logo

متابعة الإمام بواسطة وسائل الاتصال


بتاريخ : الخميس ، 19 شوّال ، 1441 الموافق 11 يونيو 2020
متابعة الإمام بواسطة وسائل الاتصال

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فإن أحكام الصلاة، ومنها أحكام الإمام والمأموم قد بينت في الفقه الإسلامي بيانا شافيا، ومن ضمن ما تكلم عليه الفقهاء في هذا الباب أحكام الاقتداء بالإمام مع وجود حائل يمنع رؤية الإمام، ومن وراءه، من جدار أو باب أو غيره، أو متابعته مع وجود نهر أو طريق بينهما، أو مع بعد في المسافة بينه وبينهم، ولو كانوا يرونه أو يسمعون صوته، بواسطة ميكروفون، أو مذياع، أو متابعته عن طريق شاشات مرئية، يرون فيها الإمام أو المؤتمين به، ونحو ذلك من أشكال المتابعة عن طريق وسائل الاتصال الحديثة.

وقد اختلف الفقهاء في هذه المسائل ونحوها على أقوال، ولهم فيها تفاصيل.

وما دامت المسألة تتعلق بالصلاة، عماد الدين، وتلك الشعيرة الأهم ضمن شعائر الإسلام، وهذا الركن الركين من أركانه؛ فإن من الأهمية بمكان تبين القول الراجح في حكم الائتمام والحالة هذه، لكي تصح للمسلم عبادته، ويسلم له دينه.

وقبل أن ننقل أقوال السادة الفقهاء لبيان مذاهبهم، نحصر بعض الصور الهامة، والمسائل محل النزاع التي ترتبت على خلافهم هذا، وهي:

•  الصلاة في الدور الثاني أو في سطح المسجد أو في ساحته، مع وجود سعة في صحن المسجد أو في الدور الأول.

•  صلاة المأموم بالطابق السفلى (أو في البدروم)، مقتديا بإمام في الطابق العلوى لا يراه ولا يرى من يراه.

•  الاقتداء بالإمام من وراء باب المسجد أو نحوه.

•  صلاة بعض المأمومين في غرفة ملحقة بالمسجد، واقتداء النساء بالإمام في غرف المساجد الخاصة بهن

•  الاقتداء بإمام المسجد في بيت مجاور للمسجد

•  الاقتداء بالإمام مع بعد المسافة بينه وبين المأموم، كما لو فصل بينهما نهر أو شارع عريض.

•  متابعة الإمام في المحلات وفي أماكن متباعدة مع فواصل كثيرة مكتفين بسماع الصوت.

•  الصلاة خلاف الإمام بواسطة المذياع، أو التلفاز.

تحرير محل النزاع:

اتفق الفقهاء على أن صلاة الجماعة سميت بهذا الاسم لاجتماع المصلين في فعلها زماناً؛ فإذا صلى المأمومون مثلا، قبل دخول وقت الصلاة في حقهم، خلف إمام يصلي وقد دخل وقت الصلاة في حقه، لم تسمّ جماعة، ولم تصح الصلاة .

واتفقوا على أنه يشترط في الاقتداء علم المأموم بانتقالات الإمام, بسماع أو رؤية للإمام أو لبعض المقتدين به, لئلا يشتبه على المقتدي حال الإمام فلا يتمكن من متابعته, فلو جهل المأموم أفعال إمامه الظاهرة كالركوع والسجود, أو اشتبهت عليه لم تصح صلاته, لأن الاقتداء متابعة , ومع الجهل أو الاشتباه لا تمكن المتابعة .

قال النووي في المجموع: " يشترط لصحة الاقتداء علم المأموم بانتقالات الإمام سواء صليا في المسجد أو في غيره أو أحدهما فيه والآخر في غيره، وهذا مجمع عليه" .

واتفقوا على صحة صلاة المأمومين داخل المسجد، ولو مع عدم اتصال الصفوف، أو بعد المسافة، ما دام يمكنهم المتابعة لإمامهم، بسماع أو رؤية أو تبليغ.

واتفقوا على أن اتصال الصفوف في الصلاة يقوم مقام الاتحاد في المكان، بحيث لو امتلأ المسجد، وصلى المصلون خارجه في ساحة أو فناء أو شارع خارج المسجد، وقد اتصلت صفوفهم بصفوف المصلين داخله؛ فإن صلاتهم صحيحة، وثواب الجماعة حاصل لهم.

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما صلاة المأموم خلف الإمام خارج المسجد أو في المسجد وبينهما حائل، فإن كانت صفوف متصلة جاز باتفاق الأئمة" .

واختلفوا في اشتراط اتحاد المكان الذي تؤدى فيه الجماعة، من مسجد ونحوه؛ فمنهم من قال: لا يشترط ذلك، ويكتفى بإمكانية حصول المتابعة للإمام، ومنهم من قال: بل يشترط اتحاد المكان، وإنما يتسامح فيه مع اتصال الصفوف، للضرورة.

واختلفوا في رؤية المأمومين لإمامهم أو رؤيتهم من يراه ممن يأتمون به؛  فمنهم من اشترط الرؤية وقال: لا يصح الائتمام مع عدم رؤية الإمام أو من يرى الإمام، كما لا يكفي رؤيته عبر شاشات البث الحديثة ونحوها، ومنهم من اكتفى باشتراط السماع.

ومنهم من فرق بين ما إذا كان المؤتمون خارج المسجد، فلم يجوزوا الاقتداء، بخلاف ما إذا كانوا داخل المسجد، فيجوز، مع عدم رؤيته.

وسيأتي – قريبا - النقولات التي تبين هذا الاختلاف الكائن بينهم رحمهم الله.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:

 "وإن كان بينهما طريق أو نهر تجري فيه السفن، ففيه قولان معروفان هما روايتان عن أحمد: أحدهما: المنع، كقول أبي حنيفة. والثاني: الجواز: كقول الشافعي. وأما إذا كان بينهما حائل يمنع الرؤية والاستطراق ، ففيهما عدة أقوال في مذهب أحمد وغيره. قيل: يجوز، وقيل: لا يجوز، وقيل: يجوز في المسجد دون غيره، وقيل: يجوز مع الحاجة، ولا يجوز بدون الحاجة ..."  .

