معرفة الرجال من سمات القيادة الناجحة
إن من مسلمّات الإدارة الناجحة القدرة على الاستفادة من مكامن التفوق والتميز لدى المرءوسين بأفضل ما يمكن، ولكي يتحقق هذا كان لزامًا على القادة والرؤساء ضرورة معرفة وتمييز هذه المكامن لدى مرءوسيهم، وهو ما نعنيه بمعرفة الرجال.
إن توفر الرجال (أولًا)، والقدرة على توظيفهم لخدمة أهدافٍ رسمها لهم القادة (ثانيًا) لهما طرفًا المعادلة الإدارية التي ينتج عنها نجاح القادة، وكلما أحسن القادة الاستفادة من هذا التوظيف كلما نتج عنه تفوق ونجاح.
ومن هنا اعتبرت القيادة فنًا صعبًا؛ لارتباطها بالعنصر البشري، الذي يصعب تحليله وفهمه ببساطة كما هو الحال في العناصر الكيميائية الطبيعية.
ومن خلال هذا التصور يمكننا فهم صورة العلاقة بين نجاح القادة وبين قدرتهم على معرفة الرجال.
وينبغي ألَّا ننسى أن نجاح القادة ينتج عنه تحقيق لأهدافهم في الواقع.
كتبت إحدى أكبر المنظمات العالمية هذه الكلمات لتعبر عن سر نجاحها وتفوقها: «لقد حققنا هذا النجاح من خلال تنظيم إداري وجو عمل يساعدان على اجتذاب أفضل الكوادر البشرية، وتطوير وشحذ المواهب الفردية...».
ونلحظ في هذه الكلمات عنصرين أساسين: العنصر الأول: اجتذاب أفضل الكوادر البشرية.
العنصر الثاني: تطوير وشحذ المواهب الفردية.
ولا شك أنه ليس من الممكن تحقيق هذين العنصرين دون القدرة على معرفة الرجال.
ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أرأف أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقضاهم علي، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أمينًا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح»(1).
إن من أسرار العظمة التي تمتع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قدرته على معرفة رجاله، وحسن توظيفه لهم، كُلًا حسب قدرته ومواهبه، يقول أحد المفكرين: «إن معرفة الرجال بعمق من أدق أعمال الرئيس وأكثرها تأثيرًا، إنها ينبوع القوة التي يملكها، إنها سر الرؤساء العظام»(2).
ومن المفيد هنا أن نحلل عظم الفائدة التي يجنيها القائد المتمكن من معرفة الرجال.
أولًا: إن معرفة الرجال هي الطريق الأمثل لحسن توظيفهم، ووضعهم في المكان الذي يمكنهم أن يقدموا أفضل ما يكون في أنفسهم لخدمة أهدافهم.
ثانيًا: إن توظيف المرءوسين في مكانهم المناسب هو الحافز الحقيقي لإيجاد روح الاستمرارية والعطاء للأفراد؛ حيث يحقق الأفراد ذواتهم بتميّزهم وتفوقهم من خلال إمكاناتهم الحقيقية.
ثالثًا: إن القدرة على الارتقاء والإبداع لمن وضعوا في المكان المناسب نتيجة إمكاناتهم هو ما أثبته الواقع والتجارب الحية؛ مما ينعكس على تمييز التنظيم الذي يسير خلف القائد الناجح.
رابعًا: إن الإرباك وقلة الخبرة، التي يظهرها أولئك الذين لم يتمكن المسئولون من حسن توظيفهم لقلة معرفتهم بحقيقتهم، هي إحدى السلبيات التي يمكن القائد الناجح تفاديها نتيجة معرفته برجاله.
خامسًا: إن سد الثغرات بالمرءوسين الأكفاء، الذين أحسن القائد انتقاءهم، يُمَكِّنه من التفرغ والمراقبة عن كثب لمن هم بحاجة إلى توجيه، وبهذا يستطيع من خلال معرفته للرجال سد الثغرات، والارتقاء بالآخرين دون عناء.
سادسًا: إن درجة سيطرة القائد والرئيس على رجاله عملية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمدى تفهمه لشخصياتهم، ونفسياتهم، وقدراتهم؛ ولذلك فهو لا يستطيع أن يقدر حجم المهام، أو مستوى التكليف، أو حدود الاستطاعة التي إذا تجاوزها تعرض الانضباط للمخالفة دون أن يتمكن من معرفتهم حق المعرفة.
سابعًا: إن الاستعداد الذي يبديه المرءوسون، بالتعايش وبث الآلام وطلب المساعدة، لأولئك الرؤساء الذين استطاعوا فهمهم ومعرفتهم لهو أكبر بكثير مما يبديه من لم يستطع رؤساؤهم تخمين ما يدور في رءوس من يقودونهم، ومن هنا يستطيع القادة احتواء غيرهم بمعرفة أسرارهم وآلامهم، والعمل على القيام بدور الموجه والناصح لهم، بعد أن امتلكوا قلوب مرءوسيهم.
ولنقف وقفة مع هذا النص من واقع الخليفة الثاني: «كان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشاور أفاضل الرجال في تعيين كبار موظفيه، فقال لهم يومًا: أشيروا علي ودلوني على رجل أستعمله في أمر قد دهمني، فقولوا ما عندكم، فإنني أريد رجلًا إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم، وإذا كان فيهم وهو أميرهم كان كأنه واحد منهم، فقالوا: نرى لهذه الصفة الربيع بن زياد الحارثي، فأحضره وولاه.
فوُفِّق في عمله، وقام فيه بما أربى على رجاء عمر وزاد عليه، فشكر عمر لمن أشاروا عليه بولاية الربيع»(3).
والناظر في هذا النص من خلال ما سبق وقدمناه، من أهمية معرفة الرجال، يلمس الجوانب التالية:
1- فهم عمر رضي الله عنه لأهمية اختيار الرجال ومعرفتهم، وذلك من خلال تشاوره مع أفاضل الرجال في تعيين كبار موظفيه.
2- حرصه رضي الله عنه على وضع الرجل المناسب في المكان المناسب؛ فقد بَيَّن لمن استشارهم صفات الرجل الذي يريد؛ حتى يتمكنوا من اختيار من يوافق هذه الصفات ليحقق هدف عمر.
3- حكمته رضي الله عنه في معرفة الرجال من خلال مواقفهم وتصرفاتهم، لا من خلال أقوالهم وما يقال عنهم، فقد استطاع أن يجسد في نظر مستشاريه مثال الرجل الحي الذي يريده.
وأخيرًا، بهذه المعاني المتقدمة تستطيع أن تفهم سر المواقف التالية:
1- يحكم على المرءوسين بالذكاء والإنتاجية في مكان ما، ثم يكتشف بأن لديهم طاقات كامنة من رئيس جديد.
2- يصف أحد الرؤوساء مرءوسًا بأنه جيد ويصفه الآخر بأنه سيء.
3- يهمل المرءوس لأنه لا يصلح لشيء البتة، ثم يكتشف بأن لديه طاقات كامنة من رئيس جديد.
4- يبذل المرءوس ويعطي عطاءً أفضل عند رئيسه الجديد أكثر مما كان يفعل مع رئيسه القديم.
وليس هناك من تبرير جيد إلا أن أحدهم أحسن القيادة بمعرفته مرءوسيه، والآخر فشل في ذلك.
_______________
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة (1224).
(2) فن القيادة ص32.
(3) أقوال في الإدارة، إبراهيم عبد الله المنيف، دار العلوم للطباعة والنشر، 1403هـ.
المصدر: مجلة البيان، العدد:53، ص30.