلومات متوافرة.

ويعرِّف باير (Beyer, 1987) الاستدلال بأنه: مهارة تفكيرية، تقوم بدور المسهِّل لتنفيذ أو ممارسة عمليات معالجة المعلومات، التي تضم التفسير والتحليل والتركيب والتقييم، ويضعه في المستوى الثالث من عمليات التفكير المعرفية، بعد استراتيجيات التفكير المعقدة، (وهي حل المشكلات، واتخاذ القرار، وتكوين المفاهيم)، ويصنف الاستدلال ضمن مهارات فرعية؛ هي: الاستدلال الاستقرائي، الاستدلال الاستنباطي، والاستدلال التمثيلي، وهناك مَن يضيف مهارة رابعة هي الاستدلال السببي؛ أي: إظهار العَلاقة بين السبب والنتيجة، كأحد أشكال الاستدلال العقلي.

يَرِدُ تعبير الاستدلال في مراجع علم النفس المعرفي مرتبطًا بصفات عديدة؛ من بينها:

الاستدلال اللفظي - الاستدلال الرياضي/ الكمي - الاستدلال المجرد/ البصري - الاستدلال التحليلي - الاستدلال الارتباطي - الاستدلال الأخلاقي - الاستدلال الإكلينيكي - الاستدلال الصوري وغير الصوري، إلى غير ذلك من الأوصاف.

ويرتبط الاستدلال اللفظي والاستدلال الكمي بالتعلم؛ وبالتالي، فإنهما يعكسانِ ما سمِّي بالذكاء المتبلور (Crystalized Intelligence)؛ بينما ترتبط القدرة على الاستدلال المجرد بالذكاء التحليلي المجرد أو الذكاء الفطري (Fluid Intelligence) بأنه مجموع العمليات العقلية المستخدمة في تكوين وتقييم المعتقدات، وفي إظهار صحَّة الادعاءات والمقولات أو زيفِها، وتتضمن هذه العمليات العقلية ما يأتي:

• توليد وتقييم الحجج والافتراضات.

• البحث عن الأدلة.

• التوصل إلى نتائج.

• التعرف على الارتباطات والعَلاقات السببية.

ويرتبط الاستدلال بعدد كبير من الموضوعات؛ كالتفكير الناقد، والمنطق، واللغة، والمعرفة، وغيرها، ونظرًا لأهمية فهْم طبيعة العلاقة بين الاستدلال وكل من هذه الموضوعات؛ فإننا نستعرضها بإيجاز فيما يأتي:

الاستدلال والتبرير:

يُتَّخذ لتبريرِ Rationalization شكل الاستدلال وصورته في الغالب، إلا أن هناك فرقًا رئيسًا بين الاستدلال والتبرير يرجع إلى هدف كل منهما، فالاستدلال يهدف إلى توليد معرفة جديدة عن طريق إعمال الفكر في المعلومات والأدلة المتوافرة، وتقليب الأمر على وجوهه، واستخدام قواعدَ واستراتيجيات عملية معقولة للوصول إلى نتائج صحيحة.

أما عملية التبرير فإنها تهدف إلى بلوغ استنتاج يتفق مع رغبات صاحب العَلاقة وتفضيلاته، عن طريق إخفاء الدوافع الحقيقية والأسباب الخفية لعمل ما، واختلاف أسباب تبدو مقنعةً ومقبولة لتبرير العمل، ومن الأساليب المستخدمة في عملية التبرير ما يأتي:

• تركيز الاهتمام على جميع المعلومات المؤيدة للقرار أو الاستنتاج المرغوب فيه، وتجاهل أو إهمال المعلومات التي لا تدعمه أو تضعفه.

• إعطاء أهمية أكبر لمصدر المعلومات المؤيدة، والتقليل من قيمة أو مصداقية مصدر المعلومات غير المؤيدة للنتيجة المرغوبة.

• استخدام محكات متناقضة في تفسير الأدلة والحكم عليها.

• لوم الآخرين ونقدهم، وتشتيت الانتباه، والابتعاد عن لب الموضوع.

• تصيُّد الأخطاء والهفوات في حجج وعروض الآخرين؛ بهدف كسب النقاش أو دحض النتيجة، دون اكتراث لتحري الحقيقة.

الاستدلال والتفكير الناقد:

يختلف الباحثون في تحديد طبيعة العَلاقة بين الاستدلال والتفكير الناقد، ولكنهم يتفقون على أن التفكير الناقد يقع في مستوى العمليات العقلية المركبة والمعقدة، التي يتفرع عن كل منها عدةُ مستويات من مهارات التفكير الأساسية.

ومن الاتجاهات البارزة التي تناولت العَلاقة بين الاستدلال والتفكير الناقد ما يأتي:

اتجاه يرى أن مهارات التفكير الناقد تختلف عن مهارات الاستدلال، ويميز بين عمليات التفكير واستراتيجياته ومهاراته المختلفة؛ من حيث مستوى التعقيد والشمولية والعلاقات الوظيفية لكل منها (Beyer, 1987)، ويقدِّم هذا الاتجاه تصنيفًا للعمليات المعرفية الرئيسة، يضم ثلاثة مستويات؛ هي:

• استراتيجيات التفكير، وتشمل حل المشكلات، واتخاذ القرار، وتكوين المفاهيم.