سبب الخلاف:

وإنما يرجع اختلافهم، فيما يظهر، إلى المعنى الذي أراده الشارع من الجماعة في الصلاة: هل يتحقق بمجرد إمكانية اقتداء المأموم بالإمام، وحصول الصلاة تامة الأركان من كليهما، أو أنه لابد مع ذلك من شروط أخرى كالاتحاد في المكان أو اتصال الصفوف أو رؤية الإمام، ونحو ذلك مما ذكرناه آنفا.

قال في نهاية المطلب في دراية المذهب (شافعي) (2/ 402):

(والذي يجب ضبطه قبل الخوض في التفاصيل، أن الشافعي لم يكتف في جواز الاقتداء بأن يكون المأموم بحيث يقف على حالات الإمام وانتقالاته، وقد نَقَلَ عن عطاء أنه اكتفى بهذا في الأماكن كلها. وبُلِّغت عن مالك أنه صار إلى ذلك، ولم يفصل بين بقعة وبقعة...، ولكن الشافعي راعى مع إمكان الوقوف على حالات الإمام أن يكون الإمام والمأموم بحيث يعدان مجتمعين في بقعة، وقال: من مقاصد الاقتداء حضور جَمْعٍ، واجتماعُ طائفةٍ على مكان عند الصلاة في الجماعة) .

أقوال ومذاهب الفقهاء:

وننقل هنا من نصوص الأئمة ما نتبين به مذاهبهم، وإن كان من الصعب بمكان أن نحيط بذلك، في هذا المقام الذي يقتضي الاختصار، وذلك لكثرة وتشعب وتفرع النقولات في هذه المسألة، لكننا نختار العبارات المختصرة والجامعة بقدر الإمكان، ومع شيء من التصرف.

مذهب الحنفية:

قال في منحة السلوك في شرح تحفة الملوك (ص: 170):

(قوله: "ومتى كان بين الإمام والمأموم حائل" أي مانع "يشتبه به حال الإمام عليه" أي على المأموم "منع الصحة" أي صحة صلاة المأموم، لاختلاف حال الإمام عليه، حتى إذا لم يشتبه: لا يمنع الصحة، والله أعلم).

وجاء في الجوهرة النيرة على مختصر القدوري (1/ 62):

(وإذا كان بين الإمام والمقتدي حائط منع الاقتداء إلا أن يكون الحائط قصيرا مقدار الذراع أو الذراعين، وأما إذا كان أكثر من ذلك، فإن كان فيه باب مفتوح أو نقب لو أراد أن يصل إلى الإمام أمكنه ذلك صح الاقتداء، وإن كان فيه باب مغلق أو نقب صغير لو أراد الوصول إلى الإمام لا يمكنه. قال الحلواني إذا لم يشتبه عليه حال إمامه صح اقتداؤه وإلا فلا، ولو اقتدى بالإمام في أقصى المسجد والإمام في المحراب جاز؛ لأن المسجد وإن اتسع فحكمه حكم بقعة واحدة، وإن كان في الصحراء إن كان بينه وبين إمامه أقل من ثلاثة أذرع صح الاقتداء وإلا فلا).

وجاء في الأصل المعروف بالمبسوط للشيباني (1/ 362):

(قلت: أرأيت من صلى الجمعة في الطاقات أو في السدة هل يجزيه ذلك؟ قال: نعم. قلت: أرأيت من صلى الجمعة في دار الصيارفة هل يجزيهم؟ قال: إن كان في الطاقات قوم يصلون وكانت الصفوف متصلة أجزاهم ذلك، وإن لم يكن فيها أحد يصلي فلا تجزيهم صلاتهم لأن بينهم وبين الإمام طريقا).

وفيه أيضا: (1/ 197):

(قلت: أرأيت رجلا صلى مع الإمام وبينه وبين الإمام حائط! قال يجزيه قلت فإن كان بينه وبين الإمام طريق يمر فيه الناس وهو عظيم قال لا يجزيه وعليه أن يستقبل الصلاة لأن هذا ليس مع الإمام. قلت: أرأيت إن كان في الطريق الذي بينه وبين الإمام مصلون يصلون بصلاة الإمام صفوفا متصلة! قال: صلاته وصلاة القوم تامة. قلت: من أين اختلف هذا والأول؟ قال: إذا كان الطريق ليس فيه من يصلي لم يجزه الصلاة، قال: لأنه قد جاء الأثر في ذلك أنه من كان بينه وبين الإمام نهر أو طريق فليس معه. وإذا كان في الطريق مصلون فليس بينهم وبين الإمام طريق. قلت: أرأيت إن كان بينهم وبين الإمام صف من نساء قدامهم يصلين بصلاة الإمام؟ قال: لا يجزيهم).

وفي مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح (ص: 293):

(و" يشترط أن "لا" يفصل بينهما "حائط" كبير "يشتبه معه العلم بانتقالات الإمام فإن لم يشتبه" العلم بانتقالات الإمام "لسماع أو رؤية" ولم يكن الوصول إليه "صح الاقتداء" به "في الصحيح"... وعلى هذا الافتداء في الأماكن المتصلة بالمسجد الحرام وأبوابها من خارجه صحيح إذا لم يشتبه حال الإمام عليهم بسماع أو رؤية ولم يتخلل إلا الجدار، كما ذكره شمس الأئمة فيمن صلى على سطح بيته المتصل بالمسجد أو في منزله بجنب المسجد وبينه وبين المسجد حائط مقتديا بإمام في المسجد وهو يسمع التكبير من الإمام أو من المكبر تجوز صلاته .. ويصح اقتداء الواقف على السطح بمن هو في البيت ولا يخفى عليه حاله. "و" يشترط "أن لا يكون الإمام راكبا والمقتدي راجلا" أو بالقلب "أو راكبا" دابة "غير دابة إمامه" لاختلاف المكان وإذا كان على دابة إمامه صح الاقتداء لاتحاد المكان "و" يشترط "أن لا يكون" المقتدي "في سفينة والإمام في" سفينة "أخرى غير مقترنة بها" لأنهما كالدابتين. وإذا اقترنتا صح للاتحاد الحكمي).

وفي حاشية الطحطاوي على المراقي (ص: 293):

(ومصلى العيد كالمسجد. وجعل في النوازل والخلاصة والخانية: مصلى الجنازة مثل المسجد أيضا. وفناء المسجد له حكم المسجد يجوز الاقتداء فيه وإن لم تكن الصفوف متصلة).

وقال في البحر الرائق شرح كنز الدقائق (1/ 379):

(ولو كان صف من النساء بين الإمام والرجال لا يصح اقتداء الرجال بالإمام ويجعل حائلا، ولو كان في صف الرجال ثنتان من النساء تفسد صلاة رجل عن يمينهما وصلاة رجل عن يسارهما وصلاة رجلين خلفهما فقط، ولو كان ثلاثة تفسد صلاة ثلاثة ثلاثة خلفهن إلى آخر الصفوف وواحد عن أيمانهن وواحد عن يسارهن؛ لأن الثلاثة جمع صحيح فصار كالصف فيمنع صحة الاقتداء في حق من صرن حائلات بينه وبين إمامه).

وفيه أيضا (1/ 378):

(وقيد باتحاد المكان؛ لأنه لو اختلف فلا فساد سواء كان هناك حائل أو لا، ولهذا قال في السراج الوهاج: لو كان على الدكان أو الحائط وهو قدر قامة وهي على الأرض لا تفسد لعدم اتحاد المكان، وهكذا في الكافي، قال في النوازل: قوم صلوا على ظهر ظلة في المسجد وبحذائهم من تحتهم نساء أجزأتهم صلاتهم لعدم اتحاد المكان، بخلاف ما إذا كان قدامهم نساء فإنها فاسدة؛ لأنه تخلل بينهم وبين الإمام صف من النساء وهو مانع من الاقتداء).

وخلاصة مذهب الحنفية في باب الاقتداء:

1. يشترط أن لا يفصل بين الإمام والمأموم نهر أو طريق يسع فيه صفين أو أكثر في غير المسجد، أما في المسجد فلا مانع من اتساع الفاصل لأن المسجد كله بقعة واحدة.

2. يشترط أن لا يفصل بين الإمام والمأموم حائط كبير يؤدي إلى اشتباه حال الإمام على المأموم، أما إذا لم يشتبه حال الإمام على المأموم لسماعه أو رؤيته فلا يمنع الجدار من صحة الاقتداء.

3. كل من مصلى العيد، ومصلى الجنازة، وفناء المسجد له حكم المسجد يجوز الاقتداء فيه وإن لم تكن الصفوف متصلة. عند الأكثر.

4. يشترط لصحة الاقتداء: أن لا يفصل بين الإمام والمقتدي صف من النساء، وذلك مع اتحاد المكان .

المذهب المالكي:

جاء في الإشراف على نكت مسائل الخلاف (1/ 301):

 (تجوز الصلاة في غير الجمعة  في دور محجورة بصلاة الإمام إذا كانوا يرونه ويسمعون التكبير إمّا من بابها أو من كوّاها أو غير ذلك... لأن هذا الحائل إذا لم يمنع لم يقدح في الائتمام به، كما لو اتصلت الصفوف).

وفيه أيضا (1/ 301):

(إذا صلوا بصلاة الإمام وبينهم نهر أو طريق قريب لا يمنعهم رؤية الصفوف وسماع التكبير جاز ولم يمنع ذلك الائتمام به. وقال أبو حنيفة لا يجوز ذلك إلا أن تكون الصفوف متصلة. وقال الشافعي: إن كان بينهم وبين الإمام أو الصفوف ثلاثمائة ذراع جاز وإن كان أكثر لم يجز). 

وفي المدونة: (1/ 232):

(إن كان الطريق بينهما فصلى في تلك الأفنية بصلاة الإِمام ولم تتصل الصفوف إلى تلك الأفنية فصلاته تامة. قال: وإن صلى رجل في الطريق وفي الطريق أرواث الدواب وأبوالها؟ قال مالك: صلاته تامة، ولم يزل الناس يصلون في الطريق من ضيق المساجد وفيها أرواث الدواب وأبوالها. قلت: وكذلك قول مالك في جميع الصلوات إذا ضاق المسجد بأهله).

وفي شرح الزرقاني على مختصر خليل وحاشية البناني (2/ 36):

(اللخمي: إذا أراد من في الديار التي بقرب المسجد أن يصلوا بصلاة إمام المسجد جاز ذلك إذا كان إمام المسجد في قبلتهم يسمعونه ويرونه، ويكره إذا كان على بعد يرونه ولا يسمعونه لأن صلاتهم معه على التخمين والتقدير، وكذلك إذا كانوا على قرب يسمعونه ولا يرونه لحائل بينهم أو لأنه ليس على قبلتهم لأنهم لا يدرون ما يحدث عليه، وقد يذهب عليهم علم الركعة التي هو فيها فإن نزل جميع ذلك مضت وأجزأتهم صلاتهم).

وفي التبصرة للخمي (2/ 569):

(.. وأما الصلاة في الديار التي حول المسجد، فقال مالك: لا تصلى فيها وإن أذن أهلها، وقال ابن القاسم عند ابن مزين: فإن فعل فعليه الإعادة وإن ذهب الوقت، وقال ابن نافع: يكره أن يتعمد ذلك إذا لم تتصل الصفوف، وإن امتلأ المسجد والأفنية واتصلت الصفوف، فلا بأس بذلك).

وخلاصة مذهب المالكية:

1. إذا كان المأمومون داخل المسجد، في غرفة محجورة، أو يحول بينهم وبين الإمام جدار،  فإنه لا يضر وجود هذا الحائل إذا لم يمنع الاقتداء، وكما لو اتصلت الصفوف.

2. يفرق بين صلاة الجمعة وغيرها من الصلوات في هذا الحكم.

3. إذا صلى المأمومون بصلاة الإمام وبينهم نهر أو طريق قريب لا يمنعهم رؤية الصفوف، أو سماع التكبير جاز، ولم يمنع ذلك الائتمام به.

4. لا تصح الصلاة في الديار التي حول المسجد، إذا لم تتصل الصفوف، وإن امتلأ المسجد والأفنية واتصلت الصفوف، فلا بأس بذلك .

المذهب الشافعي:

قال النووي في "المجموع" (4/309):

(يشترط أن لا تطول المسافة بين الإمام والمأمومين إذا صلوا في غير المسجد، وبه قال جماهير العلماء، وقدر الشافعي القرب بثلثمائة ذراع. وقال عطاء: يصح مطلقا وإن طالت المسافة ميلا وأكثر إذا علم صلاته).

وقال أيضا:

(لو صلى في دار أو نحوها بصلاة الإمام في المسجد، وحال بينهما حائل لم يصح عندنا، وبه قال أحمد. وقال مالك: تصح إلا في الجمعة. وقال أبو حنيفة: تصح مطلقا).