• مهارات التفكير الناقد، وقد سبقت الإشارة إليها.

• مهارات التفكير الصغرى، وتنقسم إلى قسمين:

1- مهارات معالجة المعلومات: وهي مشتقة من تصنيف (بلوم) للأهداف التربوية المعرفية، وتضم الاستدعاء، والترجمة، والتفسير، والتنبؤ الاحتمالي، والتطبيق، والتحليل، والتركيب، والتقويم.

2- الاستدلال: ويضم مهارات الاستقراء والاستنباط والتمثيل.

وبموجب هذا الاتجاه، فإن كلاًّ من مهارات التفكير الناقد ومهارات التفكير الصغرى تشكِّل اللبنات الأساسية لاستراتيجيات التفكير.

اتجاه لا يفرِّق بين التفكير الناقد والاستدلال، ويقسم مهارات التفكير الناقد إلى ثلاثة أنواع: استقرائية، واستنباطية، وتقييمية (1991Udall & Daniels,)، وهكذا يتضح أن الخلاف بين (أودل) و(دانيلز) وبين تصنيف (باير) لمفهومي التفكير الناقد والاستدلال، ينحصر في المكون الثالث للتصنيفين، وهو التفكير التقييمي في الأول، والاستدلال التمثيلي في الثاني.

الاستدلال واللغة:

ترتبط عملية الاستدلال ارتباطًا وثيقًا باللغة، وقد يصعب التمييز أحيانًا بين القصور في القدرة على الاستدلال والقصور في استخدام اللغة وفهمها؛ بل إن هناك مَن يرى بأن اللغة هي الداء والدواء بالنسبة للقدرة على الاستدلال؛ ذلك أن الغموض وعدم الدقة في طريقة استخدام الكلمات عاملان مؤثِّران في قدرة الفرد على الاستدلال، وليس هناك أدنى شكٍّ بأن الكلمة الواحدة قد تستخدم للدلالة على معان مختلفة وَفْقًا لسياقِ الكلام أو غاية المتكلم، وهكذا فمِن غير المحتمل أن يكون الشخص قادرًا على الاستدلال بصورة صحيحة ما لم يكن متمكنًا في استخدام اللغة بمنتهى الدقة والحذر.

وإذا نظرنا إلى التراكيب اللغوية الآتية يمكن أن نلاحظ مدى أهمية الإتقان اللغوي في فهم مضمون التركيب اللغوي ومغزاه:

• سندويتش فلافل أفضل من لا شيء.

• لا شيء أفضل من سندويتش فلافل.

إن التركيب اللغوي الأول يعني، ببساطة: سندويتش فلافل أفضل من العدم؛ أي: إذا لم يتوافر بديل آخر للأكل، فلا بأس من تناول سندويتش الفلافل.

أما التركيب اللغوي الثاني، فقد يُفهَم بطريقتين:

إحداهما: أن سندويتش الفلافل مفضل عند المتكلم على أي طعام آخر، وثانيهما: أن العدم أفضل من سندويتش الفلافل، أو أن المتكلم يفضل جميع أنواع الطعام على سندويتش الفلافل.

الاستدلال والمعرفة:

ليس من شك في أن المعرفة عامل مهم في عملية الاستدلال، ويشكل المخزون المعرفي للإنسان رصيدًا يمكن الاستفادة منه في تقييم وبناء مكونات الحجة المنطقية، التي هي عبارة عن مقدِّمة كبرى، ومقدمة صغرى، ونتيجة؛ مثل:

مقدمة كبرى: جميع الطيور تستطيع الطيران.

مقدمة صغرى: النعامة لا تستطيع الطيران.

نتيجة: إذًا النعامة ليست طيرًا.

إن القواعد الصورية المنطقية متوافرة في هذا المثال؛ وبالتالي ليس بالإمكان رفض النتيجة التي تم التوصل إليها على أساس المنطق، ولكن كما يلاحظ تتضمن المقدمة الكبرى تعميمًا لا يصمد أمام الحقائق؛ لأن بعض الطيور لا تستطيع الطيران، وهنا تلعب المعرفة دورًا مهمًّا في الحكم على مكونات الحجة المنطقية إذا كانت الإجابة تحتاج إلى مخزون معرفي، وهناك حاجة في المثال أعلاه للإجابة عن الأسئلة الآتية:

• هل حقًّا تستطيع الطيور جميعُها الطيران؟

• هل النعامة طائر؟ وهل النعامة لا تستطيع الطيران؟

ومن جهة أخرى يواجه الإنسان في حياتِه اليومية مواقف كثيرةً تتضمن القيام بمناظرة أو حوار مع الذات، ويستخدم معارفه في تكوين الحُجج المنطقية والحجج المنطقية المضادة؛ حتى يتمكن من الوصول إلى نتائج وقرارات لفهم الموقف أو حل المشكلة التي تواجهه، وبالقدر الذي تتوافر لديه معارف مرتبطة بالموقف، يستطيع الاطمئنان إلى خياراته الملائمة له.