وجاء في نهاية المطلب في دراية المذهب (2/ 402):

 (ولا يعد من الجماعة أن يقف الإنسان في منزله المملوك، وهو يسمع أصوات المترجمين في المسجد، ويصلي بصلاة الإمام).

وفي المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي (1/ 190):

(فإن تباعدت الصفوف أو تباعد الصف الأول عن الإمام نظرت: فإن كان لا حائل بينهما وكانت الصلاة في المسجد وهو عالم بصلاة الإمام صحت الصلاة، لأن كل موضع من المسجد موضع الجماعة، وإن كان في غير المسجد فإن كان بينه وبين الإمام أو بينه وبين آخر صف مع الإمام مسافة بعيدة لم تصح صلاته، فإن كانت مسافة قريبة صحت صلاته وقدر الشافعي رحمه الله القريب بثلثمائة ذراع، والبعيد ما زاد على ذلك، لأن ذلك قريب في العادة وما زاد بعيد.

وهل هو تقريب أو تحديد؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه تحديد؛ فلو زاد على ذلك ذراع لم يجزه، والثاني: أنه تقريب فإن زاد ثلاثة أذرع جاز، وإن كان بينهما حائل نظرت: فإن كانت الصلاة في المسجد بأن كان أحدهما في المسجد والآخر على سطحه أو في بيت لم يضر، وإن كان في غير المسجد نظرت: فإن كان الحائل يمنع الاستطراق والمشاهدة لم تصح صلاته ... وإن كان بينهما حائل يمنع الاستطراق دون المشاهدة، كالشباك، ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، لأن بينهما حائلاً يمنع الاستطراق فأشبه الحائط، والثاني: يجوز، لأنه يشاهدهم فهو كما لو كان معهم.

وإن كان بين الإمام والمأموم نهر ففيه وجهان: قال أبو سعيد الاصطخري: لا يجوز لأن الماء يمنع الاستطراق فهو كالحائط، والمذهب: أنه يجوز لأن الماء لم يخلق للحائل، وإنما خلق للمنفعة، فلا يمنع الائتمام كالنار).

وفي البيان في مذهب الإمام الشافعي (2/ 439):

(فأما إذا صلى في علو الدار بصلاة الإمام في المسجد، قال الشافعي: "لم يجزئه بحال، وإن كانوا يرون من في الصحن؛ لأنها بائنة من المسجد، وليس بينهما قرار يمكن اتصال الصفوف به" ؛ لأن الصف لا يتصل إلى فوق، فإنما يتصل بالقرار.

وقال في الإفصاح: ومن كان على الصفا والمروة، أو على جبل أبي قبيس، يصلي بصلاة الإمام في المسجد، تصح صلاته، وإن كان أعلى منه؛ لأن ذلك متصل بالقرار، وقد يكون القرار مستعليًا، ومستفلًا، ومستويًا، وليس كذلك السطح؛ لأنه ليس من القرار، والصف لا يتصل.

وإن صلى رجل على سطح الدار بصلاة الإمام في الدار، أو في صحنه لم تصح صلاته؛ لأن بينهما حائلًا يمنع المشاهدة والاستطراق، والفرق بينه وبين المسجد: أن المسجد بني كله للصلاة، وسطحه منه، وليس كذلك الدار؛ لأن سطحها بني للحائل، ولم يبن للصلاة).

وفيه أيضا:

(إذا كان بين الإمام والمأموم شارع، أو طريق جازت صلاته، هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال أبو حنيفة: (الشارع والطريق يمنع الاقتداء)، إلا أن تتصل الصفوف).

وقال النووي في المجموع (2/207):

(حائط المسجد من داخله وخارجه له حكم المسجد في وجوب صيانته وتعظيم حرماته , وكذا سطحه , والبئر التي فيه , وكذا رحبته , وقد نص الشافعي والأصحاب رحمهم الله على صحة الاعتكاف في رحبته وسطحه وصحة صلاة المأموم فيهما مقتديا بمن في المسجد).

وخلاصة مذهب الشافعية:

1. لا يكفي في جواز الاقتداء أن يكون المأموم بحيث يقف على حالات الإمام وانتقالاته، بل يراعى مع ذلك أن يكون الإمام والمأموم بحيث يعدان مجتمعين في بقعة؛ إذ إن من مقاصد الاقتداء حضور جَمْعٍ، واجتماعُ طائفةٍ على مكان عند الصلاة في الجماعة.

2. لو صلى المأموم في دار أو نحوها بصلاة الإمام في المسجد، وحال بينهما حائل، لم تصح الصلاة.

3. لا يضر عدم اتصال الصفوف، ولا وجود مسافة بين المأموم والإمام داخل المسجد، ويضر ذلك خارج المسجد؛ فلا يصح الاقتداء، ولا تصح الصلاة مع عدم اتصال الصفوف، ولا مع وجود مسافة كبيرة بين المأموم والإمام.

4. إن كان بين الإمام والمأموم نهر أو شارع أو طريق لم يمنع ذلك من صحة الاقتداء.

مذهب الحنابلة:

جاء في المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل (1/ 119):

(ومن سمع التكبير ولم ير الإمام ولا من وراءه لم يصح أن يأتم به إلا في المسجد. وعنه: لا يصح بحال. وعنه: تصح بكل حال).

وجاء في شرح منتهى الإرادات (1/ 282):

(يصح اقتداء من يمكنه) الاقتداء بإمامه، أي: متابعته، ولو كان بينهما أكثر من ثلاثمائة ذراع (ولو لم يكن) مقتد (بالمسجد) بأن كان خارجه والإمام بالمسجد،، أو خارجه أيضا (إذا رأى) المقتدي (الإمام، أو رأى من وراءه) أي: الإمام (ولو) كانت رؤيته (في بعضها) أي: الصلاة (، أو) كانت (من شباك) لتمكنه إذن من متابعته،

ولا يكتفي إذن بسماع التكبير، (أو كانا) أي: الإمام والمأموم (به) أي: المسجد (ولو لم يره) أي: المأموم (ولا) رأى (من وراءه) ، أو كان بينهما حائل (إذا سمع) مأموم (التكبير) لأنه يتمكن من متابعته، والمسجد معه للاجتماع.

(لا) يكفي سماع التكبير بلا رؤية له، أو لمن وراءه (إن كان المأموم وحده خارجه) أي: المسجد الذي به إمامه، لأنه ليس معدا للاقتداء وشمل كلامه: ما إذا كان المأموم بمسجد آخر غير الذي به الإمام، فلا بد من رؤيته الإمام، أو من وراءه.

ولا يكفي سماع التكبير. (وإن كان بينهما) أي: الإمام والمأموم (نهر تجري فيه السفن) لم تصح، فإن لم تجر فيه صحت (أو) كان بينهما (طريق ولم تتصل الصفوف، حيث صحت) تلك الصلاة (فيه) أي: الطريق، كجمعة وعيد وجنازة ونحوها لضرورة لم تصح للآثار.

فإن اتصلت الصفوف حيث صحت فيه صحت (أو كان) المأموم (في غير شدة خوف بسفينة وإمامه في أخرى) غير مقرونة بها (لم يصح) الاقتداء ; لأن الماء طريق وليست الصفوف متصلة فإن كان في شدة خوف وأمكن الاقتداء، صح للعذر.اهـ.

وفي الكافي في فقه الإمام أحمد (1/ 302):

يجوز أن يأتم بالإمام من في المسجد، وإن تباعد؛ لأن المسجد كله موضع للجماعة، فإن كان بينهما حائل يمنع المشاهدة، وسماع التكبير لم يصح الائتمام به، لتعذر اتباعه، وإن منع المشاهدة دون السماع؛ ففيه وجهان: أصحها صحة الصلاة؛ لأن أحمد قال في المنبر: إذا قطع الصف لم يضر، ولأنهم في موضع الجماعة، ويمكنهم الاقتداء به لسماع التكبير، فأشبه المشاهد.

والثاني: لا يصح؛ لأن عائشة قالت لنساء كن يصلين في حجرتها: لا تصلين بصلاة الإمام، فإنكن دونه في حجاب، والحجاب موجود هاهنا، فإن كان المأموم في غير المسجد، وبينهما حائل يمنع رؤية الإمام، أو من وراءه لم تصح الصلاة؛ لحديث عائشة، وقال ابن حامد: يمنع في الفرض، وفي النافلة روايتان.

وعن أحمد في رجل يصلي خارج المسجد يوم الجمعة، وأبوابه مغلقة أرجو أن لا يكون به بأس، ويشترط اتصال الصفوف، وهو أن لا يكون بينهما بعد كثير لم تجر العادة بمثله، واشترط أصحابنا أن لا يكون بينهما نهر تجري فيه السفن، ولا طريق، والصحيح أن هذا لا يمنع؛ لأنه لا يمنع المتابعة، إلا أن يكون عريضًا يمنع الاتصال.

وقال في مطالب أولي النهى (2/234):

(ومن المسجد: ظهره, أي: سطحه , ومنه: رحبته المحوطة. قال القاضي: إن كان عليها حائط وباب, فهي كالمسجد, لأنها معه, وتابعة له, وإن لم تكن محوطة, لم يثبت لها حكم المسجد. ومنه: منارته التي هي أو بابها بالمسجد، فإن كانت هي أو بابها خارجة، ولو قريبة، وخرج المعتكف إليها للأذان، بطل اعتكافه).

وخلاصة المذهب الحنبلي:

أولا: إذا كان المأموم في المسجد:

1. يجوز للمأموم أن يأتم بالإمام داخل المسجد، مهما تباعد عنه، لأنَّ المسجد كله موضع للجماعة، وذلك مالم يوجد حائل يمنع المشاهدة وسماع التكبير.

2. إن كان الحائلِ يمنع المشاهدة دون السماع ففيه وجهان، أصحهما: أن الصلاة صحيحة، لأنهم في موضع الجماعة ويمكنهم الاقتداء به لسماع التكبير، والثاني: أنه لا يصح الائتمام به.

ثانيا: إذا كان المأموم خارج المسجد:

1. إذا كان بينه وبينه وبين الإمام حائل يمنعه رؤيته أو رؤية من وراءه من المصلين لم تصح صلاته، لحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم، وعن الإمام أحمد في رجل يصلي خارج المسجد يوم الجمعة وأبوابه مغلقة قال: أرجو ان لا يكون به بأس.

2. يشترط اتصال الصفوف، وهو أن لا يكون بينهما نهر تجري فيه السفن ولا طريق عريض بحيث يمنع اتصال الصفوف .

عود على بدء:

نستطيع أن نخلص مما سبق - وبخصوص مسألة اقتداء المأمومين بالإمام مع وجود حائل - إلى أنه إذا كان الحائل الفاصل كنهر وطريق وبئر، فالمكان ليس متحداً, ولهذا اختلف العلماء - رحمهم الله تعالى- في جواز المتابعة مع هذا الفاصل على قولين:

القول الأول: أن اقتداء المأموم وراء الإمام مع هذا الحائل صحيح ما دام يمكنه المتابعة بسماع صوت الإمام، أو مشاهدته أو مشاهدة المأمومين الذين وراءه, قال بهذا مالك - وقيد النهر بكونه صغيراً- والشافعي ورواية عن أحمد.

القول الثاني: أن هذا الحائل – مع عدم اتصال الصفوف - يمنع صحة الائتمام، وقال بهذا الأحناف، ورواية عن أحمد .

وفيما يلي نعرض لأدلة كل اتجاه، وما نوقش منها، لنخلص إلى الراجح من أقوال أهل العلم في هذه المسألة.

الأدلة والمناقشة:

استدل الفريق الأول بما يلي:

1- ما صح عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل في حجرته وجدار الحجرة قصير فرأى الناس شخص النبي صلى الله عليه وسلم فقام أناس يصلون بصلاته) .

2- روي أن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم- كن يصلين في بيوتهن بصلاة أهل المسجد .

3- أن شرط الاقتداء: الرؤية وسماع الصوت، وقد حصلا، وإن فصل طريق أو نهر صغير، دليل ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه)، فعلى أي وجه أمكن ذلك، يجب أن يجوز.

4- لأن مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ضاق على الناس كانوا يصلون بالقرب منه وحيث يمكنهم معرفة أفعال الإمام، ولا ينكر ذلك أحد، واستمر إلى أن زاد عمر - رضي الله عنه - فيه .

5- وقد روي "أن أنسًا كان يصلي في بيوت حميد بن عبد الرحمن بن عوف بصلاة الإمام في المسجد، وبينهما شارع". ولا مخالف له؛ ولأنه من الإمام على مسافة قريبة لا حائل بينهما، فأشبه إذا لم يكن بينهما طريق .