الاستدلال والمنطق:

ينصبُّ الاهتمام في علم المنطق على عمليات الاستدلال وَفْق القواعد المنطقية؛ ذلك أن علم المنطق هو، في الأصل، علم الاستدلال الصائب، ويميز علماء المنطق بين ثلاثة أنواع من الاستدلال، هي: الاستنباط، والاستقراء، والتمثيل:

الاستدلال الاستنباطي (Deductive Reasoning):

ويعني الاستدلال من العام إلى الخاص.

مثال:

جميع الفلزات تتمدد بالحرارة.

الحديد فلز.

إذًا يتمدد الحديد بالحرارة.

الاستدلال الاستقرائي (Inductive Reasoning):

ويعني الاستدلال من الخاص إلى العام.

مثال:

الحديد معدِن ويتمدَّد بالحرارة، النُّحاس معدِن ويتمدد بالحرارة، الألمنيوم معدن ويتمدد بالحرارة.

إذًا كل المعادن تتمدد بالحرارة.

الاستدلال التمثيلي (Analogical Reasoning):

وهو استدلال من الخاص إلى الخاص، ويتم عن طريق إجراء مماثلةٍ بين شيئين أو حالتين بينهما أوجه شبه، ويترتب على عملية المماثلة الوصول إلى نتيجة مفادها نقل حكم أو وصف من أحد المتماثلين إلى الآخر.

وليس هناك شك في أن فهم قواعد المنطق الضروري ومبادئه، والألفة ببعض مصطلحات المنطق، ومعرفة أنواع الاستدلال المنطقي - تمثِّلُ عوامل مُعِينة ومفيدة لممارسة الاستدلال بفاعلية، ولكن ينبغي ملاحظة أن المنطق ليس إلا مظهرًا واحدًا من مظاهر الاستدلال؛ لأن الاستدلال بمعناه الواسع لا يقتصر على استخدام قواعد المنطق وتحري المغالطات المنطقية؛ بل يتعدى ذلك إلى أشكال عديدة، تستخدم فيها قواعد علم النفس المعرفي والتطوري، وعلم نفس التعلم، ومعالجة المعلومات، وغيرها، كما أن المنطق لا يقدم الكثير في موضوع الكشف عن صحة الأشياء والادعاءات أو زيفها؛ بينما الاستدلال مَعنِي بالتوصل إلى الحقيقة، عن طريق توليد الفرضيات وفحصها، وموازنة البدائل، وهي عمليات يلعب الإبداع دورًا جوهريًّا فيها؛ لأنها تتجاوز ما هو متاح من معلومات.

إن المنطق يمثِّل أحد الجوانب المهمة في عملية الاستدلال، ولكن معرفة القواعد الصورية للمنطق، في حد ذاتها، لا تعدُّ ضمانة للوصول إلى استدلال صحيح.

الاستدلال والحقيقة:

يميز نيكرسون (Nickerson, 1986) بين الحقيقة والاعتقاد والرأي، فالحقيقة، في جوهرها، عبارة عن اعتقادات، تجمعت لدعمه أدلة صحيحة، تجعل ثقتنا كبيرة في كونه حقيقة؛ أما الاعتقاد فلم تَثبُت صحته، ويمكن الافتراض بأنه إما أن يكون صحيحًا وإما أن يكون خطأً، وفي المقابل ينحصر الرأي في الأمور المرتبطة بالتفضيلات والقيم والأذواق الشخصية، ولا يخضع للاستدلال أو معايير الصحة والخطأ.

ويرتبط الاستدلال الصائب ارتباطًا وثيقًا بالحقيقة، بالرغم من أن الاستدلال لا يؤدي دائمًا إلى الحقيقة، ومن أجل ذلك يقتضي الاستدلال الصائب من جانب الفرد وجود اتجاه محدَّد لديه نحو الحقيقة، يرتكز ضمنيًّا على مجموعة أسس هي أشبه ما تكون بالمسلَّمات؛ ومن أهم هذه الأسس ما يأتي:

• الالتزام بالحقيقة طالما كان بالإمكان إثباتها.

• الرغبة في تعديل المعتقدات والحقائق عند توافر أدلة تستوجب التعديل.

• التسليم بأن حالة اليقين نادرة، وأن الحاجة لإعادة فحص المعتقدات، بما فيها المعتقدات الراسخة، من وقت لآخر قائمة ومشروعة، قد ثبت زيفه لدى حضارة أخرى أو في عصر آخر.

• الاستدلال الصائب لا يقود بالضرورة إلى الحقيقة.

• الاستدلال الصائب يجعل الفرد أكثر اقترابًا من الحقائق.