6- لأن الطريق تصح الصلاة فيها فلم يكن كونها بين الإمام والمأموم مانعاً من الائتمام به كغير الطريق.

7- ولأنه لو كان الطريق حائلا يمنع الائتمام لم تصح الجمع في الصحراء، لأن جميعها طرق وقد ثبت بالإجماع أن صلاة الجماعة لو اتصلت في الصحراء أميالا جاز، وفي ذلك دليل على بطلان مذهب من قال إن الطريق حائل .

8- وقد قال البخاري في صحيحه " باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة، وقال الحسن: لا بأس أن تصلى وبينك وبينه نهر، وقال أبو مجلز: يأتم الإمام وإن كان بينهما طريق أو جدار إذا سمع تكبير الإمام ".

واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:

1- أن سماع الصوت قليل، والصفوف لم تتصل، والاقتداء في هذه الحالة غير منضبط.

2- ما ورد عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت لنساء كنَّ يصلين في حجرتها: (لا تصلين بصلاة الإمام فإنكنَّ دونه في حجاب) . والحجاب موجود هاهنا.

3- حديث رووه مرفوعا: "من كان بينه وبين الإمام طريق فليس مع الإمام" .

المناقشة والترجيح:

- نوقش تقدير الشافعي بما قدر به بأنه دعوى لا فصل بينه وبين من عكسها فزاد فيها أو نقص منها. وبأن العبرة بسماعهم صوت المكبر، وذلك يختلف بحسب قرب الموضع وبعده فلم يكن في ذلك حد أكثر من إمكانه وتعذره .

- كما نوقش أصحاب القول الثاني في استدلالهم بأثر عائشة، أنه ضعيف، لا تقوم به حجة.

أما الحديث فقد قال الألباني:  (لم أجده) .

وقال النووي عنه في المجموع شرح المهذب (4/ 309): "هذا حديث باطل لا أصل له، وإنما يروى عن عمر من رواية ليث بن أبي سليم عن تميم وليث ضعيف وتميم مجهول".

وعليه فلا يمكن أن يعتمد عليه في المسألة.

وبعد؛ فالذي يظهر للباحث، بعدما سبق عرضه، ما يلي:

أولا: يصح اقتداء المأموم بالإمام إذا كان في المسجد مطلقا، سواء رأى الإمام أو من وراءه، أم لم يرهما وسواء كان بينهما حائل أم لا إذا سمع التكبير.

يقول ابن عثيمين: "يجوز للمرأة، وللرجل أيضا: أن يصلي مع الجماعة في المسجد، وإن لم ير الإمام ولا المأمومين، إذا أمكن الاقتداء، فإذا كان الصوت يبلغ النساء في مكانهن من المسجد، ويمكنهن أن يقتدين بالإمام: فإنه يصح أن يصلين الجماعة مع الإمام؛ لأن المكان واحد، والاقتداء ممكن سوء كان عن طريق مكبر الصوت، أو عن طريق مباشر بصوت الإمام نفسه، أو بصوت المبلغ عنه. ولا يضر إذا كن لا يرين الإمام ولا المأمومين" .

وأفتت دار الإفتاء المصرية بصحة صلاة المأموم بطابق يخالف طابق الامام جائزة، وجاء في الفتوى:

(فالعبرة بعدم الاشتباه، ... وعلى هذا صح الاقتداء في المساكن المتصلة بالمسجد الحرام وأبوابها من خارجه إذا لم يشتبه حال الإمام عليهم لسماع أو رؤية ولم يتخلل إلا الجدار ... قال ابن عابدين وعلى هذا عمل الناس بمكة فإن الإمام يقف في مقام إبراهيم وبعض الناس وراء الكعبة من الجانب الآخر وبينهم وبين الإمام الكعبة ولم يمنعهم أحد عن ذلك. انتهى كلامه.

وعلى هذا تصح صلاة المأموم الذي بالطابق السفلى مقتديا بإمام في الطابق العلوي متى كان المأموم يعلم انتقالات الإمام

 غير أن انفراد الإمام في طابق والمأمومون في طابق آخر مكروه عند الحنفية فلو كان معه بعض المأمومين لم يكره) .

ثانيا: الأصل لصحة صلاة المأمومين خارج المسجد أنه يشترط فيه اتصال الصفوف, لأنه ليس محلاً للجماعة، ولكن يستثنى من ذلك حال الحاجة، ما دامت المتابعة حاصلة.

وعليه؛ فمن يصلي في مكان يكون بينه وبين الإمام حائل، من جدار أو باب أو غيره، ولا قدرة له على الوصول إلى المكان الذي فيه الإمام، لكنه يسمع صوته أو يراه، فإننا لا نستطيع القول ببطلان صلاته، لعدم الدليل على ذلك، كما لأن هذا المكان في حكم المتحد.

وهذا قريب مما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله، لما ذكر هذه المسألة؛ إذ يقول ابن تيمية: " وأما إذا كان بينهما حائل يمنع الرؤية والاستطراق، ففيهما عدة أقوال في مذهب أحمد وغيره. قيل: يجوز، وقيل: لا يجوز، وقيل: يجوز في المسجد دون غيره، وقيل: يجوز مع الحاجة، ولا يجوز بدون الحاجة، ولا ريب أن ذلك جائز مع الحاجة مطلقاً مثل أن تكون أبواب المسجد مغلقة، أو تكون المقصورة التي فيها الإمام مغلقة أو نحو ذلك، فهنا لو كانت الرؤية واجبة لسقطت للحاجة" .اهـ.

وقال الشيخ الألباني بعد تعليقه على حديث: "من كان بينه وبين الإمام طريق فليس مع الإمام"، بقوله: لم أجده: قلت: وقد روى ابن أبى شيبة فى المصنف (2/25/1 ـ 2) آثارًا في المنع من ذلك, وأخرى في الرخصة فيه وهذه أكثر وأصح , ولعل ذلك لعذر كضيق المسجد أو نحوه, وإلا فالواجب الصلاة في المسجد ووصل الصفوف .

وقال ابن عثيمين: "وإنما اشترط بعض العلماء رؤية الإمام أو المأمومين: فيما إذا كان الذي يصلي خارج المسجد، فإن الفقهاء يقولون: يصح اقتداء المأموم الذي خارج المسجد إن رأى الإمام أو المأمومين. على أن القول الراجح عندي: أنه لا يصح للمأموم أن يقتدي بالإمام في غير المسجد، وإن رأى الإمامُ المأمومَ، إذا كان في المسجد مكان يمكنه أن يصلي فيه. وذلك لأن المقصود بالجماعة الاتفاق في المكان، وفي الأفعال. أما لو امتلأ المسجد، وصار من كان خارج المسجد يصلي مع الإمام، ويمكنه المتابعة: فإن الراجح جواز متابعته للإمام، وائتمامه به؛ سواء رأى الإمام أم لم يره، إذا كانت الصفوف متصلة " . 

ثالثا: وأما متابعة الإمام في الحوانيت وأماكن متباعدة مع فواصل كثيرة كالشوارع ونحوها، ومع عدم اتصال الصفوف، وبدون حاجة، فلا يجوز، والأظهر عدم صحة الاقتداء في هذه الحالة.

 يقول الألباني في تكملة كلامه السابق: "فالواجب الصلاة في المسجد ووصل الصفوف، فما يفعله الناس اليوم في موسم الحج من الصلاة في الغرف التي حول المسجد الحرام مع عدم اتصال الصفوف فيه فلا أراه جائزاً بوجه من الوجوه".

رابعا: الاقتداء بالإمام بواسطة أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة، والمكان غير متحد، لا يصح قطعا، وذلك لعدم تحقق معنى الاجتماع الذي هو أصل الجماعة، ولأن الوقت قد لا يكون متحداً. هذا مع وجود احتمال انقطاع البث في أي لحظة، ما يعرض صلاة المقتدين إلى التشويش والفساد.

وقد جاء في فتاوى دار الافتاء المصرية: (صلاة الجمعة مع المذياع في غير المسجد الذي تذاع منه هذه الصلاة غير صحيحة شرعا باتفاق الأئمة الأربعة لاشتراط المسجد لصحة صلاة الجمعة عندهم جميعا كل بشروطه الخاصة في المسجد الذي تجوز اقامة صلاة الجمعة فيه).

خامسا: بالنسبة لتباعد الصفوف عن بعضها: إن كان ذلك في المسجد فالصلاة وإن كانت صحيحة، لأن اتصال الصفوف بالمسجد وتقاربها ليس لازماً، لكن يكره لهم ذلك لمخالفة السنة.

سادسا: تصح صلاة من صلى في فناء المسجد أو رحبته، ما داموا يرون المأمومين، أو بعضهم، أو يسمعون صوت الإمام، ويمكنهم المتابعة . وكذلك تصح صلاة من صلى خارج المسجد وأبواب المسجد مغلقة لسبب ما.

وذلك باعتبار أن كثيرا من الفقهاء قد جعلوا هذه الأفنية ملحقة بالمسجد، وتأخذ حكمه.

سابعا: يتوجه القول بجواز صحة اقتداء المأموم ولو من بيته إذا اتصلت الصفوف وكان بحيث يسمع الصلاة ويعرف حال إمامه، خاصة في حال الحاجة لذلك، أو مع وجود المشقة في الوصول للمسجد، كما في الصلاة خلف إمام المسجد الحرام في مواسم الحج والعمرة.

ثامنا: مصلى العيد ومصلى الجنائز يأخذان حكم المسجد فيما يتعلق بمسألة المكان واتصال الصفوف؛ لأن المقصود في كل حالة من هذه الحالات هو الاجتماع لأداء الصلاة وراء إمام واحد، وفي وقت واحد، وفي مكان واحد.

______________________ 
 1- وهذا يتصور مثلا في صلاة المأمومين خلف إمام يقتدون به عن طريق المذياع أو التلفاز، مع اختلاف البلدان.

 2- انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (6/ 26).

 3- المجموع شرح المهذب (4/ 309).

 4- مجموع الفتاوى (23/ 407).

 5- الاستطراق: اتخاذ المكان طريقا، (الاستطراق) بين الصفوف أي الذهاب بينها استفعال من الطريق. وفي القدوري من غير أن يستطرق نصيب الآخر أي يتخذه طريقا. معجم لغة الفقهاء (ص: 62)، المغرب في ترتيب المعرب (ص: 290).

 6- مجموع الفتاوى (23/ 407).

 7- وفيه أيضا: (ثم معتمد الشافعي في الشعائر المتعلقة بالصلاة رعاية الاتباع؛ فإن مبنى العبادات عليها وهذا حسن).

 8- انظر: فقه العبادات على المذهب الحنفية (ص: 110).

 9- وأما الجمعة، ففي التبصرة للخمي (2/ 569): الجمعة تصلى في الجامع، لا على ظهره، ولا خارجًا منه في الطريق، ولا في الديار، ولو كانت قريبة منه، واختلف فيمن صلاها في شيء من هذه المواضع الثلاث، هل تجزئه صلاته؟ فقال ابن القاسم في المدونة فيمن صلاها على ظهر المسجد: يعيد وإن ذهب الوقت. وقال مالك، ومطرف وابن الماجشون وأصبغ في ثمانية أبي زيد: صلاته جائزة ولا إعادة عليه. قال ابن الماجشون: لا بأس أن يصلي المؤذن على ظهر المسجد؛ لأنه موضع أذانه إذا قعد الإِمام على المنبر، وإذا صلى خارج المسجد في الطريق أجزأته صلاته عند ابن القاسم، ولم تجزه عند سحنون، وقال: صلاتهم باطلة، وكان يقول: إذا مر على الذين يجلسون للصلاة في الطريق: ضع رجلك على عنقه وجز، ويأمرهم بالدخول، ويقول: إن صليتم ها هنا فصلاتكم باطلة، وهذا أحسن، لقولهم: إن الجامع من شرط الجمعة، فمن تركه مختارًا، لم تجزئ، والصلاة على ظهر المسجد أخف وأولى أن تجزئ من الصلاة في الطريق؛ لأن لظهره من الحرمة ما لبطنه. اهـ.

 10- ولم أقف لفقهاء المالكية على كلام بين في حكم فناء المسجد ورحبته، ومصلى العيد والجنائز، هل هما في حكم المسجد أو لا؟ لكن في كلامهم عن شهود صلاة الجمعة، جاء في التاج والإكليل لمختصر خليل (2/ 558): (ابن شعبان: يصليها ذو رائحة ثوم بفناء المسجد لا رحابه. الباجي: نص أصحابنا أنه يكره دخول المسجد والجامع برائحة الثوم وعندي أن مصلى العيد والجنائز كذلك). اهـ. وفي كلامهم عن الاعتكاف، جاء في  حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 732): (وكره أكله بفناء المسجد أو رحبته) : التي زيدت لتوسعته، فإن أكل خارج ذلك بطل اعتكافه.اهـ.

 11- فقه العبادات على المذهب الحنبلي (ص: 265).

 12- انظر: توضيح الأحكام من بلوغ المرام (2/ 449).

  13- رواه البخاري (729).

 14- ذكره في المدونة (1/ 232)، فقال: قال سحنون عن ابن وهب عن سعيد بن أبي أيوب عن محمد بن عبد الرحمن: أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كن يصلين في بيوتهن بصلاة أهل المسجد. قال ابن وهب وأخبرني رجال من أهل العلم عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وعمر بن عبد العزيز وزيد بن أسلم وربيعة مثله، إلا أن عمر قال: ما لم تكن جمعة.اهـ.

 15- في المدونة (1/ 232)أيضا:  قال ابن وهب قال مالك وحدثني غير واحد ممن أثق به: أن الناس كانوا يدخلون حجر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاة النبي - عليه الصلاة والسلام - ويصلون فيها الجمعة، وكان المسجد يضيق على أهله فيتوسعون بها وحجر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليست من المسجد، ولكنها شارعة إلى المسجد ولا بأس بمن صلى في أفنية المسجد ورحابه التي تليه، فإن ذلك لم يزل من أمر الناس لا يعيبه أهل الفقه ولا يكرهونه، ولم يزل الناس يصلون في حجر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بني المسجد. قال ابن وهب وقال لي مالك: فأما من صلى في دار مغلقة لا تدخل إلا بإذن، فإني لا أراها من المسجد ولا أرى أن تصلى الجمعة فيها.اهـ.

 16- البيان في مذهب الإمام الشافعي (2/ 440)، الحاوي الكبير (2/ 346).

 17- الماوردي في الحاوي الكبير (2/ 346).

 18- رواه البيهقي في معرفة السنن والآثار (4/ 190)، وكذلك في السنن الكبرى للبيهقي (3/ 157)، وعقبه بقوله: قال الشافعي رحمه الله تعالى: وكما قالت عائشة في حجرتها إن كانت قالته قلناه. كما أورد البيهقي بعد ذلك: وروينا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ". قال: وروي ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا.اهـ.
وفي فتاوى الإسلام سؤال وجواب الفتوى رقم (274939): (وقال ابن رجب الحنبلي عن استدلال الشافعي بهذا الأثر: "واستدلَّ بقول عائشة -مِن غير إسناد-، وتوقف في صحته عنها. وذكره بإسناده في رواية الزعفراني، فقالَ: حدثنا إبراهيم بنِ محمد، عَن ليثٍ، عَن عطاء، عَن عائشة، أن نسوةً صلْين في حجرتها، فقالت: لا تصلِّين بصلاة الإمام؛ فإنكنَّ في حجابٍ. وهذا إسناد ضعيفٌ، ولذلك توقف الشَافِعي في صحته " انتهى من "فتح الباري" (6/300). وقال الطريفي : "وإسناده لا يصح، إبراهيم متهم" انتهى من "التحجيل" ص(90). اهـ.

 19- قال النووي: هذا حديث باطل لا أصل له، وإنما يروى عن عمر من رواية ليث بن أبي سليم عن تميم وليث ضعيف وتميم مجهول. كذا في المجموع (4/ 309). وضعف في فتاوى الإسلام سؤال وجواب، الفتوى رقم (274939): الأثر عن عمر بنِ الخطاب: " مِن صلى وبينه وبين الإمام نهرٌ أو جدار أو طريق لَم يصل معَ الإمام ". وقال: عزا تخريجه الحافظ ابن رجب إلى أبي بكر غلام الخلال ، فقال: روى ليثُ بنُ أبي سليمٍ، عَن نعيم بنِ أبي هندٍ، قالَ: قالَ عمر بنِ الخطاب: "مِن صلى وبينه وبين الإمام نهرٌ أو جدار أو طريق لَم يصل معَ الإمام " خرجه أبو بكر عبد العزيز بنِ جعفر في كِتابِ الشافي. انتهى من "فتح الباري لابن رجب (6/298).

وهذا الأثر ضعيف بهذا الإسناد لسببين: الأول: ضعف ليث بن أبي سليم. قال ابن حجر عنه: "اختلط جدا، ولم يتميز حديثه: فترك" انتهى من "تقريب التهذيب" ص (464). الثاني: انقطاعه؛ لأن نعيم بن أبي هند لم يسمع من عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

قال الألباني رحمه الله: "الانقطاع بين نعيم بن أبي هند وعمر بن الخطاب: إن أكثر حديثه عن التابعين، ولم يذكروا له رواية عن أحد من الصحابة غير أبيه، مات سنة 110ه" انتهى من "السلسلة الضعيفة" (12/178).

 20- انظر: الإشراف على نكت مسائل الخلاف (1/ 301).

 21- سبق ذكر تخريج البيهقي له، لكن لم أجد من تكلم عليه بتصحيح أو تضعيف. وعليه قلت: فلا يمكن أن يعتمد عليه في المسألة.

 22- قال ذلك جوابا على سؤال: ما حكم صلاة النساء في المساجد التي لا يرين فيها الإمام ولا المأمومين، وإنما يسمعن الصوت فقط؟  انظر: مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين" (15/213).

 23- فتاوى دار الإفتاء المصرية (1/ 44)، المفتي حسنين محمد مخلوف.

 24- مجموع الفتاوى (23/ 407).

 25- إرواء الغليل" (2/330). قال أيضا: وقد روى ابن أبى شيبة (2/101/1 ـ 2) عن مغيرة بن زياد الموصلي قال: " رأيت عطاء يصلى في السقيفة في المسجد الحرام في النفر، وهو متفرقون عن الصفوف، فقلت له: أو قيل له؟ فقال: إني شيخ كبير، ومكة دويه، قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصابه مطر فصلى بالناس وهم في رحالهم وبلال يسمع الناس التكبير ". فهذا مع إرساله فيه ابن زياد هذا وفيه ضعف والله أعلم.

 26- مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين" (15/213).

 27- انظر: توضيح الأحكام من بلوغ المرام (2/ 449).